العهد الرابع
الغفران
١
مَضَتْ أَشْهُرٌ نُذِرَتْ لِلْمَطَرْ
وَأَظْلَمَ فيها المَسَا وَالسَّحَرْ
وَأَقْبَلَ نَوَّارُ عُرْسُ الطَّبِيعَةِ
يَضْحَكُ في وَرَقَاتِ الشَّجَرْ
يُدَغْدِغُ بِالطَّلِّ عُشْبَ الحُقُولِ
وَيَطْبَعُ أَلْوَانَهُ في الزَّهَرْ
وَيَبْنِي عَلَى الهَضَبَاتِ مَتَاحِفَ
تَسْخَرُ مِنْ هَذَيَانِ البَشَرْ
كَأَنَّ عَبَاقِرَةَ الجِنِّ فيها
سَكَنَّ وَعَلَّقْنَ تِلْكَ الصُّوَرْ
فَخَفَّ الشَّبَابُ نَدِيَّ الحَيَاةِ
يَسْتَقْبِلُ الحُلُمَ المُنْتَظَرْ
عَلَى ثَغْرِهِ بَسَمَاتُ الرَّبِيعِ
وَفي قَلْبِهِ بَسَمَاتٌ أُخَرْ
… … … … … …
… … … … … …
وَفي يَوْمِ عِيدٍ نَقِيِّ السَّمَاءِ
كَأَنَّ السَّمَا صَفْحَةٌ مِنْ سُوَرْ
أَطَلَّ شَفِيقٌ عَلَى الهَضَبَاتِ
فَرَاءَ الشَّبَابَ عَلَيْهَا انْتَشَرْ
وَأَبْصَرَ غَلْوَاءَ بَيْنَ الزُّهُورِ
كَحَوَّاءَ بَيْنَ شَهِيِّ الثَّمَرْ
تُسَرِّحُ في عَدْنِهَا نَظَرَاتٍ
عَرَفْنَ أَزَاهِيرَ خَيْرٍ وَشَر
وَقَدْ لَبِسَتْ ثَوْبَهَا الزَّنْبَقِي
عَلَيْهِ نَسِيجٌ بِلَوْنِ الخُضَرْ
وَأَلْقَتْ عَلَى العُشْبِ جِسْمًا هَزِيلًا
كَغُصْنٍ مِنْ اليَاسَمِينِ انْكَسَرْ
فَخَفَّ إِلَيْهَا وفيه عَذَابٌ
بَدَا مِنْهُ في مُقْلَتَيْهِ أَثَرْ
وَقَالَ: «لَقَدْ خَلَعَ الحَقْلُ عَنْهُ
رِدَاءَ الشِّتَاءِ وَغَطَّى الحَجَرْ
وَأَلْقَى عَلَيْهِ الرَّبِيعُ وِشَاحًا
جَمَالُ الطَّبِيعَةِ فيهِ انْحَصَرْ
فَهَلَّا خَلَعْتِ رِدَاءَ اللَّيَالِي
وَأَلْبَسْتِ رُوحَكِ ثَوْبَ البُكَرْ
وَهَلَّا تَشَبَّهْتِ بِاليَاسَمِينِ
فَمَا كَادَ يُحْجَبُ حَتَّى ظَهَرْ
لَقَدْ غَسَلَتْ بَسَمَاتُ الزُّهُورِ
ذُنُوبَ الشِّتَاءِ الكَفِيفِ البَصَرْ
وَعَادَ العَفَافُ إِلَى الهَضَبَاتِ
فَفي كُلِّ غَرْسٍ فُؤَادٌ غَفَرْ»
فَقالَتْ: «أُحَاوِلُ أَنْ أَتَنَاسَى
زَمَانًا مَضَى وَخَيَالًا عَبَرْ!»
فَقَالَ: «وَمَاذَا يُمَثِّلُ هَذَا الخَيَالُ؟»
فَقَالَتْ: «غَرَامًا عَثَرْ»
فَقَالَ وَقَدْ جَحَظَتْ مُقْلَتَاهُ:
«وَهَذَا؟» فَقَالَتْ: «حَبِيبًا غَدَرْ»
وَهذا الحَبِيبُ؟ غَفَرْتُ لَهُ
وَيَعْفُو إِلَهُكَ عَمَّا بَدَرْ
غَفَرْتُ كَمَا غَفَرَتْ في الرَّبِيعِ
زُهُورُ الرُّبَى لِشِتَاءٍ كَفَرْ
وَلَكِنَّ بِي نَدَمًا كَاللَّهِيبِ
يُرِينِي الحَيَاةَ خِلَالَ الشَّرَرْ
وَكَانَ النَّسِيمُ يَهُزُّ الغُصُونَ
فَتَنْشُرُ في الجَوِّ عِطْرَ الزُّهُورْ
كَأنَّ العُطورَ خَطَايَا عَذَارَى
حَلَمْنَ بأثْمَارِهَا في الخُدُورْ
وَلَمَّا أَفَقْنَ اعْتَرَفْنَ بِهَا
وَقَدْ هَزَّهُنَّ الضَّمِيرُ الطَّهُورْ
وَكَانَ المَسَاءُ عَلَى الهَضَبَاتِ
يَنْفِثُ أَشْبَاحَهُ في فُتُورْ
وَشَمْسُ المَغِيبِ تُعِيرُ الظِّلَالَ
أَلْوَانَهَا في مَطَاوِي الصُّخُورْ
فَقَالَ شَفِيقٌ، وَفِي قَلْبِهِ
رَجَاءٌ يَمُوتُ وَحُبٌّ يَثُورْ:
«عَشِقْتُكِ، يَا غَلْوَ، عِشْقًا نَمَا
شَقِيَّ الرُّؤَى في شَوَاطِئِ صُورْ
وَكُنْتِ مِنَ الدَّاءِ في نَشْوَةٍ
تُرِيكِ الحَيَاةَ ظَلَامًا وَنُورْ
جَهِلْتِ الهَوَى فَنَكَرْتِ الرَّبِيعَ
وَقَدْ تَنْكُرِينَ نُمُوَّ البُذُورْ
وَمَنْ لَمْ يُقَدَّرْ لَهُ أَنْ يَشُمَّ
يَنْكُرُ حَتَّى أَرِيجَ العُطُورْ»
فَقَالَتْ: «صَدَقْتَ وَلَكِنَّنِي
أُحِسُّ بِقَلْبِي جَفَافَ الجُذُورْ
فَأَنْتَ تَرَى في الرَّبِيعِ الجَمَالَ
وَأُبْصِرُ أَزْهَارَهُ كَالبُثُورْ
وَتُبْصِرُ في الزَّهْرِ لَوْنَ الحَيَاةِ
وَأُبْصِرُ في الزَّهْرِ لَوْنَ القُبُورْ»
٢
… … … … … …
… … … … … …
… … … … … …
… … … … … …
وَأَهْوَى عَلَى صَدْرِهَا بَاكِيًا
وَأَهْوَتْ عَلَى رَأْسِهِ بَاكِيَهْ
وَمَا هِيَ إِلَّا دَقَايِقُ حَتَّى
تَلَاشَتْ رُؤَى نَفْسِهَا الدَّامِيَهْ
فَأَدْنَتْ إِلَى ثَغْرِهِ ثَغْرَهَا
عَلَى مَشْهَدٍ مِنْ تُقَى الرَّابِيَهْ
عَلَى مَشْهَدٍ مِنْ نَقَاءٍ الزُّهُورِ
العَذَارَى وَمِنْ عِفَّةِ السَّاقِيَهْ
•••
وَإِذْ صَعِدَ البَدْرُ خَلْفَ الجِبَالِ
وَذَابَ عَلَى الرَّبْوَةِ العَالِيَهْ
وَهَوَّمَتِ الطَّيْرُ بَيْنَ الغُصُونِ
لِتَحْلُمَ أَحْلَامَهَا الصَّافِيَهْ
وَلَمْ يَبْقَ يُسْمَعُ في الحَقْلِ إِلَّا
تَنَهَّدُ شَبَّابَةِ الرَّاعِيَهْ
أَفَاقَ الحَبِيبَانِ مِنْ سَكْرَةِ الدُّمُوعِ
إِلَى سَكْرَةٍ ثَانِيَهْ
وَظَلَّا مِنَ السُّكْرِ في نَزَوَاتٍ
تُطَهِّرُهَا عِفَّةٌ بَاقِيَهْ
إِلَى أَنْ دَنَا مَوْعِدٌ لِلْفِرَاقِ
وَاصْفَرَّتِ الأَنْجُمُ السَّاهِيَهْ
كَأَنَّ النُّجُومَ الضَّئِيلَةَ في الأُفْقِ
رَشْحُ خُمُورٍ عَلَى خَابِيَهْ
كَأَنَّ النُّجُومَ زَفِيرُ خَطَايَا
تُصَعِّدُهُ لَيْلَةٌ زَانِيَهْ
٣
«أَشِعَّةٌ مِنْ مُقْلَتَيْكَ مُلْهِبَهْ
يَا أَلَمِي، تَجْعَلُ نَفْسِي طَرِبَهْ
أَشْرِقْ عَلَى قَلْبِي بَهِيًّا نَيِّرا
فَيُورِقَ الشَّوْكُ بِهِ وَيُزْهِرا
يَا هَيْكَلًا كُهَّانُهُ القُلُوبُ
بَخُورُهُ الأَدْمُعُ وَالشُّحُوبُ
أَسْمَعُ أَجْرَاسَكَ مِنْ بَعِيدِ
فَهِيَ تُنَادِينِي إِلَى السُّجُودِ!»
وَدَقَّ نِصْفُ اللَّيْلِ في السُّكُونِ
فَاخْتَلَجَ الشَّاعِرُ كَالظُّنُونِ
وَقَالَ: «إِنَّ تَعَبَ الضَّمِيرِ
يَصْعَدُ مِنْ مَجَاهِلِ القُبُورِ
يا لَيْلُ، يَا مَسَارِبَ الفَوَاجِعِ
يَا قِرَبَ الدِّمَاءِ وَالمَدَامِعِ
كَمْ مِنْ خَلِيٍّ فِيكَ يَسْتَريحُ!
وَكَمْ شَقِيٍّ بَائِسٍ يَنُوحُ!
ارْقُدْ قَرِيرَ العَيْنِ يَا خِلِيُّ
وَأَنْتَ فَاشْقَ أَيُّهَا الشَّقِيُّ
فَاللَّيْلُ مِلْكُ المُتْرَفِ السَّعِيدِ
وَمِلْكُ كُلِّ تَعِسٍ شَرْيدِ!»
… … … … … …
… … … … … …
… … … … … …
… … … … … …
غَلواءُ، يَا نِبْرَاسَ قَلْبِي البَائِسِ
يَا أَمَلًا في ظُلُمَاتِ اليَائِسِ
يَا مَرْهَمًا لِقَلْبِيَ المَوْجُوعِ
يَا مَلَكًا يَطُوفُ في دُمُوعِي
أُحِبُّ فِيكِ صُورَةً عَذْراءَ
وَإِنْ تَكُنْ أَصْبَاغُهَا شَوْهَاءَ
يَا صُورَةً تَجْرِي بِهَا السَّعَادَهْ
الحُبُّ فِيهَا دُونَهُ العِبَادَهْ
يَا أَرَجَ المُرُوجِ وَالآكَامِ
يَا وَتَرًا أَسْمَعَنِي أَنْغَامِي
مَجَّدْتُ آلَامَكِ في الزُّهُورِ
في وَهَجِ الأَنْوَارِ، في الطُّيُورِ
في بَسَمَاتِ الصُّبْحِ، في الأَصَائِلِ
في القَمْحِ، في تَمَوُّجِ السَّنَابِلِ
في أَدْمُعِ الأَيِّمِ وَاليَتِيمِ
في صَرْخَةِ البَرِيءِ وَالمَظْلُومِ
يَا زَهْرَةً تَائِبَةً مُقَدَّسَهْ
يَا خُبْزَ قُرْبَانَةِ نَفْسِي التَّعِسَهْ
أَحْمَدُكِ اليَوْمَ كَأَمْسِ وَغَدَا
وَكُلَّمَا غَابَ النَّهَارُ وَبَدَا
وَكُلَّمَا بَلَّلْتُ بِالدُّمُوعِ
شِعْرًا شَقِيًّا قُدَّ مِنْ ضُلُوعِي!
•••
… وَقَدْ أَحَسَّتْ فَتْرَةً بِرُوحِهَا
تَطَّرِحُ الأَوْهَامَ مِنْ جُرُوحِهَا
وَرَفَعَتْ إِلَيْهِ عَيْنًا ذَائِبَهْ
كَأَنَّهَا صُورَةُ نَفْسٍ تَائِبَهْ
لكِنَّهَا عَادَتْ إِلَى جُنُونِهَا
وَثَارَتْ النِّيرَانُ في عُيُونِهَا
وَكَانَ قَدْ أَوْشَكَ أَنْ يُقَبِّلَا
جَبِينَهَا المُضْطَرِبَ المُشْتَعِلَا
حِينَ اسْتَحَالَتْ جَمْرَةً مُلْتَهِبَهْ
تَرَاجَعَتْ عَنْهُ خُطًى مُضْطَرِبَهْ
وَبَعْدَ فِكْرٍ قَالَتِ: «الحَيَاةُ
عَقَارِبٌ مِنْ جَسَدِي تَقْتَاتُ
دَعْنِي، فَلَا أَبْرَحُ يَا حَبِيبِي
أَعِيشُ في مَاضِيَّ، في ذُنُوبِي
في حَمْأَةِ الضَّمِيرِ، في أَوْجَاعِي
في بُؤْرَةِ الدِّيدَانِ وَالأَفَاعِي
أَيَسْتَطِيعُ الطِّيبُ في القَارُورَهْ
أَنْ يَغْسِلَ الأَوْسَاخَ في القَاذُورَهْ
دَعْنِي، وَخَلِّ نَفْسَكَ العَذْرَاءَ
عَذْرَاءَ لَا تَرْجِسُ في غَلْوَاءَ
وَاسْتَرْجِعِ القُبْلَاتِ مِنْ خَدَّيَّا
مَغْفِرَةٌ ثَقِيلَةٌ عَلَيَّا!»
فَقَالَ: «إِنَّ دَمْعَةً تَطَهَّرَتْ
تَكْفِي لِغَسْلِ النَّفْسِ مَهْمَا قَذِرَتْ
فَأَدْمُعُ التَّوْبَةِ وَالغُفْرَانِ
أَقْدَسُ، يَا غَلْوَاءَ، مِنْ القُرْبَانِ
فَهْيَ خَمِيرُ الأَلَمِ المَعْجُونِ
وَفِلْذَةُ القُلُوبِ فِي العُيُونِ
وَسُبْحَةُ النُّفُوسِ في العَذَابِ
تُجْمَعُ في سِلْكٍ مِنَ الأَهْدَابِ
وَهْيَ عَصِيرٌ مِنْ لُبَانٍ طَاهِرِ
تَعْقُدُهُ الآلَامُ في المَحَاجِرِ
وَلُؤْلُؤٌ في قَعْرِ بَحْرٍ خَاطِي
يَقْذِفُهُ المَوْجُ إِلَى الشَوَاطِي»
•••
مَرَّتْ ثَوَانٍ كُلُّهَا أَحْلَامُ
لَمْ يَتَخَلَّلْ سُكْرَهَا كَلَامُ
كَانَ بِهَا الاثْنَانِ يُصْغِيَانِ
إِلَى نِزَاعِ الأَلَمِ السَّكْرَانِ
إِذَا بِهِ يَقُولُ: «يَا غَلْوَاءُ
هَذَا الشَّقَا تَبَارَكَ الشَّقَاءُ
هَذَا الشَّقَا، يَا غَلْوَ، يَا حَبِيبَتِي
يَا أُخْتِ، يَا عَرُوسِ، يَا رَفِيقَتِي