بَيْنَ الْأُمِّ وَالْوَلَدِ
وَبَعْدَ قَلِيلٍ، خَرَجَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» وَفِي صُحْبَتِهِ «نَرْجِسُ»، وَخَلَّفَا «مَاجِدَةَ» وَ«حَلِيمَةَ» تُعْنَيَانِ بِشَأْنِ الْمَنْزِلِ.
وَلَمْ يَنْسَ أَنْ يَجْمَعَ لَهَا طَاقَةً مِنْ بَدِيعِ الْأَزْهَارِ، وَأَنْ يَمْلَأَ لَهَا سَلَّةً حَافِلَةً بِالْكَرِيزِ الشَّهِيِّ، الْحَبِيبِ إِلَى نَفْسِهَا.
وَكَذَلِكَ لَمْ تَنْسَ «نَرْجِسُ» أَنْ تَشْكُرَ لَهُ عِنَايَتَهُ بِهَا، واهْتِمَامَهُ بِأَمْرِهَا.
وَقَدْ كَاشَفَتْهُ بِأَنَّهَا تَشْعُرُ بِالسَّعَادَةِ كُلَّمَا لَقِيَتْهُ.
وَلَمْ تَكُنْ سَعَادَتُهُ بِهَا لِتَقِلَّ عَنْ سَعَادَتِهَا بِهِ.
وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِيُضِيعَ أَكْثَرَ وَقْتِهِ فِي اللِّعِبِ، وَلَمْ يَكُنْ يَأْذَنُ لِنَفْسِهِ أَنْ يَلْعَبَ إِلَّا بِمِقْدَارٍ.
فَلَا عَجَبَ إِذَا قَالَ ﻟ «نَرْجِسَ»: «لَقَدْ أَخَذْنَا حَظَّنَا مِنَ اللَّعِبِ أَيَّتُهَا الصَّغِيرَةُ الْعَزِيزَةُ.
وَأَرَى أَنَّ وَاجِبِي يَدْعُونِي إِلَى مُسَاعَدَةِ أُمِّي وَمُشَارَكَةِ «حَلِيمَةَ» فِيمَا تَقُومَانِ بِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْبَيْتِ.»
فَقَالَتْ لَهُ «نَرْجِسُ»: «وَبِمَاذَا تُساعِدُهُمَا أَيُّهَا الصَّدِيقُ الْعَزِيزُ؟»
فَأَجَابَهَا: «مَا أَكْثَرَ الْعَمَلَ لِمَنْ يُرِيدُ!
فَأَنَا أُسَاعِدُهُمَا فِيمَا تَقُومَانِ بِهِ مِنْ كَنْسٍ وَمَسْحٍ وَرَشٍّ، كَمَا أُسَاعِدُهُمَا فِي رَعْيِ الْبَقَرَةِ وَحَلْبِهَا، واجْتِثَاثِ الْحَشَائِشِ وَالْأَعْشَابِ، وَجَلْبِ مَا تَحْتَاجَانِ إِلَيْهِ مِنْ حَطَبٍ وَمَاءٍ.»
فَقَالَتْ لَهُ: «أَتُحِبُّ أَنْ تُسَاعِدَكَ «نَرْجِسُ» فِي ذَلِكَ؟»
فَقَالَ مُتَعَجِّبًا: «إِنَّكِ يَا عَزِيزَتِي لَا تَزَالِينَ صَغِيرَةً جِدًّا. فَبِمَاذَا تُساعِدِينَنِي؟»
فَقَالَتْ لَهُ: «أُسَاعِدُكَ بِكُلِّ مَا أَسْتَطِيعُ!»
فَقَالَ لَهَا بَاسِمًا: «فَلْيَكُنْ لَكِ مَا تَشَائِينَ، وَلَنْ أَحُولَ بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمُشَارَكَةِ فِي ذَلِكِ بِقَدْرِ مَا يَسْمَحُ بِهِ سِنُّكِ وَجُهْدُكِ.»
وَلَمَّا عَادَا إِلَى الْمَنْزِلِ، بَدَأَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» عَمَلَهُ الْيَوْمِيَّ — فِي نَشَاطٍ واهْتِمَامٍ — وَإِلَى جَانِبِهِ «نَرْجِسُ» تَتْبَعُهُ أَيْنَمَا ذَهَبَ، بَاذِلَةً كُلَّ مَا فِي وُسْعِهَا مِنْ جُهْدٍ فِي مُعَاوَنَتِهِ.
وَكَانَتْ — لِصِغَرِهَا — لَا تَكَادُ تَقْدِرُ عَلَى أَدَاءِ شَيْءٍ نَافِعٍ فِي الْأَيَّامِ الْأُولَى.
وَلَكِنَّ رَغْبَتَهَا الشَّدِيدَةَ فِي أَنْ تَكُونَ عَامِلَةً نَافِعَةً قَدْ تَغَلَّبَتْ عَلَى كُلِّ عَقَبَةٍ.
وَكَانَتْ «نَرْجِسُ» — كَمَا تَعْلَمُ — آيَةً مِنْ آياتِ الْوَدَاعَةِ وَالْمُسَالَمَةِ؛ فَلَمْ تَجْنَحْ مَرَّةً إِلَى مُشَاكَسَةٍ، وَلَمْ تَهُمَّ ذَاتَ يَوْمٍ بِمُعَاكَسَةٍ، وَلَمْ يَخْطُرْ لَهَا أَنْ تَعْصِيَ لِمُضِيفِيهَا أَمْرًا، أَوْ تُخَالِفَ رَأْيًا.
وَلَمْ تَبْدُ عَلَيْهَا — خِلَالَ إِقَامَتِهَا مَعَهُمْ — إِشَارَةٌ وَاحِدَةٌ تَدُلُّ عَلَى سُخْطٍ أَوْ تَذَمُّرٍ.
فَلَا عَجَبَ إِذَا أَكْسَبَتْهَا تِلْكَ الْأَخْلاقُ الْكَرِيمَةُ مَحَبَّةَ الْجَمِيعِ، وَأَصْبَحَتْ مَوْضِعَ تَقْدِيرِهِمْ وَإِعْزَازِهِمْ.
وَضَاعَفَ مِنْ عَطْفِ «مَاجِدَةَ» وَ«حَلِيمَةَ» عَلَيْهَا مَا عَلِمَتَاهُ مِنْ قَرَابَتِهَا الْوَثِيقَةِ ﺑ «الدُّبِّ الصَّغِيرِ».
فَهِيَ بِنْتُ عَمِّهِ، وَهِيَ لِذَلِكَ أَجْدَرُ بِالرِّعَايَةِ وَأَحَقُّ بِالْعِنَايَةِ.
وَكَانَتْ «نَرْجِسُ» تُبَادِلُهُمَا الَمْحَبَّةَ، وَتَخُصُّ «الدُّبَّ الصَّغِيرَ» بِكُلِّ مَا تَسْتَطِيعُ مِنْ إِخْلاصٍ وَوَفَاءٍ.
وَلَمْ يَكُنْ بِمُسْتَكْثَرٍ عَلَى الصَّبِيِّ الْوَادِعِ الْعَظِيمِ؛ فَقَدْ كَانَ — كَمَا عَلِمْتَ — مِثَالًا رَائِعًا لِلْإِيثَارِ وَإِنْكَارِ الذَّاتِ.
وَطَالَمَا نَسِيَ نَفْسَهُ فِي سَبِيلِ إِسْعَادِ غَيْرِهِ، وَكَانَ لَا يَكُفُّ لَحْظَةً عَنْ تَيْسِيرِ أَسْبابِ السُّرُورِ لَهَا، وَتَوْفِيرِ وَسَائِلِ السَّعَادَةِ مِنْ أَجْلِهَا، وَلَا يَتَوَانَى فِي جَلْبِ مَا يُسَلِّيهَا وَيُرْضِيهَا، وَلا يَسْتَكْثِرُ أَنْ يُعَرِّضَ نَفْسَهُ لِلْمَوْتِ فِي سَبِيلِهَا.
•••
وَذَاتَ يَوْمٍ انْتَهَزَتْ «مَاجِدَةُ» فُرْصَةَ ذَهَابِ «حَلِيمَةَ» وَ«نَرْجِسَ» إِلَى السُّوقِ، فَقَصَّتْ عَلَى وَلَدِهَا «الدُّبِّ الصَّغِيرِ» مَا وَقَعَ لَهَا مُنْذُ أَعْوامٍ، مِنْ حَادِثٍ أَلِيمٍ لَمْ يَكُنْ يَدُورُ لَهَا فِي حِسَابٍ، وَلا يَخْطُرُ لَهَا عَلَى بَالٍ.
وَكَاشَفَتْهُ بِأَنَّ السَّبِيلَ مَيْسُورٌ أَمَامَهُ إِذَا شَاءَ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ هَذَا الْفَرْوِ، مَتَى اسْتَطَاعَ أَنْ يَظْفَرَ بِإِعْجَابِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، مِمَّنْ تَدْفَعُهُ مَحَبَّتُهُ لَهُ وَافْتِتَانُهُ بِهِ إِلَى تَفْضِيلِهِ عَلَى نَفْسِهِ، فَلا يَتَرَدَّدُ فِي مُبادَلَتِهِ بِسَعَادَتِهِ شَقَاءً، وَبِبَشَرَتِهِ ذَلِكَ الْفَرْوَ!
وَقَالَتْ لَهُ: «أَرْجُو أَنْ تُوَفَّقَ إِلَى هَذِهِ الْفِدَائِيَّةِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي تُؤْثِرُ سَعَادَتَكَ عَلَى سَعَادَتِهَا، وَلا تُحْجِمُ عَنْ ذَلِكَ، مُكَافَأَةً لَكَ عَلَى مَا تُسْدِيهِ إِلَيْهَا مِنْ مَعْرُوفٍ، وَتُقَدِّمُهُ لَهَا مِنْ جَمِيلٍ.»
•••
فَصاحَ وَلَدُهَا مُنْزَعِجًا: «كَلَّا، لَنْ أَقْبَلَ أَنْ يَكُونَ شَقَاءُ غَيْرِي ثَمَنًا لِسَعَادَتِي، وَلَنْ أَرْضَى أَنْ يَكُونَ جَزاءُ مَنْ يُفْرِدُنِي بِإِخْلاصِهِ وَوَفَائِهِ، أَنْ تُشَوَّهَ خِلْقَتُهُ، وَتُسْلَبَ هَنَاءَتُهُ.
كَلَّا، لَا أَرْضَى لِمَنْ يُحِبُّنِي هَذِهِ الْخاتِمَةَ الْقَاسِيَةَ.
وَلا بُدَّ مِنَ الرِّضَى بِمَا قَسَمَهُ الْقَدَرُ لِي مِنْ تَعَاسَةٍ، وَكَتَبَهُ عَلَيَّ مِنْ شَقَاءٍ.
وَمَا أَدْرِي كَيْفَ تَخَيَّلْتِ أَنَّ مِثْلِي يَقْبَلُ مِثْلَ هَذَا الِاقْتِرَاحِ؟!
وَكَيْفَ دَارَ بِذِهْنِكِ أَنَّنِي أَرْضَى بِأَنْ يَشْقَى غَيْرِي بِهَذَا الْفَرْوِ الْبَشِعِ، وَأَنْ أَجْلُبَ عَلَيْهِ نُفُورَ مَنْ يَرَاهُ مِنَ النَّاسِ وَكَرَاهِيَتَهُمْ لَهُ، وَاحْتِقَارَهُمْ إِيَّاهُ؟!
كَيْفَ أَرْضَى بِتَحْقِيرِ غَيْرِي لِأَظْفَرَ بِإِعْجَابِ النَّاسِ وَمَحَبَّتِهِمْ؟!
كَلَّا، لَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى أَيِّ حَالٍ.»
وَبَذَلَتْ «مَاجِدَةُ» قُصَارَى جُهْدِهَا فِي سَبِيلِ إِقْنَاعِهِ بِرَأْيِهَا؛ فَلَمْ تَلْقَ مِنْهُ أُذُنًا سَمِيعَةً.
وَرَأَتْ مِنْ إِصْرَارِهِ عَلَى رَأْيِهِ مَا أَيْأَسَهَا مِنْ بُلُوغِ مَا تَتَمَنَّاهُ مِنَ السَّعَادَةِ وَالْهَنَاءِ.
وَكَانَتْ كُلَّمَا زَادَتْهُ إِلْحَاحًا، زَادَهَا نُفُورًا وَإِعْرَاضًا.
وَانْتَهَتِ الْمُنَاقَشَةُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ تَوَسَّلَ إِلَيْهَا — فِي إِصْرَارٍ وَحَزْمٍ — أَلَّا تُعِيدَ عَلَى سَمْعِهِ ذَلِكَ الْحَدِيثَ مَرَّةً أُخْرَى.
وَلَمْ يَأْلُ جُهْدًا فِي تَحْذِيرِهَا مِنْ مُفَاتَحَةِ «نَرْجِسَ» بِذَلِكَ السِّرِّ، أَوِ الْإِفْضَاءِ بِهِ إِلَى أَحَدٍ مِمَّنْ يَخْطُرُ لَهَا أَنَّهُ يَحْرِصُ عَلَى مُساعَدَتِهِ فِي التَّخَلُّصِ مِنْ فَرْوِهِ.
فَلَمْ تَتَمَالَكْ «مَاجِدَةُ» أَنْ وَعَدَتْهُ بِتَحْقِيقِ مَا أَرَادَ.
وَكَانَتْ — بِرَغْمِ عَجْزِهَا عَنْ مُقَاوَمَةِ رَغْبَتِهَا فِي إِسْعَادِهِ، وَتَخْلِيصِهِ منَ الْمِحْنَةِ — تَشْعُرُ بِإِجْلالٍ لِوَلَدِهَا لِمَا مَيَّزَهُ اللهُ بِهِ مِنْ طَبْعٍ فَيَّاضٍ بِالشَّهَامَةِ وَالنُّبْلِ، وَتُحِسُّ لَهُ بِإِكْبارٍ عَظِيمٍ فِي أَعْمَاقِ نَفْسِهَا، لِمَا رَأَتْهُ مِنْ مَتَانَةِ خُلُقِهِ، وَطَهَارَةِ نَفْسِهِ.
عَلَى أَنَّهَا — بِرَغْمِ إِصْرَارِهِ عَلَى رَأْيِهِ — لَمْ تَرْكَنْ إِلَى الْيَأْسِ مِنَ السَّعَادَةِ؛ فَقَدْ دَبَّ الرَّجَاءُ إِلَى نَفْسِهَا أَنْ يُلْهِمَ اللهُ الْجِنِّيَّةَ أَنْ تَقْدُرَ لِوَلَدِهَا الصَّغِيرِ مَا تَمَيَّزَ بِهِ مِنْ نَبِيلِ الْخِصالِ، فَلا تُحْوِجَهُ إِلَى بَذْلِ مَا تَأْبَاهُ نَفْسُهُ الطَّاهِرَةُ مِنْ إِيذَاءِ غَيْرِهِ، فِي سَبِيلِ تَخْلِيصِ وَجْهِهِ مِنَ الْفَرْوِ الْبَغِيضِ.
وامْتَلَأَ قَلْبُهَا أَمَلًا فِي أَنْ تَعْمَلَ الْجِنِّيَّةُ — بِبَاعِثٍ مِنْ ضَمِيرِهَا — عَلَى تَخْلِيصِهِ مِنْ فَرْوِهِ، مُكَافَأَةً لَهُ عَلَى طَهَارَتِهِ، وَصَفَاءِ قَلْبِهِ وَعَظِيمِ مُرُوءَتِهِ.