خَاتِمَةُ الْمَعْرَكَةِ
وَهُنَا ظَهَرَ الْغَيْظُ عَلَى وَجْهِ «لُؤْلُؤَةَ» أَمِيرَةِ التَّوَابِعِ، مِنْ جُرْأَةِ «عَاصِفَةَ» وَصَفَاقَتِهَا، وَإِسْرَافِهَا فِي غَيْظِهَا وَشَمَاتَتِهَا.
حَسْبُكِ مَا أَسْلَفْتِ مِنْ شَرِّكِ، وَكُونِي — مُنْذُ الْيَوْمِ — عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ أَمْرِكِ؛ فَلَنْ أُمَكِّنَكِ مِنَ الْإِسَاءَةِ لِهَذِهِ الْأُسْرَةِ مَا بَقِيتُ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ، وَلَنْ تَبْلُغِي مِنْ كَيْدِكِ — بَعْدَ الْآنَ — شَيْئًا مِمَّا تَأْمُلِينَ. وَسَتَرَيْنَ فِي قَابِلِ الْأَيَّامِ أَنَّ الْبَغْيَ سَرِيعُ الزَّوَالِ، وَلَنْ يُفْلِحَ كَيْدُكِ عَلَى أَيِّ حَالٍ.
لَقَدْ وَقَفْتُ حَيَاتِي عَلَى نُصْرَةِ «نَرْجِسَ» وَ«فَائِقٍ»، وَالدِّفَاعِ عَنْهُمَا، وَحَلِّ مَا تَعَقَّدَ مِنْ أَمْرِهِمَا، بَعْدَ مَا عَرَفْتُهُ مِنْ طَهَارَةِ قَلْبَيْهِمَا، وَصِدْقِ وَفَائِهِمَا.
وَلَنْ يَضِيعَ جَمِيلُهُمَا سُدًى، وَلَنْ يُخَيِّبَ اللهُ رَجَاءَهُمَا أَبَدًا. وَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الْمُخْلِصِينَ، وَهُوَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ!»
وَخَيْرٌ لَكِ أَنْ تَسْتَشْعِرِي النَّدَمَ عَلَى مَا جَنَيْتِ، وَتَرْجِعِي مِنْ حَيْثُ أَتَيْتِ.
وَحَذَارِ أَنْ تَتَعَمَّدِي سُخْطِي وَإِغْضَابِي، فَتَحُلَّ بِكِ نِقْمَتِي وَعِقَابِي، ثُمَّ لَا يُنْجِيكِ مِنِّي — بَعْدَ ذَلِكِ — كَائِنٌ كَانَ.»
فَالْتَفَتَتْ إِلَيْهَا «لُؤْلُؤَةُ» عَابِسَةً مُتَجَهِّمَةً، وَأَجَابَتْهَا سَاخِرَةً مُتَهَكِّمَةً: «أَلِمِثْلِي يُقَالُ هَذَا الْكَلَامُ؟ إِنَّكِ لَتَرُومِينَ — بِحَمَاقَتِكِ — مَا لَا يُرَامُ!
أَوَتَحْسَبِينَنِي أَخَافُ التَّهْدِيدَ، أَوْ أَجْزَعُ مِنَ الْوَعِيدِ؟
وَلَكِنَّنِي أَكْرَمُ مِنْ أَنْ أَجْزِيَكِ عَلَى إِسَاءَتِكِ، وَأُعَاقِبَكِ عَلَى حَمَاقَتِكِ … وَقَدْ رَأَيْتُ — فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ — أَنْ أَتَجَاوَزَ عَنْ زَلَّتِكِ.»
فَصَرَخَتْ «عَاصِفَةُ» وَقَدِ اشْتَدَّ بِهَا الْغَضَبُ، قَائِلَةً لَهَا: «ما أَشَدَّ جُرْأَتَكِ، وَأَعْجَبَ بَلاهَتِكِ؛ إِذْ تَتَظَاهَرِينَ بِالصَّفْحِ وَالْمَغْفِرَةِ، كَأَنَّمَا نَسِيتِ أَنَّ الْعَفْوَ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ الْمَقْدِرَةِ!
وَمِنْ أَيْنَ لَكِ الْقُدْرَةُ عَلَيَّ، وَالتَّمَكُّنُ مِنَ الْإِسَاءَةِ إِلَيَّ؟
وَتَمَادَتْ «عَاصِفَةُ» فِي سُخْطِهَا، وَأَصَمَّتْ أُذُنَهَا عَنْ سَمَاعِ نَصِيحَةِ أُخْتِهَا. واشْتَدَّ بِهَا الْغَيْظُ حَتَّى أَخَذَ مِنْهَا كُلَّ مَأْخَذٍ، وَسَدَّ عَلَيْهَا — مِنْ طَرَائِقِ الْعَقْلِ — كُلَّ مَنْفَذٍ، فَلَمْ تَتَمَالَكْ أَنْ صَرَخَتْ فِي وَجْهِ أُخْتِهَا مُتَوَعِّدَةً.
وَانْبَعَثَ مِنْ فَمِهَا صَفِيرٌ مُزْعِجٌ يُصِمُّ الْآذَانَ، وَتَقْشَعِرُّ مِنْ هَوْلِهِ الْأَبْدَانُ.
وَارْتَفَعَتْ فِي الْهَوَاءِ لِتَأْدِيبِ أُخْتِهَا وَمُعَاقَبَتِهَا، بَعْدَ أَنْ أَمَرَتْ ضَفَادِعَهَا بِقَذْفِ سُمُومِهَا … وَتَعَالَتِ الضَّفَادِعُ تَقُودُهُنَّ زَعِيمَتُهُنَّ، مُحَاوِلَاتٍ أَنْ يَرْتَفِعْنَ إِلَى مَرْكَبَةِ «لُؤْلُؤَةَ»، لِيُمْطِرْنَهَا سُمُومَهُنَّ.
وَسُرْعَانَ مَا ارْتَفَعَتْ «لُؤْلُؤَةُ» بِمَرْكَبَتِهَا وَقَنَابِرِهَا فَوْقَ مُتَنَاوَلِ السُّمُومِ.
وَمَا زَالَتْ مَرْكَبَتُهَا فِي ارْتِفَاعٍ، وَمَرْكَبَةُ خُصُومِهَا فِي انْخِفَاضٍ، حَتَّى عَلَتِ الْقَنَابِرُ فَوْقَ أَعْدَائِهِنَّ مِائَةَ ذِرَاعٍ.
وَانْقَضَّتْ «لُؤْلُؤَةُ» عَلَى أُخْتِهَا انْقِضَاضَ الصَّقْرِ، وَانْدَفَعَتْ إِلَيْهَا فِي سُرْعَةِ السَّهْمِ الْمَارِقِ، وَهَوَتْ مَعَ قَنَابِرِهَا عَلَى الضَّفَادِعِ فَفَقَأْنَ عُيُونَهُنَّ بِأَظْفَارِهِنَّ، ثُمَّ ارْتَفَعَتْ بِمَرْكَبَتِهَا مَرَّةً أُخْرَى؛ قَبْلَ أَنْ يَتَّسِعَ الْوَقْتُ لِأَمِيرَةِ الزَّوَابِعِ لِمُسَاعَدَةِ جَيْشِهَا، فِي حَرْبِ عَدُوِّهَا.
وَكَانَ صِيَاحُ الضَّفَادِعِ وَصَفِيرُ الْقَنَابِرِ يَمْلَآنِ الْجَوَّ ضَجِيجًا وَعَجِيجًا يُصِمَّانِ الْآذَانَ. وَصَاحَتْ أَمِيرَةُ التَّوَابِعِ تُوصِي جُنُودَهَا وَأَعْوَانَهَا — مِنَ الْقَنَابِرِ اللَّائِي كُنَّ يَشْهَدْنَ الْمَعْرَكَةَ — وَتُحَذِّرُهُنَّ قَائِلَةً: «ابْتَعِدْنَ، وَاسْدُدْنَ آذَانَكُنَّ، حَتَّى لَا تَتَعَرَّضَ لِلصَّمَمِ مِنْ أَصْواتِ أَعْدَائِكُنَّ.»
وَلَكِنَّ أَمِيرَةَ التَّوَابِعِ خَبِيرَةٌ بِأَمْثَالِ هَذَهِ الْحَرْبِ، فَظَلَّتْ هِيَ وَجُنُودُهَا يَرْتَفِعْنَ فَوْقَ الضَّفَادِعِ، ثُمَّ لَا يَلْبَثْنَ أَنْ يَهْوِينَ عَلَيْهِنَّ مُنْقَضَّاتٍ، سَاحِقَاتٍ أَجْسَامَهُنَّ مُنْتَصِرَاتٍ.
وَظَلَّتْ «عَاصِفَةُ» تُحَاوِلُ أَنْ تَعْلُوَ بِمَرْكَبَتِهَا عَلَى مَرْكَبَةِ أُخْتِهَا، فَلا تَسْتَطِيعُ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا. وَهُنَالِكَ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْغَضَبُ فَأَذْهَلَهَا، وَسَلَبَ مِنْهَا عَقْلَهَا وَخَبَّلَهَا؛ فَانْدَفَعَتْ تَصِيحُ فِي جُنُونٍ وَحَمَاقَةٍ: «مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذِهِ الْقُوَّةُ الْبَاطِشَةُ، أَيَّتُهَا الْبَلْهَاءُ الطَّائِشَةُ؟ لَا رَيْبَ أَنَّ مَلِكَةَ الْجِنِّيَّاتِ تُسَاعِدُكِ!
•••
وَمَا كَادَتْ «عَاصِفَةُ» تُتِمُّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ حَتَّى لاحَقَتْهَا لَعْنَةُ مَلِيكَةِ الْجِنِّ؛ فَهَوَتْ مَرْكَبَتُهَا إِلَى الْأَرْضِ، وَأَنَاخَتْ عَلَى الضَّفَادِعِ بِثِقْلِهَا … وَسُحِقَتِ الْمَرْكَبَةُ بِكُلِّ مَنْ فِيهَا، وَهَلَكَتِ الضَّفَادِعُ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ جُمُوعِهِنَّ إِلَّا أَفْرَادٌ.
وَوَقَفَتْ «عَاصِفَةُ» وَحْدَهَا ضَعِيفَةً مُسْتَخْذِيَةً، وَقَدِ انْتَقَلَتْ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الشَّبَابِ إِلَى الْهَرَمِ، وَمِنَ الْقُوَّةِ إِلَى الضَّعْفِ، وَأَصْبَحَتْ ضِفْدِعًا عَجُوزًا، تُحَاوِلُ الْكَلَامَ فَلَا تَسْتَطِيعُ بَعْدَ أَنْ أَصَابَهَا الْخَرَسُ، فَلَا تَقْدِرُ عَلَى غَيْرِ الصَّفِيرِ.
•••
وَهُنَا هَبَطَتْ أَمِيرَةُ التَّوَابِعِ إِلَى الْأَرْضِ بِمَرْكَبَتِهَا، وَنَزَلَتْ مِنْهَا وَهِيَ تَقُولُ: «لَقَدْ أَنْزَلَتْ بِكِ مَلِكَةُ الْجِنِّيَّاتِ مَا أَنْتِ أَهْلٌ لَهُ مِنْ عِقَابٍ؛ جَزَاءً لَكِ عَلَى جُرْأَتِكِ. فَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ، وَاعْتَصِمِي بِالتَّوْبَةِ إِذَا أَرَدْتِ النَّجَاةَ.»
فَلَمْ يَكُنْ لَهَا مِنْ جَوَابٍ إِلا أَنْ قَذَفَتِ الْقَنَابِرَ بِسَمِّهَا؛ فَلَمْ تُصِبْ مِنُهُنَّ أَحَدًا لِحُسْنِ الْحَظِّ.
وَقَدْ حَكَمَتْ عَلَيْكِ أَنْ تَقْضِي حَيَاتَكِ سَجِينَةً مُنْزَوِيَةً، وَأَنْ تَسْتَخْفِي عَنِ الْعُيُونِ، ثُمَّ لَا تَظْهَرِي فِي طَرِيقِ هَذِهِ الْأُسْرَةِ بَعْدَ الْيَوْمِ.»
وَمَا انْتَهَتْ «لُؤْلُؤَةُ» مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ حَتَّى كُتِبَتْ عَلَى «عَاصِفَةَ» اللَّعْنَةُ، فَتَوَارَتْ مَعَ ضَفَادِعِهَا، وَأَصْبَحَتْ عَاجِزَةً عَنِ الْإِسَاءَةِ، وَلَمْ يَبْقَ لِمَرْكَبَتِهَا أَثَرٌ.