حَدِيثُ الْأَوْفِيَاءِ
•••
ثُمَّ خَتَمَتْ حَدِيثَهَا قَائِلَةً: «الْآنَ يَبْدَأُ عَهْدُ أُنْسِكَ وَسَعَادَتِكَ، وَيَنْقَضِي زَمَنُ نَحْسِكَ وَشَقَاوَتِكَ … وَلَنْ يُنَادِيَكَ أَحَدٌ — بَعْدَ الْيَوْمِ، أَيُّهَا الْأَمِيرُ — بِغَيْرِ لَقَبِكَ الْجَدِيدِ.
وَقَدْ حَانَ الْوَقْتُ الَّذِي أُفْضِي إِلَيْكَ فِيهِ بِمَا حُجِبَ عَنْكَ مِنْ عَجِيبِ الْأَخْبَارِ، وَأَبُوحُ لَكَ بِمَا لَمْ يُحِطْ بِهِ عِلْمُكَ مِنْ خَفِيِّ الْأَسْرَارِ؛ فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ أَوَانًا، وَلِكُلِّ حَدِيثٍ زَمَانًا!
وَقَدْ آنَ لَكَ أَنْ تَعْرِفَ أَنَّكَ الْأَمِيرُ «فَائِقٌ» ابْنُ «الْبَاطِشِ»: زَوْجِ الْمَلِكَةِ «زُبَيْدَةَ».
أَرَاكَ تُغْمِضُ عَيْنَيْكَ، وَتُمِرُّ عَلَى جَبِينِكَ يَدَيْكَ، تُحَاوِلُ أَنْ تَعُودَ بِذَاكِرَتِكَ إِلَى مَاضِيكَ؛ لَعَلَّكَ تَعْرِفُ: مَنْ هِيَ «زُبَيْدَةُ»؟ وَلَكَ مَوْفُورُ الْعُذْرِ.
وَإِنْ كُنْتَ — بِرَغْمِ ذَلِكَ — أَعْرَفَ النَّاسِ بِفَضْلِهَا، وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهَا، وَأَعَزَّهُمْ لَدَيْهَا، وَأَحَبَّهُمْ إِلَيْهَا، وَأَعْطَفَهُمْ عَلَيْهَا، وَأَبَرَّهُمْ بِهَا، وَأَجْدَرَهُمْ بِحُنُوِّهَا.
إِنَّهَا أُمُّكَ الَّتِي عَرَفْتَهَا بِاسْمِ «مَاجِدَةَ»!
وَقَدْ عُرِفَتْ أُمُّكَ — مُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ — بِاسْمِ «مَاجِدَةَ»، كَمَا عُرِفْتَ أَنْتَ بِاسْمِ «الدُّبِّ الصَّغِيرِ» … وَلَازَمَتْكُمَا التَّسْمِيَتَانِ، وَلَصِقَ بِكُمَا اللَّقَبَانِ، مُنْذُ حَالَفَكُمَا النَّحْسُ، الَّذِي انْقَضَى عَهْدُهُ بِانْقِضَاءِ أَمْسِ.
وَهَكَذَا دَارَ الزَّمَنُ دَوْرَتَهُ، وَانْتَهَى عَهْدُ الشَّقَاءِ إِلَى غَيْرِ عَوْدَةٍ، وَاسْتَرْجَعْتُمَا لَقَبَيْكُمَا السَّعِيدَيْنِ؛ لِتَسْتَقْبِلَا عَهْدًا حَافِلًا بِفُنُونِ الْهَنَاءِ، وَالْبِشْرِ وَالصَّفَاءِ؛ جَزَاءً بِمَا صَبَرْتُمَا، وَمُكَافَأَةً لَكُمَا عَلَى مَا كَابَدْتُمَا وَقَاسَيْتُمَا.
•••
وَلَعَلَّكَ أَدْرَكْتَ مِنَ اللَّقَبِ الَّذِي أَطْلَقَهُ النَّاسُ عَلَى أَبِيكَ مَا كَانَ يَنْطَوِي عَلَيْهِ طَبْعُهُ مِنْ شَرَاسَةٍ وَفَظَاظَةٍ.
وَلَا أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ هِيَاجِهِ وَثَوْرَتِهِ عَلَى الْمَلِكَةِ «زُبَيْدَةَ»، حِينَ هَمَّتْ أَنْ تَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَتْلِ «فَيْرُوزَ» وَزَوْجَتِهِ «سَلْوَى». وَأَوَّلُهُمَا أَخُوهُ، وَالثَّانِيَةُ زَوْجُ أَخِيهِ.
وَكَانَتْ مُكَافَأَةُ «الْبَاطِشِ» الَّتِي أَسْدَاهَا إِلَى «زُبَيْدَةَ»، أَنْ يَتَنَكَّرَ لَهَا وَيَضْطَهِدَهَا، وَيَجْزِيَهَا عَلَى صُنْعِهَا الْجَمِيلِ، وَمَعْرُوفِهَا الْجَلِيلِ، بِأَنْ يَحْقِدَ عَلَيْهَا، وَيُصِرَّ عَلَى مُعَاقَبَتِهَا، وَالْبَطْشِ بِهَا.
وَقَدْ كَادَ يَتِمُّ لَهُ مَا أَرَادَ؛ لَوْ لَمْ أَتَدَارَكْهَا — بِعَوْنٍ مِنَ اللهِ — قَبْلَ فَوَاتِ الْأَوَانِ.
•••
أَرَاكَ تَتَطَلَّعُ مُتَعَجِّبًا مَدْهُوشًا، كَأَنَّمَا تَتَعَجَّلُ سَمَاعَ بَقِيَّةِ الْقِصَّةِ، لِتَعْرِفَ شَيْئًا عَنْ «نَرْجِسَ»: صَاحِبَتِكَ الْوَفِيَّةِ. أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟»
فَقَالَ لَهَا الْأَمِيرُ «فَائِقٌ»: «مَا عَدَوْتِ مَا فِي نَفْسِي يَا مَوْلاتِي؛ فَهَاتِي حَدِيثَكِ الشَّائِقَ هَاتِي!»
فَاسْتَأْنَفَتْ «لُؤْلُؤَةُ» قَائِلَةً: «لَقَدِ اسْتَطَاعَتِ الْمَلِكَةُ «زُبَيْدَةُ» — كَمَا أَسْلَفْتُ — أَنْ تُنْقِذَ بِفَضْلِ جُرْأَتِهَا وَشَجَاعَتِهَا عَمَّكَ وَزَوْجَةَ عَمِّكَ مِنْ بَطْشِ أَبِيكَ. وَلَوْ قُتِلَا فِي ذَلِكَ الْوَقتِ لَمَا أَنْجَبَا «نَرْجِسَ» الَّتِي أَسْعَدَتْ حَيَاتَكَ، وَسَبَّبَتْ نَجَاحَكَ، وَأَصْبَحَتْ مَصْدَرَ أُنْسِكَ، وَبَهْجَةَ نَفْسِكَ.
ثُمَّ مَرَّتِ الْأَيَّامُ وَالشُّهُورُ وَالسِّنُونُ، وَ«الْبَاطِشُ» لَا يَزْدَادُ إِلَّا تَمَادِيًا فِي ظُلْمِهِ وَطُغْيَانِهِ؛ حَتَّى هَاجَ النَّاسُ وَمَاجُوا، وَبَلَغَ بِهِمُ الْغَيْظُ كُلَّ مَبْلَغٍ، فَلَمْ يَتَمَالَكُوا أَنْ بَطَشُوا بِهِ … وَتَمَّ لَهُمْ مَصْرَعُهُ مُنْذُ أَيَّامٍ قَلَائِلَ.
وَلَا تَسَلْ عَنِ ابْتِهَاجِهِمْ حِينَ عَلِمُوا أَنَّ الْأَمِيرَ «فَائِقًا» وَلِيَّ الْعَرْشِ، لَا يَزَالُ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ.
•••
فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ مَنْ شِئْتَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَمِيرَاتِ، لِتَكُونَ شَرِيكَةَ حَيَاتِكَ، وَسَائِسَةَ الْمَمْلَكَةِ مَعَكَ؛ فَإِنَّهُنَّ جَمِيعًا مِنْ بَنَاتِ الْمُلُوكِ، كَمَا أَسْلَفْتُ.
وَسَتَرَى مِنْ حُسْنِ أَدَبِهِنَّ، وَمَوْفُورِ عَقْلِهِنَّ، مَا يَسُرُّكَ وَيُرْضِيكَ، وَيُحَقِّقُ كُلَّ أَمَانِيِّكَ.»
•••
وَكَأَنَّمَا انْقَضَّتْ صَاعِقَةٌ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى قَلْبِ الْأَمِيرِ «فَائِقٍ» مِنْ هَوْلِ مَا سَمِعَهُ مِنْ «لُؤْلُؤَةَ».
وَحَانَتْ مِنْهُ الْتِفَاتَةٌ إِلَى «نَرْجِسَ» فَرَأَى وَجْهَهَا مُمْتَقِعًا، وَالدُّمُوعُ تَتَرَقْرَقُ فِي عَيْنَيْهَا مِنْ شِدَّةِ الْأَلَمِ.
فَسَأَلَهَا مُتَعَجِّبًا: «مَاذَا يُبْكِيكِ يَا «نَرْجِسُ» الْعَزِيزَةَ؟
أَتَظُنِّينَ أَنَّنِي أَرْضَى بِصُحْبَتِكِ بَدِيلًا؟
أَوَتَحْسَبِينَنِي أَخْجَلُ مِنَ الظُّهُورِ مَعَكِ أَمَامَ النَّاسِ، يَا أَجْمَلَ مَنْ رَأَيْتُ، وَأَكْرَمَ مَنْ عَرَفْتُ؟
كَلَّا، لَا تَفْتَرِقُ «نَرْجِسُ» عَنْ شَرِيكِ حَيَاتِهَا «فَائِقٍ»، وَلَنْ يَعُوقَ زَوَاجَهُمَا — إِنْ شَاءَ اللهُ — عَائِقٌ؟»
فَقَالَتْ لَهُ مُتَعَجِّبَةً: «كَيْفَ تُفَكِّرُ فِي الزَّوَاجِ بِي يَا ابْنَ عَمِّ؟ إِنَّكَ بِهَذَا تَطْلُبُ الْمُحَالَ؟ وَتَخْدَعُ نَفْسَكَ بِكَاذِبِ الْآمَالِ.
كَيْفَ تُشَارِكُكَ فِي الْمُلْكِ دُبَّةٌ شَوْهَاءُ؟ وَكَيْفَ تُوَاجِهُ بِهَا رَعِيَّتَكَ وَوُزَرَاءَكَ، وَأَنْدَادَكَ مِنَ الْمُلُوكِ وَنُظَرَاءَكَ؟
وَأَرَادَتِ الْمَلِكَةُ «زُبَيْدَةُ» أَنْ تُهَوِّنَ عَلَى وَلَدِهَا مَا صَعُبَ مِنَ الْأَمْرِ، فَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِ تُزَيِّنُ لَهُ اقْتِرَاحَ «نَرْجِسَ».
فَلَمْ يُصْغِ إِلَى نَصِيحَتِهَا، وَأَصَمَّ أُذُنَيْهِ عَنْ سَمَاعِهَا.
وَأَعَادَتْ عَلَيْهِ الرَّجَاءَ، فَلَمْ يَزْدَدْ إِلَّا رَفْضًا وَإِبَاءً؛ فَلَمْ تَلْبَثْ أَنْ يَئِسَتْ مِنْ إِقْنَاعِهِ.
وَرَأَتْ «حَلِيمَةُ» مَا يَعْتَرِضُ سَعَادَتَهُ مِنْ عَقَبَةٍ لَا سَبِيلَ إِلَى تَذْلِيلِهَا؛ فَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِ بَاكِيَةً، مُسْتَعْطِفَةً، تَسْأَلُهُ أَلَّا يُخَيِّبَ رَجَاءَ أُمِّهِ وَرَجَاءَهَا، وَأَنْ يَأْخُذَ بِاقْتِرَاحِ «زُبَيْدَةَ» وَ«نَرْجِسَ»؛ فَلَمْ تَجِدْ مِنْهُ إِلَّا إِعْرَاضًا وَإِبَاءً.
•••
وَلَمَّا رَآهُنَّ لَا يَكْفُفْنَ عَنْ تَكْرَارِ النُّصْحِ، وَلَا يَكَادُ الْيَأْسُ يَدِبُّ فِي قُلُوبِهِنَّ، حَتَّى يُعَاوِدَهُنَّ الْأَمَلُ فِي إِقْنَاعِهِ مِنْ جَدِيدٍ، تَوَجَّهَ إِلَى «نَرْجِسَ» وَقَالَ لَهَا فِي إِصْرَارٍ وَعَزْمٍ: «إِذَا لَمْ يَبْقَ أَمَامَنَا إِلَّا أَنْ نَخْتَارَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، وَنُفَاضِلَ بَيْنَ «نَرْجِسَ» وَالْمُلْكِ، فَلَا مَجَالَ لِلتَّرَدُّدِ.
فَقَدْ أَسْعَدَتْنِي «نَرْجِسُ» وَأَنَا بَعِيدٌ عَنِ الْمُلْكِ، وَلَنْ يُسْعِدَنِي الْمُلْكُ وَأَنَا بَعِيدٌ عَنْ «نَرْجِسَ».
إِنَّ صَوْلَجَانَ الْمُلْكِ وَأُبَّهَةَ السُّلْطَانِ أَعْجَزُ عَنْ أَنْ يَجْلُبَا لِنَفْسِي مِنَ السَّعَادَةِ بَعْضَ مَا أَلْقَاهُ فِي جِوَارِكِ مِنْ بِشْرٍ وَإِينَاسٍ.
وَإِنِّي لَأَرَى فِي دَسْكَرَتِنَا الصَّغِيرَةِ — وَأَنْتِ إِلَى جِوَارِي — سَعَادَةً تَتَضَاءَلُ أَمَامَهَا سَعَادَاتُ الدُّنْيَا جَمِيعًا. وَخَيْرٌ لَنَا أَنْ يُظَلِّلَنَا سَقْفٌ وَاحِدٌ نَعِيشُ تَحْتَهُ فِي بِشْرٍ وَإِينَاسٍ، بَعِيدَيْنِ عَنِ النَّاسِ.
وَالرَّأْيُ ﻟ «نَرْجِسَ» عَلَى كُلِّ حَالٍ.
فَكَيْفَ تُرِيدِينَ؟ وَأَيَّ السَّعَادَةِ تُفَضِّلِينَ؟»
فَقَالَتْ «نَرْجِسُ»: «أَمَّا الْآنَ فَلا سَبِيلَ لِي عَلَيْكَ، وَلَيْسَ فِي قُدْرَتِي أَنْ أَرْفُضَ رَأْيَكَ الْحَكِيمَ، وَاقْتِرَاحَكَ الْكَرِيمَ! وَمَا أَسْعَدَنَا بِقَضَاءِ أَيَّامِنَا فِي هَذِهِ الدَّسْكَرَةِ الصَّغِيرَةِ، وَادِعَيْنَ هَانِئَيْنَ، كَمَا قَضَيْنَاهَا فِيمَا مَضَى مِنْ عُمْرِنَا، مُتَوَافِقَيْنَ فِي ذَوْقَيْنَا، سَعِيدَيْنِ فِي حَيَاتَيْنَا.»
فَقَالَتِ الْجِنِّيَّةُ، وَقَدْ بَهَرَهَا إِخْلَاصُهُمَا، وَفَتَنَهَا وَفَاؤُهُمَا: «عَلَى رِسْلِكُمَا أَيُّهَا الْأَمِيرَانِ النَّبِيلَانِ.
قَرَّا عَيْنًا وَطِيبَا نَفْسًا أَيُّهَا الْعَزِيزَانِ الْوَفِيَّانِ؛ فَقَدْ كَفَلْتُ لَكُمَا السَّعَادَةَ وَالْهَنَاءَةَ، وَلَنْ تَلْقَيَا إِلَّا مَا تُحِبَّانِ؛ فَإِنَّ مَنْ يَنْفَرِدُ بِمِثْلِ هَذِهِ الشَّمَائِلِ الْعَالِيَةِ جَدِيرٌ أَنْ يُذَلَّلَ لَهُ الْمُحَالُ؛ وَيَدْنُوَ لَهُ الْبَعِيدُ مِنَ الْآمَالِ، وَيَظْفَرَ مِنْ فُنُونِ السَّعَادَةِ بِمَا لَا يُنَالُ.»