الفصل الثالث
(يُرفَع السِّتار عن الملِك قيس، والحارثِ، والربيع، وعمارة، جالسين.)
قيس
:
اعلَمُوا يا بني الأَعمام، وساداتِ عبس الكِرام، أنَّ قلبي خائِف،
وفِكري راجِف، من عاقبة جَهل ابنِ شدَّاد، وعشقِ مسعود بن مصاد، ونحنُ ما
صدَّقنا أن خلَصنا من الأوصَاب، فتجدَّد علينا شيءٌ ما كان في
الحِساب.
بلِّغي بالله يا ريحَ الصَّبا
سَحَرًا
نجدًا وهاتِيكَ الرُّبا
واللِّوى والرَّقْمَتين وظِبا الـ
ـعلم
السَّعدِيْ سَلامَ الغُربا
صبِّحي أطلالَ أنسٍ وصَفا
لَعِبت في
حَيِّها أيدِي سَبا
الربيع
:
وأنت أيها الغضنفر، صدَّقت كلامَ عنتر، وأكَّدتَ أنَّ مسعود عشِق
عبلة، بعدما رأيتَه وحققتَ نُبله؟! ومتى رآها أيها الهُمام، واعتراه من
أجلِها الوجدُ والغرَام؟ فلا تكن يا مَلِك في وَسواس؛ فالملِك مسعود من
أكمَل الناس. وعنتر ما اتَّهم مسعود بعِشق عبلة إلا من القَهر الذي
اعتراه والذُّل، وحينما أخذنا من مسعود الذِّمام، لم نسمَع له قولًا ولا
كَلام؛ ولهذا استعمَل الفسَاد، واتَّهم ابن مصاد بالعِشق والغرام؛ لينال
المَرام، بقتال مسعود، وإهلاكِ الجنود، وتشتيت الفُرسان، في كلِّ ناحية
ومكان.
عمارة
:
أنا أقول يا ذا النَّوَال: «إذا كان لا بدَّ للملِك مسعود من أخذِ
عَبلة، فنسلِّمُها له بلا قِتال، ولا حَربٍ ولا نِزال».
حارث
:
أهكذا يا عمارة إذا عشِق أحدٌ من نسائك عَقِيلة، واشتهر أمرُ عشقِه
بين كل قبيلة، نسلِّمُه إيَّاها يا ذا الشَّنَار، ونعيش في الضَّنكِ
والعار؟!
عمارة
:
وهل ذهبَت النَّخوةُ يا ذا الإِشراق، حتى نسلِّم نساءَنا
للعُشَّاق؟!
حارث
:
إذا كنت تعرِف النَّخوة، فلمَ ارتكبتَ هذه الهَفْوة، وحتَّمتَ أخذَ
عَبلة، وتسليمَها لمسعود الأَبله، وأنتَ تعلَمُ أن دونها سيفَ عنتر، الذي
لا يُبقِي ولا يذَر؟
عمارة
:
عنتر، يا عاليَ النسب، لا يعدُّ من ساداتِ العرب، وما هو إلا عبدٌ زنيم، وابنُ أمَةٍ
لئيم.
حارث
:
اللئيمُ، يا عمارة، والحقير، الذي يقهَرُه الكبير والصَّغير. وأما
عنترة ابنُ الأمَة، فأرفعُ من ألف ابنِ حرَّة مكرُمة، وقاهرُ الأبطال
والصَّناديد، ومذيبُ بهمَّتِه الجلامِيد، ومكرمُ الضَّيف، والضَّارب
بالسيف، الذي قال في حقِّك يابنَ زياد، حينما تعرَّضت لعَبلة بنتِ مالك
بن قراد، بعدما ضرَب بك الأرضَ، وأدخل طُولَك في العَرض، ونتَف سِبالَك،
وضمَّخ أذْيَالَك، وأضحك عليكَ البناتِ والنساءَ والإماءَ، وأبدعَ وقال،
وأجاد في المَقال.
أوَتنكر هذا يا وهاب؟! وماذا يكونُ الجَواب؟
عمارة خَلِّ عُجبَك والفَخارا
وهذا
التِّيهَ والتزمِ النِّفارا
وقم واغسِل ثيابَك يا مُهان
كفاكَ اليوم
فخرًا وانتِصارا
هنيئًا للتي ترجُوك بعلًا
تحمِّلُها
الكآبةَ والشَّنارا
لئيمَ بني زياد ترومُ عَبلًا
وما هِبتَ
الذي يُردي البَوارا
ويُرهِب كلَّ جبارٍ عنيد
ومن سكَن
القِفار كذا البِحارا
أتيتَ عُبيلةً ترجُو لِقاها
فوافاكَ
شُجاعٌ لا يُبارى
وردَّكَ في التُّراب فرُحتَ
تعوِي
ورِجسَ الثوبِ ألبَسَك
احتِقارا
وعبلةُ والنِّساءُ ضَحِكن لما
بكَ
الإذلالُ قد دارَى ومارَى
ولولا قيسُنا الملِكُ
المفدَّى
يعاتِبُني على فِعلي
جَهَارا
لكنتُ فَلقْت رأسَك يا دَنيء
بماضٍ
يمْلَأ الأقطارَ نارَا
عمارة
:
إن هذا الأمر أيُّها الهُمام، قد وقع معي وأنا غُلام. وأما الآن فأنا
فارسُ الفُرسَان، ومُبيد الأَقران، ولا تسَل أيها الأَفْخر، إذا لبِستُ
الأَخضَر، وتحزَّمت بالأحمر، ولبِستُ المِغفر المشغول والكركر، ونقلْتُ
الأسمر، وركِبت حصاني السَّبوق الأشقَر: ما أفعلُ بألف ألفِ عنتر؟
(يدخُل عنتر، ومعه مقري الوحش، وشيبوب.)
عنتر
:
ما هذا يا حارث؟
عمارة
:
لا تذكُرِ الباعِث.
عنتر
:
وما الباعث يا وهاب؟
عمارة
:
قد كنَّا، يا سيدي المهاب، في فرحٍ ومُجون، ومُسامرةِ فنون. والآن قد
لزِمنا الحدُّ، وذهب الهَزْل وأقبل الجد، فمرحبًا بك يا عالي الشَّان؛
فقد أضاء بوجودك المكان، وبوجودِ فارس النِّيَاق، صاحب البهجةِ
والإشراق.
حاجب
:
قد جاءنا، يابن الأخيار، ونُخبة الملوك الكبار، قاصدٌ على قاعُود، من
عند الملِك مسعود، وطلبَ الدُّخولَ عليك، والمُثولَ بين يديك.
قيس
:
فليحضُر إلى هنا بالعجَل.
حاجب
:
أمرك أيها الملِك الأجَلُّ.
جندلة
:
لتصحَبْك المسرَّةُ والسِّيادَة
أيا
ملكًا حوَى كلَّ السَّعادَة
ودمتَ كما ترومُ بصَفو عيشٍ
ومجدُك في
حُلى الدهر قِلادة
قيس
:
فأهلًا مرحبًا آنستَ يا مَن
له الألطافُ
والآدابُ عادَة
فما أمرُ المليكِ، أخا المعالي
وما
يبغِي فعجِّلْ بالإفادَة
جندلة
:
اعلم يا صاحبَ الرأي والسَّداد، أن الملكَ مسعود بنَ مصاد، قد أرسلني
لأهنِّيَكم بالظفر، والسلامة وبُلوغ الوطَر، من أعدائكم أهلِ النَّحس،
الذين غاروا عليكُم أمس. وقد عوَّل أن يغزُوَ ديارَهم، ويمحوَ من الدنيا
آثارهم؛ ولكن يابن الأماجيد، أفراحُه ما عليها مَزيد، بحصُولكم على
الانتِصار، والسَّلامة وبُلوغ الأوطار، ولا تسَل يا معدِن الافتخار،
عمَّا أصابه من الأكدَار، من ساعةِ الأخبار، بقدوم أعدائِكم الأشرار.
وعند رجوعي أيها البُهلول، ما مكَّنَني الملك من النزول، بل أرسلني
إليكم، يا ذا القَدْر؛ لأهنِّيكم بالظفَر والنَّصْر، وحصولِكم على
الانتصار، على أعدائكم الأَشرار؛ ولهذا أراد أن يتقرَّبَ إليكم، ويُسبلَ
ستور فضله وكرمه عليكم، وقد أرسلني عنه نائِب، وراغبًا بقُربكم
وخاطِب.
عمارة
:
مسعود أرسلك خاطِب؟
جندلة
:
نعم، يابنَ الأطايب.
عمارة
:
ومن التي نادى مُنادي سعدِها في السَّما، ويرغب أن يخطِبها مسعود
صاحِب الحِمى؟
جندلة
:
اعلم يابن الحرَّة الكريمة، أنه لما كان عندكم في الوَليمة، قد رأى
عبلةَ ابنة مالك بن قراد، التي زوجتموها لعنتر بن شداد؛ لأنه قد سمِع أنه
تزوَّج بها غصبًا، وهذا زواجٌ لا يجوز في شريعة العَرب العَرْبا. وعار
على أصحاب الحسَب والنسَب، أن يزوِّجوا بناتِهم للعبيد حمَّالين الحطَب،
ورُعاةِ الإبل والأَغنام، في السَّباسب والآكَام. ويقول لكم: «إذا أجبتُم
الخبر، وأردتم السَّلامة من الكدَر والضير، اجعلوا الجوابَ إرسالَ عبلة؛
لتَسْلَموا من الكَرب والذِّلة، وخذُوها من ذلك العبد الزَّنيم،
وأرسِلوها له أيُّها الفَخيم. وعنترُ يعوِّضه عنها الملك مَسعود، بجمَلٍ
يركبُه، وأمةٍ من الإماء السُّود».
عمارة
:
واللهِ يا شيخ، لقد بالَغت معنا في النَّصيحة، وقلتَ أقوالًا لا
يدركها إلا أصحابُ العقولِ الرَّجيحَة، وهذا زوجُ عبلة حاضِر، وهو يسمَع
لك ويُناظر؛ فإذا أراد الخيرَ، ورغِب السَّلامة عن الشَّر، فيسلِّمها لك
بلا قِتال، ولا حَرب ولا نِزال، وإذا استَنكَف وأبى، يضطر الملِك أن
يأخذَها غَصبًا، ويسلِّمها لك؛ لتُوصلها إلى الملِك مسعود، الذي من
عادَاه لا ينجَحُ ولا يسود.
عنتر
:
اسكتْ أيها المُهان، ويا أحقَر من جَبان، ودَعِ الملك يردِّ الجَواب،
بما يكونُ فيه الصَّواب.
قيس
:
الجواب لكَ يا فارسَ الفرسان، فنحنُ لا يعنِينا هذا الشَّان، فجاوبِ
الرسولَ بما ترغبُ أيها المؤتَمن، والذي تراه حسَنًا نراه أحسَن، وهذا هو
جوابي أيها المحتَرم، والشَّهم الأكرم.
عنتر
:
الجواب يابنَ زهير، وكثيرَ المَرحَمة والخير، ما تراهُ من عنترة
الآن، في عُنق هذا الجَبان، الذي رغَّبني بالجمَل والأمَة، عِوضًا عن
عبلةَ المكرمَة (يهجُم عليه
ويخنُقه).
أنا عنترُ بن شداد، أنا قاهر الأبطال والآساد، أنا مُشبِع الوحشِ من لُحوم الأعداء، أنا صاحبُ «هل غادَر الشُّعراء».
أنا عنترُ بن شداد، أنا قاهر الأبطال والآساد، أنا مُشبِع الوحشِ من لُحوم الأعداء، أنا صاحبُ «هل غادَر الشُّعراء».
النارُ أهونُ من ركوبِ العار
والعارُ
يُدخل أهلَه في النَّار
والعارُ في رجُلٍ يسلِّم عِرسه
جُبنًا
ويُدْعى فارسَ الأقطَار
والعار فيمَن يا عمارة يختَفِي
يومَ
الوغَى ويغُور في الآبَار
لا بدَّ ما يأتيك يومٌ شَهدُه
صَابٌ
وبهجَتُه كجنَّة نار
عمارة
:
عفوًا، يابنَ شداد!
عنتر
:
آه يابن الأوغاد، ما أقبح لهجتك وأقل مروءتك!
الربيع
:
عظمتَها يا عنتر.
عنتر
:
اسكت أيها الحقِير، فلا كنتَ ولا كان أخوكَ، ولا كانت أمُّك ولا كان
أبوك. هيَّا احمِله على ظهرِك، قبل ذهابِ عُمرك، وساعداه أنتما بحمله
وبشِّرا مسعود وجميع رجاله أني سأقتُله عن قريب، وأُذيقه البلاءَ
والتَّعذيب.
(هنا عمارة يحمِل جندلة هو والعربيان، ويخرج من المرسح.)
عنتر
:
لا تقتضِ الدَّينَ إلا بالقنا
الذُّبل
ولا تحكِّم سوى الأسيافِ في
المُقَل
ولا تجاوِرْ لئامًا ذلَّ جارُهم
وخلِّهم
في عِراص الدَّار وارتحِل
ولا تفِر إذا ما خُضتَ معركة
فما يزيدُ
فرارُ المرء في الأجَل
أنا الشجاعُ الذي تعنُو السِّباعُ
له
طَوعًا وترهَب مني سطوةَ
البطَل
(يدخل عمارة.)
عمارة
:
أنا امتثلت أمرَك يا أبا الأبطال، بحملِ جندلة الخئون المحتال،
وسلَّمتُه خارج الخيام، إلى خادِميه يابنَ الكرام، وجئتُ إليك أيها
السَّامي؛ لتعفوَ عن ذُنوبي وآثامي.
الربيع
:
أنا أعلمُ يا أبا الفوارس، وزينةَ المحافل والمجالِس، أنَّ أخي عمارة
ما قال ما قال؛ إلا ليُجبرَك على قتل جندلة الختَّال. وقد قتلتَه أيها
الأفخر، وأذهبتَ روحَه إلى سقَر. وها نحن الآن بين يديك، ولا نبخل
بأموالِنا وأرواحِنا عليك، فمُرنا بما تريد؛ لنفعلَه أيها الفريد، أما هو
كذلكَ يا مُهاب؟
قيس
:
نعم، يابنَ الأنجاب. رءوسُنا والأشباح، وأجسامُنا والأرواح، فداءُ
ابنِ شداد، من الغوائِل الشِّداد، فاسمَح الآن عن عمارة، لندبِّر يا
صاحبَ النضارة، أمرَ الحرب والقِتال، مع مسعودِ ابن الأنذَال.
عنتر
:
عمارة لا يؤاخَذ بما فعَل، وقد أقَلْتُه أيها الأفضَل؛ أما مسعود بن
مصاد، وعشيرته والأجناد، فلا بدَّ أن أستأصلَهم أجمعين، وأذيقَهم العذابَ
المهين.
حاجب
:
اعلم يا ملِك أن الملك مسعود، قد بلغه ما فعل أسوَدُكم الجَحود، من
الإهانَة والعار، الذي ألحقتَه به في هذا النهار، وهو يقول لكم: «أرسلُوا
إليَّ عبلة، وهو يسامحكُم بدمِ جندلة، وإذا امتَنعتم من الإرسال، فبادروا
إلى الحربِ والقتال».
عنتر
:
خِب أيَّها الأحقر! وقل له أن يتهيَّأ للميدان، فلا كنتَ ولا كان،
يابن الأرذل المُهان.
قيس
:
لا فُضَّ فوك يا أبا الأبطال! فما أنت وحياتي إلا فارسُ الدَّهر،
وغرةُ هذا العَصر.
عنتر
:
أنا أقلُّ عبيدِك يابنَ زهير، وفداكَ من كل ضَير. فهيَّا بنا؛
لنستعدَّ للقتال، مع مسعودِ ابن الأنْذَال.
(لحن ختام؛ يقولُ عنتر، والجيشُ يردُّ عليه):
عنتر
:
أصبحَ السَّيفُ الحكَمْ
على النَّواصِي
والقِمَمْ
وكلُّ ويل لمَن ظلَمْ
يوم تهوِي به
القَدَمْ
هيَّا بنا أُسدَ الأكَمْ
نُجري الدِّمَا
مثل الدِّيَمْ
مسعود أبشِر بالعدَمْ
نحن السِّباع فلا
نُضَمْ