مهدي السودان
وأخيرًا كان المهدي في السودان، وقد كانت له حركة قوية شغلت الحكومات زمنًا طويلًا. وقد ولد المهدي هذا واسمه محمد بن عبد الله في دنقلة، وأسرته تقول: إنها شريفة من نسل رسول الله، وقد درس الفقه ثم تصوف علمًا وعملًا وقد خالف شيخه في التصوف وتزهد وتقشف، وكون لنفسه مريدين وأنصارًا على مذهبه الخاص وألف لهم الكتب الكثيرة يدعوهم فيها إلى طريقته، وما زال يكبر في نفسه حتى اعتقد أنه المهدي المنتظر الذي سيملأ الأرض عدلًا وصلاحًا، وقوى هذه العقيدة في نفسه صديقه عبد الله وهو المعروف بالتعايشي الذي أصبح خليفة من بعده، وأصله من دنقلة كذلك وقد حسن له عبد الله هذا الرحلة إلى كردفان، وفي أثنائها اتصل بكثير من رؤساء القبائل، وساعد على نجاح دعوته بعض الأهالي للحكومة المصرية لما كان يوم به بعض الولاة من فرض ضرائب ظالمة، ومعاملة قاسية وما كان من إعلان الحكومة المصرية عزمها على إلغاء الرقيق، وقد أثر ذلك أثرًا سيئًا في الحياة الاقتصادية في البلاد، فلما قويت حركته بعث رءوف باشا حاكم السودان إلى المهدي يأمره بالمثول بين يديه في الخرطوم؛ لأنه كان يستهين بأمره فلم يأبه المهدي بأمره، بل أجاب عن هذا بإعلانه أنه سيد البلاد الحقيقي، وأعلن الجهاد ضد الكافرين وهو يقصد بالكافرين ما يشمل المسلمين المصريين الظالمين، فأرسل رءوف باشا حملة عليه مكونة من مائتي رجل ببنادقهم ومدافعهم، وكان المهدي إذ ذاك يقيم في جزيرة آبا فأمر رءوف باشا جنوده بإطلاق النار على المهديين، وكان ذلك نهارًا ولم يكن للمهدي بنادق ولا مدافع، فأمر أصحابه بالسكوت وأن يكمنوا في الأدغال حتى يجيء الليل، ثم أمرهم بالخروج من الأدغال ليلًا، فهجموا على الجنود المصريين وأفنوهم، واستولوا على ذخائرهم … ومن ذلك الوقت حاربهم المهدي بسلاحهم، ثم انتقل إلى كردفان ليكون بعيدًا عن مقر الحكومة المصرية في الخرطوم … وسيرت الحكومة المصرية حملة أخري قوية مؤلفة من نحو ستة آلاف رجل، ولكنها لم تتخذ وسائل الوقاية المعتادة، وكان من العادات المتبعة في السودان أن يحاط الجند ليلًا بأسياج شائكة، فلم يفعلوا ذلك هذه المرة فأتاهم المهدي ليلًا بجنوده وأبادهم، وإذ ذاك عظم شأنه واشتد أتباعه إيمانًا به، وكان له في القاهرة أتباع يبشرون به، وتقاطر الناس من جميع أنحاء السودان؛ ليروا ولي الله ويقدموا له الهدايا، وكان منظره إذ ذاك متصوفًا زاهدًا يلبس جبة وسراويل من كتان ويتمنطق بحزام، ولكنه فيما بعد قلد المسلمين الأولين في احتياز خمس الغنائم، وأضاف إلى ذلك مصادرته للسارقين والخمارين والمدخنين للتبغ، فكثرت الأموال لديه، وانقلب مترفًا وحرم على أتباعه دراسة علم الكلام والفقه، وأحرق الكتب التي تعالج هذه الموضوعات، ولكنه أوصى بالرجوع إلى أصول الإسلام الأولى من قرآن وحديث. ولما احتلت الحكومة البريطانية مصر بعد ثورة عرابي، أرادت أن تخضع السودان فبعثت بعشرة آلاف مصري بقيادة هكس باشا، ولكن من الأسف أن أعلنت ذلك وأبطأت في إعداد عدة الحملة، وذلك مكن المهدي من حسن الاستعداد فهجم المهدي على المصريين غير أن المصريين صدوا هجومه أول الأمر، ثم همزوا آخره وأبيدوا عن بكرة أبيهم، فوقع السودان كله تحت سلطان المهدي وفر من كان فيه من الأوروبيين إلى مصر، واستسلم للمهدي سلاطين باشا، وكان قبل ضابطًا نمسويًّا ثم حاكمًا على دارفور، ثم اعتزمت الحكومة المصرية مصالحة المهدي والتخلي عن السودان، وأرسلت لهذه المهمة غوردون باشا، فأرسل غوردون إلى المهدي يعترف به سلطانًا على كردفان، ويعترف بإباحة تجارة الرقيق فأجابه المهدي طالبًا إليه الاستسلام، وعزم المهدي على محاصرة الخرطوم وفيها غوردن باشا، فتقدم إليها وقد أخطأ غوردون فلم يعلن إخلاء المدينة من غير المحاربين فكانوا سببًا في الاضطراب، والحاجة الشديدة إلى الضروري من الأقوات وأخيرًا أمر أتباعه بالهجوم على المدينة، ففتحوها وقتل غوردون وترك البريطانيون السودان مؤقتًا.
وأحاط المهدي السودان بسياج قوي حتى يتقي شر الدسائس، واضطر أن يمنع السودانيين مؤقتًا من الحج، ولكنه أصيب في منتصف يونية سنة ١٨٨٥ بالتيفوس، فمات بعد ذلك بأسبوع وأوصى بالخلافة من بعده لصديقه القديم عبد الله، وكناه بأبي بكر وهو عبد الله التعايشي المشهور.
وقد اغتر عبد الله هذا بقوته وسلطانه، فاعتزم غزو مصر وهو مشروع كان ينوي المهدي تحقيقه وخاف المصريون هذا العزم، فسير سنة ١٨٨٩ جيشًا إلى مصر على رأسه القائد عبد الرحمن النجومي، وأمره باجتياز وادي حلفا، فأنزلت حماية وادي حلفا بجيشه خسارة جسيمه في أثناء زحفه، وخرج أقرباء المهدي على التعايشي لما أحسوا بضعف سلطانه، وكان من أقواهم السيدة زوجة المهدي.
وفي خريف سنة ١٨٩٦ «قضى اللورد كتشنر — وكان سردارًا لمصر — على إمبراطورية المهدي»، وختمت هذه المأساة. ثم كان في آخر القرن التاسع عشر حركة مهدية أخرى في الصومال، إذ ظهر في الصومال محمد بن عبد الله حسن، وقد حج إلى مكة سنة ١٨٩٥ وهناك تصوف واعتنق فكرة المهدية حتى إذا رجع إلى وطنه دعا إلى طريقته، وسرعان ما اكتسب نفوذًا كبيرًا في قبيلته، ولكن الحكومة البريطانية قضت عليه سريعًا باكتسابها له، واستخدامها إياه في تهدئة الثورات التي تقوم حولها.
وأخيرًا في أثناء الحرب العالمية الأولى استطاع الإيطاليون هناك أن يقضوا على سلطته في شمال الصومال، ومات سنة ١٩٢٠ بعد أن بث في أتباعه تعاليم على غرار تعاليم المهدي.