فِي سَبِيلِ الرِّزْقِ
وَاسْتَأْنَفَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» سَيْرَهُ فِي طَرِيقِهِ، سَاعِيًا إِلَى رِزْقِهِ وَرِزْقِ أُسْرَتِهِ.
فَقَالَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» لِنَفْسِهِ: «لَعَلِّي أَجِدُ فِي هَذَا الْحَقْلِ الْفَسِيحِ عَمَلًا أَقُوتُ بِهِ أُسْرَتِي؛ فَإِنِّي أَرَى كُلَّ مَنْ فِيهِ رِجَالًا، لَيْسَ فِيهِمْ طِفْلٌ وَلَا فَتَاةٌ وَلَا امْرَأَةٌ؛ وَبِهَذَا أَضْمَنُ أَلَّا يَتَفَزَّعَ مِنْ لِقَائِي أَحَدٌ.
وَهَكَذَا اقْتَنَعَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» بِصَوَابِ مَا رَآهُ؛ فَاقْتَرَبَ مِنَ الرِّجَالِ — فِي خُفْيَةٍ وَحَذَرٍ — بَاذِلًا جُهْدَهُ فِي الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ، دُونَ أَنْ تَقَعَ عَلَيْهِ أَعْيُنُهُمْ.
وَمَا اقْتَرَبَ مِنْ مَكَانِهِمْ، حَتَّى ابْتَدَرَ بِالتَّحِيَّةِ أَوَّلَ مَنْ لَقِيَهُ مِنْهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ — فِيمَا يَبْدُو عَلَى سِيمَاهُ — وَكِيلَ صَاحِبِ الدَّسْكَرَةِ، وَنَائِبَهُ فِيهَا.
وَمَا إِنْ حَيَّاهُ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» حَتَّى رَفَعَ الرَّجُلُ رَأْسَهُ، فَالْتَقَتْ بِهِ عَيْنَاهُ؛ فَلَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ تَرَاجَعَ إِلَى الْوَرَاءِ خُطْوَةً، مُتَفَزِّعًا مِنْ مَرْآهُ.
فَأَجَابَهُ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ»: «أَنَا ابْنُ «مَاجِدَةَ» الْقَرَوِيَّةِ: صَاحِبَةِ دَسْكَرَةِ الْخَشَبِ يَا سَيِّدِي!»
فَسَأَلَهُ الرَّجُلُ مُتَعَجِّبًا: «وَمَاذَا جَاءَ بِكَ إِلَى هُنَا؟ وَأَيُّ نَكْبَةٍ قَذَفَتْ بِكَ إِلَى أَرْضِنَا، وَأَغْرَتْكَ بِالْحُضُورِ إِلَى مَزْرَعَتِنَا؟»
وَلَعَلِّي بَالِغٌ مِنْ عَطْفِكَ وَفَضْلِكَ مَا أَرْجُوهُ.»
فَأَجَابَهُ الرَّجُلُ فِي خُشُونَةٍ وَعَجْرَفَةٍ: «أَيَّ عَمَلٍ تُرِيدُ أَيُّهَا الشَّقِيُّ السَّمْجُ؟
أَيُّ عَمَلٍ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَكِلَهُ إِلَى دُبٍّ فِي مِثْلِ دَمَامَتِكَ وَبَشَاعَتِكَ؟»
فَقَالَ لَهُ مُتَأَلِّمًا: «لَيْسَ لِي — يَا سَيِّدِي — مِنَ الدِّبَبَةِ إِلَّا قُبْحُ فَرْوِهَا، وَخُشُونَةُ مَظْهَرِهَا.
فَإِذَا عَجَزْتُ عَنِ الْوَفَاءِ بِجَمِيلِكَ، فَلَنْ تَرَى مِنِّي — عَلَى كُلِّ حَالٍ — مَا لَا يُرْضِيكَ فِيمَا أَعْمَلُ، وَلَا مَا يَسُوءُكَ فِيمَا أُضْمِرُ! وَسَتَرَى مِنِّي — مَتَى خَبَرْتَنِي — نَفْسًا مُنْطَوِيَةً عَلَى حُبِّ الْخَيْرِ، وَالتَّفَانِي فِي نَفْعِ النَّاسِ عَلَى اخْتِلَافِ أَلْوَانِهِمْ وَأَجْنَاسِهِمْ.»
•••
وَعَجَزَ السَّائِسُ عَنْ كَبْحِ جِمَاحِهَا وَرَدِّهَا إِلَى مَرَابِطِهَا، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ جُهْدٍ جَهِيدٍ، وَعَنَاءٍ شَدِيدٍ.
وَاشْتَدَّ الْغَيْظُ وَالْحَنَقُ بِالسَّائِسِ، فَصَاحَ مُتَبَرِّمًا سَاخِطًا: «لَا رَيْبَ أَنَّ بَشَاعَةَ «الدُّبِّ» كَانَتْ سَبَبَ انْزِعَاجِ الْخَيْلِ وَفَزَعِهَا، وَلَوْلَاهُ مَا نَفَرَتْ وَاضْطَرَبَ أَمْرُهَا، وَأَفْلَتَ مِنِّي زِمَامُهَا؛ فَعَجِّلْ — يَا سَيِّدِي — بِطَرْدِهِ مِنْ هَذَا الْمَكَانِ، وَحَسْبُنَا مَا حَلَّ بِنَا مِنْ شُؤْمِهِ وَنَحْسِهِ.»
فَصاحَ الْوَكِيلُ ﺑ «الدُّبِّ الصَّغِيرِ» غَاضِبًا: «اُعْزُبْ عَنْ وَجْهِي أَيُّهَا الدُّبُّ الْبَغِيضُ، فَمَا أَرَاكَ إِلَّا رَائِدَ نَحْسٍ، وَجَالِبَ سُوءٍ فِي كُلِّ مَكَانٍ حَلَلْتَ فِيهِ، فَامْضِ إِلَى حَيْثُ تَشَاءُ، وَحَسْبُنَا مِنْ شُؤْمِكَ مَا نُعَانِيهِ.»
فَصَاحَ بِهِ الرَّجُلُ، وَقَدِ اشْتَدَّ بِهِ الْغَضَبُ: «أَلا تُرِيدُ أَنْ تَذْهَبَ عَنَّا بِسَلامٍ؟
أَجِئْتَنَا تَبْغِي الْمُشَاكَسَةَ وَالْخِصَامَ؟
•••
وَانْدَفَعَ الْوَكِيلُ الشَّرِسُ يُنَادِي رِجَالَهُ، وَيَسْتَدْعِي كِلابَهُ لِيُطْلِقَهَا عَلَيْهِ وَهُوَ يَصِيحُ بِهِمْ: «عَجِّلُوا بِمُطَارَدَةِ هَذَا الْحَيَوَانِ، وَلا يُفْلِتَنَّ مِنْكُمْ ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ.
يَا للهِ! هَا هُوَ ذا يُسْلِمُ سَاقَيْهِ لِلرِّيحِ، لَائِذًا بِالْفِرَارِ.
لَهُ الْوَيْلُ! لَقَدْ أَفْلَتَهُ مِنْ عِقَابِنَا حُسْنُ حَظِّهِ وَسُوءُ حَظِّنَا!»
•••
وَرَأَى مِنَ الْحَزْمِ أَنْ يَعْجَلَ بِالْفِرَارِ، قَبْلَ أَنْ تَتَهَيَّأَ تِلْكَ الْوُحُوشُ الْإِنْسَانِيَّةُ الْمُفْتَرِسَةُ الْغَاضِبَةُ لِلِّحَاقِ بِهِ، بَعْدَ أَنْ شَهِدَ مِنْ حَمَاقَتِهِمْ وَشَرَاسَتِهِمْ، وَلُؤْمِ طَبْعِهِمْ وَخَسَاسَتِهِمْ، مَا حَزَنَهُ وَغَمَّهُ.
وَمَشَى وَهُوَ يَقُولُ لِنَفْسِهِ: «إِنَّ الْحَيَاةَ كِفَاحٌ، فَلَا مَعْنَى لِلْيَأْسِ فِي مَيْدَانِهَا، وَلَا يَزَالُ بَاقِيًا مِنَ النَّهَارِ ثَلَاثُ سَاعَاتٍ أَوْ أَرْبَعٌ، وَلَا يَزالُ أَمَامِي فُسْحَةٌ مِنَ الْوَقْتِ لِمُوَاصَلَةِ السَّعْيِ عَلَى رِزْقِي، وَلَنْ يَتَخَلَّى لُطْفُ اللهِ وَمَعُونَتُهُ عَمَّنْ قَصَدَهُ وَرَجَاهُ مَا دَامَ يُوَاصِلُ جِهَادَهُ وَسَعْيَهُ فِي الْحَيَاةِ.»
ثُمَّ تَوَجَّهَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» إِلَى مَصْنَعِ حَدَّادٍ، يَبْعُدُ عَنْ دَسْكَرَةِ أُمِّهِ بِضْعَةَ أَمْيَالٍ.
وَكَانَ صَاحِبُ الْمَصْنَعِ يَمْلِكُ جُمْهُورًا كَبِيرًا مِنَ الْعُمَّالِ، وَلَا يَفْتَأُ يَطْلُبُ الْمَزِيدَ مِنْهُمْ.
وَلَمْ يَكُنِ الرَّجُلُ مَحْبُوبًا، بَلْ كَانَ مَكْرُوهًا أَشَدَّ الْكُرْهِ مِنْ كُلِّ عَارِفِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفَكِّرُ إِلَّا فِيمَا يَدْعُوهُ الشَّرَهُ وَالْأَنَانِيَّةُ إِلَى التَّفْكِيرِ فِيهِ، وَلا يَشْغَلُهُ فِي الْحَيَاةِ إِلَّا تَنْمِيَةُ مَوَارِدِهِ.
وَلَمْ يَكُنْ لِيَخْطُرَ بِبَالِهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ، وَكَانَ النَّاسُ يُطْلِقُونَ عَلَى ذَلِكَ الْأَنَانِيِّ لَقَبَ «الْقَابِضِ»، لِبُخْلِهِ وَفَرْطِ حِرْصِهِ … وَكَانَ مَكْرُوهًا فِي نَظَرِ كُلِّ مَنْ عَرَفَهُ مِنْ عُمَّالِهِ الْمُتَّصِلِينَ بِهِ.
فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهُ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ»، قَالَ لَهُ: «أَتُرَانِي وَاجِدًا عِنْدَكَ عَمَلًا أُؤَدِّيهِ يَا سَيِّدِي؟»
فَأَجَابَ «الْقَابِضُ»، دُونَ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى مُحَدِّثِهِ: «لَا رَيْبَ فِي ذَلِكَ أَيُّهَا السَّائِلُ؛ فَعِنْدِي — فِي كُلِّ وَقْتٍ — عَمَلٌ لِكُلِّ رَاغِبٍ فِيهِ مَتَى عَرَفَ كَيْفَ يُؤَدِّيهِ … فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ مَا تُحْسِنُهُ.
وَخَبِّرْنِي: أَيُّ الْأَعْمَالِ تُجِيدُهُ وَتُتْقِنُهُ؟»
•••
وَلَمَّا انْتَهَى «الْقَابِضُ» مِنْ إِجَابَتِهِ، رَفَعَ رَأْسَهُ لِيَتَبَيَّنَ وَجْهَ مُحَدِّثِهِ … وَلَمْ تَكَدْ تَقَعُ عَلَيْهِ عَيْنَاهُ، حَتَّى هَالَهُ شَنَاعَةُ مَا يَرَاهُ!
وَانْدَفَعَ «الْقَابِضُ» يُمْطِرُ «الدُّبَّ الصَّغِيرَ» سَيْلًا مِنَ اللَّوْمِ وَالسُّخْرِيَةِ.
وَقَالَ لَهُ فِيمَا قَالَ: «أَيُّ دُعَابَةٍ سَخِيفَةٍ اخْتَرْتَهَا، وَأَيُّ سَمَاجَةٍ وَقِحَةٍ آثَرْتَهَا؟ أَفِي مَسْرَحٍ هَازِلٍ أَعْدَدْتَ هَذَا الْمَظْهَرَ الْمَمْسُوخَ؟
وَمَا الَّذِي أَعْجَبَكَ مِنْ صُورَةِ الدِّبَبَةِ حَتَّى ارْتَضَيْتَهَا، وَلَمْ تَخْجَلْ مِنَ الظُّهُورِ بِهَا، وَكَيْفَ جَرُؤْتَ عَلَى الظُّهُورِ بِهَا أَمَامِي، غَيْرَ مُتَهَيِّبٍ بَطْشِي وَانْتِقَامِي!»
وَإَنِّي لَيُؤْسِفُنِي — عَلِمَ اللهُ — أَنْ أُقَرِّرَ لَكَ أَنَّ هَذَا الْفَرْوَ الْبَشِعَ لَيْسَ — لِسُوءِ حَظِّي — إِلَّا جِلْدِيَ الطَّبِيِعِيَّ الِّذِي يَكْسُو جِسْمِي، مُنْذُ وِلَادَتِي إِلَى الْيَوْمِ!
عَلَى أَنَّ مَظْهَرِي لَنْ يَضِيرَكَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَسَتَرَى مِنْ حُسْنِ قِيَامِي بِمَا تَعْهَدُ إِلَيَّ مِنْ عَمَلٍ، مَا يُنْسِيكَ مَا تَرَى مِنْ قُبْحِ صُورَتِي، وَبَشَاعَةِ هَيْئَتِي.»
فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ غَضَبُ «الْقَابِضِ»، وَقَالَ لَهُ وَهُوَ يُرْغِي وَيُزْبِدُ، وَيَتَوَعَّدُ وَيُهَدِّدُ: «لَكَ مَا تُرِيدُ أَيُّهَا الدُّبُّ الْبَشِعُ الْعَنِيدُ.
وَلَنْ أَضِنَّ عَلَيْكَ بِالْعَمَلِ الَّذِي يَجْدُرُ بِكَ أَنْ تُؤَدِّيَهُ!