السَّمَكَتَانِ الْحَمْرَاوَانِ
(١) الْأَخَوَانِ الْغَادِرَانِ
كَانَ التَّاجِرُ «عُمَرُ» مَعْرُوفًا بَيْنَ جِيرَانِهِ وَعُمَلَائِهِ بِالنَّزَاهَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ وَكَرَمِ النَّفْسِ. فَرَاجَتْ تِجَارَتُهُ، وَاسْتَقَامَتْ أَحْوَالُهُ، وَعَاشَ فِي حَيَاتِهِ رَاضِيًا مَسْرُورًا. وَقَدْ أَنْجَبَ أَوْلَادًا ثَلَاثَةً، وَهُمْ: «سَالِمٌ» و«سَلِيمٌ» وَ«جَابِرٌ». أَمَّا «سَالِمٌ» وَ«سَلِيمٌ» فَكَانَا عَلَى الْعَكْسِ مِنْ أَصْغَرِهِمْ «جَابِرٍ» فِي كُلِّ شَيْءٍ.
كَانَ الْأَخُ الْأَكْبَرُ وَالْأَخُ الْأَوْسَطُ مَعْرُوفَيْنِ بِالْأَنَانِيَّةِ وَحُبِّ النَّفْسِ، كَمَا كَانَا مَضْرِبَ الْمَثَلِ فِي الشَّرَهِ وَالْغَدْرِ.
أَمَّا «جَابِرٌ» أَخُوهُمَا الْأَصْغَرُ، فَكَانَ صُورَةً صَادِقَةً لِأَبِيهِ التَّاجِرِ «عُمَرَ». كَانَ «جَابِرٌ» مِثَالًا نَادِرًا لِلنَّزَاهَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ وَكَرَمِ النَّفْسِ؛ فَلَا تَعْجَبْ — أَيُّهَا الْقَارِئُ الصَّغِيرُ — إِذَا قُلْتُ لَكَ إِنَّ أَبَاهُ كَانَ يُحِبُّهُ لِذَلِكَ حُبًّا عَظِيمًا.
وَكَانَ التَّاجِرُ «عُمَرُ» يَخْشَى عَلَى وَلَدِهِ «جَابِرٍ» مَكْرَ أَخَوَيْهِ الْغَادِرَيْنِ اللَّذَيْنِ غَلَبَ عَلَيْهِمَا الشَّقَاءُ وَالتَّعَاسَةُ؛ فَقَسَّمَ أَمْوَالَهُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، بَعْدَ أَنْ أَعْطَى أُمَّهُمْ نَصِيبَهَا مِنَ الْمِيرَاثِ. فَلَمَّا حَانَتْ وَفَاتُهُ مَاتَ قَرِيرَ الْعَيْنِ، بَعْدَ أَنِ اطْمَأَنَّ عَلَى وَلَدِهِ «جَابِرٍ» وَأُمِّهِ «صَفِيَّةَ» وَدَعَا اللهُ لَهُمَا بِالتَّوْفِيقِ، كَمَا دَعَا لِوَلَدَيْهِ الْغَادِرَيْنِ بِالْهِدَايَةِ.
وَلَمْ يَمْضِ عَامٌ وَاحِدٌ حَتَّى بَاعَ أَخَوَاهُ كُلَّ مَا وَرِثَاهُ مِنْ مَالِ أَبِيهِمَا، وَأَنْفَقَاهُ فِيمَا لَا يَنْفَعُ. ثُمَّ أَفْنَيَا ثَرْوَةَ أُمِّهِمَا؛ فَلَمْ يُبْقِيَا مِنْهَا شَيْئًا. أَمَّا «جَابِرٌ» فَقَدِ اسْتَطَاعَ أَنْ يُنَمِّيَ ثَرْوَتَهُ بِجِدِّهِ وَاجْتِهَادِهِ؛ فَرَبِحَتْ تِجَارَتُهُ وَنَمَتْ. وَلَمْ يَمْضِ عَامٌ وَاحِدٌ حَتَّى أَصْبَحَتْ ثَرْوَتُهُ ضِعْفَ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ. فَطَمِعَ أَخَوَاهُ فِي غِنَاهُ، وَأَقْبَلَا عَلَيْهِ مُتَوَدِّدَيْنِ. وَلَمْ يَبْخَلْ عَلَيْهِمَا بِشَيْءٍ يَمْلِكُهُ، وَقَسَّمَ الْمَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخَوَيْهِ وَأُمِّهِ بِالسَّوِيَّةِ وَخَرَجَ «جَابِرٌ» يَتَّجِرُ — عَلَى عَادَتِهِ — بَعْدَ أَنِ اسْتَأْمَنَ أَخَوَيْهِ عَلَى ثَرْوَتِهِ، وَعَهِدَ إِلَيْهِمَا بِالْإِشْرَافِ عَلَى تِجَارَتِهِ.
وَمَا انْتَهَى الْعَامُ الثَّانِي، حَتَّى ظَفِرَ مِنْ تِجَارَتِهِ بِأَرْبَاحٍ طَائِلَةٍ، فَعَزَمَ عَلَى الْعَوْدَةِ إِلَى وَطَنِهِ. فَلَمَّا اقْتَرَبَ «جَابِرٌ» مِنْ بَلَدِهِ، خَرَجَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ اللُّصُوصِ؛ فَنَهَبُوا تِجَارَتَهُ وَسَلَبُوهُ كُلَّ مَا يَمْلِكُ مِنْ مَالٍ وَمَتَاعٍ. ثُمَّ عَادَ إِلَى بَلَدِهِ، فَرَأَى أَخَوَيْهِ لَمْ يُبْقِيَا لَهُ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا؛ فَقَدْ بَدَّدَا ثَرْوَتَهُ، كَمَا بَدَّدَا مَا وَرِثَاهُ مِنْ أَبِيهِمَا مُنْذُ عَامَيْنِ. وَهَكَذَا أَصْبَحَ الْإِخْوَةُ الثَّلَاثَةُ وَأُمُّهُمْ فُقَرَاءَ لَا يَمْلِكُونَ قُوتَ يَوْمِهِمْ. وَهَرَبَ الْأَخَوَانِ «سَالِمٌ» وَ«سَلِيمٌ» بَعْدَ ذَلِكَ، حَتَّى لَا تُطَالِبَهُمَا «صَفِيَّةُ» بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا.
(٢) وَفَاءُ «جَابِرٍ»
فَلَمَّا رَأَى «جَابِرٌ» مَا جَلَبَهُ أَخَوَاهُ مِنَ الشَّقَاءِ عَلَيْهِ وَعَلَى نَفْسَيْهِمَا، وَمَا أَلْحَقَاهُ مِنَ الْأَذِيَّةِ بِأُمِّهِمَا، اعْتَصَمَ بِالصَّبْرِ، وَأَسْلَمَ أَمْرَهُ لِلَّهِ، وَاسْتَقْبَلَ مَا حَلَّ بِهِ مِنَ الشَّقَاءِ بِنَفْسٍ مُطْمَئِنَّةٍ رَاضِيَةٍ. وَلَمْ يَتَسَرَّبِ الْيَأْسُ إِلَى قَلْبِ «جَابِرٍ»؛ فَاسْتَأْنَفَ حَيَاتَهُ مِنْ جَدِيدٍ، وَأَخَذَ شَبَكَةً يَصْطَادُ بِهَا السَّمَكَ، ثُمَّ يَبِيعُهُ وَيَقْتَاتُ — هُوَ وَأُمُّهُ «صَفِيَّةُ» — بِثَمَنِ مَا يَصْطَادُهُ. وَظَلَّ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ حَتَّى انْقَضَى الْعَامُ الثَّالِثُ.
وَضَاقَتِ الدُّنْيَا بِأَخَوَيْهِ، فَعَادَا إِلَى بَيْتِ أُمِّهِمَا يَشْكُوَانِ حَالَهُمَا. فَرَقَّتْ لَهُمَا وَعَفَتْ عَنْ إِسَاءَتِهِمَا، وَطَيَّبَتْ خَاطِرَهُمَا، ثُمَّ قَدَّمَتْ لَهُمَا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الطَّعَامِ.
وَإِنَّهُمَا لَيَأْكُلَانِ، إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِمَا «جَابِرٌ» أَخُوهُمَا. وَكَانَ — كَمَا قُلْتُ لَكَ — مِثَالًا لِطِيبَةِ الْقَلْبِ، وَكَرَمِ الْخُلُقِ. فَلَا عَجَبَ إِذَا تَنَاسَى كُلَّ مَا أَلْحَقَاهُ بِهِ مِنَ الْأَذِيَّةِ وَالضَّرَرِ، وَقَابَلَ إِسَاءَتَهُمَا بِالصَّفْحِ، وَغَدْرَهُمَا بِالْغُفْرَانِ، وَاسْتَقْبَلَهُمَا فَرْحَانَ بِلِقَائِهِمَا، بَعْدَ أَنْ شَعَرَ بِالْوَحْشَةِ لِطُولِ غِيَابِهِمَا.
وَلَمْ يُقَصِّرْ «جَابِرٌ» فِي الْحَفَاوَةِ بِأَخَوَيْهِ وَإِظْهَارِ شَوْقِهِ إِلَيْهِمَا. فَلَمْ يَتَمَالَكْ أَخَوَاهُ أَنْ قَالَا لَهُ: «مَا أَكْرَمَكَ — يَا أَخَانَا — وَأَعْظَمَ عَفْوَكَ، فَقَدْ أَخْجَلَنَا — وَاللهِ — مَا أَلْحَقْنَاهُ بِكَ مِنَ الْخَسَائِرِ وَالْمَتَاعِبِ. وَلَكِنَّنَا جِئْنَا إِلَيْكَ الْيَوْمَ نَادِمَيْنِ تَائِبَيْنِ.»
فَقَالَ لَهُمَا هَاشًّا بَاشًّا: «إِنَّ الْأَخَ لَا يُفَرِّطُ فِي أَخِيهِ. وَلَسْتُ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَعِيشَ بَعِيدًا عَنْكُمَا، وَلَنْ أُقَصِّرَ فِي أَدَاءِ مَا تَسْتَوْجِبُهُ عَلَيَّ حُقُوقُ الْأُخُوَّةِ لَكُمَا.»
وَمَا زَالَ يُؤْنِسُهُمَا وَيَتَوَدَّدُ إِلَيْهِمَا حَتَّى أَنْسَاهُمَا مَا كَانَا يَشْعُرَانِ بِهِ مِنَ الِانْقِبَاضِ وَالْوَحْشَةِ. وَعَاشَتِ الْأُسْرَةُ كُلُّهَا فِي عَامِهَا الرَّابِعِ عِيشَةً رَاضِيَةً.
(٣) أَيَّامُ الشَّقَاءِ
وَظَلَّ «جَابِرٌ» يَذْهَبُ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى الْبَحْرِ. فَمَا إِنْ يُلْقِي شَبَكَتَهُ فِيهِ حَتَّى تَمْتَلِئَ سَمَكًا. فَإِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ بَاعَ مَا اصْطَادَهُ مِنَ السَّمَكِ، وَأَنْفَقَ ثَمَنَهُ عَلَى أُمِّهِ وَعَلَى أَخَوَيْهِ الْغَادِرَيْنِ، دُونَ أَنْ يُفَكِّرَ أَحَدٌ مِنْهُمَا فِي مُعَاوَنَتِهِ يَوْمًا وَاحِدًا.
فَلَمَّا جَاءَ الْعَامُ الْخَامِسُ وَقَفَ «جَابِرٌ» عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ لِيَصْطَادَ السَّمَكَ. وَرَمَى الشَّبَكَةَ — عَلَى عَادَتِهِ — ثُمَّ جَذَبَهَا؛ فَلَمْ تَصْطَدْ شَيْئًا. فَرَمَى الشَّبَكَةَ ثَانِيَةً، وَثَالِثَةً وَرَابِعَةً؛ فَلَمْ يَكُنْ حَظُّهُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا أَكْثَرَ مِنَ الْمَرَّةِ الْأُولَى. فَانْتَقَلَ «جَابِرٌ» إِلَى مَكَانٍ ثَانٍ وَثَالِثٍ وَرَابِعٍ؛ وَهَكَذَا حَتَّى أَقْبَلَ اللَّيْلُ، وَلَمْ يَصْطَدْ لِسُوءِ الْحَظِّ سَمَكَةً وَاحِدَةً. وَبَيْنَا هُوَ عَائِدٌ إِلَى بَيْتِهِ مُتَأَلِّمًا مَحْزُونًا، لَقِيَهُ الشَّيْخُ «مَهْرَانُ» — وَكَانَ صَدِيقًا مُخْلِصًا لِأَبِيهِ — فَسَأَلَهُ عَنْ مَصْدَرِ هَمِّهِ، وَسَبَبِ حُزْنِهِ وَغَمِّهِ. فَأَخْبَرَهُ بِمَا لَقِيَهُ فِي يَوْمِهِ مِنَ الْخَيْبَةِ وَالْإِخْفَاقِ. فَهَوَّنَ عَلَيْهِ، وَطَيَّبَ خَاطِرَهُ، وَأَقْرَضَهُ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ؛ فَاشْتَرَى بِهِ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ أُسْرَتُهُ مِنَ الْقُوتِ.
وَجَاءَ الْيَوْمُ الثَّانِي، فَلَقِيَ «جَابِرٌ» فِيهِ مِثْلَ مَا لَقِيَ فِي أَمْسِهِ.
وَقَدِمَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ «مَهْرَانُ» صَاحِبُ أَبِيهِ، يَسْأَلُهُ عَمَّا ظَفِرَ بِهِ مِنَ الرِّزْقِ فِي يَوْمِهِ. فَلَمَّا عَلِمَ «مَهْرَانُ» بِمَا لَقِيَهُ «جَابِرٌ» مِنَ الْخِذْلَانِ، أَقْرَضَهُ مِنْ مَالِهِ مِثْلَ مَا أَقْرَضَهُ فِي الْيَوْمِ السَّابِقِ. وَلَازَمَتِ الْفَتَى أَيَّامُ النَّحْسِ شَهْرًا كَامِلًا.
(٤) رَاكِبُ الْبَغْلَةِ
فَلَمَّا جَاءَ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ مِنَ الشَّهْرِ الثَّانِي، دَعَا اللهَ سُبْحَانَهُ أَنْ يُبَدِّلَ عُسْرَهُ يُسْرًا، وَأَنْ يَفْتَحَ لَهُ أَبْوَابَ الرِّزْقِ.
وَمَا أَتَمَّ «جَابِرٌ» دُعَاءَهُ، حَتَّى أَبْصَرَ شَيْخًا هَرِمًا طَاعِنًا فِي السِّنِّ، يَرْتَدِي أَفْخَرَ الثِّيَابِ، وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى بَغْلَةٍ فَاخِرَةٍ، وَعَلَيْهَا خُرْجٌ نَفِيسٌ.
وَلَمْ يَكَدِ الشَّيْخُ يَرَاهُ حَتَّى بَدَأَهُ بِالتَّحِيَّةِ، وَنَادَاهُ بِاسْمِهِ قَائِلًا: «يَا جَابِرُ بْنَ عُمَرَ: إِنَّ لِي رَجَاءً لَا يُكَلِّفُكَ أَقَلَّ عَنَاءٍ. فَهَلْ أَنْتَ مُحَقِّقٌ لِي مَا أَرْجُوهُ؟»
فَقَالَ لَهُ «جَابِرٌ»: «قُلْ مَا تَشَاءُ، فَإِنِّي سَامِعٌ مُطِيعٌ. وَلَعَلَّ اللهَ يُعِينُنِي عَلَى قَضَاءِ مَا تُرِيدُ.»
فَقَالَ الشَّيْخُ: «سَأُلْقِي بِنَفْسِي فِي عُرْضِ هَذَا الْبَحْرِ. فَإِذَا كُتِبَتْ لِيَ السَّلَامَةُ وَالتَّوْفِيقُ، كَانَ عَلَامَةَ ذَلِكَ أَنْ أُخْرِجَ يَدَيَّ إِلَيْكَ مِنَ الْمَاءِ!
فَإِذَا رَأَيْتَ هَذِهِ الْعَلَامَةَ، فَأَسْرِعْ إِلَيَّ، وَلَا تُضِعْ لَحْظَةً وَاحِدَةً، وَأَلْقِ عَلَيَّ شَبَكَتَكَ فِي الْحَالِ، لِتُنْقِذَنِي مِنَ الْغَرَقِ. وَإِذَا كُتِبَتْ عَلَيَّ الْخَيْبَةُ وَالْإِخْفَاقُ كَانَ عَلَامَةُ ذَلِكَ أَنْ تَظْهَرَ قَدَمَايَ! فَإِذَا رَأَيْتَ هَذِهِ الْعَلَامَةَ فَتَرَحَّمْ عَلَيَّ، وَاعْلَمْ أَنَّنِي هَلَكْتُ وَانْتَقَلْتُ إِلَى عَالَمِ الْأَمْوَاتِ. فَإِذَا قُسِمَتْ لِيَ الْحَيَاةُ، أَغْنَيْتُكَ وَمَلَأْتُ أَيَّامَكَ سَعَادَةً وَسُرُورًا. وَإِذَا كَانَ الْمَوْتُ نَصِيبِي، فَهَنِيئًا لَكَ هَذِهِ الْبَغْلَةُ، فَهِيَ مِلْكٌ لَكَ بِكُلِّ مَا تَحْمِلُهُ مِنَ نَفَائِسَ وَذَخَائِرَ.»
ثُمَّ صَعِدَ الشَّيْخُ إِلَى صَخْرَةٍ عَالِيَةٍ مُشْرِفَةٍ عَلَى الْبَحْرِ. وَلَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهَا حَتَّى أَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى «جَابِرٍ» مُوَدِّعًا. ثُمَّ أَلْقَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ الْأَمْوَاجِ الثَّائِرَةِ، وَغَابَ عَنْ عَيْنَيْهِ قَلِيلًا، ثُمَّ ظَهَرَتْ رِجْلَاهُ عَلَى سَطْحِ الْمَاءِ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ غَاصَ إِلَى الْقَرَارِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ أَثَرٌ. فَأَدْرَكَ «جَابِرٌ» أَنَّ صَاحِبَهُ قَدْ غَرِقَ، وَلَمْ تُكْتَبْ لَهُ النَّجَاةُ. فَعَادَ بِبَغْلَتِهِ إِلَى السُّوقِ، وَبَاعَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ. ثُمَّ أَسْرَعَ إِلَى «مَهْرَانَ» صَاحِبِ أَبِيهِ، فَرَدَّ لَهُ دَيْنَهُ، بَعْدَ أَنْ شَكَرَ لَهُ عَطْفَهُ وَمُرُوءَتَهُ.
وَرَجَعَ «جَابِرٌ» إِلَى بَيْتِهِ مَسْرُورًا، وَمَعَهُ مَا شَاءَ مِنْ لَذَائِذِ الْأَطْعِمَةِ وَالْفَاكِهَةِ، وَأَعْطَى أُمَّهُ كُلَّ مَا بَقِيَ مَعَهُ مِنَ الدَّنَانِيرِ.
(٥) الْأَخُ الثَّانِي
فَلَمَّا جَاءَ الْيَوْمُ التَّالِي، ذَهَبَ «جَابِرٌ» إِلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ. وَلَمْ يَكَدْ يَهُمُّ بِإِلْقَاءِ الشَّبَكَةِ حَتَّى أَبْصَرَ شَيْخًا مُقْبِلًا عَلَيْهِ، وَهُوَ أَشْبَهُ إِنْسَانٍ بِالشَّيْخِ الَّذِي لَقِيَهُ أَمْسِ، وَقَدْ رَكِبَ بَغْلَةً مِثْلَ بَغْلَتِهِ، وَعَلَيْهَا خُرْجٌ مِثْلُ خُرْجِهِ، مُطَرَّزٌ بِالْحَرِيرِ، مُوَشًّى بِالْقَصَبِ. فَأَدْرَكَ «جَابِرٌ» مِنَ النَّظْرَةِ الْأُولَى أَنَّه شَقِيقُ الشَّيْخِ الَّذِي غَرِقَ أَمْسِ. وَقَدْ بَدَأَ الشَّيْخُ بِالتَّحِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لَهُ أَخُوهُ.
فَعَجِبَ «جَابِرٌ» مِنْ جُنُونِ الرَّجُلِ، كَمَا دَهِشَ مِنْ جُنُونِ أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ. فَظَلَّ يُحَذِّرُ الشَّيْخَ — كَمَا حَذَّرَ أَخَاهُ — عَاقِبَةَ مَا هُوَ قَادِمٌ عَلَيْهِ، وَيُبَصِّرُهُ بِمَا لَقِيَهُ شَقِيقُهُ مِنَ الْهَلَاكِ. فَلَمْ يَسْتَمِعْ إِلَى نَصِيحَتِهِ، وَلَمْ يُضِعْ شَيْئًا مِنْ وَقْتِهِ؛ فَأَسْرَعَ إِلَى الصَّخْرَةِ الْعَالِيَةِ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى «جَابِرٍ» مُوَدِّعًا، ثُمَّ قَذَفَ بِنَفْسِهِ مِنْ أَعْلَى الصَّخْرَةِ، فَابْتَلَعَهُ الْمَوْجُ. وَلَمْ يَنْقَضِ عَلَيْهِ زَمَنٌ حَتَّى ظَهَرَتْ رِجْلَاهُ عَلَى سَطْحِ الْمَاءِ. وَبَاعَ «جَابِرٌ» بَغْلَتَهُ — كَمَا بَاعَ بَغْلَةَ أَخِيهِ — بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَاشْتَرَى بِدِينَارٍ مِنْهَا مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْبَيْتُ مِنْ طَعَامٍ وَفَاكِهَةٍ، ثُمَّ أَعْطَى أُمَّهُ الدَّنَانِيرَ الْبَاقِيَةَ.
(٦) الْأَخُ الثَّالِثُ
فَلَمَّا جَاءَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ، رَأَى «جَابِرٌ» شَيْخًا ثَالِثًا؛ هُوَ أَشْبَهُ إِنْسَانٍ بِصَاحِبَيْهِ اللَّذَيْنِ لَقِيَهُمَا أَمْسِ وَأَوَّلَ أَمْسِ. فَعَرَفَ مِنْ هَيْئَتِهِ أَنَّهُ شَقِيقُهُمَا الثَّالِثُ؛ فَبَذَلَ لَهُ مِنَ النُّصْحِ مِثْلَ مَا بَذَلَ لِأَخَوَيْهِ؛ فَأَعْرَضَ عَنْهُ كَمَا أَعْرَضَا، وَأَصَرَّ عَلَى رَأْيِهِ كَمَا أَصَرَّا. وَأَسْرَعَ الشَّيْخُ إِلَى الصَّخْرَةِ الْعَالِيَةِ — بَعْدَ أَنْ أَوْصَاهُ بِمِثْلِ مَا أَوْصَيَاهُ بِهِ — ثُمَّ أَلْقَى بِنَفْسِهِ إِلَى الْبَحْرِ؛ فَابْتَلَعَتْهُ الْأَمْوَاجُ. فَأَيْقَنَ «جَابِرٌ» أَنَّ صَاحِبَهُ قَدْ هَلَكَ وَلَحِقَ بِأَخَوَيْهِ. وَلَكِنْ شَدَّ مَا أَدْهَشَهُ — وَهُوَ يَهُمُّ بِالْعَوْدَةِ — أَنْ رَأَى صَاحِبَهُ وَقَدْ ظَهَرَتْ يَدَاهُ عَلَى سَطْحِ الْمَاءِ؛ فَاسْتَبْشَرَ بِنَجَاتِهِ، فَأَلْقَى بِشَبَكَتِهِ عَلَيْهِ وَجَذَبَهُ مُتَرَفِّقًا بِهِ، حَتَّى خَرَجَ بِهِ إِلَى السَّاحِلِ سَالِمًا مِنْ كُلِّ سُوءٍ.
وَنَظَرَ «جَابِرٌ» إِلَى صَاحِبِهِ، فَرَأَى فِي يَدَيْهِ سَمَكَتَيْنِ حَمْرَاوَيْنِ، أَمْسَكَ بِإِحْدَاهُمَا فِي يُمْنَاهُ، وَبِالْأُخْرَى فِي يُسْرَاهُ.
ثُمَّ طَلَبَ مِنْ «جَابِرٍ» أَنْ يُحْضِرَ لَهُ مِنْ خُرْجِهِ صُنْدُوقَيْنِ صَغِيرَيْنِ. فَلَمَّا أَحْضَرَهُمَا، وَضَعَ فِي كُلِّ صُنْدُوقٍ مِنْهُمَا سَمَكَةً، ثُمَّ أَقْفَلَهُ عَلَيْهَا بِقُفْلٍ مُحْكَمٍ مَتِينٍ. وَلَمَّا اطْمَأَنَّ الشَّيْخُ إِلَى نَجَاحِهِ، الْتَفَتَ إِلَى «جَابِرٍ» شَاكِرًا لَهُ مُرُوءَتَهُ وَنَجْدَتَهُ، ثُمَّ خَتَمَ حَدِيثَهُ قَائِلًا: «أَلْفُ شُكْرٍ لَكَ، يَا «جَابِرُ بْنَ عُمَرَ». لَقَدْ أَنْقَذْتَ حَيَاتِي مِنَ التَّلَفِ، وَيَسَّرْتَ لِي مَا أُرِيدُ. وَلَوْلَا مَا بَذَلْتَهُ لِي مِنْ مَعُونَةٍ، لَمَا فُتِحَ أَمَامِي بَابُ النَّجَاحِ. وَلَقَدْ كُنْتُ فِي عِدَادِ الْغَارِقِينَ، لَوْ لَمْ تُسْرِعْ إِلَى نَجْدَتِي، وَتُلْقِ عَلَيَّ شَبَكَتَكَ». فَسَأَلَهُ «جَابِرٌ» مُتَعَجِّبًا:
«أَلَسْتَ مَاهِرًا فِي السِّبَاحَةِ؟» فَأَجَابَهُ: «بَلْ أَنَا مِنْ أَمْهَرِ خَلْقِ اللهِ فِي السِّبَاحَةِ، وَأَقْدَرِهِمْ عَلَى الْعَوْمِ. فَقَدْ أَلِفْتُ الْبَحْرَ — كَمَا أَلِفَهُ أَخَوَايَ — مُنْذُ زَمَنِ الطُّفُولَةِ.
وَلَكِنَّ مَنْ يَقْبِضُ عَلَى هَاتَيْنِ السَّمَكَتَيْنِ الْحَمْرَاوَيْنِ الْمَسْحُورَتَيْنِ، تُصِيبُهُ رِعْدَةٌ مُفَاجِئَةٌ، ثُمَّ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ الذُّهُولُ، وَيَنْتَكِسَ رَأْسُهُ إِلَى أَسْفَلَ وَرِجْلَاهُ إِلَى أَعْلَى، ثُمَّ يَهْوِي فِي الْحَالِ إِلَى قَرَارِ الْمَاءِ.
وَلَنْ يَظْفَرَ بِالنَّجَاةِ مِنَ الْغَرَقِ إِلَّا مَنْ عَرَفَ كَيْفَ يَجْمَعُ شَجَاعَتَهُ فِي مُجَابَهَةِ الْخَطَرِ، وَانْتِهَازِ الْفُرْصَةِ، مُنْذُ اللَّحْظَةِ الْأُولَى.
وَأَوَّلُ شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ النَّجَاحِ أَلَّا يُنْسِيَهُ فَرَحُهُ بِالْحُصُولِ عَلَى السَّمَكَتَيْنِ وَاجِبَ الْإِسْرَاعِ بِإِخْرَاجِ يَدَيْهِ مِنَ الْمَاءِ حَتَّى يَبْطُلَ السِّحْرُ. وَمَتَى كُتِبَ لَهُ التَّوْفِيقُ فِي اجْتِيَازِ هَذَا الْمَأْزِقِ الْحَرِجِ، ظَفِرَ بِالسَّلَامَةِ وَالسَّعَادَةِ جَمِيعًا.»
(٧) قِصَّةُ الْأَخَوَيْنِ
فَقَالَ «جَابِرٌ»: «إِنَّ لِي رَجَاءً عِنْدَكَ، فَهَلْ أَنْتَ مُجِيبِي إِلَيْهِ؟»
فَقَالَ الشَّيْخُ: «لَكَ مِنِّي مَا تُرِيدُ.»
فَقَالَ «جَابِرٌ»: «أُرِيدُ أَنْ أَعْرِفَ قِصَّةَ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ غَرِقَا — أَمْسِ وَأَوَّلَ أَمْسِ — فِي هَذَا الْمَكَانِ.»
فَقَالَ الشَّيْخُ: «نَحْنُ إِخْوَةٌ ثَلَاثَةٌ: «عَبْدُ السَّلَامِ» وَ«عَبْدُ الْوَاحِدِ»، وَأَصْغَرُنَا «عَبْدُ الصَّمَدِ»، وَهُوَ الَّذِي يُخَاطِبُكَ الْآنَ ويَقُصُّ عَلَيْكَ حَدِيثَ أَخَوَيْهِ. وَقَدْ كَانَ لَنَا وَالِدٌ مَاهِرٌ فِي السِّحْرِ يُسَمَّى: «عَبْدَ الْوَدُودِ».
وَقَدْ عَلَّمَنَا كَثِيرًا مِنْ أَبْوَابِ السِّحْرِ وَفُنُونِهِ، وَدَرَّبَنَا عَلَيْهَا مُنْذُ طُفُولَتِنَا. وَكَانَ مِمَّا تَعَلَّمْنَاهُ مِنْهُ فَتْحُ الْكُنُوزِ، وَتَسْخِيرُ مُلُوكِ الْجِنِّ لِخِدْمَتِنَا وَإِنْجَازِ أَغْرَاضِنَا. وَقَدْ خَلَّفَ لَنَا الْوَالِدُ — بَعْدَ مَوْتِهِ — أَكْدَاسًا مِنَ الْأَمْوَالِ الطَّائِلَةِ الَّتِي لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى؛ فَقَسَّمْنَاهَا بَيْنَنَا بِالسَّوِيَّةِ.
(٨) أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
وَكَانَ لِأَبِينَا مَكْتَبَةٌ حَافِلَةٌ بِنَفَائِسِ الْكُتُبِ؛ فَجَعَلْنَاهَا مِلْكًا شَائِعًا لَنَا، وَحَرَصْنَا عَلَى أَنْ تَكُونَ مَرْجِعًا لَنَا وَلِأَبْنَائِنَا وَحَفَدَتِنَا مِنْ بَعْدِنَا.
وَكَانَ فِي هَذِهِ الْمَكْتَبَةِ النَّادِرَةِ مَخْطُوطٌ فَرِيدٌ لَا نَظِيرَ لَهُ — فِي نَفَاسَتِهِ — بَيْنَ كُتُبِ الْعَالَمِ كُلِّهِ، اسْمُهُ: «أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ».
وَكَانَ أَبِي يَحْرِصُ عَلَى هَذَا الْمَخْطُوطِ، وَلَا يَعْدِلُ بِهِ شَيْئًا فِي الْحَيَاةِ.
وَلَعَلَّكَ تُدْرِكُ قِيمَةَ هَذَا الْكِتَابِ إِذَا عَرَفْتَ أَنَّ مُؤَلِّفَهُ الْعَظِيمَ قَدْ بَيَّنَ فِيهِ مَوَاقِعَ كُنُوزِ الْعَالَمِ كُلِّهَا، وَطَرِيقَ الِاهْتِدَاءِ إِلَيْهَا وَفَتْحِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِمَا تَحْوِيهِ مِنْ نَفَائِسَ وَتُحَفٍ، وَأَسْمَاءَ حُرَّاسِهَا مِنْ أَذْكِيَاءِ الْجِنِّ وَزُعَمَاءِ الْعَفَارِيتِ.
وَقَدْ عَلَّمَنَا وَالِدُنَا: «عَبْدُ الْوَدُودِ» — رَحَمْةُ اللهِ عَلَيْهِ — كَيْفُ نَحُلُّ رُمُوزَ السِّحْرِ، وَنَفُكُّ طَلَاسِمَهُ وَمُعَمَّيَاتِهِ الَّتِي يَزْخَرُ بِهَا ذَلِكَ الْكِتَابُ.
فَلَمَّا مَاتَ الْوَالِدُ، أَصْبَحَ هَذَا الْمَخْطُوطُ النَّفِيسُ مَطْمَحَ أَنْظَارِنَا جَمِيعًا، وَحَاوَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِهِ، وَيَسْتَوْلِي عَلَيْهِ وَحْدَهُ.
وَاشْتَدَّ بَيْنَنَا الْخِلَافُ، حَتَّى كَادَتْ كَلِمَتُنَا تَتَفَرَّقُ؛ فَلَجَأْنَا إِلَى الشَّيْخِ «الْأَبْطَشِ»، وَهُوَ شَيْخٌ هَرِمٌ طَاعِنٌ فِي السِّنِّ، كَانَ أُسْتَاذَ أَبِينَا قَبْلَ أَنْ نُولَدَ، وَقَدْ عَلَّمَ أَبَانَا كُلَّ مَا تَعَلَّمَهُ مِنْ فُنُونِ السِّحْرِ.
فَلَمَّا أَخْبَرْنَا «الْأَبْطَشَ» بِقَضِيَّتِنَا، طَلَبَ مِنَّا أَنْ نُحْضِرَ إِلَيْهِ الْكِتَابَ، فَلَمَّا رَآهُ عَرَفَهُ، وَقَالَ لَنَا بَاسِمًا:
«أَنْتُمْ أَبْنَاءُ أَخِي. وَلَيْسَ يَسَعُنِي إِلَّا أَنْ أَقْضِيَ بَيْنَكُمْ بِالْعَدْلِ.»
فَقُلْنَا لَهُ: «إِنَّ عَدَالَتَكَ مَعْرُوفَةٌ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا الشَّكُّ.»
فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا قَائِلًا: «لَوْ أَنَّكُمْ قَرَأْتُمْ مُقَدِّمَةَ الْكِتَابِ، لَمَا بَقِيَتْ لَكُمْ حَاجَةٌ لِلاحْتِكَامِ إِلَيَّ.»
فَقُلْنَا لَهُ مُتْعَجِّبِينَ: «لَقَدْ شُغِلْنَا بِقِرَاءَةِ فُصُولِهِ عَنْ مُقَدِّمَتِهِ».
فَقَالَ الشَّيْخُ «الْأَبْطَشُ»: «لَقَدْ شَغَلَتْكُمْ أَوْصَافُ الْكُنُوزِ عَنْ مَفَاتِيحِهَا. وَلَوْ قَرَأْتُمُ الْمُقَدِّمَةَ، لَرَأَيْتُمْ فِيهَا الْحَلَّ الْعَادِلَ لِقَضِيَّتِكُمُ الَّتِي طَالَ نِزَاعُكُمْ فِيهَا.»
(٩) الْعَجَائِبُ الْأَرْبَعُ
ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا الشَّيْخُ «الْأَبْطَشُ» مُقَدِّمَةَ الْكِتَابِ، وَتَلَا مِنْهَا الْأَسْطُرَ التَّالِيَةَ: «لَا يَمْلِكُ هَذَا الْكَنْزَ النَّفِيسَ إِلَّا فَتًى مِنَ الشُّجْعَانِ الْأَفْذَاذِ، الَّذِينَ لَا يُبَالُونَ الْمَصَاعِبَ وَالْأَهْوَالَ، فِي سَبِيلِ الْحُصُولِ عَلَى جَلَائِلِ الْأَعْمَالِ.
وَلَا يَظْفَرُ بِهِ إِلَّا بَارِعٌ مِنْ أَصْحَابِ الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ، وَالْآرَاءِ النَّاصِحَةِ، الَّذِينَ لَا تُفْلِتُ مِنْهُمْ فُرْصَةٌ سَانِحَةٌ.
فَإِذَا نَقَصَتْهُ مَزِيَّةٌ مِنْ هَذِهِ الْمَزَايَا الْعَالِيَةِ، فَلَا أَمَلَ وَلَا رَجَاءَ فِي الْحُصُولِ عَلَى «كَنْزِ الشَّمَرْدَلِ» وَالظَّفَرِ بِأَنْفَسِ مُحْتَوَيَاتِهِ، وَهِيَ: الْخَاتَمُ وَالسَّيْفُ وَالْمُكْحُلَةُ وَدَائِرَةُ الْفَلَكِ.»
فَدَهِشْنَا مِمَّا سَمِعْنَا، وَلَمْ نَكُنْ نَعْرِفُ قِيمَةَ هَذِهِ الْكُنُوزِ.
فَلَمَّا سَأَلْنَاهُ عَنْهَا، قَرَأَ عَلَيْنَا الْأَسْطُرَ التَّالِيَةَ:
«أَمَّا «خَاتَمُ الشَّمَرْدَلِ» فَلَهُ خَادِمٌ مِنَ الْجِنِّ، اسْمُهُ «الْقَاصِفُ»، وَهُوَ أَقْوَى مُلُوكِ الْجِنِّ فِي هَذَا الْعَصْرِ. وَلَيْسَ فِي طَوَائِفِهِمْ — عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِمْ — مَنْ يَعْصِي لَهُ قَوْلًا، أَوْ يُخَالِفُ لَهُ أَمْرًا.
وَأَمَّا «سَيْفُ الشَّمَرْدَلِ» فَإِنَّهُ يَكْفِي مَنْ يَمْلِكُهُ عَنَاءَ الْحَرْبِ. فَهُوَ سَيْفٌ مَسْحُورٌ، إِذَا جَرَّدَهُ صَاحِبُهُ عَلَى أَكْبَرِ جَيْشٍ هَزَمَهُ — فِي الْحَالِ — وَشَتَّتَ شَمْلَهُ. فَإِذَا أَمَرَ السَّيْفَ أَنْ يُفْنِيَ الْجَيْشَ كُلَّهُ، خَرَجَ مِنْهُ بَرْقٌ يَكَادُ يَخْطَفُ الْأَبْصَارَ، يَصْحَبُهُ رَعْدٌ يَكَادُ دَوِيُّهُ يُصِمُّ الْآذَانَ، ثُمَّ تَخْرُجُ مِنْهُ نَارٌ يَكَادُ لَهِيبُهَا يَصِلَ إِلَى السَّحَابِ، ثُمَّ تَهْوِي أَلْسِنَةُ اللَّهَبِ عَلَى الْجَيْشِ، وَتَنْدَلِعُ النِّيرَانُ فِي صُفُوفِهِ، وَتَتَقَاذَفُهُمُ الْحُمَمُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَلَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ. وَلَا تَنْقَضِي لَحْظَةٌ حَتَّى يُصْبِحَ جَيْشُ الْأَعْدَاءِ — بِكُلِّ مَا يَحْوِيهِ مِنْ ذَخِيرَةٍ وَعَتَادٍ — طَعَامًا لِلنَّارِ.
أَمَّا «دَائِرَةُ الْفَلَكِ»، فَإِنَّ مَنْ يَظْفَرُ بِهَا يَرَى — وَهُوَ جَالِسٌ فِي مَكَانِهِ — مَا يَشَاءُ مِنْ بِلَادِ الْعَالَمِ وَجِبَالِهِ وَوِدْيَانِهِ وَصَحَارِيهِ وَبِحَارِهِ وَجَزَائِرِهِ، وَيَشْهَدُ كُلَّ مَا تَحْوِيهِ الدُّنْيَا — مِنْ مَشْرِقِ الْأَرْضِ إِلَى مَغْرِبِهَا — دُونَ أَنْ يَنْقُلَ قَدَمًا وَاحِدَةً.
فَإِذَا غَضِبَ مَالِكُ هَذِهِ الدَّائِرَةِ عَلَى مَدِينَةٍ مِنَ الْمُدُنِ، وَأَرَادَ إِحْرَاقَهَا، فَلَنْ يُكَلِّفَهُ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُوَجِّهَ مِرْآةَ الدَّائِرَةِ إِلَى قُرْصِ الشَّمْسِ، ثُمَّ يُسَلِّطَ أَشِعَّتَهَا عَلَى الْمَدِينَةِ. فَلَا تَلْبَثُ تِلْكَ الْمَدِينَةُ أَنْ تَحْتَرِقَ فِي الْحَالِ، بِكُلِّ مَا تَحْتَوِيهِ مِنْ دَابَّةٍ وَإِنْسَانٍ، وَنَبَاتٍ وَحَيَوَانٍ، وَمَصَانِعَ وَدُورٍ، وَحَدَائِقَ وَقُصُورٍ.
وَأَمَّا «مُكْحُلَةُ الشَّمَرْدَلِ» فَإِنَّهَا تُرِي مَنْ يَتَكَحَّلُ بِهَا كُلَّ مَا فِي جَوْفِ الْأَرْضِ وَقَاعِ الْبِحَارِ مِنْ لَآلِئَ وَكُنُوزٍ!»
(١٠) أَهْوَالُ الْكُنُوزِ
فَلَمَّا انْتَهَى الشَّيْخُ «الْأَبْطَشُ» مِنْ قِرَاءَةِ الْمُقَدِّمَةِ، الْتَفَتَ إِلَيْنَا قَائِلًا:
«إِنَّ امْتِلَاكَ الْكُنُوزِ — أَيُّهَا الْأَبْنَاءُ الْأَعِزَّاءُ — لَيْسَ بِالْهَيِّنِ الْمَيْسُورِ. وَلَوْ كَانَ إِدْرَاكُهَا سَهْلًا لَتَهَافَتَ عَلَيْهَا كُلُّ إِنْسَانٍ. وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَنَالَهَا مُتَرَدِّدٌ جَبَانٌ، أَوْ يَظْفَرَ بِهَا مُتَقَاعِدٌ كَسْلَانُ. فَلَمْ تُخْلَقِ الْكُنُوزُ إِلَّا لِمِقْدَامٍ جَسُورٍ، ثَابِتٍ صَبُورٍ، لَا يُفَزِّعُهُ مَا يَلْقَاهُ فِي سَبِيلِهَا مِنْ مَصَاعِبَ وَأَهْوَالٍ، وَلَا يَثْنِيهِ عَنْ بَذْلِ كُلِّ مُرْتَخَصٍ وَغَالٍ.»
ثُمَّ خَتَمَ الشَّيْخُ «الْأَبْطَشُ» حَدِيثَهُ قَائِلًا:
«وَلَقَدْ حَاوَلَ أَبُوكُمُ الشَّيْخُ «عَبْدُ الْوَدُودِ» — فِي أَوَاخِرِ أَيَّامِهِ — أَنْ يَفْتَحَ «كَنْزَ الشَّمَرْدَلِ»؛ فَعَجَزَ عَنْ ذَلِكُمْ، وَضَاعَتْ جُهُودُهُ بِلَا فَائِدَةٍ.
وَقَضَى مَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ فِي مُطَارَدَةِ الْمَرَدَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِحِرَاسَةِ الْكَنْزِ، مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ؛ حَتَّى هَرَبُوا إِلَى صَخْرَةِ الْمَرْجَانِ، الْمُشْرِفَةِ عَلَى شَطِّ الْحِيتَانِ. وَكَانَتِ الشَّيْخُوخَةُ قَدْ أَعْجَزَتْ «عَبْدَ الْوَدُودِ» عَنِ الْحَرَكَةِ؛ فَكَفَّ عَنْ مُطَارَدَةِ الْمَرَدَةِ.
وَاشْتَدَّ بِهِ أَلَمُ الْخَيْبَةِ وَالْإِخْفَاقِ؛ فَجَاءَنِي ذَاتَ يَوْمٍ، وَأَقْبَلْتُ عَلَيْهِ أُصَبِّرُهُ وَأُهَوِّنُ عَلَيْهِ مَا يُكَابِدُهُ مِنْ أَلَمٍ، ثُمَّ قُلْتُ لَهُ:
«إِذَا فَاتَكَ الْحُصُولُ عَلَى هَذَا الْكَنْزِ الْعَظِيمِ، لَمْ يَفُتْ أَحَدَ أَبْنَائِكَ إِنْ شَاءَ اللهُ. فَقَدْ قَرَأْتُ — فِيمَا قَرَأْتُ مِنْ كُتُبِ الْحُكَمَاءِ — أَنَّ «كَنْزَ الشَّمَرْدَلِ» لَنْ يُفْتَحَ إِلَّا عَلَى يَدِ فَتًى كَرِيمِ الْخِلَالِ، مَحْمُودِ الْخِصَالِ، يُدْعَى «جَابِرَ بْنَ عُمَرَ».
وَلَنْ يَسْتَطِيعَ هَذَا الْفَتَى أَنْ يُعَاوِنَ طَالِبَ الْكَنْزِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَظْفَرَ بِصَيْدِ الْمَارِدَيْنِ الْمُخْتَبِئَيْنِ بِالْقُرْبِ مِنْ صَخْرَةِ الْمَرْجَانِ، الْمُشْرِفَةِ عَلَى شَطِّ الْحِيتَانِ.»
ثُمَّ مَاتَ «عَبْدُ الْوَدُودِ» بَعْدَ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَيَّامٍ قَلَائِلَ.
وَلَا يَزَالُ الْأَمَلُ كَبِيرًا فِي أُنْ يُكَلَّلَ سَعْيُ أَحَدِكُمْ بِالنَّجَاحِ، وَأَنْ يَظْفَرَ بِأَسْرِ هَذَيْنِ الْمَارِدَيْنِ أَوْفَرُكُمْ حَظًّا، وَأَقْوَاكُمْ عَزِيمَةً.»
(١١) عَلَامَةُ النَّصْرِ
ثُمَّ صَمَتَ الشَّيْخُ «الْأَبْطَشُ» بُرْهَةً، وَاسْتَأْنَفَ قَائِلًا:
«وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذَيْنِ الْمَارِدَيْنِ هُمَا وَلَدَا حَارِسِ الْكَنْزِ. وَقَدْ تَحَوَّلَا سَمَكَتَيْنِ حَمْرَاوَيْنِ. وَهُمَا مَارِدَانِ قَوِيَّانِ، شَدِيدَا الْبَأْسِ عَنِيدَانِ.
فَإِذَا انْتَصَرَا عَلَى طَالِبِ الْكَنْزِ، فَعَلَامَةُ انْتِصَارِهِمَا أَنْ يُنَكَّسَ رَأْسُهُ إِلَى الْقَاعِ، وَتَطْفُوَ رِجْلَاهُ عَلَى سَطْحِ الْمَاءِ.
وَإِذَا انْتَصَرَ عَلَيْهِمَا، فَعَلَامَةُ انْتِصَارِهِ أَنْ تَظْهَرَ يَدَاهُ. وَمَتَى أَسْرَعَ «جَابِرُ بْنُ عُمَرَ» بِإِلْقَاءِ شَبَكَتِهِ عَلَيْهِ، كُتِبَتْ لَهُ النَّجَاةُ فِي الْحَالِ.»
فَاتَّفَقْتُ مَعَ أَخَوَيَّ عَلَى الْحُضُورِ إِلَيْكَ فِي أَيَّامٍ مُتَعَاقِبَةٍ، وَاحِدًا بَعْدَ الْآخَرِ، لَعَلَّ التَّوْفِيقَ يُحَالِفُ وَاحِدًا مِنَّا.
وَقَدَ هَلَكَ أَخَوَايَ دُونَ غَايَتِهِمَا، وَفَتَكَتْ بِهِمَا السَّمَكَتَانِ الْحَمْرَاوَانِ، ثُمَّ نَصَرَنِيَ اللهُ عَلَيْهِمَا، وَكُتِبَتْ لِيَ السَّلَامَةُ مِنَّ شَرِّهِمَا، بِفَضْلِ مَا بَذَلْتَهُ لِي مِنْ مُسَاعَدَةٍ. وَقَدْ لَقِيَ أَخَوَايَ مَصْرَعَهُمَا — كَمَا رَأَيْتَ — أَمْسِ وَأَوَّلَ أَمْسِ.
وَقَدْ أَظْفَرَنِي اللهُ بِالْمَارِدَيْنِ. وَمَكَّنَنِي مِنَ الِانْتِقَامِ لِأَخَوَيَّ مِنْهُمَا.
وَهَا هُمَا ذَانِ مَحْبُوسَانِ فِي الصُّنْدُوقَيْنِ اللَّذَيْنِ أَعْدَدْتُهُمَا لِحَبْسِهِمَا.»
(١٢) الْخُطْوَةُ الْأُولَى
فَقَالَ لَهُ «جَابِرٌ»: «أَتَعْنِي أَنَّ هَاتَيْنِ السَّمَكَتَيْنِ جِنِّيَّانِ؟»
فَقَالَ لَهُ «عَبْدُ الصَّمَدِ»: «لَا شَكَّ فِي ذَلِكَ. فَهُمَا مَارِدَانِ مِنَ الْجِنِّ؛ وَقَدْ سَكَنَا هَذِهِ الْمِنْطَقَةَ الْمَسْحُورَةَ مِنَ الْبَحْرِ، بَعْدَ أَنْ هَرَبَا مِنْ مُطَارَدَةِ أَبِي، ثُمَّ تَحَوَّلَا سَمَكَتَيْنِ، وَاتَّخَذَا قَاعَ الْبَحْرِ مَلْجَأً لَهُمَا؛ لَيَسْتَخْفِيَا عَنْ أَعْيُنِ طَالِبِي الْكَنْزِ، وَيَسْتَرِيحَا مِنْ مُطَارَدَتِهِمْ إِيَّاهُمَا.
وَقَدْ أَظْفَرَنِي اللهُ بِهِمَا؛ فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ بَارِقَةٍ مِنَ الْأَمَلِ فِي النَّجَاحِ، وَأَوَّلَ خُطْوَةٍ فِي سَبِيلِ كَشْفِ الْكَنْزِ، وَالظَّفَرِ بِمَا يَحْوِيهِ مِنَ النَّفَائِسِ.»