وَفَاءُ «نَرْجِسَ»
وَمَشَى «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» فِي طَرِيقِهِ عَائِدًا إِلَى الْبَيْتِ، كَاسِفَ الْبَالِ، مَحْزُونَ الْقَلْبِ فَاتِرَ الْهِمَّةِ.
وَمَا زَالَ يَسِيرُ مُتَمَهِّلًا فِي مِشْيَتِهِ، مُسْتَسْلِمًا لِحَيْرَتِهِ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى دَارِهِ الْمُحْتَرِقَةِ بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ.
وَكَانَتْ «نَرْجِسُ» أَوَّلَ مَنْ أَسْرَعَ إِلَى اسْتِقْبَالِهِ.
وَمَا كَادَتْ تَلْقَاهُ حَتَّى أَمْسَكَتْ بِيَدِهِ، وَقَدْ بَدَتْ عَلَى وَجْهِهَا دَلَائِلُ الْجِدِّ وَالِاهْتِمَامِ. وَمَشَتْ مَعَهُ إِلَى أُمِّهِ «مَاجِدَةَ» دُونَ أَنْ تَنْطِقَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ. وَلَمَّا بَلَغَاهَا، رَكَعَتْ «نَرْجِسُ» أَمَامَهَا ضَارِعَةً وَهِيَ تَقُولُ: «لَقَدْ أَفْضَتْ إِلَيَّ «عَاصِفَةُ»، وَعَلَى سِيمَاهَا عَلَائِمُ التَّشَفِّي وَالِانْتِقَامِ بِكُلِّ مَا كَابَدَهُ وَلَدُكِ — فِي هَذَا الْيَوْمِ الْمَنْحُوسِ — مِنْ مَصَائِبَ وَآلَامٍ.
ثُمَّ جَاءَتْ بَعْدَهَا «لُؤْلُؤَةُ» أَمِيرَةُ التَّوَابِعِ؛ فَأَسَرَّتْ إِلَيَّ بِمَا لَقِيَهُ وَلَدُكِ الصَّابِرُ الْكَرِيمُ مِنْ هَوْلٍ عَظِيمٍ … وَكَانَتْ تُحَدِّثُنِي بِمَأْسَاتِهِ، وَالْحُزْنُ يَتَمَثَّلُ فِي نَبَرَاتِ كَلِمَاتِهَا … وَلَمْ تَحْجُبْ عَنِّي شَيْئًا مِمَّا دَهِمَهُ مِنَ الْآلامِ، وَالْكَوارِثِ الْعِظامِ … وَقَدْ أَظْهَرَتْ «لُؤْلُؤَةُ» — فِي حَدِيثِهَا مِنَ الْحُنُوِّ وَالْعَطْفِ وَالرِّثَاءِ — مِقْدَارَ مَا أَظْهَرَتْهُ أُخْتُهَا مِنَ الشَّمَاتَةِ وَالتَّشَفِّي وَالِاسْتِهْزَاءِ.
وَإِنِّي لَيُسْعِدُنِي — وَايْمُ اللهِ — أَنْ هُيِّئَتْ هَذِهِ الْفُرْصَةُ الَّتِي تُتِيحُ لِي أَنْ أُخَلِّصَهُ مِنْ ضَائِقَتِهِ وَمِحْنَتِهِ، وَأُمَكِّنَهُ مِنِ اسْتِرْدَادِ بَشَرَتِهِ، وَاسْتِرْجَاعِ مَا أَفْقَدَهُ السِّحْرُ مِنْ مَلَاحَتِهِ، وَجَمَالِ صُورَتِهِ!
وَإِنَّ السَّعَادَةُ لَتَغْمُرُ قَلْبِي، كُلَّمَا شَعَرْتُ أَنَّنِي قَادِرَةٌ عَلَى أَنْ أَهَبَ حَيَاتِي فِدَاءً لَهُ؛ لَعَلِّي أُؤَدِّي بَعْضَ مَا بَذَلَهُ!
وَهَيْهَاتَ أَنْ أُوَفِّيَهُ حَقَّهُ مِنَ الثَّنَاءِ، وَأَقُومَ بِمَا يَسْتَوْجِبُهُ عَلَيَّ فَضْلُهُ مِنَ الْمُكَافَأَةِ وَالْجَزَاءِ.
وَلَقَدْ عَقَدْتُ الْعَزْمَ — يَا أُمَّاهُ — عَلَى تَلْبِيَةِ اقْتِرَاحِ الْجِنِّيَّةِ الْكَرِيمَةِ «لُؤْلُؤَةَ» أَمِيرَةِ التَّوَابِعِ.
ثُمَّ قَالَ لَهَا ضَارِعًا مُتَوَسِّلًا: «نَرْجِسُ، نَرْجِسُ! أَلا تَكُفِّينَ عَنْ هَذَا الْعَبَثِ؟! مَا بَالُكِ تُعَرِّضِينَ نَفْسَكِ لِلْخَطَرِ، وَتَتَمَادَيْنَ فِي هَذِهِ الْإِساءَةِ الَّتِي لَا تُغْتَفَرُ؟!
فَبِاللهِ عَلَيْكِ إِلَّا مَا اسْتَرْجَعْتِ دُعَاءَكِ، وَعَاهَدْتِنِي عَلَى أَلَّا تَعُودِي إِلَى هَذِهِ الْمُحَاوَلَةِ مَرَّةً أُخْرَى.
إِيَّاكِ يَا «نَرْجِسُ»! إِيَّاكِ أَنْ تُقْدِمِي عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الشَّنِيعِ، إِنَّكِ لَتَجْهَلِينَ فَدَاحَةَ مَا تُقْدِمِينَ عَلَيْهِ، مِنْ حَيَاةٍ حَافِلَةٍ بِصُنُوفِ الْأَلَمِ وَالشَّقَاءِ.
إِنَّكِ لَا تَعْرِفِينَ أَيَّ حَيَاةٍ حَزِينَةٍ قَاتِلَةٍ، تُحَاوِلِينَ أَنْ تَنْكُبِي بِهَا نَفْسَكِ إِذَا أَقْدَمْتِ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ الطَّائِشِ!
أَلا تَكُفِّينَ عَنْ هَذَا الْإِصْرَارِ؟ وَا حَسْرَتَاهُ!
عَجِيبٌ أَمْرُكِ وَاللهِ! مَا بَالُكِ تَتَمَادَيْنَ فِي إِغْضَابِي؟ وَلَا تُبَالِينَ حَسْرَتِي وَعَذَابِي.
أَتَوَسَّلُ إِلَيْكِ، يَا «نَرْجِسُ» أَلَّا تُفَكِّرِي فِي الْعَوْدَةِ إِلَى هَذِهِ الْحَمَاقَةِ مَرَّةً أُخْرَى.»
فَقَالَتْ «نَرْجِسُ»، فِي هُدُوءٍ وَإِصْرَارٍ: «إِنَّ مَا أَبْذُلُهُ لَكَ — يَا عَزِيزِي — مِنَ الْفِدَاءِ، إِنَّمَا هُوَ بَعْضُ مَا أَسْلَفْتَهُ إِلَيَّ مِنْ دَيْنٍ وَاجِبِ الْوَفَاءِ مَحْتُومِ الْأَدَاءِ، وَهُوَ — عَلَى إِكْبَارِكَ مِنْ شَأْنِهِ، وَتَعْظِيمِكَ مِنْ أَمْرِهِ — تَافِهٌ قَلِيلٌ، بِالْقِيَاسِ إِلَى مَا أَسْلَفْتَهُ إِلَيَّ مِنْ جَمِيلٍ.
وَإِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَلَّا أَجِدَ شَيْئًا أَكْبَرَ مِنْ هَذَا الْفِدَاءِ لِأَبْذُلَهُ فِي سَبِيلِ مَرْضاتِكَ. وَمَا أَجْدَرَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ أَكْبَرَ آمَالِي، وَأَعْظَمَ أَمَانِيَّ، أَنْ أَرَاكَ سَعِيدًا هَانِئًا، وَأَنْ يَتَجَلَّى لِعَيْنَيْكَ مَا أُضْمِرُهُ لَكَ مِنْ تَكْرِيمٍ وَتَبْجِيلٍ، وَاعْتِرَافٍ بِالْجَمِيلِ … وَإِنِّي لَأَكْبُرُ فِي عَيْنِ نَفْسِي إِذَا وَفَّقَنِي اللهُ إِلَى إِنْجَازِ هَذَا الْمُهِمِّ، وَأَظْفَرَنِي بِبُلُوغِ هَذِهِ الْغَايَةِ؛ بِمِقْدَارِ مَا أَصْغُرُ فِي عَيْنِ نَفْسِي إِذَا أَخْفَقْتُ فِي بُلُوغِهَا، وَعَجَزْتُ عَنْ تَحْقِيقِهَا.»
تَصَوَّرِي مَا تَتَعَرَّضِينَ لَهُ مِنْ سُخْرِيَةِ النَّاسِ وَمَهَانَتِهِمْ، وَاحْتِقَارِهِمْ وَفَظَاظَتِهِمْ، وَمَا تُكَابِدِينَهُ مِنْ قَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ وَوَقَاحَتِهِمْ!
فَكِّرِي فِي ذَلِكِ كُلِّهِ وَلا تَنْسَيْهِ، وَلَا تَحْكُمِي عَلَى صَدِيقِكِ «الدُّبِّ الصَّغِيرِ» الْمِسْكِينِ بِالتَّعَرُّضِ لِهَذِهِ النَّتِيجَةِ الصَّاعِقَةِ، وَمُوَاجَهَةِ هَذِهِ الصَّدْمَةِ!»
وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مِنْ جَوَابٍ عَمَّا قَالَهُ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» إِلَّا أَنْ أَسْرَعَتْ إِلَى «مَاجِدَةَ» مُحْتَمِيَةً بِهَا مُسْتَنْجِدَةً، وَارْتَمَتْ بَيْنَ ذِرَاعَيْهَا، حَانِيَةً عَلَيْهَا، وَهِيَ تَقُولُ لَهَا مُسْتَعْطِفَةً: «أَسْرِعي يَا أُمَّاهُ، فَقَبِّلِي «نَرْجِسَ» آخِرَ قُبْلَةٍ تَطْبَعِينَهَا عَلَى جَبِينِهَا، قَبْلَ أَنْ تُوَدِّعَ «نَرْجِسُ» جَمَالَهَا إِلَى غَيْرِ رَجْعَةٍ.»
•••
وَانْدَفَعَتْ «مَاجِدَةُ» وَ«حَلِيمَةُ» إِلَى تَقْبِيلِهَا وَشُكْرِهَا، عَلَى حِينِ وَقَفَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» ذَاهِلًا وَاجِمًا، جَاثِيًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ سَاهِمًا، لَا يَفْتَأُ أَنْ يَنْهَاهَا عَنْ عَزْمِهَا، وَلا يَكُفُّ عَنِ التَّوَسُّلِ إِلَيْهَا، لِتَتْرُكَ لَهُ فَرْوَهُ الْبَشِعَ الَّذِي تَعَوَّدَهُ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَسُرْعَانَ مَا صَاحَتْ «نَرْجِسُ» تُنَادِي أَمِيرَةَ التَّوَابِعِ، وَتُلِحُّ فِي دَعْوَتِهَا، قَائِلَةً: «هَلُمِّي يَا أَمِيرَةَ التَّوَابِعِ، تَعَالَيْ يَا سَيِّدَةَ الْجِنِّيَّاتِ، وَأَمِيرَةَ السَّادَاتِ؛ فَقَدْ وَهَبْتُ حَيَاتِي لَهُ فِدَاءً. هَلُمِّي، هَلُمِّي فَانْقُلِي أَثَرَ السِّحْرِ مِنْهُ إِلَيَّ، وَلَا تَأْخُذْكِ — فِي سَبِيلِ هَذَا الْوَاجِبِ — شَفَقَةٌ عَلَيَّ!
هَلُمِّي، فَارْفَعِي ذَلِكِ الْفَرْوَ الْكَثِيفَ، عَنْ جِسْمِ «الدُّبِّ الصَّغِيرِ»، إِلَى جِسْمِ «نَرْجِسَ» اللَّطِيفَ.»
•••
وَمَا كَادَتْ «نَرْجِسُ» تُتِمُّ نِدَاءَهَا، حَتَّى ظَهَرَتْ أَمِيرَةُ التَّوَابِعِ أَمَامَهَا، فِي أَبْهَى حُلَلِهَا، وَأَتَمِّ جَمَالِهَا، وَقَدْ حَمَلَتْهَا مَرْكَبَةٌ مُلُوكِيَّةٌ، وَارْتَدَتْ ثَوْبًا نَفِيسًا، وَتَدَلَّى عَلَى كَتِفَيْهَا مِعْطَفٌ، نُسِجَ مِنْ شِبَاكِ الْمَاسِ، وَقَدْ تَدَلَّى ذَيْلُهُ خَلْفَهَا عَشْرَ خُطُوَاتٍ، بَعْدَ أَنْ طُرِّزَ بِعِنَايَةٍ فَائِقَةٍ، وَتَبَدَّى فِي صُورَةٍ شَائِقَةٍ، وَهُوَ فِي مِثْلِ الرِّيشَةِ الْوَاحِدَةِ: رِقَّةً وَوَزْنًا، وَمَنْظَرًا وَلَوْنًا.
فَأَسْرَعَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» إِلَى «لُؤْلُؤَةَ» مُتَوَسِّلًا، مُسْتَعْطِفًا، يُحَاوِلُ جُهْدَهُ أَنْ يَثْنِيَهَا عَنْ تَحْقِيقِ مَا تُرِيدُهُ «نَرْجِسُ».
ثُمَّ خَتَمَ رَجَاءَهُ، مُكَرِّرًا قَوْلَهُ: «بِرَبِّكِ يَا أَمِيرَةَ الْجِنِّيَّاتِ، بِحَقِّ مَا أَسْبَغْتِ عَلَيَّ مِنْ جَمِيلٍ فِي إِثْرِ جَمِيلٍ، وَصَنِيعٍ جَلِيلٍ، إِلَّا مَا قَبِلْتِ رَجَائِي، وَأَصْغَيْتِ إِلَى دُعَائِي، وَكَفَفْتِ عَنْ تَلْبِيَةِ رَغْبَتِهَا، وَلَمْ تَسْتَجِيبِي إِلَى طِلْبَتِهَا، رَحْمَةً بِكِلَيْنَا، وَشَفَقَةً عَلَيْنَا.
كُونِي عَلَى ثِقَةٍ — يَا مَوْلَاتِي — أَنَّ مَا هِيَ قَادِمَةٌ عَلَيْهِ، كَفِيلٌ بِتَنْغِيصِ هَنَاءَتِي، وَالْقَضَاءِ عَلَى سَعَادَتِي، وَنَقْلِي مِنْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ، إِلَى سَعِيرِ الْجَحِيمِ.
كَلَّا، كَلَّا أَيَّتُهَا الْجِنِّيَّةُ الْكَرِيمَةُ الْعَزِيزَةُ. إِنَّكِ لَا تَرْضَيْن أَنْ تُحَوِّلِي عَيْشَنَا الْوَادِعَ الْهَنِيَّ، إِلَى هَذَا الْمَصِيرِ التَّاعِسِ الشَّقِيِّ!»