التَّائِهَةُ
وَكَانَ أَخْشَى مَا يَخْشَاهُ أَلَّا تَطْمَئِنَّ إِلَيْهِ.
فَلَمَّا رَآهَا قَدْ أَنِسَتْ بِهِ الْآنَ، عَاوَدَهُ الْأَمَلُ؛ فَأَقْبَلَ عَلَيْهَا بَاسِمًا مُتَوَدِّدًا، وَهُوَ يَقُولُ: «أَلْفُ شُكْرٍ لَكِ أَيَّتُهَا الصَّغِيرَةُ الْكَرِيمَةُ، وَأَلْفُ حَمْدٍ للهِ عَلَى أَنْ أَزالَ مِنْ قَلْبِكِ التَّرَدُّدَ وَالْخَوْفَ.
وَا عَجَباهُ! أَحَقًّا كُنْتِ تَحْسَبِينَ «الدُّبَّ الصَّغِيرَ» وَحْشًا ضارِيًا يُرِيدُ افْتِرَاسَكِ؟
أَلا تَعْلَمِينَ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا حِمَايَتَكِ وَإِينَاسَكِ!»
فَقَالَتْ لَهُ: «عُذْرًا أَيُّهَا «الدُّبُّ الصَّغِيرُ»؛ فَمَا كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّ «الدُّبَّ الصَّغِيرَ» بِمِثْلِ هَذِهِ الْوَدَاعَةِ.
أَمَّا الْآنَ فَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّ «الدُّبَّ الصَّغِيرَ» لَطِيفٌ، لَا يُؤْذِي وَلا يُخِيفُ، وَأَنَّهُ — بِرَغْمِ خُشُونَةِ مَظْهَرِهِ — طَيِّبٌ كَرِيمٌ.»
وَعَرَفَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» مِنْ حَدِيثِ الْفَتَاةِ أَنَّ اسْمَهَا «نَرْجِسُ»؛ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَهْتَدِ — عَلَى أَيِّ حَالٍ — إِلَى سَبَبٍ مَعْقُولٍ يُسَوِّغُ وُجُودَهَا فِي الْغَابَةِ.
•••
فَكَيْفَ وَصَلَتْ إِلَى هَذَا الْمَكَانِ الْبَعِيدِ؟
وَأَيْنَ وَصِيفَتُهَا الَّتِي تُنَادِيهَا؟
أَسْئِلَةٌ مُحَيِّرَةٌ، لَمْ يَهْتَدِ إِلَى جَوابٍ واحِدٍ مِنْهَا.
•••
فَقَالَ لَهَا مُتَعَجِّبًا: «وَأَيْنَ تَسْكُنُ عَزِيزَتِي «نَرْجِسُ» الصَّغِيرَةُ؟»
فَقَالَتْ لَهُ فِي سَذَاجَةٍ عَجِيبَةٍ: «هُنَاكَ أَيُّهَا «الدُّبُّ الصَّغِيرُ»!
هُنَاكَ تَسْكُنُ «نَرْجِسُ» مَعَ أُمِّهَا وَأَبِيهَا.»
فَقَالَ لَهَا مُتَعَجِّبًا: «وَمَا اسْمُ أَبِيكِ؟»
فَقَالَتْ لَهُ الطِّفْلَةُ الْغَرِيرَةُ: «أَلا تَعْرِفُ اسْمَ أَبِي؟ إِنَّهُ الْمَلِكُ!
وَاسْمُ أُمِّي، أَلا تَعْرِفُهُ؟ إِنَّهَا الْمَلِكَةُ!»
فَاشْتَدَّتْ دَهْشَتُهُ مِمَّا سَمِعَ، وَسَأَلَهَا مُتَحَيِّرًا: «وَلِمَاذَا أَنْتِ وَحْدَكِ فِي الْغَابَةِ؟»
فَقَالَتْ لَهُ مُتَعَجِّبَةً، وَهِيَ لَا تَعْرِفُ كَيْفَ تُجِيبُهُ: «إِنَّ «نَرْجِسَ» لَا تَدْرِي شَيْئًا!
كَانَتْ «نَرْجِسُ» الْمِسْكِينَةُ رَاكِبَةً كَلْبًا كَبِيرًا.
وَكَانَ الْكَلْبُ الْكَبِيرُ يَجْرِي بِسُرْعَةٍ شَدِيدَةٍ.
وَظَلَّ يَجْرِي زَمَنًا طَوِيلًا. حَتَّى قَطَعَ مَسافَةً طَوِيلَةً.
وَتَعِبَتْ «نَرْجِسُ» تَعَبًا شَدِيدًا، فَنَزَلَتْ فِي هَذَا الْمَكَانِ وَجَلَسَتْ فِيهِ، وَنَامَتْ تَحْتَ الشَّجَرَةِ.»
فَقَالَ لَهَا: «وَأَيْنَ الْكَلْبُ الَّذِي حَمَلَكِ إِلَى هُنَا؟»
فَتَلَفَّتَتْ «نَرْجِسُ» يَمْنَةً وَيَسْرَةً، وَأَجَالَتْ بَصَرَهَا فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ مِنْ نَواحِي الْغَابَةِ، تَبْحَثُ عَنْ كَلْبِهَا، فَلا تَجِدُهُ.
فَصَرَخَتْ تُنَادِيهِ بِأَعْلَى صَوْتِهَا الرَّقِيقِ: «وَثَّابُ! هَلُمَّ يَا «وَثَّابُ»!
أَيْنَ أَنْتَ يَا «وَثَّابُ»؟»
فَلَمْ تَسْمَعْ غَيْرَ رَجْعِ صَدَاهَا!
فَأَرْدَفَتْ قَائِلَةً: «أَيْنَ ذَهَبْتَ يَا «وَثَّابُ»؟
كَيْفَ تَرَكْتَ نَرْجِسَ؟»
ثُمَّ قَالَتْ تُحَدِّثُ نَفْسَهَا مُرْتَبِكَةً: «وَثَّابٌ تَرَكَ «نَرْجِسَ» وَحْدَهَا! لِمَاذَا تَرَكَهَا؟
أَيْنَ «وَثَّابٌ»؟ «نَرْجِسُ» لَا تَدْرِي!»
فَأَمْسَكَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» بِيَدِ «نَرْجِسَ» يُرَبِّتُهَا، وَيُهَوِّنُ عَلَيْهَا وَيُؤْنِسُهَا، وَهُوَ يَقُولُ: «أَتُوافِقِينَ عَلَى أَنْ تَبْقَيْ فِي هَذَا الْمَكَانِ رَيْثَمَا أَذْهَبُ إِلَى الدَّارِ وَأُحْضِرُ لَكِ أُمِّي؟»
فَقَالَتْ «نَرْجِسُ» وَقَدِ اشْتَدَّ بِهَا الْخَوْفُ: «كَلَّا، لَا تَتْرُكْنِي هُنَا أَيُّهَا «الدُّبُّ الصَّغِيرُ».
إِنَّ «نَرْجِسَ» لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَبْقَى فِي الْغَابَةِ وَحْدَهَا، وَلا بُدَّ لَهَا أَنْ تَذْهَبَ مَعَ الدُّبِّ الصَّغِيرِ!»
فَقَالَ لَهَا: «ما أَسْعَدَنِي بِصُحْبَتِكِ أَيَّتُهَا الْأُخْتُ الْعَزِيزَةُ!
فَهَلُمِّي مَعِي إِلَى الدَّارِ، حَيْثُ تَلْقَيْنَ مِنْ رِعَايَةِ أُمِّي مَا يُنْسِيكِ حُزْنَكِ.»
وَسارَ «الدُّبُّ الصَغِيرُ»، وَ«نَرْجِسُ» فِي صُحْبَتِهِ، نَحْوَ الدَّسْكَرَةِ.
وَكَانَ يَقْطِفُ لَهَا مِمَّا يَجِدُهُ مِنَ الْكَرِيزِ، وَيُقَدِّمُهُ لَهَا لِتَأْكُلَهُ، فَلَمْ تَرْضَ أَنْ تَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا إِلَّا إِذَا قَاسَمَهَا فِيهِ.
•••
وَهَكَذَا مَشَيَا فِي طَرِيقِهِمَا إِلَى الدَّارِ، يَقْتَسِمَانِ مَا يَأْكُلانِ مِنْ لَذَائِذِ الْفَاكِهَةِ، وَيُؤْثِرُ كُلٌّ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَلَى نَفْسِهِ.
وَكَانَتْ لَا تَأْكُلُ شَيْئًا إِلَّا إِذَا أَكَلَ مِثْلَهُ.
وَكَثِيرًا مَا قَالَتْ لَهُ: «كُلْ! كُلْ أَيُّهَا «الدُّبُّ الصَّغِيرُ»!
«نَرْجِسُ» لَا تُرِيدُ أَنْ يَكُونَ الدُّبُّ الْمِسْكِينُ تاعِسًا مَهْمُومًا.
«نَرْجِسُ» لَا تُرِيدُ أَنْ تَرَى الدُّبَّ الْمِسْكِينَ بَاكِيًا مَحْزُونًا.
«نَرْجِسُ» تُرِيدُ أَنْ تُسْعِدَ «الدُّبَّ الصَّغِيرَ»، وَتَمْلَأَ قَلْبَهُ فَرَحًا.»
وَكَانَ مِنَ الطَّبِيعِيِّ أَنْ تَدِبَّ السَّعَادَةُ إِلَى ذَلِكَ الْقَلْبِ الْكَسِيرِ، أَوَّلَ مَرَّةٍ فِي حَيَاتِهِ، وَأَنْ تَغْمُرَ الْبَهْجَةُ قَلْبَهُ الْمُعَذَّبَ وَتُنْسِيَهِ آلامَهُ، بَعْدَ أَنْ سَاقَ إِلَيْهِ الْحَظُّ السَّعِيدُ تِلْكَ الْأَمِيرَةَ الصَّغِيرَةَ السِّنِّ، الْكَبِيرَةَ الْقَلْبِ، الَّتِي عَرَفَتْ كَيْفَ تُبَدِّلُ شَقَاوَتَهُ هَنَاءَةً، وَحُزْنَهُ بَهْجَةً، وَوَحْشَتَهُ أُنْسًا!
•••
وَقَدِ اشْتَدَّ عَجَبُهُ لِمَا رَآهُ مِنْ عِنَايَتِهَا بِهِ، واهْتِمَامِهَا بِأَمْرِهِ.
وَلَمْ يَكُنْ يُنَغِّصُ عَلَيْهِ فَرَحَهُ وابْتِهَاجَهُ إِلَّا شُعُورُهُ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ شَنَاعَةِ الْخِلْقَةِ وَقُبْحِ الصُّورَةِ.
عَلَى أَنَّهُ أَحَسَّ فِي أَعْمَاقِ نَفْسِهِ أَنَّ آخِرَةَ النَّحْسِ قَدِ اقْتَرَبَتْ، وَخَامَرَهُ شُعُورٌ خَفِيٌّ بِأَنَّ شَقَاءَهُ لَنْ يَطُولَ، وَأَنَّ السَّعَادَةَ الْحَقَّ فِي طَرِيقِهَا إِلَيْهِ.
•••
وَقَدْ أُعْجِبَتْ «نَرْجِسُ» بِحَدِيثِهِ الْعَذْبِ، وَأَنِسَتْ بِصَوْتِهِ الْحَنُونِ؛ فَلَمْ تَشْعُرْ بِطُولِ الطَّرِيقِ، وَلَمْ تَدْرِ أَنَّهَا مَشَتْ زُهَاءَ نِصْفِ سَاعَةٍ …
وَلَمَّا أَصْبَحَا عَلَى مَقْرَبَةٍ مِنَ الدَّارِ، الْتَفَتَ إِلَيْهَا «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» بَاسِمًا، وَقَالَ: «إِذَا صَحَّ ظَنِّي، وَصَدَقَ مَا سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، فَإِنَّ «نَرْجِسَ» لَنْ تَخْشَى — بَعْدَ الْيَوْمِ — صَدِيقَهَا «الدُّبَّ الصَّغِيرَ»، وَلَنْ تَخَافَهُ أَبَدًا!»
فَصاحَتْ «نَرْجِسُ» مُتَعَجِّبَةً: «كَيْفَ تَقُولُ؟
كَلَّا، لَنْ تَخَافَهُ «نَرْجِسُ» أَبَدًا؛ لِأَنَّ «الدُّبَّ الصَّغِيرَ» لَطِيفٌ وَدِيعٌ؛ لَطِيفٌ جِدًّا، وَوَدِيعٌ جِدًّا … وَ«نَرْجِسُ» لَا تُرِيدُ أَنْ يَتْرُكَهَا الدُّبُّ الصَّغِيرُ.»
فَقَالَ لَهَا، وَهُوَ يُرَبِّتُ كَتِفَهَا فَي حُنُوٍّ وَإِشْفَاقٍ: «أَلْفُ شُكْرٍ لَكِ يَا «نَرْجِسُ» عَلَى مَا وَهَبَكِ اللهُ مِنْ رِقَّةِ قَلْبٍ وَطَهَارَةِ نَفْسٍ.
وَإِنْ أَنْسَ، لَا أَنْسَ — مَا حَيِيتُ — أَنَّكِ أَنْتِ الطِّفْلَةُ الْوَحِيدَةُ الَّتِي عَطَفَتْ عَلَيَّ، وَرَحَّبَتْ بِي، وَلَمْ تَنْفِرْ مِنْ صُحْبَتِي!»