الْعَوْدَةُ إِلَى الْوَطَنِ
وَكَانَتِ الْمَلِكَةُ تُفَكِّرُ فِيمَا تَسْتَقْبِلُهُ مِنْ مَهَامِّ الْغَدِ وَمَشَاغِلِهِ، حِينَ تَعُودُ إِلَى حَاضِرَةِ مُلْكِهَا، الَّتِي طَالَتْ عَنْهَا غَيْبَتُهَا، وَحَانَتْ عَوْدَتُهَا بَعْدَ عِشْرِينَ عَامًا مِنْ فِرَارِهَا وَهِجْرَتِهَا!
•••
وَأَرَادَتْ «زُبَيْدَةُ» أَنْ يَكُونَ لَهَا وَلِوَلَدِهَا وَﻟ «نَرْجِسَ» مِنْ فَاخِرِ الثِّيَابِ مَا يُلَائِمُ ذَلِكَ الِاحْتِفَالِ الْعَظِيمِ؛ وَلَكِنَّهَا لَمْ تَجِدْ مِنَ الْوَقْتِ وَالْوَسَائِلِ مَا يُسْعِفُ حَاجَتَهَا، وَيُحَقِّقُ رَغْبَتَهَا.
وَجَلَسَتْ حَائِرَةً، لَا تَدْرِي: كَيْفَ تُذَلِّلُ هَذِهِ الْعَقَبَةَ الْعَارِضَةَ، بَعْدَ أَنْ ذَلَّلَتْ مَا قَبْلَهَا مِنْ عَقَبَاتٍ؟ وَلَمْ تَدْرِ: كَيْفَ تَظْهَرُ — هِيَ وَمَنْ مَعَهَا — أَمَامَ الشَّعْبِ الْمُتَحَمِّسِ لِاسْتِقْبَالِهِمْ! وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ غَيْرُ ثِيَابِهِمُ الرِّيفِيَّةِ الْخَشِنَةِ، الَّتِي لَا تَصْلُحُ لِغَيْرِ الْمَزَارِعِ وَالْخَلَوَاتِ.
وَكَانَ الْأَمِيرُ «فَائِقٌ» وَبِنْتُ عَمِّهِ «نَرْجِسُ» يَضْحَكَانِ مِمَّا يُساوِرُ «زُبَيْدَةَ» مِنَ الْقَلَقِ وَالِانْزِعَاجِ، بَعْدَ أَنْ تَهَيَّأَتْ لِسَعَادَتِهِمَا الْأَسْبَابُ.
أَلَا تَرَيْنَ يَا أُمَّاهُ، أَنَّ مِثْلَ الْأَمِيرِ «فَائِقٍ» يَزِيدُ جَمَالُهُ عَلَى كُلِّ جَمَالٍ، بِمَا كَسَاهُ اللهُ مِنْ حُلَلِ الْحُسْنِ وَالْبَهَاءِ وَالشَّجَاعَةِ وَالْوَفَاءِ مِمَّا لَمْ يَظْفَرْ بِهِ غَيْرُهُ مِنَ النَّاسِ؟ وَلَنْ تَزِيدَهُ الثِّيَابُ الْفَاخِرَةُ جَمَالًا، وَلَنْ تُكْسِبَهُ بَعْضَ مَا ظَفِرَ بِهِ مِنْ تَقْدِيرٍ وَإِعْجَابٍ!»
ثُمَّ قَالَ الْأَمِيرُ «فَائِقٌ»: «أَلَا تَشْرَكِينَنِي — يَا أُمَّاهُ — فِيمَا أَعْتَقِدُهُ وَأَرَاهُ؟
أَلا تَرَيْنَ أَنَّ جَمَالَ «نَرْجِسَ» يُغْنِيهَا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَيُزَيِّنُهَا بِأَحْسَنَ مِمَّا يُزَيِّنُهَا فَاخِرُ الثِّيَابِ، وَأَنَّ مَا تُشِعُّهُ عَيْنَاهَا مِنَ الْجَمَالِ وَالْحُسْنِ وَالْإِخْلَاصِ، وَالطَّهَارَةِ وَإِنْكَارِ الذَّاتِ، وَمَا إِلَى ذَلِكِ مِنْ نَبِيلِ السَّجَايَا وَكَرِيمِ الصِّفَاتِ؛ تُزْرِي بِأَنْفَسِ الْأَحْجَارِ الْكَرِيمَةِ؟
أَلَا تَرَيْنَ فِي تَأَلُّقِ أَسْنَانِهَا مَا يُزْرِي بِبَرِيقِ اللَّآلِئِ وَلَمَعَانِهَا؟
وَمَاذَا عَلَيْكُمَا إِذَا شُغِلْتُمَا بِالتَّفْكِيرِ فِيمَا تُرِيدَانِهِ مِنَ الثِّيَابِ، لِتَظْهَرَا أَمَامَ الشَّعْبِ بِمَا يَلِيقُ بِسُمُوِّ مَكَانِكُمَا، وَعُلُوِّ قَدْرِكُمَا؟
إِنَّ نَفَاسَةَ الْحُلِيِّ وَرَوْعَةَ الثِّيَابِ لَنْ تُقَلِّلَ مِنْ جَمَالِكُمَا وَلَنْ تَنْقُصَ مِنْ رَوْعَتِكُمَا عَلَى كُلِّ حَالٍ!
أَمَّا أَنَا، فَلَيْسَ لِي إِلَى فَاخِرِ الثِّيَابِ حَاجَةٌ بَعْدَ أَنْ تَقَدَّمَتْ بِيَ السِّنُّ، وَأَصْبَحْتُ عَجُوزًا كَمَا تَرَيَانِ!»
•••
وَهُنَا قَاطَعَتْهَا «نَرْجِسُ» قَائِلَةً: «إِنَّ مَا يَزِينُكِ مِنْ جَمَالِ النَّفْسِ، وَسَمَاحَةِ الْخُلُقِ وَنَضَارَةِ الْوَجْهِ، لَيَتَضَاءَلُ بِالْقِيَاسِ إِلَيْهِ كُلُّ جَمَالٍ.
وَلَنْ يَضِيرَكِ — عَلَى كُلِّ حَالٍ — مَا تَرْتَدِينَ مِنْ ثِيَابٍ قَرَوِيَّةٍ.
وَلَيْسَ يُخَامِرُنِي شَكٌّ فِي أَنَّكِ سَتَجِدِينَ فِي مَمْلَكَتِكِ — مَتَى أَسْعَدْتِهَا بِطَلْعَتِكِ، وَشَرَّفْتِهَا بِزِيَارَتِكِ — كُلَّ مَا يَجْدُرُ بِمَقَامِكِ الْعَالِي، مِنْ نَفِيسِ الْحُلِيِّ، وَفَاخِرِ الثِّيَابِ.»
•••
وَهَكَذَا قَضَوْا يَوْمَهُمْ فِي سُرُورٍ وَابْتِهَاجٍ، بَعْدَ أَنْ زَالَ عَنْهُمُ الْهَمُّ وَالْقَلَقُ.
وَلَمَّا جَاءَ الْمَسَاءُ، وَحَانَ وَقْتُ الْعَشَاءِ، بَعَثَتْ لَهُمْ أَمِيرَةُ التَّوَابِعِ بِمَائِدَةٍ حَافِلَةٍ بِأَشْهَى أَلْوَانِ الطَّعَامِ.
•••
وَكَانَتْ — فِي الْحَقِّ — أَسْعَدَ لَيْلَةٍ قَضَوْهَا فِي زَرِيبَتِهِمْ، كَمَا كَانَتْ آخِرَ عَهْدِهِمْ بِالنَّوْمِ عَلَى حُزَمِ الْقَشِّ وَالتِّبْنِ.
•••
وَأَقْبَلَتْ أَمِيرَةُ التَّوَابِعِ قُبَيْلَ انْتِبَاهِهِمْ مِنْ نَوْمِهِمُ الطَّوِيلُ، بِوَقْتٍ قَلِيلٍ، فَهَمَسَتْ فِي آذَانِهِمْ هَمَسَاتٍ خَفِيفَةً، أَيْقَظَتْهُمْ مِنْ رُقَادِهِمْ.
وَكَانَ الْأَمِيرُ «فَائِقٌ» أَوَّلَ مَنْ فَتَحَ عَيْنَيْهِ، وَقَلْبُهُ يَفِيضُ إِينَاسًا وَبِشْرًا، وَعِرْفَانًا بِالْجَمِيلِ وَشُكْرًا.
وَمَا لَمَحَتْ عَيْنَاهُ «لُؤْلُؤَةَ»، حَتَّى أَقْبَلَ عَلَيْهَا يَبُثُّهَا مَا يُضْمِرُهُ لَهَا مِنْ تَقْدِيرٍ عَمِيقٍ، وَحُبٍّ وَثِيقٍ، فَرَبَّتَتْ كَتِفَهُ، مُظْهِرَةً لَهُ فَرْطَ إِعْجَابِهَا بِمَا شَهِدَتْهُ مِنْ صَادِقِ وَفَائِهِ، وَمَا سَمِعَتْهُ مِنْ جَمِيلِ ثَنَائِهِ؛ فَأَهْوَى عَلَى جَنَاحِهَا يُقَبِّلُهُ، مُضَاعِفًا ثَنَاءَهُ، مُؤَكِّدًا وَلَاءَهُ.
وَأَقْبَلَتْ «زُبَيْدَةُ» عَلَى «لُؤْلُؤَةَ» تُحَيِّيهَا وَتُرَبِّتُهَا، وَتُشَارِكُ ابْنَهَا فِي ثَنَائِهِ عَلَيْهَا وَشُكْرِهِ لَهَا.
فَقَالَتْ لَهُمَا «لُؤْلُؤَةُ»: «لَسْتُ أَشُكُّ فِيمَا مَنَحَكُمَا اللهُ مِنْ فَضْلٍ جَلِيلٍ، وَمَزِيَّةِ اعْتِرَافٍ بِالْجَمِيلِ.
وَسَيَكُونُ هَذَا الطِّفْلُ زَوْجًا لِأُولَى مَا تُنْجِبَانِهِ مِنْ بَنَاتٍ، بَعْدَ أَنْ يَتَحَلَّى مِنْ كَرِيمِ الشَّمَائِلِ، وَنَبِيلِ الْمَزَايَا، بِمَا يُؤَهِّلُهُ لِشَرَفِ مُصَاهَرَتِكُمَا، وَيَجْعَلُهُ جَدِيرًا بِزَوَاجِ ابْنَتِكُمَا … وَقَدْ أَصْبَحَ أَوَّلَ واجِباتِي الْآنَ، أَنْ أَنْقُلَكُمْ إِلَى مَمْلَكَتِكُمْ قَبْلَ ذَهَابِي إِلَى جَزِيرَةِ عَبْقَرٍ.»
فَبَدَا عَلَى الْمَلِكَةِ وَوَصِيفَتِهَا شَيْءٌ مِنَ الْقَلَقِ وَالْحَيْرَةِ وَالِارْتِبَاكِ.
وَجَمْجَمَتْ تَقُولُ: «إِنَّ إِشَارَتَكِ — يَا مَوْلَاتِي — مُطَاعَةٌ، وَرَغْبَتَكِ وَاجِبَةُ النَّفَاذِ وَالطَّاعَةِ، وَهَا نَحْنُ أُولَاءِ عَلَى أُهْبَةِ السَّفَرِ، فَهَلْ يُرْضِيكِ أَنْ نَسْتَقْبِلَ الشَّعْبَ بِمِثْلِ هَذِهِ الثِّيَابِ الْقَرَوِيَّةِ الْقَدِيمَةِ؟
فَإِذَا رَأَيْتِ أَنَّ ذَلِكِ لَا يَضِيرُنَا، وَلَا يُصَغِّرُنَا فِي عُيُونِ الشَّعْبِ وَلَا يُحَقِّرُنَا، فَلَنْ نَعْصِيَ لَكِ أَمْرًا، وَلَنْ تَرَيْ مِنَّا إِلَّا تَلْبِيَةً وَشُكْرًا.»
فَأَجَابَتْهَا «لُؤْلُؤَةُ» مُبْتَهِجَةً مُسْتَبْشِرَةً: «مَا أَهْوَنَ مَا تَطْلُبِينَ، وَمَا أَيْسَرَ مَا تُرِيدِينَ!»
وَهُنَا أَقْبَلَتْ «لُؤْلُؤَةُ» عَلَى «زُبَيْدَةَ» مُبْتَسِمَةً، وَرَفَعَتْ عَصَاهَا فِي الْهَوَاءِ، مُلَوِّحَةً بِهَا فِي الْفَضَاءِ، كَأَنَّمَا تَرْسُمُ فَوْقَ رَأْسِهَا دَائِرَةً.
وَمَا كَادَتْ «لُؤْلُؤَةُ» تَنْتَهِي مِنْ إِشَارَتِهَا، حَتَّى دَهِشَتْ «زُبَيْدَةُ» وَاشْتَدَّتْ حَيْرَتُهَا.
•••
وَنَظَرَتْ إِلَى قَدَمَيْهَا فَإِذَا بِهِمَا تَحْتَذِيَانِ نَعْلَيْنِ، قَدْ صُنِعَتَا مِنَ الْمُخْمَلِ وَالذَّهَبِ؛ فَلَمْ تَتَمَالَكْ أَنْ تُظْهِرَ ابْتِهَاجَهَا، وَالْتَفَتَتْ إِلَى «لُؤْلُؤَةَ» تُعْلِنُ لَهَا عَجْزَهَا عَنْ شُكْرِهَا … ثُمَّ خَتَمَتْ ثَنَاءَهَا قَائِلَةً: «لَقَدْ غَمَرْتِنِي بِعَطْفِكِ وَكَرَمِكِ، وَمَا أَظُنُّكِ نَسِيتِ وَلَدِي وَبِنْتَ عَمِّهِ … وَمَا أَحْسَبُكِ تَضِنِّينَ عَلَيْهِمَا بِمَا يَحْتَاجَانِ إِلَيْهِ مِنْ نَفِيسِ الْحُلِيِّ وَالْحُلَلِ.»
فَقَالَتْ «لُؤْلُؤَةُ» مُبْتَسِمَةً: «لَهُمَا مَا يُرِيدَانِ، وَلَكِنَّهُمَا لَمْ يُظْهِرَا مُوَافَقَتَهُمَا، وَلَمْ يُعْلِنَا رَغْبَتَهُمَا؛ فَإِنْ شَاءَا لَبَّيْتُ، وَإِنْ أَبَيَا أَبَيْتُ.
فَخَبِّرِينِي يَا «نَرْجِسُ»: أَتُوَافِقِينَ عَلَى تَبْدِيلِ ثِيَابِكِ؟»
فَغَضَّتْ «نَرْجِسُ» مِنْ بَصَرِهَا، وَاحْمَرَّ — مِنْ فَرْطِ الْخَجَلِ — وَجْهُهَا، وَأَجَابَتْهَا عَلَى اسْتِحْيَاءٍ: «لَقَدْ كُنْتُ سَعِيدَةً — يَا مَوْلَاتِي — فِي هَذِهِ الثِّيَابِ الْقَرَوِيَّةِ الْبَسِيطَةِ، وَهَيْهَاتَ أَنْ أَرْضَى بِهَا بَدِيلًا.
فَقَدْ طَالَمَا لَبِسْتُهَا وَتَعَوَّدْتُهَا، وَأَلِفْتُ الظُّهُورَ بِهَا، فَمَا أَنْكَرَ ابْنُ عَمِّي زِيَّهَا، وَلَا أَنْكَرْتُهَا.
وَإِنِّي لَيُسْعِدُنِي أَنْ تَبْقَى فِي حَوْزَتِي، كَمَا بَقِيَتْ ذِكْرَيَاتُهَا عَالِقَةً بِذَاكِرَتِي، وَهِيَ تَحْتَوِي مِنْ ذِكْرَيَاتِ طُفُولَتِي أَكْرَمَ مَا أَعْتَزُّ بِهِ.
ذَلِكِ مَا يُعْجِبُنِي وَأَرْتَضِيهِ، وَأَسْعَى لَهُ وَأْبْتَغِيهِ.
وَلَوْ تُرِكَ لِيَ الْخِيَارُ لَآثَرْتُهُ، وَلَمْ أُفَرِّطْ فِيهِ.
وَمَا أَظُنُّ ذَلِكِ — عَلَى أَيِّ حَالٍ — يَتَنَافَى مَعَ التَّقَالِيدِ الْكَرِيمَةِ، وَالْمَبَادِئِ الْقَوِيمَةِ.»
وَلَمْ يَتَمَالَكْ «فَائِقٌ» أَنْ يُعْلِنَ ابْتِهَاجَهُ بِمَا سَمِعَ؛ فَأَقْبَلَ عَلَيْهَا فِي حُنُوٍّ وَابْتِسَامٍ، يُرَبِّتُ كَتِفَيْهَا وَيُثْنِي عَلَيْهَا.
•••
وَأَعْلَنَتْ «لُؤْلُؤَةُ» مُوَافَقَتَهَا عَلَى مَا قَالَتْهُ «نَرْجِسُ»! بَعْدَ أَنْ وَجَدَتْ «فَائِقًا» يَبْتَهِجُ لَهُ، وَيَفْرَحُ بِهِ، لِمَا يَحْوِيهِ مِنْ مَعَانِي الْوَفَاءِ، وَصِدْقِ الْوَلَاءِ.
ثُمَّ أَشَارَتْ «لُؤْلُؤَةُ» إِلَى أَعْوَانِهَا، بِنَقْلِ الْأُسْرَةِ الْمُلُوكِيَّةِ إِلَى قَصْرِهَا، فِي حَاضِرَةِ مُلْكِهَا؛ فَحَمَلُوهَا إِلَى الْمَرَكَبَةِ، فِي غَيْرِ ضَجَّةٍ وَلَا جَلَبَةٍ، وَأَجْلَسَتْ «لُؤْلُؤَةُ» إِلَى جِوَارِهَا الْمَلِكَةَ «زُبَيْدَةَ» وَوَلَدَهَا، وَ«نَرْجِسَ» وَ«حَلِيمَةَ».
وَلَمْ تَلْبَثِ الْقَنَابِرُ أَنِ اجْتَازَتْ مَسَافَةَ مَا بَيْنَ الْبَلَدَيْنِ فِي أَقَلِّ مِنْ سَاعَةٍ، وَهِيَ مَسَافَةٌ مُتَرَامِيَةٌ، وَمَرْحَلَةٌ قَاصِيَةٌ.