العهد الأول
المريضة
١
مَا أَسْلَمَ القَلْبَ وَأَصْفَى السَّمَرَا
وَأَهْنَأَ الشِّتَاءَ في تِلْكَ القُرَى
وَأَطْوَلَ اللَّيْلَ بِهِ وَأَقْصَرَا!
تَجْرِي اللَّيَالِي عَذْبَةً كَالسَّاقِيَهْ
يُضَنُّ مِنْهَا بِاللَّيَالِي البَاقِيَهْ
كَأَنَّهَا بَقِيَّةٌ مِنْ عَافِيهْ
فِي لَيْلَةٍ لِطُولِهَا وَسْنَانَهْ
وَالأَرْضُ مِمَّا شَرِبَتْ نَشْوَانَهْ
عَادَ فَأَلْفَى أُمَّهُ سَهْرَانَهْ
فَقَالَ: «مَا عَوَّدَكِ اللَّيْلُ السَّهَرْ
لَمْ يَبْقَ إِلَّا سَاعَتَانِ للسَّحَرْ
… أَقْرأُ فِي وَجْهِكِ، يَا أُم، خَبَرْ
غَلْوَاءُ؟ مَا حَلَّ بِهَا؟ … شَقِيَّهْ!
أَمَا تَبَقَّى لِلرَّجَا بَقِيَّهْ؟
مِسْكِينَةٌ! وَيْلُ امِّهَا، صَبِيَّهْ!
وحَاوَلَ النَّوْمَ بِدُونِ جَدْوَى
كَأَنَّ فِي عَيْنَيْهِ قَلْبًا يَهْوَى
وَقَلْبُهُ كَانَ بَرِيئًا خِلْوا
وَانْتَقَلَ انْتِقَالَةً عَجِيبَهْ
مِنْ أَلَمِ الرُّوحِ إِلَى غَيْبُوبَهْ
كَشُعْلَةٍ فِي نَفْسِهِ مَشْبُوبَهْ
طَوْرًا يَرَى غَلْوَاءَ فِي صِبَاهَا
تشِعُّ فِي وِجْدَانِهِ عَيْنَاهَا
مَعْقُودَةَ الحُسْنِ عَلَى رَيَّاهَا
وَتَارَةً فِي كَفَنٍ مُلْتَفَّهْ
يُسَرِّحُ المَوْتُ عَلَيْهَا كَفَّهْ
بِحَسْرَةٍ عَاطِفَةٍ وَلَهْفَهْ
بارِزَةً مِنْ فَمِهَا الأَسْنَانُ
مُزْرَقَّةً كَأَنَّهَا دِيدَانُ
وَاللَّثَّةُ الحَمْرَاءُ زَعْفَرَانُ
ذَاتَ شُحُوبٍ رَاعِبٍ رَهِيب
كَأَنَّهُ لَوْنٌ مِنَ الذُّنُوبِ
أَوْ نَفَسٌ مِنْ صَدْرِهَا المَكْرُوبِ
وَكَانَتِ الظُّلْمَةُ فِي أَشْجَانِ
وَالرِّيحُ كَالمِبْرَدِ فِي الأَبْدَانِ
وَاللَّيْلُ فِيهَا كَضَمِيرِ الجَانِي
وَلمْ يَكَدْ مِنْ حُلْمِهِ يُفِيقُ
حَتَّى اعْتَرَاهُ خَدَرٌ عَمِيقُ
وَجُنَّ فِي دِمَاغِهِ العُرُوقُ
فَأَبْصَرَ المَرِيضَةَ المُحْتَضَرَهْ
مَسْدُولَةَ الذَّوَائِبِ المُبَعْثَرَهْ
جِنِّيَّةٌ هَائِمَةٌ فِي مَقْبَرَهْ
•••
وَحَلَّ فِي أَهْدَابِهِ تَابُوتُ
فِي قَلْبِهِ صَبِيَّةٌ تَمُوتُ
تَمُوتُ فِي غَيْبُوبَةٍ وَسَكْرَهْ
لَهَا مِنْ العُمْرِ ثَمَانِيَ عَشْرَهْ
وَعِنْدَمَا أَفَاقَ مِنْ رُؤْيَاهُ
وَحَدَّقَتْ إِلَى الدُّجَى عَيْنَاهُ
رَأَى نِيَامًا كُلَّ مَنْ فِي الدَّارِ
إِلَّا عُيُونَ الهِرِّ ذَاتَ النَّارِ
٢
أَمِنَ العَدْلِ خَالِقَ الأَرْوَاحِ
أَنْ يَغِيبَ الجَمَالُ قَبْلَ الصَّبَاحِ؟
أَمِنَ العَدْلِ أَنْ يُرَى القَلْبُ عَطْشَا
نَ، وَخَمْرُ القُلُوبِ فِي الأَقْدَاحِ؟
أَمِنَ العَدْلِ أَنْ تَجُولَ عُيُونٌ
فِي ظَلَامٍ وَالزَّيْتُ فِي المِصْبَاحِ؟
إِنْ تَكُنْ تَحْرِمُ الطُّيُورَ سَمَاهَا
فَلِمَاذَا خَلَقْتَ رِيشَ الجَنَاحِ؟
•••
وَتَنَاءَتْ عَيْنَاهُ فِي الشَّفَقِ الأَخْضَرِ
فَانْحَطَّتَا عَلَى فَلَّاحِ
يَحْرُثُ الأَرْضَ هَادِئًا مُطْمَئِنًّا
فَيَشُقُّ الأَتْلَامَ كَالجَرَّاحِ
•••
قَالَ: طُوبَى لَهُ وَطُوبَى لِنَفْسِهْ
مَا أَلَذَّ الصَّفَاءَ فِي مَاءِ كَأْسِهْ!
مَا أَعَزَّ الأَعْشَابَ حَوْلَ سَوَاقِيهِ
وَأَغْنَاهُ فِي قَنَاعَةِ بُؤسِهْ
لَا يَرَى غَيْرَ حَقْلِهِ إِنْ أَطَلَّ الفَجْرُ
أَوْ أَقْبَلَ المَسَا غَيْرَ أُنْسِهْ
جَاهِلٌ يَجْهَلُ القِرَاءَةَ فِي الأَسْفَارِ
لَكِنَّهُ حَكِيمٌ بِفَأْسِهْ
غَدُهُ مِثْلُ يَوْمِهِ، لَيْسَ يَغْشَاهُ شَقَاءٌ،
وَيَوْمُهُ مِثْلُ أَمْسِهْ
•••
لَيْتَ لِي قَلْبَهُ الخَلِي
لَيْتَ فِي الرُّوحِ لِي تُقَاهْ
لَيْتَ فِي مُقْلَتَيَّ لِي
مُقْلَتَيْهِ … وَا حَسْرَتَاهْ!
فَأَرَى الصُّبْحَ يَنْجَلِي
عَنْ شُعَاعٍ مِنْ الحُلِي
ذَهَبِيٍّ مُكَلَّل
بِلُجَيْنٍ مِنَ المِيَاهْ
وَأَرَى اللهَ كُلَّمَا
أُرْسِلُ الطَرْفَ فِي السَّمَا
إِنَّ فِيهَا لِمَنْ سَمَا
بِالتُّقَى صُورَةَ الإِلَهْ
القصة
١
غَلْوَاءُ، مَا أَحْلَى اسْمَهَا المِعْطَارَا،
صَبِيَّةٌ تَغْبِطُهَا العَذَارَى
لَا يَسْتَطِيعُ شَاعِرٌ أَنْ يُبْدِعَا
قَصِيدَةً أَجْمَلَ مِنْهَا مَطْلَعا
تَصَوَّرِ الأَزْهَارَ فِي نَوَّارِ
تُنْعِشُهَا ارْتِعَاشَةُ الأَنْوَارِ
تَصَوَّرِ النَّسِيمَ فِي الصَّبَاحِ
يَهِزُّ سَاقَ الفُلِّ وَالأَقَاحِ
تَصَوَّرِ السَّمَاءَ فِي رُوَائِهَا
كَأَنَّهَا الأحْلَامُ فِي صَفَائِهَا
تَصَوَّرِ الأَعْشَابَ فِي الجِبَالِ
تَحْلُمُ فِي مَهْدٍ مِنَ الظِّلَالِ
تَصَوَّرِ الرَّابِيَةَ الجَمِيلَهْ
لَوَّنَهَا ظِلٌّ مِنَ الخَمِيلَهْ
وَكُوَمَ الثَّلْجِ عَلَى الرَّوَابِي
تَطْفُو عَلَيْهَا صُفْرَةُ الغِيَابِ
وَانْظُرْ أَخِيرًا نَظْرَةً سَرِيعَهْ
مُخْتَلفَ الجَمَالِ فِي الطَّبِيعَهْ
تَعْرِفْ إِذنْ مَعْرِفَةً عَلْيَاءَ
كَيْفَ السَّمَاءُ أَبْدَعَتْ غَلْوَاءَ
وَكَانَ فِي صُوَرٍ لَهَا قَرِيبَهْ
أُعْطِيَتِ اسْمَ الوَرْدَةِ الحَبِيبَهْ
جَمَالُهَا يَحْمِلُ لِلْجُنُونِ
وَمِيضَةَ الشَّهْوَةِ فِي العُيُونِ
تَشْعُرُ، مِنْ جَسَدِهَا المُشْتَعِلِ،
فِي كُلِّ عِرْقٍ بِدِمَاءِ رَجُل
تَصوَّرِ البُرْكَانَ فِي ثَوْرَتِهِ
تَنْقَذِفُ النِّيرَانُ مِنْ فُوهَتِهِ
كَالمَرْأَةِ البَغِيِّ فِي مُقْلَتِهَا
عُنْصُرُ نَارٍ قُدَّ مِنْ شَهْوَتِهَا
تَصَوَّرِ المَوْتَ بِنَابِ أَفْعَى
مُرِيبَةٍ بَيْنَ زُهُورٍ تَسْعَى
تَظُنُّهَا خِلَالَ وَهْجِ النُّورِ
سَاقِيَةً تَنْسَابُ فِي الزُّهُورِ
تَصَوَّرِ المَصْدُورَ فِي خَدَّيْهِ
تَوَرُّدٌ يَطْفُو الصِّبَا عَلَيْهِ
تَخَالُهُ الرَّبِيعَ عِنْدَ فَجْرِهْ
إِنْ أَنْتَ لَمْ تَسْمَعْ سُعَالَ صَدْرِهْ
وَرَجُلًا غَصَّ بِبَلْعِ رِيقِهْ
فَاسْتَنْجَدَ القَطْرَةَ فِي إِبْرِيقِهْ
وَلَوْ دَرَى أَنَّ هُنَاكَ عَقْرَبْ
لآثَرَ الغَصَّ عَلَى أَنْ يَشْرَبْ
وَانْظُرْ أَخِيرًا نَظْرَةً سَرِيعَهْ
مُخْتَلفَ الشُّرُورِ فِي الطَّبِيعَهْ
يَبدُ لَكَ المَقتُ إِذن فَتَعْلَمْ
كَيْفَ أَرَادَتْ «وَرْدَةً» جَهَنَّمْ
•••
وَرَغِبَتْ غَلْوَاءُ أَنْ تَزُورَا
أُمَّ الجُدُودِ الأَقْدَمِينَ صُورا
فَسَافَرَتْ يَخْفِرُهَا الفَتَاءُ
وَحُسْنُهُ — تَبَارَكَتْ غَلْوَاءُ
… … … … … …
… … … … … …
فِينِيقْيَا وَمَجْدُهَا المُشَيَّدُ
وَمُلْكُهَا المُعَظَّمُ المُؤَيَّدُ
أَمِيرَةُ الفُنُونِ وَالتِّجَارَهْ
وَمَنْشَأُ العُلُومِ وَالحَضَارَهْ
سُلْطَانَةُ البِحَارِ وَالأَسْفَارِ
مَلِيكَةُ البِرْفِيرِ وَالنُّضَارِ
لُؤلُؤَةُ العُرُوشِ وَالتِّيجَانِ
وَمَطْمَحُ اليُونَانِ وَالرُّومَانِ
أَمْسَتْ بَقَايَا وَطَنٍ مُدَمَّر
مِنْ بَعْدِ عِزٍّ شَامِخٍ مُنَوَّر
قَائِمَةً كَالطَّلَلِ المَهْجُور
عَلَى مِيَاهِ شَاطِئٍ فِي صُور!
٢
عَلَى ذُرْوَةٍ بَيْنَ أَطْلَالِ صُورْ
يُحِيطُ بِهَا شَجَرٌ وَصُخُورْ
يَقُومُ بِنَاءٌ كَعُشِّ النُّسُورْ
بِنَاءٌ يَرَى العَابِرُونَ عَلَيْهْ
نَبَاتًا تَرَامَى عَلَى جَانِبَيْهْ
فَغَطَّى بِعَوْسَجِهِ سُدْفَتَيْهْ
كَرَمْسٍ قَدِيمٍ لِمَيْنٍ وَزُورْ
تَكَلَّلَ بِالشَّوْكِ لا بِالزُّهُورْ
طَلَاهُ الظَّلَامُ بِلَوْنِ دُجَاهْ
لِكَثْرَةِ مَا لَامَسَتْهُ خُطَاهْ
وَمَرَّ عَلَيْهِ الضِّيَا فَطَلَاهْ
كَأَنِّي بِهِ بُرْجُ جِنٍّ وَحُورْ
تَرَدَّدَ بَيْن ظَلَامٍ وَنُورْ
إِذَا النُّورُ لَوَّنَهُ فِي السَّحَرْ
وَمَدَّ عَلَيْهِ ظِلَالَ الحَوَرْ
تَرَاءَى كَطَيْفٍ خِلَالَ الشَّجَرْ
أَتَى مِنْ دَيَامِيسِهِ لِيَزُورْ
بَقَايَا ذَرَارِيِّ تِلْكَ البُدُورْ
وَحِينَ يَسِيلُ اصْفِرَارُ المَغِيبْ
عَلَى جَانِبَيْهِ بِشَكْلٍ كَئِيبْ
يَبِينُ كَهَيْكَلِ عَظْمٍ مُرِيبْ
أَبَى أَنْ تُوَسِّدَهُ فِي القُبُورْ
غَدَاةَ تَمرَّدَ، أَيْدِي الدُّهُورْ،
بِنَاءٌ تُزَنِّرُ أَسْوَارَهُ
خَرَائِبُ تَعْرِفُ أَسْرَارَهُ
فَقَدْ عَاشَتِ الدَّهْرَ سُمَّارَهُ
فَأَصْغِ لِنَسْأَلَ عَنْهُ الصُّخُورْ
أَلِلْحُبِّ شُيِّدَ أَمْ لِلشُّرُورْ
أَيَا سَائِلَ الصَّخْرِ عَنْ جَارِهِ
دَعِ الصَّخْرَ يَنْطِقْ بِأَخْبَارِهِ
فَلَيْسَ ضَنِينًا بِأَسْرَارِهِ
بَنَاهُ الجَلَالُ وَشَيَّدَ مَجْدَهْ
وَقَدْ كَانَ عَهْدُ الجَبَابِرِ عَهْدَهْ
وَكَانَ الزَّمَانُ المُسَوَّدُ عَبْدَهْ
تُنَارُ اللَّيَالِي بِأَنْوَارِهِ
وَتُزْهَى بِأَعْيَادِ سُمَّارِهِ
•••
بَنَتْهُ يَدُ الفَاتِحِينَ الأُلَى
أَهَابُوا بِفِينِيقِيَا لِلْعُلَى
فَأَمْسَى بِهِمْ شَعْبُهَا الأَوَّلَا
يَقُودُ الزَّمَانَ بِأَبْصَارِهِ
وَيُسْجِدُهُ تَحْتَ أَسْوَارِهِ
وَكَانَتْ أَمِيرَتُهُ يَوْمَ كَانْ
أَمِيرَ القُصُورِ بِذَاكَ الزَّمَانْ
كَحُورِيَّةٍ مِنْ عَذَارَى الجِنَانْ
مُعَطَّرَةٍ مِثْلَ أَشْجَارِهِ
بِدُهْنِ اللُّبَانِ وَأَسْحَارِهِ
وَهَبَّتْ عَلَى القَصْرِ رِيحٌ سَمُومْ
ذَرَتْ مِنْهُ أَنْوَارَ تِلْكَ النُّجُومْ
كَمَا ذَرَتِ النَّارُ شَعْبَ سَدُومْ
وَلَمْ يَبْقَ مِنْ مَجْدِ آثَارِهِ
سِوَى غُرفَاتٍ لِتَذْكَارِهِ
تَرَى البُومَ يَخْلُفُ أَرْبَابَهَا
وَيَقْتَحِمُ النَّتْنُ أَبْوَابَهَا
وَيَفْتَرِشُ السُّوسُ أَخْشَابَهَا
كَشَعْبٍ تَخَلَّى لأَشْرَارِهِ
فَقَامَ الدَّمَارُ لإِنْذَارِهِ
لَقَدْ سَلَّطَتْ فُوَّهَاتُ الجَحِيمْ
عَلَى صُورَ نَارًا وَسُخْطًا عَظِيمْ
كَنَارِ يَهُوذَا وَأُورشَلِيمْ
وَأَبْقَى الزَّمَانُ بِأَسْفَارِهِ
مِنَ المَجْدِ ذِكْرَى لِزُوَّارِهِ
تَأَمَّلْ، تَأَمَّلْ بِرُوحِكَ زُهْدَهْ
وَكَيْفَ تُبِيدُ صُرُوفُ اللَّيَالِي
أَمِيرَ القُصُورِ وَتَتْرُكُ بَعْدَهْ
بَقَايَا مِنَ الغُرفَاتِ خَوَالِي
خَوَاليَ … لَوْلَا «الحَبِيبَةُ وَرْدَهْ»!
٣
فِي لَيلَةٍ تَنَبَّهَتْ غَلْوَاءُ
وَالبَدْرُ فِي مَخْدَعِهَا إِنَاءُ
تَسِيلُ مِنْهُ فِضَّةٌ بَيْضَاءُ
فَأَرْهَفَتْ مِسْمَعَهَا المَطْرُوقَا
فَسَمِعَتْ تَنَهُّدًا عَمِيقا
يَصْدُرُ عَمَّا يَنْهَشُ العُرُوقَا
وَأَرْسَلَتْ نَظْرَةَ بَرٍّ طَاهِر
فَهَالَهَا فِي المَخْدَعِ المُجَاوِرِ
فَاجِرَةٌ عَلَى ذِرَاعِ فَاجِر!
… … … … … …
… … … … … …
… … … … … …
مَا أَنْتِ يَا وَرْدَةُ تِلْكَ الوَرْدَهْ
بَلْ أَنْتِ مِنْ أَشْوَاكِهَا مُسْوَدَّهْ
أَمِيرَةَ الشَّهْوَةِ أَنْتِ عَبْدَهْ!
… … … … … …
… … … … … …
… … … … … …
أَيُّ خَيَالٍ حَلَّ فِي غَلْوَاءَ
أَيُّ رُؤًى مُحْرِقَةٍ سَوْدَاءَ
تَعَلَّقَتْ أَجْفَانَهَا العَذْرَاءَ؟
فَهَرَبَتْ إِلَى ضِفَافِ البَحْرِ
وَطَوَّفَتْ بَيْنَ بَقَايَا الدَّهْرِ
مِنْ خِرْبَةٍ لِرُجْمَةٍ لِقَبْرِ
وَكَانَتِ المِيَاهُ وَالصُّخُورُ
قائِمَةً مَا بَيْنَهَا القُبُورُ
حَتَّى السُّكُونُ حَوْلَهَا مَسْحُورُ
وَالمَوْجُ بَعْدَ المَوْجِ كَيْفَ ذَابَا
مُسْتَسْلِمًا عَلَى الحَصَى مُنْسَابا
يُقبِّلُ القُبُورَ وَالتُّرَابَا
كَأَنَّهُ جَمْعٌ مِنَ العَذَارَى
أَوْ ذِكْرَيَاتُ عَاشِقٍ تَوَارَى
تَهْمِسُ فِي أُذُنِ الرَّدَى أَسْرَارا
وللمِيَاهِ زَبَدٌ كَثِيفُ
يُنْسَجُ مِنْهُ كَفَنٌ خَفِيفُ
عَلَيْهِ مِنْ نُورِ الدُّجَى حُرُوفُ
وَسَمِعَتْ غَلْوَاءُ طَيْرَ البُومِ
يَنْعَقُ كَالشُّؤْمِ عَلَى الرُّسُومِ
مُدَنِّسًا نَقَاوَةَ النَّسِيمِ
وَاسْتَيْقَظَتْ فِي نَفْسِهَا المَحْمُومَهْ
مِنْ «وَرْدَةَ الحَبِيبَةِ» الأَثِيمَهْ
صَارِخَةً، أَخْيِلَةُ الجَرِيمَهْ
وَدَبَّ فِي أَعْضَائِهَا النَّحِيفَهْ
قَفْقَفَةٌ وَرِجْفَةٌ عَنِيفَهْ
حُمَّى سَرَتْ فِي جِسْمِهَا خَفِيفَهْ
وَاسْتَفْحَلَتْ كَالشَّرِّ حِينَ يَبْدَأ
فَهْوَ صَغِيرٌ إِنَّمَا لَا يَفْتَأ
حَتَّى يَصِيرَ نَقْمَةً لَا تَبْرَأ
… … … … … …
… … … … … …
… … … … … …
وَمَرَّتِ الأَيَّامُ وَاللَّيَالِي
سَوْدَاءَ بِالفِتْنَةِ وَالجَمَالِ
فَأَصْبَحَتْ غَلْوَاءُ كَالخَيَالِ
•••
وَبَرَزَتْ عِظَامُهَا فِي الجِسْمِ
مُصَطَفَّةً عَظْمًا إِزَاءَ عَظْمِ
كَأَنَّهَا أَقْلَامُ الاعْتِلَالِ
تَكْتُبُ فِي صَحِيفَةِ الآجَالِ
وَسَالَ فِي وَجْنَتِهَا الذُّبُولُ
كَنَجْمَةٍ هَمَّ بِهَا الأُفُولُ
وَامْتَقَعَ الجَبِينُ بِاصْفِرَارِ
كَأَنَّهُ أَوَاخِرُ النَّهَارِ
فِي لَيْلَةٍ شَدِيدَةِ الغُسُوقِ
تَذكَّرَتْ حَيَاتَهَا فِي «الزُّوقِ»
وَذَكَرَتْ مَوَاكِبَ الضَّبَابِ
تَمْتَدُّ كَالحُلْمِ عَلَى الهِضَابِ
وَالشَّجَرَ الأَخْضَرَ وَالسَّنَابِلا
تَبْسُطُ للطَّبِيعَةِ الأَنَامِلَا
وَذَكَرَتْ أَخْيِلَةَ المَسَاءِ
وَرَنَّةَ الأَجْرَاسِ فِي الهَوَاءِ
وَدَوْحَةَ الكَنِيسَةِ الحَقِيرَهْ
وَبَابَهَا الصَّغِيرَ وَالفَقِيرَهْ
وَصُفْرَةَ الشَّمْسِ عَلَى الجِبَالِ
وَلَعِبَ الأَطْفَالِ فِي الظِّلَالِ
وَاحْتَشَدَتْ أَخْيِلَةُ التِّذْكَارِ
تَطُوفُ أَسْرَابًا عَلَى الجِدَارِ
وَجَحَظَتْ فِي صَدْرِهَا الآلَامُ
كَجَفْنِهَا المَحْمُومِ لا تَنَامُ
وَحَبَكَتْ فِي مُقْلَتَيْهَا الحُمَّى
بِقَلْبِهَا العَفِيفِ ذَاكَ الإِثْمَا
وَانْتَقَلَ الإِثْمُ بِهَا انْتِقَالَهْ
أَجْرَتْ عَلَى خَيَالِهَا خَيَالَهْ
فَعَظُمَ الوَهْمُ، وَفِي الأَوْهَامِ
أَفْتَكُ بِالعَقْلِ مِنْ السِّرْسَامِ
وَقَامَ فِي أَحْلَامِهَا المُعَذَّبَهْ
رُؤْيَا كَأَنَّمَا هيَ المُرْتَكِبَهْ
الرُّؤيا
عَيْنُ مَنْ هَذِهِ الَّتِي لَا تَنَامُ؟
هِيَ عَيْنٌ ضِيَاؤُهَا الآثَامُ!
… … … … … …
… … … … … …
آلَمَتْهُ ذِكْرَى، فَتَاهَ وَفِي عَيْنَيْهِ
مِنْ أَمْسِهِ الأَثِيمِ حُطَامُ
وَعَلَى الشَّاطِئِ الكَئِيبِ قَتَامٌ
وَعَلَى صُورَ وَحْشَةٌ وَقَتَامُ
حَاوَلَ النَّوْمَ غَيْرَ أَنَّ طُيُوفا
جَاوَرَتْ عَيْنَهُ وَفِيهَا انْتِقَامُ
فَنَبَا عَنْ فِرَاشِهِ كَأَثِيمٍ
أَيْقَظَتْهُ مِنْ نَوْمِهِ الأَحْلَامُ
إِنَّ عَيْنَ الأَثِيمِ جُرْحٌ عَمِيقٌ
قَذِرُ الجَانِبَيْنِ، لَا يَلْتَامُ
… … … … … …
… … … … … …
وَتَرَاءَتْ لَهُ مَجَارِي الوَادِي
كَسَرِيرٍ يَغِيمُ فِي الأَبْعَادِ
فَبَكَى ذَاكِرًا عُذُوبَةَ مَاضِيهِ
وَحُبًّا مَضَى مَعَ الأَوْرَادِ
قَالَ: «مَا حَلَّ بِاللَّيَالِي الخَوَالِي
كَيْفَ عَاثَتْ بِهَا يَدُ الجَلَّادِ؟»
وَتَلَوَّى يَصِيحُ: «وَيْحَ ضَمِيرِي
لَيْسَ هَذَا الجَلَّادُ إِلَّا فُؤَادِي!»
طَرَحَتْكَ السَّمَاءُ عَنْ قَلْبِ غَلْوَاءَ
كَفَرْعِ رِجْسٍ مِنَ الأَجْسَادِ
خائِنَ الحُبِّ إِنَّ حُبَّكَ دُونٌ
فَاحْتَجِبْ فِيهِ عَنْ عُيُونِ العِبَادِ
ثُمَّ سَادَتْ سَكِينَةٌ وَتَوَارَتْ
جُزُرُ النُّورِ فِي الفَضَاءِ الرَّمَادِي
لَمْ يَرَ الفَجْرَ غَاسِلًا بِضِيَاهُ
هَضَبَاتِ المَدِينَةِ المَرْدُومَهْ
وَقِبَابَ الأَبْرَاجِ يُوقِظُهَا النُّورُ
كَجِنٍّ عَلَى قُبُورٍ قَدِيمَهْ
فَرَّ لَمْ يَلْتَفِتْ كَشَعْبِ سَدُومٍ
حِينَمَا أَحْرَقَ الإِلَهُ سَدُومَهْ
… … … … … …
… … … … … …
مُزِجَ النُّورُ بِالدُّجَى حِينَ خَطَّ الفَجْرُ
فِي صَفْحَةِ السَّمَاءِ رُسُومَهْ
كَضَمِيرِ الأَثِيمِ يَشْمَلُهُ الصَّفْحُ
وَتَبْقَى مِنْ وَخْزِهِ جُرْثُومَهْ
فَأَطَلَّتْ غَلْوَاءُ مِنْ كُوَّةِ الخِدْرِ
وَفِي نَفْسِهَا شُجُونٌ عَظِيمَهْ
قَالَتْ: «الفَجْرُ شَاحِبٌ مِثْلُ وَجْهِي
وَأَلِيمٌ سَاهٍ كَنَفْسِي الأَلِيمَهْ
أَيُّهَا العُمْرُ، كَمْ تَعُدُّ صَبَاحًا
بَعْدُ لِي … فِي أَيَّامِكَ المَحْطُومَهْ؟»