العهد الثالث
التجلِّي
١
اجْرَحِ القَلْبَ وَاسْقِ شِعْرَكَ مِنْهُ
فَدَمُ القَلْبِ خَمْرَةُ الأَقْلَامِ
مَصْدَرُ الصِّدْقِ في الشُّعُورِ هُوَ القَلْبُ
وَفي القَلْبِ مَهْبَطُ الإِلْهَامِ
وَإِذَا أَنْتَ لَمْ تُعَذَّبْ وَتَغْمِسْ
قَلَمًا في قَرَارَةِ الآلَامِ
فَقَوَافِيكَ زُخْرُفٌ وَبَرِيقٌ
كَعِظَامٍ في مَدْفَنٍ مِنْ رُخَامِ
وَإِذَا القَلبُ لَمْ يُرَقَّقْ بِحُبٍّ
حَجَّرَتْهُ ضَغَائِنُ الأَيَّامِ
وَالهَوَى دُونَ أَكْبُدٍ لَيْسَ يَحْيَا
فَغِذَاءُ الهَوَى مِنَ الأَجْسَامِ
ضَحِّ بِالقَلْبِ إِنْ هَوِيتَ فَلَيْسَ
القَلْبُ إِلَّا وَلِيمَةً لِلْغَرَامِ
يَا لَهَا في الهَوَى وَلِيمَةَ قَلْبٍ
سَوْفَ يَبْقَى لَهَا صَدًى في الأَنَامِ
وَاشْقَ مَا شِئْتَ فَالشَّقَا مُحْرَقَاتٌ
صَعِدَتْ مِنْ مَذَابِحِ الأَرْحَامِ
رُبَّ جُرْحٍ قَدْ صَارَ يُنْبُوعَ شِعْرٍ
تَلْتَقِي عِنْدَهُ النُّفُوسُ الظَّوَامِي
وَزَفِيرٍ أَمْسَى، إِذَا قَدَّسَتْهُ الرُّوحُ،
ضَرْبًا مِنَ أَقْدَسِ الأَنْغَامِ
وَعَذَابٍ قَدْ فَاحَ مِنْهُ بَخُورٌ
خَالِدٌ في مَجَامِرِ الأَحْلَامِ
… … … … … …
… … … … … …
قَطَفَ الهَمُّ وَالأَسَى زَهَرَاتٍ
نَبَتَتْ في ضِفَافِ نَبْعِ الدُّمُوعِ
وَجَنَى البُؤْسُ بَعْضَ أَشْوَاكِ وَرْدٍ
عَطَفَتْهَا الصَّبَا عَلَى اليَنْبُوعِ
وَإِذَا بِالغَرَامِ يَضْفِرُ مِنْهَا
لِشَفِيقٍ إِكْلِيلَ قَلْبٍ وَجِيعِ
وَتَرَاءَتْ مَلَائِكٌ لِشَفِيقٍ
في ثَنَايَا غَمَامَةٍ بَيْضَاءِ
وَاكَبَتْهَا مِنَ السَّمَاءِ عَذَارَى
طَاهِرَاتٌ كَأَدْمُعِ الشُّعَرَاءِ
حَامِلَاتٌ عَلَى الصُّدُورِ حُلِيًّا
كَمَصَابِيحَ أُشْعِلَتْ في السَّمَاءِ
أَوْ عَنَاقِيدَ أَنْضَجَتْهَا شُمُوسُ الحُبِّ
في عَالَمِ الخَيَالِ الرَّفِيعِ
حَيْثُ لَا يَضْمَحِلُّ فَصْلُ الرَّبيعِ
وَتَرَاءَتْ لَهُ سَلَالِمُ حَمْرَاءُ
تَدَلَّتْ أَذْيَالُهَا في الأَثِيرِ
فُرِشَتْ كُلُّ سُلَّمٍ بِوُرُودِ
رَبَطَتْهَا شَفَائِفٌ مِنْ حَرِيرِ
وَعَلَى كُلِّ وَرْدَةٍ قَطَرَاتٌ
شَعَّ مِنْهَا لَمْ أَدِرِ أَيَّ شُعُورِ
فَكَأَنَّ الوُرُودَ جَامَاتُ حُبٍّ
أَوْ قَوَارِيرُ رُصِّعَتْ بِدُمُوعِ
وَطَلَتْهَا السَّمَا بِلَوْنِ النَّجِيعِ
وَتَرَاءَتْ لَهُ جُمُوعُ العَذَارَى
فَوْقَ تِلْكَ السَّلَالِمِ العُلْوِيَّهْ
عَازِفَاتٍ لَهُ مَزَامِيرَ دَاوُدَ
بِكِنَّارَةِ الهَوَى القُدْسِيَّهْ:
«كُلَّ لَيْلٍ، يَا رَبِّ، أَغْمُرُ بِالدَّمْعِ
سَرِيرِي مِنْ أَجْلِ تِلْكَ الخَطِيَّهْ
وَيُمِيعُ الفِرَاشَ مَاءُ عُيُونِي!»
كُنَّ يَعْزِفْنَ وَالصَّدَى في الرَّقِيعِ
كَانَ يَرْقَى إِلَى العلا بِخُشُوعِ
«في قُلُوبِ الوَرَى فَسَادٌ وَلَا صِدْقَ
بِأَفْوَاهِهِمْ، فَفِيهَا شُرُورُ
وَحُلُوقُ الوَرَى قُبُورٌ! …» وَلَمَّا
انْقَطَعَ اللَّحْنُ وَانْتَهَى المَزْمُورُ
سَمِعَ العَاشِقُ المُعَذَّبُ صَوْتًا
رَجَّعَتْ في العلَا صَدَاهُ الخُدُورُ:
«طَهَّرَتْكَ الآلامُ مِنْ كُلِّ رِجْسٍ
وَالهَوَى في فُؤَادِكَ المَوْجُوعِ
وَلَيَالِيكَ في ظَمَأٍ وَجُوعِ
قَدَّسَتْ شُعْلَةُ السَّمَا فَمَكَ الإِنْسِيَّ
فَاحْمَدْ نَارَ السَّمَاءِ وَمَجِّدْ
وَهَوَاكَ الشَّقِيُّ قَدَّسَهُ الدَّمْعُ
فَغَمِّسْهُ بِالدِّمَاءِ وَخَلِّدْ
فَجَّرَ الحُبُّ مِنْ فُؤَادِكَ شِعْرًا
أَيُّهَا البُلْبُلُ الصَّمُوتُ فَأَنْشِدْ!»
… … … … … …
… … … … … …
أَيُّهَا الفَاتِحُونَ في الأَرْضِ طُرًّا
أَيُّهَا الشَّارِبُونَ كَأْسَ الدِّمَاءِ
أَيُّهَا الشَّاخِصُونَ لِلْكَوْنِ سُخْرا
مِنْ خِلَالِ القَذَائِفِ الصَمَّاءِ
وَدِمَاءِ الضِّعَافِ وَالأَبْرِيَاءِ
قَدْ عَرَفْتُم مَجْدَ العُرُوشِ العَظِيمَهْ
وَطَلَيْتُمْ تِيجَانَكُمْ بِاللُّبَانِ
وَعَشِقْتُمْ مِنَ الجَمَالِ نُجُومَهْ
وَارْتَدَيْتُمْ مَطَارِفَ الأُرْجُوَانِ
وَلَعِبْتُمْ بِالدَّهْرِ وَالتِّيجَانِ
ذُقْتُمُ الحُبَّ في مَجَالِي جَمَالِهْ
بَيْنَ رَقْصِ الأَجْسَادِ وَالأَوْتَارِ
وَاغْتَصَبْتُمْ حَتَّى حَرِيمَ خَيَالِهْ
مُذْ شَبِعْتُمْ مِنْ شَهْوَةِ الأَقْذَارِ
شَهْوَةِ الطِّينِ في خُدُورِ السَّرَارِي
وَافْتَتَحْتُمْ مُلْكَ الثَّرَى بِالصَّوَارِمْ
وَسَكِرْتُمْ بِخَمْرَةِ الانْتِصَارِ
وَشَرِبْتُمْ دَمَ الوَرَى بِالجَمَاجِمْ
وَاخْتَصَرْتُمْ صَفَائِحَ الأَعْمَارِ
بِيَرَاعٍ مِدَادُهُ مِنْ نَارِ
ذُقْتُمُ الرَّاحَ في اخْتِلَافِ كُئُوسِهْ
وَتَفَلْتُمْ عَلَى يَدِ العَصَّارِ
مَا تَرَكْتُمْ لِلشَّعْبِ غَيْرَ رُمُوسِهْ
وَظَمَاءِ الأَحْشَاءِ لِلْخَمَّارِ
وَسُقَاطِ الطِّلَى لِبَعْضِ الجَوَارِي
وَعَرَفْتُمْ في المَجْدِ كُلَّ الأَمَاكِنْ
وَقُصَارَى لَذَّاتِهِ الحَمْرَاءِ
وَعَرَفْتُمْ حَتَّى الغُيُوبَ وَلَكِنْ
مَا عَرَفْتُمْ في المَجْدِ نُورَ السَّمَاءِ
مِنْحَةَ الآلِهَاتِ لِلشُّعَرَاءِ!
٢
في لَيْلَةٍ حَالِكَةٍ كَالهُمُومِ
هَابِطَةِ الجَوِّ بِثِقْلِ الغُيُومِ
كَأَنَّهَا قَدْ حُبِلَتْ بِالرُّجُومِ
كَانَ الفَتَى الشَّاعِرُ في مِخْدَعِهْ
يَبْكِي فَيَجْرِي القَلْبُ في أَدْمُعِهْ
شِعْرًا يَعِيهِ الحُزْنُ في مَسْمَعِهْ
وَكَانَتِ الشَّمْعَةُ في حُجْرَتِهْ
تَنْزَعُ كَالمَيِّتِ في سَاعَتِهْ
أَكُلُّ شَيْءٍ مِثْلُهَا لَا يَدُومْ؟
وَكَانَتِ الوَحْدَةُ كَالمَدْفَنِ
مُوحِشَةً في ذَلِكَ المَسْكَنِ
وَقَدْ سَطَا النَّوْمُ عَلَى الأَعْيُنِ
وَاسْتَيْقَظَ الشَّاعِرُ مِنْ سَكْرَتِهْ
وَحَوَّلَ العَيْنَ إِلَى شَمْعَتِهْ
أَنِيسَةِ الأَشْجَانِ في وَحْدَتِهْ
وَبَعْدَ أَنْ مَرَّتْ عَلَيْهِ ثَوَانْ
كَأَنَّهَا مِنْ دَامِيَاتِ الزَّمَانْ
قَالَ بِصَوْتٍ رَاعِشٍ مُحْزِنِ:
«يَا شَمْعَتِي، مَاذَا وَرَاءَ النِّزَاعْ؟
مَا هَذِهِ القَطْرَةُ تَحْتَ الشُّعَاعْ
وَلِمْ أَرَى فيهَا اصْفِرَارَ الوَدَاعْ؟
في دَمْعِكِ الشَّاحِبِ نُورٌ يَذُوبْ
مَاذَا تَقُولِينَ بِهِ لِلْقُلُوبْ؟
لِمْ يَغْمُرُ الشُعْلَةَ هَذَا الشُّحُوبْ؟
أَيَنْتَهِي الحُبُّ كَمَا تَنْتَهِينْ
يَا شَمْعَتِي، يَا مَثَلَ العَاشِقِينْ
لَذَّاتُهُ تَأْتِي وَتَمْضِي سِرَاعْ؟»
•••
وَإِذْ تَلَاشَى نَفَسُ الشَّمْعَةِ
مِثْلَ تَلَاشِي الرُّوحِ في المَيِّتِ
قَالَ الفَتَى الشَّاعِرُ لِلظُّلْمَةِ:
«يَا مَدْفَنَ الأَنْوَارِ مَاذَا وَرَاءْ
هَذَا الدُّجَى الحَالِكِ، هَذَا الغِطَاءْ
مَاذَا وَرَاءَ اللَّيْلِ، هَلْ مِنْ ضِيَاءْ؟
لِمْ يَنْقَضِي اللَّيْلُ وَيَأْتِي السَّحَرْ؟
مَهْزَلَةٌ مِنْ مَهْزَلَاتِ القَدَرْ!»
… … … … … …
… … … … … …
… … … … … …
… … … … … …
في ذَلِكَ اللَّيْلِ العَصِيبِ الطَّوِيلْ
تذَكَّرَ الشَّاعِرُ عَهْدًا جَمِيلْ
لَمْ يَرَ مِنْهُ غَيْرَ شَطْرٍ ضَئِيلْ
إِذْ كَانَ في مَيْعَتِهِ النَّاعِمَهْ
يَحْلُمُ بِالسَّعَادَةِ الدَّائِمَهْ …
خَابَ رَجَاءُ الأَنْفُسِ الحَالِمَهْ!
يَا خَافِقًا، أَللهَ مَا أَوْجَعَكْ!
مَا أَبْخَلَ الدُّنْيَا وَمَا أَطْمَعَكْ!
تُعْطِي وَلَا تُمْنَحُ حَتَّى القَلِيلْ
•••
في ذَلِكَ اللَّيْلِ … وَمَا أَظْلَمَهْ!
ذِكْرُ الصِّبَا في الأَكْبُدِ المُغْرَمَهْ
وَنُورُهُ في اللَّيْلَةِ المُظْلِمَهْ
تَذَكَّرَ الشَّاعِرُ فَجْرَ الشَّبَابْ
وَذَلِكَ الوَادِي وَتِلْكَ الهِضَابْ
وَعَوْدَةَ القُطْعَانِ عِنْدَ الغِيَابْ
وَوَالِدًا مَرَّ مُرُورَ الشَّبَحْ
كَأَنَّهُ يوْمُ صَفَاءٍ سَنَحْ
فَقَالَ: «يَا قَلْبِي، إِلَى الجَلْجَلَهْ
حَمَلْتَ آمَالَ الصِّبَا المُثْقَلَهْ
وَلَمْ تَدَعْ مِنْهَا سِوَى الأَخْيِلَهْ
لِأَجْلِ غَلْوَاءَ وَأَجْلِ العَذَابْ
كَتَبْتِ لِي في الحُبِّ هَذَا الكِتَابْ
يَا شُعْلَةً مَحْجُوبَةً بِالهِضَابْ
يَا قَلْبِ! …»
•••
إِذَا بِهِ، في الحُجْرَةِ المُظْلِمَهْ،
يُصْغِي إِلَى حَشْرَجَةٍ مُؤْلِمَهْ
بَيْنَ خُفُوقِ القَلْبِ وَالتَمْتَمَهْ
وَرَاءَ في قَلْبِ الدُّجَى وَالِدَهْ
يَغِيمُ في شَفَّافَةٍ صَاعِدَهْ
مِنْ صُلْبِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ البَارِدَهْ
كَأَنَّهَا، وَهْيَ تَشُقُّ القَتَامْ،
لَوْحَةُ فَجْرٍ في إِطَارِ الظَّلَامْ
أَوْ وَمْضَةٌ مِنْ شُعْلَةٍ مُبْهَمَهْ
•••
قُدِّسْتِ يَا غَيْبَوبَةَ الشَّاعِرِ
رُؤْيَا كَمَرِّ الحُلُمِ الطَّاهِرِ
أَوْ كَالهَوَى في عَهْدِهِ السَّاحِرِ
قُدِّسْتِ في أَحْلَامِكِ الشَّاحِبَهْ
قُدِّسْتِ في آلَامِكِ الذَّائِبَهْ
في رُوحِكِ الحَاضِرَةِ الغَائِبَهْ
في كُلِّ مَا تَحْمِلُ مِنْكِ العُيُونْ
في سَوْرَةِ الحُبِّ وَسُكْرِ الجُنُونْ
وَفي اخْتِلَاجِ الخَافِقِ الحَائِرِ
في جَوْفِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ البَارِدَهْ
كَأَنَّهَا ضَمَائِرٌ جَاحِدَهْ
تَخْطُرُ فيهَا فِكْرَةٌ حَاقِدَهْ
وَلِلرِّيَاحِ الهُوجِ بَيْنَ الوَرَقْ
عَزْفٌ كَأَنَّ الجِنَّ فيه زَعَقْ
فَمَزَّقَ الأَرْوَاحَ ثُمَّ انْطَلَقْ
تَحَرَّكَ اللَّيْلُ وَقَالَ الخَيَالْ:
«مَنْ لَيْسَ يَبْكِي في اللَّيَالِي الطوَالْ
وَلَا يُدَمِّي المُقْلَةَ السَّاهِدَهْ
مَنْ لَمْ يَذُقْ في الخُبْزِ طَعْمَ الأَلَمْ
وَلَمْ يُنَكِّرْ وَجْنَتَيْهِ السَّقَمْ
وَتَسْلُخِ الأَوْجَاعُ مِنْهُ حِطَمْ
مَنْ لَا يَرَى في الشَّمْسِ طَيْفَ الغُرُوبْ
وَيَسْمَعُ اللَّيْلَ اخْتِلَاجَ القُلُوبْ
وَيَرْصُدُ الشَّمْعَةَ حَتَّى تَذُوبْ
مَنْ لَمْ يُغَمِّسْ في هَوَاهُ دَمَهْ
مَنْ يَمْنَعِ الأَهْوَالَ أَنْ تُطْعِمَهْ
وَلَا يَرَى في كُلِّ جُرْحٍ حِكَمْ
مَنْ لَيْسَ يَرْقَى ذُرْوَةَ الجَلْجَلَهْ
وَلَمْ يُسَمِّرْ في الهَوَى أُنْمُلَهْ
وَيُرْفَعِ العَلْقَمُ وَالخَلُّ لَهْ
مَنْ يَصْرِفِ العُمْرَ عَلَى المَخْمَلِ
وَلَا يَذُوقُ البُؤْسَ في الأَوَّلِ!
وَلَا الأَسَى في مِخْدَعٍ مُقْفَلِ
لَنْ يَعْرِفَ العُمْرَ شُعَاعَ الإِلَهْ
وَلَنْ يَرَى آمَالَهُ في رُؤَاهْ
بَلْ عَالَمًا يَخْبِطُ في مَهْزَلَهْ!»
•••
وَانْسَحَبَ الطَّيْفُ إِلَى ظُلْمَتِهْ
يَجُرُّ بِالأَذْيَالِ مِنْ وَمْضَتِهْ
عَيْنَ الفَتَى الغَرْقَى بِغَيْبُوبَتِهْ
حَتَّى إِذَا سَادَ السُّكُونُ المُخِيفْ،
وَكَانَ في الخَارِجِ صَوْتُ الحَفِيفْ
يَعْلُو شَدِيدًا مِنْ غُصُونِ الخَرِيفْ،
أَفَاقَ مِنْ سَكْرَتِهِ الشَّاعِرُ
وَقَالَ: «هَلْ يُرْجَى لَهُ آخِرُ
هَذَا الدُّجَى الغَارِقُ في ثَوْرَتِهْ؟
•••
قَدْ يَحْمِلُ الفَجْرُ عَزَاءً إِلَي
إِنْ حَمَلَ النُّورَ إِلَى مُقْلَتَي
فَاللَّيْلُ قَدْ أَخْنَى عَلَى كَاهِلَي
يُخِيفُنِي اللَّيْلُ بِأَرْوَاحِهِ
ثَائِرَةً كَالهَوْلِ في سَاحِهِ
وَبِالرُّؤَى مِنْ بِيضِ أَشْبَاحِهِ
لا أَنْشُدُ البُؤْسَ وَلَا أَرْغَبُ
في حَمْلِ حُبٍّ قَوْمُهُ عُذِّبُوا
فَالحُبُّ في الآلَامِ ثِقْلٌ عَلَي
يُخِيفُنِي في مِخْدَعِي البَارِدِ
خَيَالُ حُبٍّ مُبْهَمٍ جَامِدِ
أَبْكَمَ كَالأَرْمَاسِ، يَا وَالِدِي
يُخِيفُنِي اللَّيْلُ فَأَيْنَ السَّحَرْ
يَطْرُدُ مِنْ عَيْنَيَّ هَذِي الصُّوَرْ
وَمَا عَلَيْهَا مِنْ شَقَاءِ البَشَرْ؟»
… … … … … …
… … … … … …
كَانَ الدُّجَى لَمَّا يَزَلْ ثَائِرَا
وَالرِّيحُ تُدْمِي الأُفُقَ المَاطِرَا
بِالبَرْقِ، جُرْحِ المَلَإِ الخَالِدِ
كَأَنَّ لِلَّيْلِ هَوًى حَائِرا
ذَاقَ الأَسَى فَلَمْ يَزَلْ سَاهِرا