ثورة البساسيري
هذه هي الثورات الكبرى المهدوية، وهناك ثورات صغيرة أخمدت في مهدها كثورة البساسيري، وهو رجل تركي كان مقدم الأتراك ببغداد، وكان القائم بأمر الله الخليفة العباسي قدمه على جميع الأتراك، وقلده الأمور بأسرها، وخطب له على منابر العراق وخوزستان، وهادنه الملوك فراسله المستنصر بالله الفاطمي، وأسر إليه أن يدعو بالمذهب الفاطمي في العراق وإذا هو فعل ذلك، وأزال الخليفة العباسي وعد بأن يكون والي الفاطميين على العراق، وأن يمنح جميع السلطان فقام البساسيري على القائم بأمر الله العباسي، وخطب للمستنصر بالله الفاطمي، وظل على هذه الحال حتى جاء طغرلبك السلجوقي وقابل البساسيري وقتله، وأعاد القائم إلى بغداد، وكان ذلك سنة ٤٥٠هـ. وعلى كل حال كان الشيعة يؤلفون حكومة بجانب الحكومة الرسمية من عهد علي، ويتقنعون بالتقية وهو مبدأ معناه التظاهر بعكس ما في الضمير حتى يجد صاحبه الفرصة، فكان رجال هذه الحكومة العلوية من عهد علي يؤلفون حكومة داخل الحكومة على رأسها إمام يظهر إذا دعا الحال، ويختفي إذا دعا الحال، وإذا ظهر بشر بالمهدي وادعى أنه مبعوث لملء الأرض عدلًا بعد أن ملئت ظلمًا، وكانت سلطة الخلفاء الرسميين وقوتهم موزعة بين إدارة شئون البلاد واتقاء العلويين، شأنهم شأن الأحزاب اليوم نصف قوتهم تقريبًا موجهة إلى إرادة مرافق الحياة، والنصف الآخر موجة إلى اتقاء شر المعارضين، ولو وجهت كل قوتهم لمصلحة البلاد لتغير وجه التاريخ. وكل حادثة من الحوادث تكون شوكة في جنب الدولة تهد من كيانها، وتهز من عرشها سواء انتصر فيها الخلفاء الرسميون أم انهزموا، وأخيرًا وبعد طول الحوادث وكثرتها تنهدم الدولة. هكذا كان شأن الدولة الأموية مع العلويين، وخصوصًا بعد مقتل الحسين فقد كان مقتله سببًا لاستجلاب العطف على العلويين. ولما كبر أبناء الحسين عولوا على أخذ بثأر أبيهم، وظلت المجازر تنتشر على يد الخلفاء الأمويين، وظل العلويون يعملون في الخفاء ضد الأمويين، ويدبرون المؤامرات ويدسون الدسائس حتى سقطت الدولة الأموية، فلما جاءت الدولة العباسية ابتدأت موقفها بسفك دماء العلويين والأمويين معًا، فكرههم العلويون واستعملوا معهم مبدأ التقية هذا، وبذلك ظل الحال كما كان في العهد الأموي، إمام يموت وإمام يقوم مقامه، وإمام يختفي وتبث الدعوة له ويذاع بأنه سيخرج لينتقم من الظالمين، وكلما انطفأت ثورة قامت مقامها ثورة، وساعد على نجاحهم أن العباسيين كانوا ظلمة لا يتحرون عدلًا، ولا يقيمون للشعب وزنًا، فكان الشعب نارًا خامدة تنتظر من يشعلها، حتى من اتصف بالعدالة منهم فإنما عدالته نسبية، ولم يكن أحد منهم يعطف على العلويين، والشعراء يقفون ببابهم يمدحونهم ويذمون العلويين، والأئمة العلوية تزعم كل حين أنهم إذا ولوا أمور الرعية ساسوها بالعدل المطلق. وفرق كبير بين الدعوى والواقع، وقد شكا المأمون من هذا، فقد رأى أن الأئمة يختفون عن الأعين، ويرتكبون ما يرتكبون من الإثم ولا من يراهم ويعرف قيمتهم، فقال: إن من الخير للناس أن تظهر هذه الأئمة حتى يعرفوا زلاتهم، ولا يقدسوهم هذا التقديس، علمًا بأنهم إذا ظهروا على مسرح الحياة، وبان للناس كيف يحكمون وكيف يرتكبون ما حرم الله سقطوا من أعينهم، ولكن ما داموا مضطهدين مختفين مكتفين بالدعوة بقي العطف عليهم في الناس؛ ولذلك اعتزم أن يولي بعده عليًّا الرضا، كالذي حكى أن ملكًا كان يطلب منه وزيره كل يوم مطالب للشعب، والملك يمانع فيها، فلما مات الملك وخلفه ابنه، وكان أعقل من أبيه ذهب إليه الوزير يطلب هذه المطالب، فقال الملك: «قد أجبتك إلى كل ما تطلب، فصرخ الوزير من هذه الإجابة؛ لأنه إنما علم أنه يعيش على الوهم والخداع، فإذا حققت مطالب الشعب كلها ذهب وهمه وخداعه وعلمت حقيقته.
هذا كله في العصور القديمة …