الثورة الصناعية
كانت الثورة الصناعية (تقريبًا من ١٧٦٠ إلى ١٨٥٠) نقطة تحوُّل في تاريخ العالم؛ حيث دشَّنت عهدًا من النمو الاقتصادي المتواصل. ولم تكن الثورة الصناعية حدثًا مفاجِئًا مثلما يوحي اسمها، بل كانت نتيجة تحولات في أوائل الاقتصاد الحديث مثلما ناقشنا في الفصل السابق. كان معدل النمو الاقتصادي الذي تحقَّق في القرن الذي تلا عام ١٧٦٠ (١٫٥٪ سنويًّا) منخفضًا للغاية، وفقًا لمعايير معجزات النمو الاقتصادي الحديثة التي يصل فيها معدل نمو إجمالي الناتج المحلي إلى ٨–١٠٪ سنويًّا. كانت بريطانيا توسع الحدود التكنولوجية للعالم باستمرار، وهذا يجعل النمو يسير في بطء مقارنةً باللحاق بالدولة الرائدة من خلال استيراد التكنولوجيا التي تصنعها، وهي الطريقة التي تحقِّق بها الدول نموًّا سريعًا. بالإضافة إلى ذلك، تمثَّلَ الإنجاز الأهم للثورة الصناعية البريطانية في أنها أفضت إلى حدوث نمو متواصل، بحيث أدت زيادة الدخل المتواصلة إلى تحقيق الازدهار الذي نعيشه اليوم.
كان التغير التكنولوجي هو محرك الثورة الصناعية؛ فقد جرى ابتكار العديد من الاختراعات المشهورة مثل المحرك البخاري، وماكينات غزل القطن ونسجه، والعمليات الجديدة لصهر وتنقية الحديد والصلب باستخدام الفحم بدلًا من الخشب. بالإضافة إلى ذلك، ظهرت آلات كثيرة أخرى بسيطة أدت إلى زيادة إنتاجية الأيدي العاملة في صناعات عادية، مثل صناعة القبعات والدبابيس والمسامير، كما ظهرت مجموعة من المنتجات الإنجليزية الجديدة والتي كان معظمها — مثل خزف ودجوود — مستوحاة من المصنوعات الآسيوية.
في القرن التاسع عشر، وسَّع المهندسون تطبيق الاختراعات الميكانيكية التي ظهرت في القرن الثامن عشر على كافة المجالات. استُخْدِمَ المحرك البخاري على سبيل المثال في قطاع النقل باختراع السكك الحديدية والسفن البخارية، واستُخْدِمَت الآلات التي تعمل بالمحركات — التي كان استخدامها مقصورًا على مصانع المنسوجات — في المجال الصناعي بصورة عامة.
يظل السؤال هو: لماذا اختُرِعت التكنولوجيا الثورية في إنجلترا وليس في هولندا أو فرنسا، أو حتى في الصين أو الهند؟
السياق الثقافي والسياسي
اندلعت الثورة الصناعية في سياق سياسي وثقافي محدَّد مناسب للابتكار، وهو ما قد يساعد في تفسيرها.
لطالما كان الدستور الإنجليزي نموذجًا للِّيبراليين الأوروبيين وخبراء الاقتصاد في العصر الحديث على حد سواء، لكنه كان أبعد ما يكون عن الديمقراطية؛ إذ لم يمتلك حق التصويت سوى ٣–٥٪ فقط من الإنجليز وأقل من ذلك من الاسكتلنديين، وظل قسط كبير من السلطة في يد الملك، خاصةً سلطة إعلان الحرب وتوقيع اتفاقيات السلام. وفي حين أنه كان لدى البرلمان حق دستوري في رفض تمويل الحرب، فإنه لم يفعل ذلك مطلقًا.
توفرت في الدستور الإنجليزي سمات كثيرة جعلته يدعم النمو الاقتصادي، رغم أن تلك السمات ليست هي التي أكَّد عليها خبراء الاقتصاد في العصر الحديث، الذين ركَّزوا أكثر على تقليص الضرائب وتوفير حماية الملكية الفردية. فلقد أدى وضع السلطة العليا في يد البرلمان إلى نتائج عكسية؛ ففي حين زعم الملوك الفرنسيون امتلاكهم سلطة مطلَقة، لم يكن بإمكانهم زيادة الضرائب دون الحصول على موافقة، وكانت أزمة في التمويل العام هي التي أدت إلى اندلاع الثورة الفرنسية، من خلال إجبار لويس السادس عشر على عقد مجلس طبقات الأمة في عام ١٧٨٩. كانت طبقة النبلاء في فرنسا معفاة من دفع الضرائب، ولكن فرض البرلمان الإنجليزي ضريبة الأملاك في عام ١٦٩٣، والتي فُرِضت على النبلاء والعوام على حدٍّ سواء، إلا أن معظم عائدات الضرائب تحقَّقت من فرض الضرائب على السلع الاستهلاكية مثل الجعة، والسلع المستوردة مثل السكر والتبغ. وكان العمَّال — الذين لم يكونوا ممثلين في البرلمان — هم مَن يتحمَّل دفع هذه الضرائب بالأساس. ربما يحد البرلمان من سلطة الملك، لكن — في غياب الديمقراطية — مَن يحد من سلطة البرلمان؟
في الواقع، كانت الدولة الإنجليزية تجمع ضعف الضرائب التي تجمعها الدولة الفرنسية لكل فرد، وتنفق قسطًا أكبر من الدخل القومي. يجادل البعض بأن بنود الإنفاق هذه ساهمت في دعم النمو الاقتصادي، ولكن معظم الأموال كانت تُنفَق على الجيش والبحرية؛ إذ كان الجيش يُستخدَم من حينٍ لآخَر في تنفيذ أهداف خارجية، ولكنه كان متاحًا دائمًا للحفاظ على النظام العام في الداخل عن طريق قمع الاحتجاجات المناهضة لاستخدام الآلات، أو التي تنادي بتحقيق الديمقراطية. وكانت البحرية موجَّهة لتوسيع الإمبراطورية البريطانية ودعم تجارة البلاد، وقد استفاد العمَّال من ذلك؛ إذ كانت الإمبرياليةُ أساسَ الاقتصادِ مرتفعِ الأجور، وهو ما أدى بدوره إلى النمو من خلال تحقيق تغيير تكنولوجي يوفِّر في الأيدي العاملة. فإذا توفرت لدى لويس الرابع عشر السلطة اللازمة لفرض الضرائب، لربما استطاع زيادة الازدهار الفرنسي من خلال الإبقاء على البحرية الفرنسية في حال تأهُّب دائم، بدلًا من زيادة حجم قواتها أو تقليصها كرد فعل لأوضاع الحرب والسلام.
كما أن سلطة البرلمان للاستيلاء على أملاك الأفراد ضد رغباتهم عززت من النمو أيضًا. لم يكن هذا ممكنًا في فرنسا؛ بل وربما يمكن القول بأن فرنسا عانت لأن الملكية الفردية تمتعت بحماية زائدة عن الحد، فلم تُنفَّذ مشروعات الري المربحة في إقليم بروفانس؛ نظرًا لأن فرنسا لم تمتلك قوانين مناظِرة لقوانين البرلمان البريطاني الخاصة، وهي القوانين التي سمحت بالتعدي على ملكية الأفراد الذين عارضوا ضَمَّ أراضيهم أو شق قنوات أو طرق عبرها. فلقد كانت الثورة المجيدة في واقع الأمر تعني أن «السلطة الاستبدادية» للدولة التي «كانت موجودة بصورة متقطعة قبل عام ١٦٨٨ … صارت موجودة بصورة دائمة بعد ذلك.»
بالإضافة إلى النظام السياسي الملائم، ساهم بزوغ الثقافة العلمية في اكتمال الثورة الصناعية؛ فقد تمخض عن الثورة العلمية التي اندلعت في القرن السابع عشر عددٌ من الاكتشافات الخاصة بالعالم الطبيعي، والتي استغلها المخترعون في القرن الثامن عشر. بالإضافة إلى ذلك، أضفى نجاح الفلسفة الطبيعية مصداقية على الأسلوب العلمي؛ أي الرأي القائل بأن العالم تحكمه قوانين يمكن اكتشافها من خلال الملاحظة وتطبيقها لتحسين الحياة الإنسانية، وكان نموذج نيوتن للنظام الشمسي أعظم الإنجازات، وهو الإنجاز الذي أعاد تشكيل أفكار الطبقة العليا حول الدين والطبيعة.
لا توجد إجابة شافية على مدى مساهمة الثقافة الشعبية في عملية إعادة التشكيل هذه، وثمة أمثلة مهمة على مخترعين ينتمون إلى الطبقة العاملة تبنوا نموذج نيوتن. على سبيل المثال، اقترض جون هاريسون نسخة من محاضرات سوندرسن حول الفلسفة الطبيعية — وهو كُتَيِّب يتضمن بعض أفكار نيوتن — من أحد رجال الدين، وقام بنسخه؛ فهل دفع هذا الاهتمام المبكِّر بنيوتن هاريسون إلى اختراع الكرونوميتر (جهاز قياس الوقت بدقة متناهية)؟ من ناحية أخرى، كان هناك اهتمام شعبي مستمر بالسحر، وهو المعادل الموضوعي في القرون الوسطى للعلم. وعلى الأرجح كان عدد أكبر من الناس يؤمنون بالسحر أكثر من قوانين نيوتن للحركة، وكانت عِظَات جون ويسلي تجذب الملايين من الأتباع، وكان يرى أن «التخلي عن السحر يعتبر في الحقيقة تخليًا عن الكتاب المقدس.»
تأثَّرت الثقافة الشعبية بالتغيرات الاجتماعية بصورة مباشرة أكثر من كتاب نيوتن «المبادئ الرياضية»، وتمثَّلت أبرز التغيرات في عمليات التحضُّر ونمو التجارة، وقد شجَّعا على نشر معرفة القراءة والكتابة وتطوير المهارات الحسابية من خلال زيادة قيمتها. وبحلول القرن الثامن عشر، قضى معظم أبناء الحرفيين والصانعين وأصحاب المحال الصغيرة والمزارعين وعدد أقل من أبناء العمَّال عدةَ سنوات في مرحلة التعليم الأساسي، كما تلقَّتِ العديد من الفتيات التعليم أيضًا. ترتب على ذلك قدرة العامة على قراءة الصحف ومتابعة الشئون السياسية بدرجة غير مسبوقة. لقد تغيَّرت ملامح العالم إلى عالم جديد عندما استطاع رجل متطرف الآراء مثل توم بين تحقيق شهرة كبيرة من خلال بيع مئات الآلاف من نُسَخ كتاب «حقوق الإنسان».
تفسير الثورة الصناعية
كانت الاكتشافات العلمية معروفة في جميع أنحاء أوروبا، وكان شغف الطبقة العليا بالفلسفة الطبيعية عالميًّا؛ ومن ثَمَّ، فإن التطورات الثقافية لا يمكنها تفسير لماذا كانت الثورة الصناعية بريطانية، بل يكمن التفسير في الهيكل البريطاني الفريد للأجور والأسعار. لقد جعل اقتصادُ الأجور المرتفعة والطاقة الرخيصة في بريطانيا من اختراع واستخدام الابتكارات التكنولوجية التي تمخضت عنها الثورة الصناعية؛ أمرًا مُرْبِحًا.
ينطبق الأمر نفسه على الطاقة. كانت بريطانيا تمتلك أرخص مصادر للطاقة في العالم، خاصةً في مناجم الفحم في الشمال وفي وسط البلاد؛ ومن ثَمَّ، كان سعر الطاقة أقل كثيرًا مقارنةً بأجور الأيدي العاملة في بريطانيا عن أي مكان آخَر.
نتيجة لهذه الاختلافات في الأجور والأسعار، وجدت الشركات في إنجلترا أنه من المربح استخدام تكنولوجيا توفِّر عليها تكلفة الأيدي العاملة المرتفعة عن طريق زيادة استخدام الطاقة ورأس المال الرخيص. وفي ظل توفُّر رأس مال ومصادر طاقة أكثر، صار العمَّال البريطانيون أكثر إنتاجية، وهو ما يمثِّل السر وراء النمو الاقتصادي. أما في آسيا وأفريقيا، فقد أدى توفُّر الأيدي العاملة الرخيصة إلى نتيجة عكسية.
صناعة القطن
كتب إريك هوبزباوم عبارةً شهيرة يقول فيها: «إذا ذُكِرَت الثورة الصناعية ذُكِرَ القطن.» فمن بدايات متواضعة في منتصف القرن الثامن عشر، صارت صناعة القطن أكبر قطاعات الاقتصاد البريطاني؛ حيث ساهمت بنسبة ٨٪ من إجمالي الناتج المحلي في عام ١٨٣٠، وبنسبة ١٦٪ من إجمالي الوظائف المتوفرة في مجال التصنيع. كانت صناعة القطن أول صناعة تشهد تحوُّلًا من خلال العملية الإنتاجية في المصانع، وقد أدى نمو صناعة القطن إلى النمو المذهل لمدينة مانشستر، فضلًا عن العديد من المدن الأصغر منها الأخرى في شمال إنجلترا واسكتلندا. وقد جاء نمو الاقتصاد البريطاني على حساب الهند والصين والشرق الأوسط، وعندما بدأت هذه الدول في نهاية المطاف في التحول إلى دول صناعية مجدَّدًا، كانت صناعة القطن هي أولى الصناعات التي التفتوا إليها.
في القرن السابع عشر، كانت الصين والهند أكبر معقلين لصناعة القطن في العالم، فكانت بنغال ومدراس وسورات تصدِّر الملابس القطنية عبر المحيط الهندي وحتى غرب أفريقيا، وكان القطن يُنتَج أيضًا في مراكز صغيرة في آسيا وأفريقيا. بدأت شركات الهند الشرقية المختلفة في تصدير المنسوجات القطنية والموسلين إلى أوروبا في أواخر القرن السابع عشر؛ حيث نجحت هذه المنسوجات في منافسة الكتان والصوف، وهي المنسوجات الأوروبية الرئيسية. وقد صار القطن سلعة رائجة وناجحة؛ حتى إن فرنسا حظرت استيراده في عام ١٦٨٦، كما قيَّدت إنجلترا من استهلاكه محليًّا، ولكن كان هناك سوق تصدير كبيرة في غرب أفريقيا؛ حيث كان القطن يُقايَض بالعبيد، وفي هذه السوق كان القطن الإنجليزي ينافس القطن الهندي.
كانت المنافسة الدولية هي الدافع الذي أدى إلى مَيْكَنة صناعة غزل القطن. كلما كان القطن ناعمًا، استغرق وقتًا أطول في غزله. كانت الأجور مرتفعة للغاية في إنجلترا بحيث صارت المنافسة مع الهند ممكنة فقط في الأقمشة السميكة. لقد كان هناك سوق كبيرة للأقمشة الناعمة، غير أن إنجلترا لم تكن تستطيع المنافسة إلا إذا اخترعت الآلات لتقليص عدد الأيدي العاملة. كانت الفجوة كبيرة بحق؛ ففي عام ١٧٥٠، كان إقليم بنغال يغزل حوالي ٨٥ مليون رطل من القطن سنويًّا، فيما كانت بريطانيا تغزل ما لا يزيد عن ٣ ملايين رطلًا، وكانت هناك محاولات عديدة لميكنة عملية الإنتاج، وكانت ماكينة جيمس هارجريفز للغزل — التي طُوِّرت في وسط عقد الستينيات من القرن الثامن عشر — الماكينة الأولى الناجحة على المستوى التجاري، ثم جاءت بعدها ماكينة الغزل التي تعمل من خلال الماء التي ابتكرها ريتشارد أركرايت، ثم جاء المغزل الآلي الذي ابتكره صامويل كرومبتون في سبعينيات القرن الثامن عشر ليجمع بين ماكينتَيْ هارجريفز وأركرايت، وصار الأساس الذي اعتمدت عليه عملية الغزل المميكنة لمدة قرن كامل.
لا تدين أي من هذه الماكينات شيئًا للاكتشافات العلمية، ولم تتضمن أي منها قفزات نظرية عظيمة، وإنما تطلبت هذه الماكينات سنوات من الهندسة التجريبية للتوصل إلى تصميمات يُعتمَد عليها في تشغيل الماكينات. وتعتبر ملاحظة توماس إديسون بأن «الإلهام لا يمثل سوى ١٪ فقط من الاختراعات، فيما يمثِّل الجهد ٩٩٪» صائبةً للغاية فيما يتعلق بصناعة القطن.
ومن ثَمَّ، يتمثل جوهر تفسير سبب ظهور الثورة الصناعية في بريطانيا، في تفسير سبب إنفاق المخترعين البريطانيين وقتًا وأموالًا طائلة على البحث والتطوير (أيْ «الجهد» حسب عبارة إديسون) لتنفيذ أفكار بدت في كثير من الأحيان تفتقر إلى الإبداع. تتمثل الإجابة على هذا السؤال في أن الماكينات التي اخترعوها زادت من استخدام رأس المال لتوفير الأيدي العاملة؛ بناءً عليه كانت الماكينات مربحة في استخدامها حيثما كانت الأيدي العاملة باهظة وكانت تكلفة رأس المال رخيصة؛ أيْ في إنجلترا. لم تكن الماكينات مربحة في أي مكان آخَر، ومن هنا كانت الثورة الصناعية بريطانية المنشأ.
كان غزل القطن يُصنَّع على ثلاث مراحل؛ أولًا: كانت بالات القطن الخام تُفتح وتُزال الأوساخ والعوالق. ثانيًا: كان القطن يُهذَّب؛ أيْ كانت جدائل القطن تُرَصُّ في جديلة سائبة، عن طريق سحب القطن بين فتحات التهذيب التي تحتوي على مسامير. ثالثًا: كانت الجديلة السائبة تُغزل فتصبح خيوطًا. قبل ظهور الماكينات، كان المغزل يُستخدَم لعمل خيوط رفيعة، بينما كانت عجلة الغزل تُستخدَم في عمل خيوط سميكة. في كلتا الحالتين، كانت الجديلة السائبة تُمَط لترفيعها، ثم تُلَف لتقويتها، وأخيرًا كانت الخيوط تُلَف حول مغزل لإرسالها إلى النساجين.
تمت مَيْكَنة جميع هذه المراحل، ويتمثَّل إنجاز ريتشارد أركرايت الأكبر في تصميم مصنع غزل القطن (مصنع كرومفورد رقم ٢)؛ حيث كانت الماكينات تُرَص فيه بترتيب منطقي، وهو التصميم الذي صار النموذج لمصانع غزل القطن الأولى في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية والقارة الأوروبية. لقد كانت عملية غزل القطن تمثِّل جوهر المشكلة، وقد ظل المخترعون يعملون على التوصل إلى أفضل الحلول لها منذ ثلاثينيات القرن الثامن عشر على الأقل. وقد كان لويس بول وجون وايت يسيران على الدرب الصحيح في أربعينيات وخمسينيات القرن الثامن عشر من خلال نظام الغزل على بَكَر، غير أن مصنعهما في برمنجهام كان خاسرًا طوال الوقت. وكانت ماكينة جيمس هارجريفز للغزل — التي ابتكرها في ستينيات القرن الثامن عشر — الماكينة الأولى الناجحة على المستوى التجاري، وقد طورت هذه الماكينة عجلة الغزل من خلال وجود عدة عواميد دوَّارة تنبثق عن عجلة الغزل، واستخدام قضبان سحب ووصلات تحاكي حركات أيدي الغازل. وظَّف أركرايت صانعي الساعات لمدة خمس سنوات بغرض إدخال مزيد من التعديلات على ماكينته للغزل التي تعمل بالماء، والتي كانت تستخدم البَكَر. وباستخدام الغزل الدائري على البكر، كانت الجديلة تُمَطُّ عن طريق شَدِّها عبر زوجين متتابعين من البكرات الدوارة التي تسحب القطن إلى الأمام مثل جهاز التجفيف، يتحرك كل زوج من البَكَر أسرع من سابقيهما بحيث يطيلان ويرفِّعان الخيوط عن طريق جذبها قبالة بعضهما.
كان مغزل كرومبتون آخِر أعظم ماكينة غزل ظهرت على الإطلاق؛ حيث إنها جمعت بين قضبان السحب في ماكينة هارجريفز والبَكَر الدوَّار في ماكينة أركرايت، فصارت تغزل الخيوط أرفع كثيرًا من أي ماكينة أخرى. مكَّنَتْ ماكينتا هارجريفز وأركرايت إنجلترا من التنافس مع المنتجين الهنود في سوق الغزل السميك، فيما جعلت ماكينة كرومبتون من إنجلترا أقل المنتجين تكلفة للغزل الرفيع أيضًا.
كانت القيمة الاقتصادية لهذه الماكينات متشابهة؛ فجميعها ساعد على تقليص عدد ساعات العمل اللازمة لإنتاج رطل واحد من الغزل. في الوقت نفسه، زادت هذه الماكينات من رأس المال اللازم لإنتاج رطل واحد؛ ونتيجةً لذلك كان التوفير في التكلفة جرَّاء مَيْكَنة عملية الغزل أكثر في البلدان التي ترتفع فيها تكلفة الأيدي العاملة. في ثمانينيات القرن الثامن عشر، كان عائد الاستثمار على بناء مصنع غزل على طراز أركرايت ٤٠٪ في إنجلترا، و٩٪ في فرنسا، وأقل من ١٪ في الهند. وفي ظل توقُّع المستثمرين عائدًا على رأس المال الثابت يصل إلى ١٥٪، لم يكن من المثير للدهشة أن يُقام ١٥٠ مصنعًا على طراز مصنع أركرايت في بريطانيا في ثمانينيات القرن الثامن عشر، وأربعة في فرنسا، فيما لم تُقَمْ أي مصانع في الهند. كان الأمر مماثلًا فيما يتعلق بالربحية النسبية المتحققة جرَّاء استخدام ماكينة هارجريفز؛ حيث استُخْدِمت ٢٠ ألف ماكينة من هذا الطراز في إنجلترا قبيل الثورة الفرنسية، و٩٠٠ في فرنسا، فيما لم تُستخدَم أي ماكينة منها في الهند؛ إذ لم يكن هناك سبب معقول في إنفاق وقت أو أموال كثيرة لاختراع ماكينات للغزل في فرنسا أو الهند؛ حيث لم يكن من المربح استخدامها هناك.
لم يَبْقَ الوضع كما هو عليه، وهو ما يفسِّر لماذا انتقلت الثورة الصناعية إلى دول أخرى. أدت المغازل على طراز مغزل أركرايت إلى ظهور سلسلة متكاملة من الماكينات التي قلَّصت من تكلفة الإنتاج أكثر مما فعلت ماكينات هارجريفز. في الوقت نفسه، قلَّص مغزل كرومبتون من تكلفة إنتاج الغزل الرقيق. طوَّرت قائمة طويلة من المخترعين مغزل كرومبتون على مدار نصف القرن التالي، وقد وفروا في رأس المال مثلما وفروا في تكلفة الأيدي العاملة. بحلول عشرينيات القرن التاسع عشر، صار من الممكن أن يحقِّق استخدام ماكينات إنتاج القطن المحسنة ربحًا في مختلف أنحاء القارة الأوروبية، وبحلول عقد الخمسينيات من القرن التاسع عشر، صار من المربح كذلك استخدام ماكينات إنتاج قطن محسنة في اقتصادات منخفضة الأجور مثل المكسيك والهند. وبحلول سبعينيات القرن التاسع عشر، بدأ إنتاج القطن من المصانع ينتقل إلى العالم الثالث.
المحرك البخاري
كان المحرك البخاري أكثر تكنولوجيات الثورة الصناعية التي غيرت وجه العالم؛ نظرًا لأنه سمح باستخدام القوى الميكانيكية في نطاق واسع من الصناعات المختلفة، فضلًا عن قطاعات السكك الحديدية وسفن الشحن عبر المحيطات.
كانت الطاقة البخارية من الابتكارات التي انبثقت عن الثورة العلمية. كان الضغط الجوي أحد الموضوعات التي تشهد جدلًا محتدمًا في فيزياء القرن السابع عشر؛ فقد بحث مسألة الضغط الجوي علماء مشهورون عبر أوروبا؛ مثل جاليليو، وتورشيلي، وفون جيريك، وهايجنز، وبويل. بحلول منتصف القرن، أثبت هايجنز وفون جيريك أنه — إذا نجحنا في خلق فراغ في أسطوانة — سيدفع الضغط الجوي المكبس عبرها. في عام ١٦٧٥، استخدم الفرنسي دينيس بابان هذه الفكرة في صناعة محرك بخاري بدائي نموذجي. استكمل توماس نيوكومن ابتكار محرك بخاري عملي في عام ١٧١٢ في دادلي، بعد ١٢ عامًا من التجريب. تضمَّن محرك نيوكومن غَلْي مياه لإنتاج البخار، ثم ملء أسطوانة به، ثم حقن مياه باردة في الأسطوانة لتكثيف البخار بحيث يدفع الضغط الجوي بمكبس داخل الأسطوانة، يتصل المكبس بقضيب هزاز يرفع مضخة أثناء دفع الضغط على المكبس.
يؤكد المحرك البخاري على أهمية توفُّر الحوافز الاقتصادية في تشجيع الابتكارات. كان علم المحركات ينتشر في أنحاء أوروبا، غير أن عمليات البحث والتطوير جرت في إنجلترا نظرًا للعائد المتحقق من استخدامه هناك. تمثَّل الغرض من محرك نيوكومن في تجفيف وتفريغ المناجم، وكانت إنجلترا تضم عددًا أكبر من المناجم من أي دولة أخرى؛ نظرًا لوجود صناعة الفحم الضخمة. بالإضافة إلى ذلك، كانت المحركات البخارية الأولى تحرق كميات هائلة من الفحم، بحيث كان استخدامها موفَّرًا فقط عندما تتوفر مصادر رخيصة للطاقة. كتب جون ثيوفيلوس ديزيجوليه في ثلاثينيات القرن الثامن عشر قائلًا إن محركات نيوكومن «تُستخدم الآن على نطاق واسع … في حقول الفحم؛ حيث تنتج الطاقة النارية عن مخلفات الفحم، التي لم تكن ستُباع بصورة أخرى.» كانت المحركات البخارية نادرًا ما تُستخدَم في أي مكان آخَر. على الرغم من الطفرات العلمية، لم يكن المحرك البخاري سيتطور إذا لم تكن هناك صناعة فحم في بريطانيا.
صارت الطاقة البخارية تكنولوجيا يمكن تطبيقها لتحقيق العديد من الأغراض واستخدامها حول العالم، لكن ذلك لم يحدث إلا بعد تطوير المحرك البخاري، لم يتحقق ذلك قبل أربعينيات القرن التاسع عشر. درس مهندسون من أمثال جون سميتون، وجيمس واط، وريتشارد ترفيثيك، وآرثر وولف المحرك البخاري وأدخلوا تعديلات عليه، وعملوا على تخفيض استهلاكه للطاقة وتطوير طريقة توليده للطاقة. خُفِّض استهلاك الفحم لكل قدرة حصان في الساعة من ٤٤ رطلًا في محركات نيوكومن التي انتشر استخدامها في ثلاثينيات القرن الثامن عشر، إلى رطل واحد فقط في المحركات البحرية التوسعية الثلاثية التي استُخْدِمت في أواخر القرن التاسع عشر. لقد أطلقت العبقرية الهندسية البريطانية الميزة التنافسية للبلاد من خلال تطوير التكنولوجيا إلى الدرجة التي صار من المربح استخدامها حول العالم، وقد فُتِح هذا الباب على مصراعيه أمام الثورة الصناعية للانتشار حول العالم، كما مهَّد الطريق أمام تحوُّل العالم بأسره إلى التصنيع.
مواصلة الابتكار
تمثَّل أعظم إنجازات الثورة الصناعية في أن اختراعات القرن الثامن عشر لم تكن اختراعات عظيمة تحققت لمرة واحدة ثم لم تتكرر مثل اختراعات القرون السابقة، بل إن اختراعات القرن الثامن عشر دشنت سيلًا متواصلًا من الابتكارات.
ظل القطن الصناعة التي تركزت عليها الجهود؛ فبينما حوَّلت اختراعات القرن الثامن عشر الغزل إلى نظام المصانع، كان النسج لا يزال يجري من خلال أنوال يدوية في أكواخ، لكن تغيَّرت الأمور على يد إدموند كارترايت الذي قضى عقودًا من حياته، وأنفق ثروته كلها في ابتكار نول آلي. وقد استلهم كارترايت فكرته من الماكينات الآلية، مثل البطة الميكانيكية التي ابتكرها جاك دي فوكانسون التي أبهرت البلاط في قصر فرساي؛ إذ إنها كانت تخفق بجناحيها، وتتناول الطعام، وتتغوطه! (وقد كتب فولتير متهكِّمًا: «بدون بطة فوكانسون، لن يجد المرء شيئًا يذكِّره بمجد فرنسا».) فإذا كانت آلة ميكانيكية تستطيع التبرز على هذا النحو، أَلَا يمكن أن تقوم بعمل نافع؟ فكر كارترايت في ذلك ثم سجَّل براءة اختراع أول نول ابتكره في عام ١٧٨٥، ثم نسخة معدَّلة منه في عام ١٧٩٢. إلا أن نول كارترايت لم يحقِّق نجاحًا تجاريًّا. وقد أدخل العديد من المخترعين تحسينات على نول كارترايت تدريجيًّا. وبحلول عشرينيات القرن التاسع عشر، بدأ النول الآلي يحل محل النول اليدوي في إنجلترا، لكن ظل النول اليدوي مستخدَمًا حتى خمسينيات القرن التاسع عشر. زاد النول الآلي من تكلفة رأس المال كثيرًا، فيما قلَّص من تكلفة الأيدي العاملة، ومن ثَمَّ كان استخدام النول الآلي مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بعوامل السعر فضلًا عن الكفاءة النسبية لاستخدام النول الآلي في مقابل النول اليدوي. ومن غير المعتاد في هذا السياق أن النول الآلي قد انتشر بصورة أسرع في الولايات المتحدة منه في بريطانيا؛ إذ إنه بحلول عشرينيات القرن التاسع عشر، كانت الأجور أعلى في الولايات المتحدة، وقد عكس نمط الابتكار التكنولوجي هذا التباين.
كان القطن أيضًا في المقدمة عند استخدام الطاقة البخارية في المصانع. بطبيعة الحال، كانت التجارب فقد أُجريت على ذلك في وقت سابق. وفي عام ١٧٨٤، استثمر باولتون وواط أموالهما في مصنع ألبيون للدقيق، أول مصنع تُستخدَم فيه الطاقة البخارية على نطاق واسع، وذلك بغرض الترويج لمحركاتهم البخارية. في العام التالي، استُخْدِم البخار في مصنع قطن للمرة الأولى، وعلى أية حال، كانت معظم المصانع لا تزال تعتمد على الطاقة المائية حتى أربعينيات القرن التاسع عشر. آنذاك فقط انخفض استهلاك المحركات البخارية من الوقود بدرجة كافية جعل استخدامها مصدرًا أرخص للطاقة، وبعد ذلك انتشر استخدام الطاقة البخارية في الصناعة بصورة مستمرة.
أحدثت الطاقة البخارية ثورة أيضًا في النقل في القرن التاسع عشر. إن كل مَن اخترع محركًا بخاريًّا عاليَ الضغط (كوجنت، وترفيثثك، وإيفانز) استخدمه لتشغيل مركبة برية، لكنهم جميعًا لم ينجحوا؛ إذ لم يستطيعوا التغلُّب على عقبة الطرق غير الممهَّدة، فتمثَّل أحد الحلول في وضع المحرك البخاري على قضبان. كان الفحم والمواد الخام تُشحَن في عربات تسير على قضبان خشبية بدائية في المناجم. في القرن الثامن عشر، حلت القضبان الحديدية محل الخشبية، ومُدَّت خطوط النقل لمسافات أطول. في عام ١٨٠٤، بنى ريتشارد وترفيثيك أول مركبة بخارية تسير على قضبان في مصنع حديد بنيدارن في ويلز. منذ ذاك الحين، صارت خطوط النقل في مناجم الفحم الأماكن المفضلة لاختبار المركبات البخارية، وكان من المخطط أن يكون خط السكك الحديدية الذي كان يربط بين ستوكتون ودارلنجتون (١٨٢٥) — الذي امتد لمسافة ٢٦ ميلًا — خطًّا لنقل الفحم، غير أنه تبيَّن إمكانية تحقيق عائدات عن طريق نقل البضائع والركاب عليه. كان خط السكك الحديدية العام الأول هو الخط الذي كان يربط بين ليفربول ومانشستر، والذي امتد لمسافة ٣٥ ميلًا وافتُتِح في عام ١٨٣٠. حقَّق هذا الخط نجاحًا كبيرًا، وأطلق حمى ترويج بناء خطوط سكك حديدية في بريطانيا، وبحلول عام ١٨٥٠ كان هناك خطوط سكك حديدية بطول ما يقرب من ١٠ آلاف كيلومتر، وبعد ثلاثين عامًا، وصل طول شبكة خطوط السكك الحديدية إلى ٢٥ ألف كيلومتر.
استُخْدِمت الطاقة البخارية أيضًا في مجال النقل المائي، وهي وسيلة أخرى لتجنب الطرق السيئة! كانت عملية الابتكار تتسم بطابع عالمي منذ بدايتها، فكانت الحاويات الأولى العاملة فرنسية — «بالميبد» (١٧٧٤)، و«بيروسكاف» (١٧٨٣) — وكانت أول سفينة تجارية بخارية ناجحة هي السفينة «كليرمونت» من ابتكار روبرت فلتون، التي عبرت نهر هدسون من عام ١٨٠٧، وبعدها بعامين أَبْحَرَ جون مولسون — صانع الجعة الكندي — بسفن بخارية في نهر سانت لورانس مستخدمًا محركات بُنِيت في مدينة تروا ريفيير في كيبيك.
بحلول منتصف القرن التاسع عشر، كان البخار يحل محل الأشرعة في النقل عبر المحيطات. صارت بريطانيا مركز العالم في بناء السفن؛ نظرًا لتفوُّقها في صناعة الحديد والهندسة. مثَّلت سفينة برونل «الغربي العظيم» (١٨٣٨) علامة فارقة؛ حيث أظهرت أنه بإمكان سفينة أن تحمل فحمًا كافيًا لعبور المحيط الأطلنطي، كما كانت السفينة «بريطانيا العظمى» (١٨٤٣) التي صمَّمها برونل أولَ سفينةٍ تُبنَى من الحديد وتستخدم رفَّاصًا بدلًا من عجلات التبديل. استغرق الأمر نصف قرن حتى حل البخار محل الأشرعة تمامًا، ويرجع السبب في ذلك إلى أن السفن كانت لا بد وأن تحمل الفحم اللازم لإبحارها على متنها، وهو ما قلَّص كثيرًا من وجود مساحة لنقل البضائع في الرحلات الطويلة، ومن ثَمَّ فقد كانت أولى الرحلات البحرية التي تتحول إلى استخدام البخار هي تلك التي تقطع مسافات قصيرة، ومع انخفاض استهلاك المحركات البخارية من الفحم، استطاعت السفن البخارية الإبحار لمسافات أطول باستخدام الكميات نفسها من الفحم، كما زادت المسافات التي كانت السفن تستطيع قطعها باستخدام البخار بدلًا من الأشرعة. وكانت آخِر الرحلات البحرية تحوُّلًا إلى السفن البخارية هي تلك التي تسافر بين الصين وبريطانيا؛ حيث كانت السفن السريعة ثلاثية الصواري لا تزال مستخدَمة حتى نهاية القرن التاسع عشر.
تعتبر الطاقة البخارية مثالًا على التكنولوجيا متعددة الاستخدامات؛ أي التي يمكن استخدامها لأغراض مختلفة، ومن أمثلة هذا النوع من التكنولوجيا أيضًا الكهرباء والكمبيوتر. ويستغرق الأمر عقودًا لتطوير إمكانات هذا النوع من التكنولوجيا، ومن ثَمَّ يتحقق إسهامها الفعلي في النمو الاقتصادي بعد فترة طويلة من اختراعها. وقد كان هذا هو الحال مع الطاقة البخارية؛ فحتى عام ١٨٠٠؛ أيْ بعد حوالي قرن من اختراع نيوكومن، لم تكن الطاقة البخارية قد ساهمت سوى إسهام ضئيل في الاقتصاد البريطاني، ولكن بحلول منتصف القرن التاسع عشر، تحقَّقت إمكانات الطاقة البخارية؛ حيث استُخْدِمت بصورة واسعة في النقل والصناعة. يرجع تحقيق نصف معدلات النمو في إنتاجية العمالة في بريطانيا في منتصف القرن التاسع عشر إلى الطاقة البخارية، وتُعتبَر هذه الفائدة البعيدة المدى سببًا مهمًّا في استمرار النمو الاقتصادي طوال القرن، ويتمثل أحد الأسباب الأخرى في تحقيق النمو الاقتصادي في التطبيق المتزايد للعلوم في مجالات الصناعة، وهو ما سوف نتناوله في الفصل التالي.