العهد الثاني
عذاب الضمير
١
تَرَامَى اللَّيْلُ كَالهَمِّ الثَّقِيلِ
يَجُرُّ ذُيُولَ مِعْطَفِهِ الطَّوِيلِ
وَيُبْرِزُ فِي مَشَارِفهِ نُجُومًا
بِلَوْنٍ بُرتُقَالِيٍّ ضَئِيلِ
وَكَانَتْ زُوقُ مِيكَائِيلَ تُصْغِي
إِلَى هَمْسِ النَّيَاسِمِ فِي الحُقُولِ
فَتَبْسِمُ عَنْ كَوَاكِبِهَا النَّحِيلَهْ
وَتَحْلُمُ فِي جَوَاذِبِهَا الجَمِيلَهْ
بِعَهْدٍ — مَرَّ فِي الدُّنْيَا — جَمِيلِ
وَكَانَتْ قُبَّةُ الجَرَسِ المُقِيمَهْ
عَلَى عَمَدَيْ كَنِيسَتِهَا القَدِيمَهْ
تَقَطَّعُ فِي السَّمَاءِ وَقَدْ تَرَامَى
عَلَيْهَا النُّورُ أَفْلَاذًا سَقِيمَهْ
كَطَيْفٍ يَخْفِرُ الأَمْوَاتَ لَيْلًا
وَيَبْقَى سَاهِرًا سَهَرَ الأُمُومَهْ
وَكَانَ اللَّيْلُ مُنْفَطِرَ الشُّعُورِ
أَحَسَّ لَهِيبَ سُكَّانِ القُبُورِ
فَلَطَّفَ فِي مَعَابِرِهِ نَسِيمَهْ
وَكَانَت أَغْصُنُ الدَّوْحِ القَدِيمِ
يَهِزُّ رُءوسَهَا مَرُّ النَّسِيمِ
فِيُسْمَعُ فِي الدُّجَى مِنْهَا حَفِيفٌ
كَصَوْتِ الوَخْزِ فِي قَلْبٍ أَثِيمِ
وَفِي الأَكْوَاخِ أَقْبَاسٌ ضِعَافٌ
كَأَخْيِلَةِ الكَوَاكِبِ فِي الأَدِيمِ
تُصَعِّدُ مِنْ نَوَافِذِهَا الصَّغِيرَهْ
زَفِيرًا مِنْ أَشِعَّتِهَا الحَقِيرَهْ
كَأَنَّ بِزَيْتِهَا بَعْضَ الهُمُومِ
وَفِي الأَبْعَادِ كَانَ يُرَى الخَلِيجُ
تَمُجُّ مِيَاهُهُ نُورًا يَمُوجُ
كَلَوْحٍ أَسْوَدٍ مُلْقًى عَلَيْهِ
إِطَارٌ فِيهِ مِنْ ذَهَبٍ نَسِيجُ
تُدَبِّجُهُ مَصَابِيحٌ وَزُهْرٌ
لَهَا فِي المَاءِ مَنْظَرُهَا البَهِيجُ
وَأَضْوَاءُ النُّجُومِ عَلَى الشَّوَاطِئْ
إِذَا امْتَزَجَتْ بِأَضْوَاءِ المَرَافِئْ
يَكُونُ مِنْ الخَيَالِ بِهَا مَزِيجُ
دَعِ الأَبْعَادَ فِي اللَّيْلِ الجَمِيلِ
تَنَمْ سَكْرَى مَعَ النُّورِ الضَّئِيلِ
وَخَلِّ أَنَامِلَ النَّسَمَاتِ تَلْعَبْ
كَمَا شَاءَتْ بِأَوْرَاقِ الحُقُولِ
وَدَعْ قَطْرَ النَّدَى المَخْمُورَ يَسْقُطْ
عَلَى جَسَدِ الجَنَائِنِ وَالطُّلُولِ
وَهَيَّا بِي نَلِجْ قَصْرًا صَغِيرًا
تَرَى المِصْبَاحَ يَمْلَؤُهُ شُعُورا
رَسَا فِي الزُّوقِ مِنْ عَهْدٍ طَوِيلِ
فَتُبْصِر إِنْ وَلَجْتَ فَتًى كَئِيبًا
مِنَ الإِحْسَاسِ يُوشِكُ أَنْ يَذُوبَا
إِذَا أَمْعَنْتَ فِيهِ رَأَيْتَ جِسْمًا
يَفُورُ كَأَنَّ فِي دَمِهِ لَهِيبا
لَهُ قَلْبٌ يُرَى فِي كُلِّ قَلْبٍ
كَأَنَّ اللهَ ذَرَّ بِهِ قُلُوبَا
فَتًى كَالفَجْرِ أَلْوَانًا وَعُمْرًا
إِذَا أَبْصَرْتَهُ أَبْصَرْتَ فَجْرا
يَمُدُّ جَمَالُهُ ظِلًّا غَرِيبا
وَإِنْ أَصْغَيْتَ تَسْمَعُهُ يَقُولُ
لِوَالِدَةٍ أَلَمَّ بِهَا النُّحُولُ
لأُمٍّ فَارَقَتْ زَوْجًا حَبِيبًا
طَوَاهُ مِنْ الرَّدَى لَيْلٌ ثَقِيلُ:
«أُحِسُّ لَهَا اضْطِرَابًا فِي فُؤَادِي
وَدَمْعًا فِي حَنَايَاهُ يَجُولُ
وَمَا أَحْسَسْتُ أَمْسِ بِمِثْلِ هَذَا
فَأَمْسِي كَانَ، لا أَدْرِي لماذا،
جَميلًا، كُلُّ مَا فِيهِ جَمِيلُ!
أَجَلْ، يَا أُمِّ، صِرْتُ فَتًى شَقِيًّا
يَكَادُ اليَأْسُ يُطْفِئُ مُقْلَتَيَّا
فَأَيْنَ مَضَتْ لَيَالِيَّ الخَوَالِي
وَقَلْبٌ كَانَ فِي المَاضِي خَلِيَّا؟
أَرَى غَلْوَاءَ تُعْرِضُ عَنْ هُيَامِي
وَيَكْتُمُ قَلْبُهَا سِرًّا خَفِيَّا!»
وَتَسْمَعُهَا تَقُولُ لَهُ: «شَفِيقُ
بُنَيَّ، لَقَدْ أَضَلَّتْكَ الطَّرِيقُ
فَهَلْ نَبَّهْتَ قَلْبَكَ يَا بُنَيَّا؟
جَمِيلٌ، يَا وَحِيدِي، أَنْ تُحِبَّا
وَتَرْفَعَ لِلْهَوَى عَيْنًا وَقَلْبَا
وَتَسْمَعَ مِنْهُ أَنْغَامًا عِذَابًا
وَتَشْرَبَ مِنْ يَدَيْهِ المَاءَ عَذْبَا
لَقَدْ أَحْسَسْتُ قَبْلَكَ بِاضْطِرَابٍ
وَقَاسَيْتُ الهَوَى سَهْلًا وَصَعْبَا
وَلَكِنْ لَيْسَ يَنْدَمُ مَنْ تَأَنَّى
فَغَلْوَا، يَا ابْنِ، أَكْبَرُ مِنْكَ سِنَّا
إِذَا رَضِيَ الهَوَى فَالعُمْرُ يَأْبَى
تَأَنَّ فَسَوْفَ تَهْوَى مَنْ تُرِيدُ
وَتَهْوَاكَ العَذَارَى وَالوُرُودُ
فَمِثْلُكَ لَا يُجَاوِرُهُ قُنُوطٌ
وَمِلْءُ شَبَابِهِ عَقْلٌ رَشِيدُ
أَمَامَكَ، يَا ابْنِ، أَعْوَامٌ طِوَالٌ
وَمِنْ زَهَرِ الهَوَى عَدَدٌ عَدِيدُ
تَأَنَّ فَسَوْفَ تَقْطُفُ مِنْهُ زَهْرَهُ
تَكُونُ أَشَدَّ مِنْ غَلْوَاءَ نُضْرَهْ
يُبَارِكُ عِطْرَهَا العَهْدُ الجَدِيدُ»
فِيُطْلِقُ زَفْرَةَ التَّعِسِ الكَئِيبِ
وَيَغْرَقُ فِي دُجَى فِكْرٍ غَرِيبِ
وَيَذْهَبُ لَا يُجِيبُ … وَفِي هَوَاهُ
لَظَى شَكٍّ أَشَدُّ مِنَ اللَّهِيبِ
وَكَيْفَ يُجِيبُ أُمًّا جَفَّ فِيهَا
عُصَارُ الحُبِّ فِي عَهْدِ الغُرُوبِ
أَيَا أُمِّي، اصْرِفِي ذِي الكَأْسَ عَنِّي
فَمَا في الحُبِّ شَأْنٌ للتَّأَنِّي
وَمَا لِلْعُمْرِ شَأْنٌ في القُلُوبِ
وَيَذْهَبُ لا يُجِيبُ … وفي هَوَاهُ
مِنَ الأَشْجَانِ مَا يُضْنِي قِوَاهُ
دَعِي، يَا أُمِّ، زَهْرَ النَّاسِ يَبْسِمُ
وَيَنْشَقْ في الوَرَى غَيْرِي شَذَاهُ
فَلِي في جَنَّةِ الأَشْوَاكِ زَهْرٌ
غَرِيبُ اللَّوْنِ لَا أَرْضَى سِوَاهُ!
… … … … … …
… … … … … …
… … … … … …
٢
وَشُفِيَتْ غَلْوَاءُ مِنْ آلَامِهَا
لكِنَّهَا لَمْ تَشْفَ مِنْ أَوْهَامِهَا!
… … … … … …
… … … … … …
… … … … … …
… … … … … …
صُبَابَةُ اللَّيْلِ عَلَى الهِضَابِ
تَزْحَفُ زَحْفَ الهَارِبِ المُرْتَابِ
سَاحِبَةً وِشَاحَهَا الرَّمَادِي
عَنْ جَسَدِ الأَعْشَابِ وَالأَوْرَادِ
وَبَرَزَتْ جَوَاذِبُ السُّهُولِ
عَارِيَةً، بِلَحْظِهَا الخَجُولِ
وَانْتَعَشَتْ حُشَاشَةُ النَّسِيمِ
فَارْتَعَشَتْ في وَرَقِ الكُرُومِ
وَذَوَّبَتْ أَبْخِرَةُ الأَنْوَارِ
في الصُّبْحِ أَلْوَانًا عَلَى الأَطْيَارِ
بَرَاعِمُ الزَّهْرِ عَلَى الآكَامِ
تَبَسُّمُ الرَّبِيعِ للأَيَّامِ
وَنَغَمُ الجَدَاوِلِ الرَّقْرَاقَهْ
تَمْتَمَةُ الطَّبِيعَةِ المُشْتَاقَهْ
مَنْ يَا تُرَى يَكُونُ هَذَا الوَلَدُ؟
في مُقْلَتَيْهِ حُلُمٌ مُشَرَّدُ
كَأَنَّهُ في جِسْمِهِ الضَّعِيفِ
وُرَيْقَةٌ مِنْ وَرَقِ الخَرِيفِ
لَا حُبُّهُ يحلو وَلَا الرَّبِيعُ
فَقَلْبُهُ وَعَيْنُهُ دُمُوعُ!
٣
أَطَلَّتْ مِنَ الشُّبَّاكِ وَاللَّيْلُ نَيِّرُ
فَأَبْصَرَتِ الأَوْرَاقَ تُطْوَى وَتُنْشَرُ
يَغِيبُ ضِيَاءُ البَدْر عَنْهَا فَتَخْتَفِي
وَيَظْهَرُ مِنْ بَيْنِ السَّحَابِ فَتَظْهَرُ
فَقالَتْ: «أَفِي البُسْتَانِ رِيحٌ لَطِيفَةٌ
تُبَرِّدُ في نَفْسِي لَظًى يَتَسَعَّرُ
أَفِيهِ خَيَالَاتٌ أَحَنُّ مِنَ الوَرَى
تُبَدِّدُ عَنِّي بَعْضَ مَا أَتَذَكَّرُ!»
وَخَفَّتْ إلَيْهِ، وَارْتِعَاشَةُ جِسْمِهَا
يُلَوِّنُهَا البَدْرُ الحَيِيُّ المُصَوِّرُ
فَصَادَفَ جَفْنَاهَا الكَسِيرَانِ جَدْوَلًا
تَخَلَّلَ مَجْرَاهُ سُرَادِقُ أَخْضَرُ
وَقَدْ طَفَتِ الأَزْهَارُ فَوْقَ مِيَاهِهِ
كَحُلْمٍ نَقِيِّ اللَّوْنِ يَأْتِي وَيَعْبُرُ
وَفي حِينِ كَانَتْ تُرْسِلُ الفِكْرَ في الدُّجَى
وَفي نَفْسِهَا مَاضٍ يَمُدُّ وَيَجْزُرُ
تَرَاءَتْ لِعَيْنَيْهَا طُيُوفٌ مُخِيفَةٌ
تَمُجُّ كَأَفْوَاهِ الأَفَاعِي وتصفِرُ!
وَعَادَتْ لِمَأْوَاهَا لَدُنْ عَادَ رُشْدُهَا
إِلَيْهَا، وَفي الأَجْفَانِ يَأْسٌ وأَدْمُعُ
وَأَلْقَتْ بِأَيْدِي النَّوْمِ مَخْمُورَ رَأْسِهَا
فَجَاوَرَ عَيْنَيْهَا كَرًى مُتَقَطِّعُ
تَمُرُّ بِهِ الأَحْلَامُ خَاوِيَةَ الحَشَا
جِيَاعٌ تُزَجِّيهَا طَوَائِفُ جُوَّعُ
جِيَاعٌ يُؤَدِّيهَا الخَوَاءُ إِلَى الكَرَى
فَتَأْكُلُ أَفْلَاذَ العُيُونِ وَتَشْبَعُ
رُمُوزُ هَوًى يَسْتَرْفِدُ القَلْبَ بُلْغَةً
إِذَا جَاعَ، أَوْ يُهْوِي عَلَيْهِ فَيَبْضَعُ
وَلَمَّا طَوَى اللَّيْلُ النَّجِيُّ وِشَاحَهُ
وَجَاءَ سَفِيرٌ لِلصَّبَاحِ يُشَيِّعُ
أَفَاقَتْ، وَقَدْ لَاشَى لَهِيبَ شُجُونِهَا
سَمَاعُ طُيُورٍ في الحَدِيقَةِ تَسْجَعُ،
كَمِجْمَرةٍ أَفْنَتْ مَدَى اللَّيْلِ نَارَهَا
فَمَا حَشْوُهَا إِلَّا رَمَادٌ مُجَمَّعُ
وَرَنَّ صَدَى الأَجْرَاسِ في كَبِدِ الضُّحَى
يُهِيبُ بِأَرْوَاحِ التُّقَاةِ فَتُسْرِعُ
فَقَالَتْ: «لَعَلَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَتِي
فَمَا لِيَ في الدُّنْيَا سِوَى اللهِ مَرْجِعُ»
٤
النَّاسُ في المُعْتَكَفِ المُقَدَّسِ
يُعْلُونَ للهِ بَخُورَ الأَنْفُسِ
وَللنُّفُوسِ صَوْتُهَا المَسْمُوعُ
وَأَذْرُعُ العَجَائِزِ المُرْتَجِفَهْ
كَأَنَّهَا مَسَارِجٌ مُنْعَكِفَهْ
جَفَّتْ عَلَى قِمَّتِهَا الشُّمُوعُ
•••
وَصَلَوَاتُ الكَاهِنِ القِدِّيسِ
تُذِيبُ رُوحَ اللهِ في النُّفُوسِ
قَالَ بِصَوْتٍ خَافِتٍ: «أَبَانَا
أَنْزِلْ عَلَى شُعُوبِكَ الغُفْرَانَا!»
إِذَا بِغَلْوَا كَضَمِيرِ الجَانِي
تَجْمُدُ عِنْدَ لَفْظَةِ الغُفْرَانِ
وَتَخْفِضُ الرَّأْسَ إِلَى الحَضِيضِ
ذَارِفَةً مِنْ جَفْنِهَا المَرِيضِ
بَعْضَ دُمُوعٍ كَالعَفَافِ بِيضِ
وَالعَرَقُ البَارِدُ مِنْ جَبْهَتِهَا
يَرْشَحُ كَاللَّهِيبِ مِنْ مُهْجَتِهَا
أَوْ كَمُذَابِ القَلْبِ مِنْ تَوْبَتِهَا
وَكَانَ في إِحْدَى زَوَايَا الهَيْكَلِ
مُخْتَطَفَ الرُّوحِ شَرِيدَ المُقَلِ
ذُو النَّظَرِ المُخَدَّرِ المُشْتَعِلِ
•••
فَبَدَرَتْ مِنْ عَيْنِهِ الْتِفَاتَهْ
إِلَى المُصَلَّى فَرَأَى فَتَاتَهْ
غَلْواءَ ذَاتَ الأَلَمِ السرِّيِّ
ذَاتَ الضَّمِيرِ التَّعِبِ الشَّقِيِّ
ذَاتَ الهَوَى المُدَنَّسِ النَّقِيِّ
تَقْرَأُ في كِتَابَها الصَّغِيرِ
كَأَنَّهَا تَقْرَأُ في ضَمِيرِ
مُعَذَّبٍ مُلْتَهِبِ السُّطُورِ
وَتَارَةً تَرْفَعُ عَيْنًا سَاهِيَهْ
إِلَى البَخُورِ المُتَلَاشِي
في سَمَاءِ الزَّاوِيَهْ
فَتَتَلَاشَى مِثْلَهُ أَنْفَاسُهَا
في خَلَجَاتٍ وَارْتِعَاشِ
مِثْلَ ارْتِعَاشَاتِ الفَرَاشِ
في الجَوِّ حِينَ تَنْتَهِي أَعْرَاسُهَا
أَوْ كَالضَّبَابِ في مَسَا الخَرِيفِ
يَنْحَلُّ في ارْتِعَاشِهِ الخَفِيفِ
فَقَالَ: «مَا تَخْشَى تُرَاهَا، مَا بِهَا
يَغْمُرُهَا طَوْرًا دُجَى اضْطِرَابِهَا،
وَتَارَةً تُعْرِضُ عَنْ كِتَابِهَا؟»
وَانْتَهَتِ الصَّلَاهْ
في هَيْكَلِ الإِلَهْ
فَانْصَرَفَ الجُمْهُورْ
وَبَقِيَتْ غَلْوَاءُ
وَالهَمُّ وَالشَّقَاءُ
في المَعْبَدِ المَهْجُورْ
كَشَمْعَةٍ لَمَّا تَزَلْ مُضَوَّأَهْ
بَيْنَ شُمُوعِ الهَيْكَلِ المُنْطَفِئَهْ
٥
كَانَ شَفِيقٌ لَمْ يَزَلْ مُخْتَلِي
في الجِهَةِ اليُسْرَى مِنَ الهَيْكَلِ
مُفَكِّرًا في حُبِّهِ المُقْفَلِ
يُسَائِلُ القَلْبَ فَلَا يَنْطِقُ
وَالقَلْبُ سِرٌّ في الهَوَى يَخْفِقُ
فَمُذْ رَأَى فُلَّتَهُ الذَّاوِيَهْ
غَلْوَاءَ ذَاتَ الكَبِدِ الدَّامِيَهْ
بَاقِيَةً تَضْرَعُ في الزَّاوِيَهْ
قَالَ: «أَفِقْ يَا حُبُّ مِنْ هَجْعَتِكْ
فَسَيِّدُ الآلَامِ في بَيْعَتِكْ
أَحَبَّ حَتَّى مَرْيَمَ الزَّانِيَهْ!»
ثُمَّ دَنَا مِنْهَا وَفي مُقْلَتِهْ
دَمْعٌ يَطُوفُ الحُبُّ في مَوْجَتِهْ
كَحِطْمَةٍ تُقْذَفُ مِنْ مُهْجَتِهْ
فَانْتَفَضَتْ غَلْوَاءُ مِنْ ذُعْرِهَا
وَثَارَتِ الأَنْفَاسُ في صَدْرِهَا
كَأَنَّهَا البُرْكَانُ في ثَوْرَتِهْ
فَقَالَ: «عَفْوًا، هَذِهِ أَدْمُعِي
تَشْفَعُ، يَا غَلواءُ، بِي فَاشْفَعِي
قَطرتُهَا مِنْ قَلْبِيَ المُوجَعِ
تَحْمِلُ في مَوْجَاتِهَا مِنْ دَمِي
حَدِيثَ حُبٍّ لَمْ يَرِدْ مِنْ فَمِ
وَلَمْ يَقَعْ مِنْ قَبْلُ في مِسْمَعِ
أَمَامَ هَذَا الهَيْكَلِ الأَطْهَرِ
أَمَامَ عَيْنِ البَائِسِ الأَكْبَرِ
أَمَام شَمْعِ المَعْبَدِ الأَصْفَرِ
وَهَذِهِ الأَشِعَّةِ الذَّائِبَهْ
مِنْ فِلْذَةِ الغَزالَةِ الشَّاحِبَهْ
عَلَى رُخَامِ المَذْبَحِ النَيِّرِ
أَمَامَ أَوْجَاعِي، أَمَامَ الأَلَمْ
أَمَامَ هَذَا الضعْفِ، هَذَا السَّقَمْ
وَهَذِهِ العَيْنِ الَّتِي لَمْ تَنَمْ
أَطْرَحُ قَلْبِي للْهَوَى مِجْمَرَهْ!»
فَغَمْغَمَتْ غَلْوَاءُ: «مَا أَكْفَرَهْ
هَذَا الهَوَى! يَمْضِي وَيَأْتِي النَّدَمْ»
وَحَدَّقَتْ حِينًا إِلَى المُغْرَمِ
وَقَلْبُهَا في صَدْرِهَا المُظْلِمِ
يَمْشِي مِنَ الآلَامِ في مَأْتَمِ
ثُمَّ أَمَالَتْ عَيْنَهَا السَّاهِيَهْ
عَنْ عَيْنِهِ الكَئِيبَةِ البَاكِيَهْ
وَاسْتَغْرَقَتْ في حُلُمٍ مُبْهَمِ
فَقَالَ: «لَا، لَا تُعْرِضِي فَالشَّقَا
أَرَادَ، يَا غَلْوَاءُ، أَنْ أُخْلَقَا
أَنْ أَعْرِفَ الحُبَّ وَأَنْ أَعْشَقَا
فَأَيُّ سِرٍّ في دُجَاكِ اسْتَتَرْ
تُفْشِيهِ عَيْنَاكِ لِهَذِي الصُّوَرْ
وَعَنْ فُؤَادِي لَمْ يَزَلْ مُغْلَقَا؟»
وَلَمْ يَكَدْ يَصْمُتُ حَتَّى سَجَدْ
قُدْسُ الهَوَى مَا ذَلَّ فِيهِ أَحَدْ
فَالحُبُّ، لَا كُفْرَ، إِلَهٌ صَمَدْ
كَأَنَّ في مُقْلَتِهَا هَيْكَلَهْ
يَرَى عَلَيْهِ سَيِّدَ الجَلْجَلَهْ
يَفْتَحُ لِلْحُبِّ جِرَاحًا جُدَدْ
وَقَالَ: «غَلْوَاءُ، هُنَا مَعْبَدِي
في صَدْرِكِ المُنْطَفِئ المُوقَدِ
وَعَيْنِكِ الغَرْقَى بِبَحْرِ الغَدِ»
وَصَادَفَتْ مُقْلَتُهُ المَذْبَحَا
عَلَيْهِ ذَيْلٌ مِنْ شُعَاعِ الضُّحَى
وَصُورَةَ العَذْرَا فَقَالَ: «اشْهَدِي!»
قَالَ: «اشْهَدِي، إِنَّ الهَوَى يَشْهَدُ
يَا صُورَةً لِمَرْيَمٍ تُعْبَدُ
يَا مَوْقِدًا لِلْحُبِّ لا يَخْمَدُ»
… … … … … …
… … … … … …
… … … … … …
الحُبُّ نِيرَانٌ تُنِيرُ السَّمَا
فَتُرْسِلُ النُّورَ لَنَا كُلَّمَا
حَانَ مَعَ اللهِ لَنَا مَوْعِدُ
أَشِعَّةٌ مِنْ مُقْلَةِ الخَالِقِ
تَذُوبُ في الأَكْبَادِ مِنْ حَالِقِ
فَتَمْزُجُ الخَالِقَ بِالعَاشِقِ
وَاللهُ مَا أَبْدَعَ قَلْبَ البَشَرْ
حَتَّى يَظَلَّ خَامِدًا كَالحَجَرْ
فَالنَّارُ في عُنْصُرِهِ الخَافِقِ
قَالَ لهَا: «قَلْبُكِ، مَا أَفْجَعَهْ!
اللهَ مَا أَقْسَاهُ! مَا أَوْجَعَهْ!
تَكَلَّمِي، أَوَدُّ أَنْ أَسْمَعَهْ
أَوَدُّ أَنْ أَحْنِي لَهُ أَضْلُعِي
قَوْسًا مِنْ الحُبِّ فيَبْقَى مَعِي
مَا بَقِيَ العُمْرُ، وَأَبْقَى مَعَهْ
أَوَدُّ أَنْ أَفْرُشَ عَيْنَيَّ لَهْ
هَذَا دَمِي أَوَدُّ أَنْ يَأْكُلَهْ
إِنَّ الهَوَى يُهَوِّنُ الجَلْجَلَهْ
لَيْسَ الهَوَى، يَا أُخْتَ رُوحِي، سِوَى
قُرْبَانَةِ الأَرْوَاحِ، لَيْسَ الهَوَى …»
فَغَمْغَمَتْ غَلْوَا: «سِوَى مَهْزَلَهْ»
وَغَادَرَتْهُ في أَسًى مُوغِلِ
مِنْ مُشْكِلٍ يُزْجَى إِلَى مُشْكِلِ
كَمُدْلِجٍ في لَيْلِهِ الأَلْيَلِ
فَقَالَ: «هَذَا الحُبُّ مَنْ أَنْزَلَهْ؟»
فَرَنَّ في مِسْمَعِهِ: «المَهْزَلَهْ!»
وَرَجَّعَتْهَا قُبَّةُ الهَيْكَلِ!