خَاتِمَةُ الْقِصَّةِ
وَسُرْعَانَ مَا تَحَقَّقَتْ لَهُمُ الْآمَالُ، بَعْدَ أَنْ قَطَعُوا ثَلَاثَةَ آلَافٍ مِنَ الْأَمْيَالِ، وَحَالَفَهُمُ التَّوْفِيقُ فِي رِحْلَتِهِمْ، فَقَطَعُوا فِي سَفَرِهِمْ مَا كَانَ يَفْصِلُهُمْ عَنْ وَطَنِهِمْ، مِنْ مَسَافَاتٍ شَاسِعَةٍ، وَصَحَارَى وَاسِعَةٍ.
وَاجْتَازُوا — فِي زَمَنٍ قَلِيلٍ — جِبَالًا وَأَنْهَارًا، وَحَدَائِقَ وَأَزْهَارًا، وَجَدَاوِلَ وَغُدْرَانًا، وَجَزائِرَ وَخُلْجَانًا، وَقُرًى وَبُلْدَانًا، وَقَدْ مَرَّتْ بِهِمْ تِلْكَ الْمَنَاظِرُ، كَمَا يَمُرُّ الْحُلْمُ الْعَابِرُ، أَوِ الذِّكْرَيَاتُ السَّعِيدَةُ عَلَى الْخَاطِرِ.
وَبَلَغُوا سَاحَةَ الْوَطَنِ، بَعْدَ سَاعَةٍ مِنَ الزَّمَنِ، وَقَرَّتْ أَعْيُنُهُمْ بِالْعَوْدَةِ إِلَى مَمْلَكَتِهِمْ.
•••
فَلَيْسَ بِكَثِيرٍ عَلَى ذَكَائِكَ وَفِطْنَتِكَ، أَنْ تَعْرَفَ أَنَّ «لُؤْلُؤَةَ» هِيَ وَحْدَهَا الَّتِي زَفَّتْ إِلَيْهِمْ ذَلِكَ النَّبَأَ السَّعِيدَ، وَأَعْلَنَتْ لَهُمُ السَّاعَةَ الَّتِي يَصِلُ فِيهَا مَلِيكُهُمُ الْمَجِيدُ.
وَمَنْ غَيْرُ «لُؤْلُؤَةَ» الْوَفِيَّةِ، الرَّاضِيَةِ الْمَرْضِيَّةِ، يَشْغَلُ نَفْسَهُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْوَاجِبَاتِ، وَيَلَذُّ لَهُ أَنْ يُسْدِيَ الْمَكْرُمَاتِ، وَيَمَلْأَ الدُّنْيَا أَفْرَاحًا وَسَعَادَاتٍ؟
•••
وَمَا إِنْ أَشْرَفَتِ الْمَرْكَبَةُ الْمُلُوكِيَّةُ عَلَى الشَّعْبِ حَتَّى ارْتَفَعَ هُتَافُهُ، وَدَوَّتْ صَيْحَاتُهُ، وَتَعَالَتْ دَعَوَاتُهُ.
ثُمَّ تَضَاعَفَ السُّرُورُ وَالْبِشْرُ، حِينَ أَشْرَفَتِ الْمَرْكَبَةُ الْمُلُوكِيَّةُ عَلَى سَاحَةِ الْقَصْرِ.
وَقَدْ أَنْسَاهَا الْفَرَحُ بِعَوْدَتِهَا إِلَى وَطَنِهَا كُلَّ مَا لَقِيَتْهُ فِي حَيَاتِهَا، مِنْ مَصَائِبِ الدُّنْيَا وَحَدَثَانِهَا.
ثُمَّ نَزَلَ الْمَلِكُ «فَائِقٌ» مُرْتَدِيًا نَفَائِسَ مِنَ الْحُلَلِ الْمُلُوكِيَّةِ، الَّتِي أَهْدَتْهَا لَهُ الْجِنِّيَّةُ؛ فَبَهَرَ حُسْنُهَا وَسَنَاهَا كُلَّ مَنْ رَآهَا.
وَقَدْ شَعَّ لَأْلَاؤُهَا، وَانْبَعَثَتْ أَضْوَاؤُهَا؛ فَلَمْ تَقْوَ عَلَى رُؤْيَتِهَا الْأَنْظارُ، وَكَادَ بَرِيقُهَا يَخْطَفُ الْأَبْصَارَ.
وَقَدْ طُرِّزَتْ بِاللَّآلِئِ الْمُثَبَّتَةِ عَلَى أَزْرَارٍ مِنَ الذَّهَبِ، وَحُلِّيَتْ بِنَفَائِسِ الْحَرِيرِ وَالْقَصَبِ.
وَلَا تَسَلْ عَنْ تَصْفِيقِ الشَّعْبِ وَحَمَاسَتِهِ؛ فَقَدْ رَأَى فِي مَلِيكَتِهِ مِثَالًا رَائِعًا لِلتَّفَانِي فِي الْوُدِّ وَالْإِخْلَاصِ، بَعْدَ أَنْ أَفْضَتْ إِلَيْهِ «لُؤْلُؤَةُ» بِمَا بَذَلَتْهُ «نَرْجِسُ» لِمَلِيكِهِ مِنْ خَالِصِ الْوَفَاءِ، وَصَادِقِ الْفِدَاءِ.
فَانْدَفَعَ الشَّعْبُ إِلَى تَحِيَّتِهَا فِي جُمُوعِهِ الزَّاخِرَةِ، وَحَمَاسَتِهِ النَّادِرَةِ، يُحَيِّيهَا وَيَدْعُو لَهَا، وَلَا يَكُفُّ عَنِ الْهُتَافِ بِاسْمِهَا، وَالتَّنْوِيهِ بِفَضْلِهَا، وَخَالِصِ وَفَائِهَا، وَصَادِقِ فِدَائِهَا.
وَظَلَّتِ الْجَمَاهِيرُ تَهْتِفُ لِلْأُسْرَةِ الْمُلُوكِيَّةِ هُتَافًا عَالِيًا.
وَلَمْ يَكُفَّ الشَّعْبُ عَنِ الدُّعَاءِ لَهَا دَعَوَاتٍ صَادِقَاتٍ، خَارِجَاتٍ مِنْ أَعْمَاقِ الْقَلْبِ، مُعَبِّرَاتٍ عَنْ خَالِصِ الْوَلَاءِ، وَصَادِقِ الْحُبِّ.
وَلَمْ يَنْقَضِ عَلَى الزَّوَاجِ عَامَانِ؛ حَتَّى كَانَ الِاحْتِفَالُ الْعَظِيمُ بِمَوْلِدِ الْأَمِيرَةِ «كَوْثَرَ».
وَكَانَتْ كَأَبَوَيْهَا الْمَلِكَيْنِ: «فَائِقٍ» وَ«نَرْجِسَ»، طِيبَةَ قَلْبٍ، وَصَفَاءَ نَفْسٍ، وَجَمَالَ صُورَةٍ.
أَمَّا الْمَلِكَةُ «زُبَيْدَةُ»، الَّتِي عَرَفْتَهَا فِيمَا سَبَقَ بِاسْمِ السَّيِّدَةِ الْقَرَوِيَّةِ «مَاجِدَةَ»، فَقَدْ عَاشَتْ مَعَ وَصِيفَتِهَا «حَلِيمَةَ» عِيشَةً رَغِيدَةً.
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا — فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمْرِهِمَا — مَا يَشْغَلُ بَالَهُمَا، فِي حَلِّهِمَا وَتَرْحَالِهِمَا، إِلَّا أَنْ تُوَجِّهَا عِنَايَتَهُمَا إِلَى الْأُمَرَاءِ الْحَفَدَةِ، الْكِرَامِ الْمَجَدَةِ، فَلَمْ تَدَّخِرَا وُسْعًا فِي رِعَايَتِهِمْ، وَالسَّهَرِ عَلَى تَثْقِيفِهِمْ وَتَنْشِئَتِهِمْ، فِي عَهْدِ طُفُولَتِهِمْ وَحَدَاثَتِهِمْ.
وَكَانَ فِيمَا سَمِعَهُ الْحَفَدَةُ الْمَجَدَةُ مِنْ حَوَادِثِ الْأَبْطَالِ، قِصَّةُ أَبِيهِمْ وَأُمِّهِمْ، وَجَدَّتِهِمْ وَمُرَبِّيَتِهِمْ، وَمَا احْتَمَلُوهُ جَمِيعًا مِنْ كَوَارِثَ وَآلَامٍ، وَأَحْدَاثٍ جِسَامٍ، وَمَا تَحَلَّتْ بِهِ نُفُوسُهُمُ الطَّاهِرَةُ، مِنْ مَزَايَا بَاهِرَةٍ، فَصَّلْتُ لَكَ مَوَاقِفَهَا الْمَجِيدَةَ، فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ الْفَرِيدَةِ.
وَهَكَذَا عَاشَ الْجَمِيعُ فِي هَنَاءٍ وَرَغَادَةٍ، وَابْتِهَاجٍ وَسَعَادَةٍ.
وَلَمْ يَنْسَ الْمَلِكُ «فَائِقٌ» وَزَوْجَتُهُ الْمَلِكَةُ «نَرْجِسُ» فَضْلَ أُمِّهِمَا «زُبَيْدَةَ» وَوَصِيفَتِهَا «حَلِيمَةَ»، وَمَا قَدَّمَتَا لَهُمَا مِنْ أَيَادٍ كَرِيمَةٍ.
وَعَاشَ الْمَلِكَانِ — طُولَ عُمرِهِمَا — يَذْكُرَانِ لَهُمَا مَا كَابَدَتَا فِي سَبِيلِهِمَا مِنْ شَقَاءٍ، وَمَا احْتَمَلَتَا — فِي تَحْقِيقِ سَعَادَتِهِمَا — مِنْ عَنَاءٍ.
•••
أَرَاكَ تَسْأَلُنِي — أَيُّهَا الصَّدِيقُ الصَّغِيرُ — عَمَّا لَقِيَهُ ثَلَاثَةُ الْأَشْقِيَاءِ مِنْ جَزَاءٍ!
فَاعْلَمْ — عَلِمْتَ الْخَيْرَ، وَسَلِمْتَ مِنْ كُلِّ أَذًى وَضَيْرٍ — أَنَّ «لُؤْلُؤَةَ» أَمِيرَةَ التَّوَابِعِ — الَّتِي سَخَّرَهَا اللهُ لِتَأْدِيبِهِمْ، وَالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ وَتَعْذِيبِهِمْ — لَمْ تُقَصِّرْ فِي مُعَاقَبَتِهِمْ، وَمُحَاسَبَتِهِمْ عَلَى نَذَالَتِهِمْ وَشَرَاسَتِهِمْ.
•••
وَسُرْعَانَ مَا تَعَرَّضَ أَوَّلُهُمْ «قَسْوَرَةُ» صَاحِبَ الدَّسْكَرَةِ، لِمِيتَةٍ شَنْعَاءَ مُنْكَرَةٍ، بَعْدَ أَنْ كَابَدَ — مِنْ أَلْوَانِ الْعَذَابِ — مَا لَمْ يَدُرْ لَهُ فِي حِسَابٍ.
فَلَمْ يَكَدْ يَرْجِعُ مِنْ بَعْضِ أَسْفَارِهِ، وَيَهُمُّ بِالْعَوْدَةِ إِلَى دَارِهِ، حَتَّى لَقِيَهُ — عَلَى مَسَافَةٍ غَيْرِ بَعِيدَةٍ مِنْهَا — ثَلَاثَةُ كِلَابٍ شَرِسَةٍ ضَارِيَةٍ؛ فَضَيَّقَتْ عَلَيْهِ مَنَافِذَ الطَّرِيقِ وَمَسَالِكَهُ، فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ حَالِكَةٍ.
فَاسْتَخَفَّ «قَسْوَرَةُ» — أَوَّل الْأَمْرِ — بِلِقَائِهَا وَلَمْ يُبَالِهَا، وَزَجَرَهَا فَلَمْ تَزْدَجِرْ، وَلَوَّحَ لَهَا بِعَصَاهُ فَلَمْ تَفِرَّ؛ فَصَاحَ بِهَا يُنْذِرُهَا وَيَتَهَدَّدُهَا وَيَتَوَعَّدُهَا.
فَلَمْ تَخْشَ وَعِيدَهُ، وَلَمْ تُبَالِ تَهْدِيدَهُ … وَتَوَاثَبَتْ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ الْكِلَابِ، فَطَرَحَتْهُ أَرْضًا، وَتَعَاوَرَتْهُ نَهْشًا وَعَضًّا … ثُمَّ وَلَغَتْ فِي دِمَائِهِ، وَلَمْ تُبْقِ مِنْهُ غَيْرَ أَشْلَائِهِ.
وَلَم تَتْرُكْهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ جَعَلَتْهُ عِبْرَةً لِمَنِ اعْتَبَرَ.
•••
أَمَّا «صَعْصَعَةُ» وَكِيلُ الْمَزْرَعَةِ، وَهُوَ — كَمَا عَلِمْتَ — ثَانِيَ الْأَشْقِيَاءِ، فَقَدْ لَقِيَ مَا هُوَ جَدِيرٌ بِهِ مِنْ بَلَاءٍ.
وَلَمْ يَمُرَّ عَلَى إِسَاءَتِهِ لَيْلَتَانِ، حَتَّى دَهِمَتْهُ الْكَارِثَةُ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ.
•••
وَأَمَّا الشِّقِيُّ الثَّالِثُ، فَلَقِي ثَالِثَةَ الْكَوَارِثِ؛ فَلَمْ يَمْضِ عَلَيْهِ أُسْبُوعٌ وَاحِدٌ، حَتَّى لَقِي عِقَابَ الْمُتُجَبِّرِ الْجَاحِدِ، وَدَهَمَتْهُ دَاهِيَةٌ دَهْوَاءُ، وَخَتَمَتْ حَيَاتَهُ مِيتَةٌ شَنْعَاءُ.
وَهَكَذَا لَقِيَ الْمُحْسِنُ جَزَاءَ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، كَمَا لَقِيَ الْمُسِيءُ عَاقِبَةَ بَغْيِهِ وَعُدْوَانِهِ. وَلَمْ يُفْلِتْ كِلَاهُمَا مِنْ عَادِلِ الْجَزَاءِ، نَعِيمًا كَانَ أَوْ شَقَاءً.
وَأَدْرَكَ كُلُّ إِنْسَانٍ نَصِيبَهُ، وَلَا يُضِيعُ اللهُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا.