الْمَعْرَكَةُ الْحَاسِمَةُ
وَبَيْنَا كَانَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» مُنْدَفِعًا فِي تَوَسُّلِهِ وَرَجَائِهِ، إِذْ أَقْبَلَتْ «لُؤْلُؤَةُ» عَلَى «نَرْجِسَ»، فَلَمَسَتْهَا بِعَصَاهَا اللُّؤْلُئِيَّةِ لَمْسَةً رَقِيقَةً. ثُمَّ لَمَسَتِ «الدُّبَّ الصَّغِيرَ» لَمْسَةً مِثْلَهَا، ثُمَّ نَظَرَتْ إِلَى الصَّدِيقَيْنِ الْوَفِيَّيْنِ وُهِيَ تَقُولُ: «لِيَكُنْ مَا يُرِيدُ قَلْبُكِ أَنْتِ يَا بُنَيَّتِيَ الْعَزِيزَةَ، وَلْيَكُنْ لَكَ مَا لَا تُرِيدُ أَنْتَ يَا وَلَدِيَ الْعَزِيزَ.»
وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَحْتَمِلَ الْكَارِثَةَ الَّتِي أَلَمَّتْ بِهَا، فَأَغْمَضَ عَيْنَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الْفَزَعِ، ثُمَّ فَتَحَهُمَا، وَانْدَفَعَ إِلَيْهَا بَاكِيًا … وَبَكَتْ «نَرْجِسُ» مَعَ صَاحِبِهَا.
وَلَكِنْ شَتَّانَ مَا بَيْنَ الْبُكَاءَيْنِ؛ فَقَدْ بَكَى الْأَمِيرُ لِفَرْطِ حُزْنِهِ عَلَى مَا أَصَابَ «نَرْجِسَ»، وَبَكَتْ «نَرْجِسُ» لِفَرْطِ ابْتِهَاجِهَا بِشِفَاءِ ابْنِ عَمِّهَا.
ثُمَّ شَفَعَتِ الْجِنِّيَّةُ صَنِيعَهَا بِقَوْلِهَا: «وَالْآنَ، يَتَغَيَّرُ لَقَبُكَ الْكَرِيهُ، وَيَحُلُّ مَحَلَّهُ لَقَبُكَ الْجَدِيدُ، الْجَدِيرُ بِكَ؛ فَأَنْتَ — مُنْذُ هَذِهِ اللَّحْظَةِ — الْأَمِيرُ: «فَائِقٌ».
أَمَّا «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» فَقَدْ أَصْبَحَ — مُنْذُ الْيَوْمِ — قِصَّةً مِنَ الْقِصَصِ الْمَرْوِيَّةِ، وَأُسْطُورَةً مِنَ الْأَساطِيرِ الْمَحْكِيَّةِ، تُرْوَيَانِ كَمَا تُرْوَى عَجَائِبُ الْقِصَصِ وَغَرَائِبُ الْأَسْمَارِ، لِلْعِظَةِ وَالِاعْتِبَارِ.»
وَانْدَفَعَتْ «مَاجِدَةُ» إِلَى «نَرْجِسَ» تَغْمُرُهَا بِقُبُلَاتِهَا، وَثَنَائِهَا وَدَعَوَاتِهَا.
فَلَمْ تَتَمَالَكْ «نَرْجِسُ» أَنْ هَمَسَتْ فِي أُذُنِ «مَاجِدَةَ»، تَسْأَلُهَا مُتَعَجِّبَةً: «أَتُحِبِّينَنِي الْآنَ يَا أُمَّاهُ بَعْدَ أَنِ انْتَقَلْتُ إِلَى هَذِهِ الصُّورَةِ الْجَدِيدَةِ؟!»
فَضَمَّتْهَا إِلَيْهَا حَانِيَةً عَاطِفَةً، وَأَجَابَتْهَا مُتَوَدِّدَةً مُلَاطِفَةً: «كَيْفَ لَا أُحِبُّكِ أَيَّتُهَا الْفَادِيَةُ الْوَفِيَّةُ، الرَّاضِيَةُ الْمَرْضِيَّةُ؟ لَقَدْ نَمَتْ مَحَبَّتُكِ فِي قَلْبِي، وَزادَتْ أَضْعَافَ مَا كَانَتْ.»
لَقَدْ كُنْتِ — قَبْلَ الْيَوْمِ — آيَةً مِنْ آيَاتِ الْجَمَالِ، ثُمَّ أَصْبَحْتِ فِي أَعْيُنِنَا — الْآنَ — أَجْمَلَ مِمَّا كُنْتِ أَلْفَ مَرَّةٍ.
•••
وَهَمَسَتْ «نَرْجِسُ» بِشُكْرِ الْأَمِيرِ «فَائِقٍ»، فَلَمْ يَسْمَعْ هَمْسَهَا أَحَدٌ؛ فَقَدْ حَدَثَتْ مُفَاجَأَةٌ لَمْ تَكُنْ فِي الْحِسْبانِ، وَلَمْ تَكُنْ لتَخْطُرَ بِبالِ كَائِنٍ كَانَ؛ فَتَعَالَتِ الصَّيْحَاتُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَامْتَلَأَ الْجَوُّ بِالضَّجِيجِ وَالْعَجِيجِ؛ فَضَاعَ صَوْتُ «نَرْجِسَ» فِي ثَنَايَا هَذِهِ الْجَلَبَةِ، وَتَزَايَلَ فِي الْفَضَاءِ، دُونَ أَنْ يَسْمَعَهُ أَحَدٌ.
وَهَبَطَتْ مِنَ الْجَوِّ مَرْكَبَةٌ رَائِعَةُ الْمَنْظَرِ، صُنِعَتْ مِنْ جِلْدِ التِّمْسَاحِ، وَمَا زَالَتِ الْمَرْكَبَةُ تَهْبِطُ رُوَيْدًا رُوَيْدًا، حَتَّى أَصْبَحَتْ قَيْدَ أَنْظَارِهِمْ، وَكَانَ يَجُرُّهَا جَمْهَرَةٌ مِنْ كَبِيرَاتِ الضَّفَادِعِ، يَتَرَجَّحُ عَدَدُهَا بَيْنَ الْخَمْسِينَ وَالسِّتِّينَ.
وَمَا كَادَتِ الضَّفَادِعُ تَسْتَقِرُّ عَلَى الْأَرْضِ، حَتَّى تَعَالَتْ مِنْهَا أَصْوَاتٌ مُنْكَرَةٌ. وَكَانَ يَنْبَعِثُ مِنْ حَنَاجِرِهَا نَقِيقٌ، يَتَخَلَّلُهُ زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ؛ تَصْحَبُهُمَا أَصْوَاتٌ غَاضِبَةٌ، وَجَلْجَلَةٌ صَاخِبَةٌ، وَقَفَزَاتٌ مُتَدَافِعَةٌ مُتَوَاثِبَةٌ، تُدَوِّي فِي كُلِّ مَكَانٍ، فَيُصِمُّ ضَجِيجَهَا الْآذَانَ.
وَكَادَتِ الضَّفَادِعُ الْخَبِيثَةُ تَبْلُغُ أُمْنِيَّتَهَا، وَتُدْرِكُ غَايَتَهَا، لَوْلَا يَقَظَةُ «لُؤْلُؤَةَ» أَمِيرَةِ التَّوَابِعِ، الَّتِي تَصَدَّتْ لِعِقَابِهَا، وَكَفِّ أَذَاهَا عَنْ أَصْحَابِهَا.
وَمَا إِنِ اسْتَقَرَّتْ مَرْكَبَةُ «عَاصِفَةَ» عَلَى الْأَرْضِ، حَتَّى خَرَجَتْ مِنْهَا مَخْلُوقَةٌ ضَخْمَةُ الْجِسْمِ، قَبِيحَةُ الرَّسْمِ.
•••
وَلا رَيْبَ أَنَّكَ أَدْرَكْتَ مِمَّا وَصَفْتُ، أَنَّ تِلْكَ الضِّفْدِعَ الْبَشِعَةَ لَمْ تَكُنْ غَيْرَ «عَاصِفَةَ» أَمِيرَةِ الزَّوَابِعِ. وَكَانَتْ عَيْنَاهَا الْجَاحِظَتَانِ تَبْدُوَانِ لِمَنْ يَرَاهُمَا كَأَنَّمَا بَرَزَتَا مِنْ رَأْسِ شَيْطَانٍ، عَلَى حِينَ يُغَطِّي أَنْفُهَا الْكَبِيرُ الْأَفْطَسُ الضَّخْمُ خَدَّيْنِ ذَابِلَيْنِ.
وَكَانَ فُوهَا يَتَّسِعُ، وَشِدْقَاهَا يَمْتَدَّانِ مِنْ إِحْدَى أُذُنَيْهَا إِلَى الْأُخْرَى؛ فَإِذَا فَتَحَتْهُ تَكَشَّفَ عَنْ لِسَانٍ مَسْنُونٍ حَادٍّ، شَدِيدِ السَّوَادِ، لَا يَكُفُّ عَنْ لَعْقِ مَا يَتَكَاثَفُ عَنْ أَسْنَانِهَا الْمُثَلَّمَةِ مِنْ لُعَابٍ أَخْضَرَ، يَتَقَزَّزُ الْأَنْفُ وَالنَّاظِرُ مِنْ لَوْنِهِ وَرَائِحَتِهِ، وَيَتَفَزَّعُ الْفِكْرُ وَالْخَاطِرُ مِنْ تَصَوُّرِهِ وَفَظَاعَتِهِ.
وَكَانَتْ قَامَتُهَا ثَلَاثَ أَقْدَامٍ عَلَى التَّقْرِيبِ.
أَمَّا جِلْدُهَا الْأَسْمَرُ، فَكَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ اللُّزُوجَةِ وَالْبُرُودَةِ، كَمَا يَجْمَعُ شَعْرُهَا الْقَلِيلُ بَيْنَ الْحُمْرَةِ وَالسُّمْرَةِ. ثُمَّ تَتَدَلَّى فَتَائِلُ الشَّعْرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ عَلَى عُنُقِهَا الْمُلْتَوِي، وَتَلْتَفُّ حَوْلَهُ، مُهَوَّشَةً غَيْرَ مُتَسَاوِيَةٍ.
•••
وَتَقَدَّمَتْ «عَاصِفَةُ» نَحْوَ الْأَمِيرِ «فَائِقٍ»، فِي بُطءٍ وَحَذَرٍ. وَقَدِ اشْتَدَّ غَيْظُهَا مِنْهُ، بَعْدَ أَنْ تَغَيَّرَ لَقَبُهُ الْبَغِيضُ، وَاسْتُبْدِلَ بِهِ ذَلِكَ اللَّقَبُ الْجَمِيلُ، لَقَبُ: الْأَمِيرِ «فَائِقٍ»، وَهُوَ — كَمَا تَرَى — أَجْدَرُ الْأَلْقَابِ بِهِ، وَأَدْنَاهَا إِلَيْهِ، وَأَكْثَرُهَا انْطِبَاقًا عَلَيْهِ.
ثُمَّ وَقَفَتْ «عَاصِفَةُ» أَمَامَهُ تَتَحَدَّاهُ غَاضِبَةً، وَأَلْقَتْ بِنَظْرَةٍ أُخْرَى عَلَى أَمِيرَةِ التَّوَابِعِ، مُتَأَلِّمَةً عَاتِبَةً.
ثُمَّ اتَّجَهَتْ إِلَى «نَرْجِسَ» بِنَظْرَةٍ مُنْكَرَةٍ حَانِقَةٍ، يَشِعُّ فِيهَا مِزَاجٌ مِنَ الْحِقْدِ وَالْبَغْضَاءِ، وَالصَّلَفِ وَالْكِبْرِيَاءِ: نَظَرَاتٌ تَدُلُّ عَلَى لُؤْمِ صَاحِبَتِهَا، وَخُبْثِ نِيَّتِهَا، وَفَسَادِ طَوِيَّتِهَا.
ثُمَّ ضَمَّتْ «عَاصِفَةُ» ذِرَاعَيْهَا الضَّخْمَتَيْنِ عَلَى بَطْنِهَا، وَقَالَتْ فِي صُرَاخٍ يُشْبِهُ الْبُكَاءَ وَالنُّوَاحَ، تُخَالِطُهُ بُحَّةٌ مُزْعِجَةٌ: «هَنِيئًا لِلْأَمِيرِ «فَائِقٍ» مَا ظَفِرَ بِهِ — بَعْدَ طُولِ الْجِهَادِ وَالصَّبْرِ — مِنْ فَوْزٍ وَنَصْرٍ. هَنِيئًا لَكَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ؛ فَقَدْ غَلَبْتَنِي عَلَى أَمْرِي وَقَهَرْتَنِي، وَأَرْغَمْتَ أَنْفِي وَأَذْلَلْتَنِي.
وَلَئِنْ عَجَزْتُ عَنْ هَزِيمَتِكَ أَمَامَ إِصْرَارِكَ وَصِدْقِ عَزِيمَتِكَ، فَإِنَّ الْفُرْصَةَ لَا تَزَالُ سَانِحَةً أَمَامِي.
وَسَتَرَى أَنَّكَ لَنْ َتْظَفَرَ بِالسَّعَادَةِ الْحَقِّ عَلَى أَيِّ حَالٍ، وَسَيَظَلُّ الْعَذَابُ رَائِدَكَ طُولَ عُمْرِكَ، لَا يَفْتَأُ يُعَكِّرُ عَلَيْكَ صَفْوَ أَيَّامِكَ، كُلَّمَا ذَكَرْتَ أَنَّكَ لَمْ تَسْتَرِدَّ جَمَالَكَ الْفَاتِنَ إِلَّا بَعْدَ فِدَاءٍ عَظِيمٍ، أَطَاحَ بِسَعَادَةِ هَذِهِ الصَّغِيرَةِ الْحَسْنَاءِ، بَعْدَ أَنْ سَلَبَ مِنْهَا الْحُسْنَ وَالرُّوَاءَ.
وَسَيَكُونُ عِقَابُكَ عَلَى جَرِيمَتِكَ الشَّنْعَاءِ: أَنَّكَ لَنْ تُطِيقَ رُؤْيَتَهَا بَعْدَ أَنْ غَاضَ جَمَالُهَا وَسُلِبَ بَهَاؤُهَا.»
ثُمَّ الْتَفَتَتْ إِلَى «نَرْجِسَ»، وَفِي نَظْرَتِهَا شَمَاتَةٌ وَخَسَاسَةٌ، وَاسْتَأْنَفَتْ حَدِيثَهَا قَائِلَةً: «مَا أَجْدَرَكِ بِاللَّوْمِ وَالرِّثَاءِ، أَيَّتُهَا الْحَسْنَاءُ الشَّوْهَاءُ!
فَقَالَتْ «نَرْجِسُ»: «كَلَّا، يَا سَيِّدَتِي. فَمَا شَعَرْتُ بِأَسَفٍ وَلَا نَدَمٍ.
وَلَقَدْ أَدَّيْتُ لِابْنِ عَمِّي بَعْضَ مَا يَفْرِضُ عَلَيَّ الْوَفَاءُ مِنْ دَيْنٍ واجِبِ الْأَدَاءِ … وَلَوْ أَسْتَطِيعُ كُنْتُ لَهُ فِدَاءً!»