الدُّبُّ الصَّغِيرُ
وَمَرَّتْ عَلَى هَذَا الْحَادِثِ الْمُفَزِّعِ أَشْهُرٌ ثَلاثَةٌ، لَا يَمُرُّ يَوْمٌ إِلَّا ذَكَّرَهَا بِهِ، وَمثَّلَ لِعَيْنَيْهَا مَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ فَاجِعَةٍ أَلِيمَةٍ.
ثُمَّ لَا تَلْبَثُ أَنْ تَحْمَدَ اللهَ عَلَى أَنْ قَيَّضَ لَهَا تِلْكَ الْقُبَّرَةَ الْكَرِيمَةَ؛ وَلَوْلاهَا لَتَضاعَفَتِ الْكَارِثَةُ، وَعَظُمَتِ الْمُصِيبَةُ.
•••
وَلَمَّا تَمَّتِ الْأَشْهُرُ الثَّلاثَةُ أَحَسَّتِ الْمَلِكَةُ آلامَ الْوَضْعِ.
•••
وَمَا كَادَ الْأَمِيرُ يَخْرُجُ لِلْوُجُودِ، حَتَّى أَطْلَقَتْ عَلَيْهِ أُمُّهُ الِاسْمَ الَّذِي اخْتَارَتْهُ الْقُبَّرَةُ لَهُ، وَأَمَرَتْ «حَلِيمَةَ» أَلَّا تُنَادِيَ وَلِيدَهَا بِغَيْرِ هَذَا اللَّقَبِ الْكَرِيهِ.
وَهَكَذَا كَانَتْ وِلادَةُ «الدُّبِّ الصَّغِيرِ»!
وَقَدْ حَاوَلَتِ الْأُمُّ وَوَصِيفَتَهَا أَنْ تَتَعَرَّفَا هَيْئَةَ الطِّفْلِ أَوْ تَتَبَيَّنَا وَجْهَهُ فَلَمْ تَسْتَطِيعَا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا؛ فَقَدْ غَطَّاهُ شَعْرٌ طَوِيلٌ قَاتِمٌ، سَتَرَ جِسْمَهُ كُلَّهُ، فَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ لِرَائِيهِ مَا يَتَعَرَّفُ بِهِ شِيئًا مِنْ حَقِيقَتِهِ، أَوْ يَتَبَيَّنُ مَا يُخْفِيهِ مِنْ مَلاحَةٍ أَوْ دَمَامَةٍ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْ خِلالِ الشَّعْرِ الْكَثِيفِ غَيْرُ فَمِهِ وَعَيْنَيْهِ.
وَكَانَتْ عَيْنَاهُ حِينَئِذٍ مُغْمَضَتَيْنِ؛ فَلَمْ تَسْتَطِعْ «مَاجِدَةُ» وَ«حَلِيمَةُ» أَنْ تَرَيَاهُمَا، قَبْلَ أَنْ يَفْتَحَهُمَا.
وَلا عَجَبَ فِي ذَلِكَ؛ فَقَدْ كَانَ لِدَمَامَتِهِ، وَقُبْحِ صُورَتِهِ، كَفِيلًا بِتَنْفِيرِ النَّاسِ مِنْ رُؤْيَتِهِ، بَعْدَ أَنْ بَلَغَ مِنَ الشَّنَاعَةِ مَبْلَغًا لَمْ يُصِبْ غَيْرَهُ مِنْ قَبْلِهِ.
فَلَيْتَ الْجِنِّيَّةَ تَقْبَلُ مِنِّي الْفِدَاءَ، وَتَرْضَى أَنْ أُبادِلَكَ بِهَذَا الْكِساءِ! وَلَيْتَ مَحَبَّتِي لَكَ تُمَكِّنُنِي مِنِ أَنْ أَرْفَعَ عَنْ وَجْهِكَ هَذَا الشَّعْرَ الْقَاتِمَ الْكَثِيفَ!»
وَكَانَ مِنَ الطَّبِيعِيِّ أَلَّا تَسْمَعَ مِنْهُ جَوابًا عَنْ سُؤالِهَا؛ فَهُوَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِهَذَا الْعَالَمِ، لَمْ يَجِئْ إِلَيْهِ إِلَّا مُنْذُ لَحَظاتٍ، وَهُوَ — إِلَى ذَلِكَ — مُسْتَغْرِقٌ فِي النَّوْمِ.
وَجَلَسَتْ «حَلِيمَةُ» إِلَى جَانِبِ «مَاجِدَةَ» تُهَوِّنُ عَلَيْهَا مِنْ آلامِهَا، وَتَشْرَكُهَا فِي أَحْزانِهَا.
وَلَنْ يَدُومَ حُزْنُكِ طَوِيلًا إِنْ شَاءَ اللهُ. ذَلِكِ يَقِينٌ ثابِتٌ لا يُساوِرُنِي فِيهِ شَكٌّ. وَسَيَعُودُ لِوَلَدِكِ الصَّغِيرِ رَوْنَقُهُ وَبَهَاؤُهُ، مَتَى انْتَهَتْ أَيَّامُ الشَّقَاءِ.
وَمَاذَا عَلَيْنَا إِذَا أَطْلَقْنَا عَلَيْهِ — مُنْذُ الْآنَ — اسْمَ: الْأَمِيرِ «فَائِقٍ»؟»
فَصَرَخَتْ بِهَا «مَاجِدَةُ»، وَقَدِ امْتَلَأَ قَلْبُهَا فَزَعًا مِنْ جُرْأَتِهَا، وَانْدِفَاعِهَا وَتَهَوُّرِهَا. وَقَالَتْ لَهَا تُحَذِّرُهَا، وَقَدْ تَهَدَّجَ مِنَ الرُّعْبِ صَوْتُهَا: «إِيَّاكِ — يَا «حَلِيمَةُ» — أَنْ تُكَرِّرِي هَذِهِ الْكَلِمَةَ، وَإِلَّا سَاءَتِ الْعَاقِبَةُ، وَتَعَرَّضْنَا لِسُخْطِ الْجِنِّيَّةِ وَعِقَابِهَا.
فَأَطَاعَتْ «حَلِيمَةُ» أَمْرَ سَيِّدَتِهَا، وَاسْتَصْوَبَتْ رَأْيَهَا.
وَأَقْبَلَتْ «مَاجِدَةُ» عَلَى «الدُّبِّ الصَّغِيرِ» تَلُفُّهُ فِي الثِّيَابِ الَّتِي أَعَدَّتْهَا لَهُ.
وَانْحَنَتْ عَلَيْهِ لِتُقَبِّلَهُ؛ فَأَدْمَى شَعْرُهُ وَجْهَهَا، وَجَرَحَ شَفَتَيْهَا.
وَلَمْ يَكُنْ لِلْأَمِيرِ الصَّغِيرِ مَا يُعَابُ إِلَّا مَنْظَرُهُ وَفَرْوُهُ. أَمَّا حَقِيقَةُ نَفْسِهِ الشَّفَّافَةِ، فَكَانَتْ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ مَظْهَرِهِ الْخَشِنِ الْمُنَفِّرِ.
كَانَ — فِي الْحَقِّ — آيَةً مِنْ آياتِ الظَّرْفِ، وَرَجَاحَةِ الْعَقْلِ، وَسَمَاحَةِ النَّفْسِ، وَدَمَاثَةِ الْخُلُقِ.
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ — فِي هَذِهِ الْخِلالِ الْكَرِيمَةِ — نَظِيرٌ بَيْنَ الْأَطْفَالِ جَمِيعًا؛ فَلا عَجَبَ إِذَا أَحَبَّتْ «حَلِيمَةُ» فِيهِ تِلْكَ الْمَزايا النَّبِيلَةَ، وَشُغِفَتْ بِهِ.
•••
وَهَكَذَا عَاشَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ»، وَمَا زالَ كَذَلِكَ حَتَّى نَمَتْ سِنُّهُ، وَأَصْبَحَ قَادِرًا عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الدَّسْكَرَةِ بَيْنَ حِينٍ وَآخَرَ. وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَرَاهُ حَتَّى يَفِرَّ مِنْهُ. وَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ عُرِفَ أَمْرُهُ، وَذَاعَ صِيتُهُ بَيْنَ سُكَّانِ الْقَرْيَةِ وَمَا جَاوَرَهَا مِنَ الْقُرَى، وَأَصْبَحَ مَضْرِبَ الْمَثَلِ فِي دَمَامَتِهِ، وَقُبْحِ صُورَتِهِ.
وَكَانَ الصِّغارُ لَا تَقَعُ أَبْصارُهُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يُسْلِمُوا سَيقَانَهُمْ لِلْفِرَارِ هَرَبًا مِنْ رُؤْيَتِهِ. وَلا يَرَاهُ أَحَدٌ — مِنَ الرِّجَالِ أَوِ النِّساءِ عَلَى السَّواءِ — حَتَّى يَطْرُدَهُ وَيَزْجُرَهُ، وَيُقْصِيَهُ عَنْهُ وَيَنْهَرَهُ.
وَكَانَتْ «مَاجِدَةُ» تَبْكِي فِي أَغْلَبِ الْأَحْيَانِ، نَادِبَةً سُوءَ حَظِّهَا، وَشَقَاءَ وَلَدِهَا، وَلا تَكُفُّ عَنِ الدُّعَاءِ لَهُ بِانْقِضاءِ عَهْدِ التَّعَاسَةِ وَالنَّحْسِ.
وَطَالَمَا نَادَتْ أَمِيرَةَ التَّوَابِعِ، تَسْتَعْجِلُهَا أَنْ تُنْقِذَ وَلَدَهَا، وَتُخَلِّصَهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ.
وَكَانَ الْأَمَلُ يُعَاوِدُهَا كُلَّمَا لَمَحَتْ عَيْنَاهَا قُبَّرَةً عَلَى غُصْنِ شَجَرَةٍ جَاثِمَةً، أَوْ طَائِرَةً فِي الْفَضاءِ هائِمَةً.