التصنيع في نموذج«الدفعة القوية»
حقَّق الغرب مزيدًا من التقدم على باقي دول العالم في القرن العشرين، ولكن بعض الدول سلكت اتجاهًا مغايرًا ونجحت في اللحاق بالغرب، أبرزها اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية، فضلًا عن الاتحاد السوفييتي (وإنْ كان بصورة أقل اكتمالًا)، ويبدو أن الصين تسير على المسار الصحيح لتكرر الأمر نفسه. كان النمو في هذه الدول سريعًا للغاية، ورُدِمت الفجوة مع الغرب في نصف قرن، وقد بدأت هذه الدول فورة النمو بمستوى دخل لكل فرد يساوي ٢٠–٢٥٪ فقط من مستوى الدخل لكل فرد في الدول المتقدمة، ومع نمو مستوى الدخل لكل فرد في الدول المتقدمة بمعدل ٢٪ سنويًّا، كانت الدولة الفقيرة تستطيع اللحاق بها في غضون جيلين (٦٠ عامًا) فقط في حال نمو الناتج المحلي الإجمالي لكل فرد بها بنسبة ٤٫٣٪ سنويًّا، وهذا يتطلب نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة ٦٪ أو أكثر سنويًّا حسب نمو عدد السكان، وهذه عقبة كئود. ومن ثَمَّ، فقد كانت الطريقة الوحيدة التي استطاعت من خلالها الدول الكبرى تحقيق النمو بسرعة هي بناء جميع عناصر الاقتصاد المتقدم — مصانع الصلب، ومحطات توليد الطاقة، ومصانع إنتاج المركبات، والمدن وغيرها — في آنٍ واحد، وهذا هو ما يُعرَف بتصنيع «الدفعة القوية». ويثير هذا النمط من التصنيع مشكلات عويصة؛ حيث يجري بناء كل شيء قبل توفر العرض والطلب؛ فتُبنَى مصانع الصلب قبل بناء مصانع السيارات التي ستستخدم ألواح الصلب المدرفلة التي ستنتجها مصانع الصلب، وتُبنَى مصانع السيارات قبل توافر الصلب الذي ستقوم بتصنيعه، وبالطبع قبل وجود طلب حقيقي على منتجاتها. يعتمد كل استثمار على إيمانٍ بأن عناصر الاستثمار المكملة ستتحقق، ويتطلب نجاح التصميم الكبير وجود سلطة تخطيط لتنسيق الأنشطة المختلفة وضمان تنفيذها. وقد نجحت الاقتصادات الكبرى التي انطلقت هاربة من شرنقة الفقر في القرن العشرين في القيام بذلك، على الرغم من التفاوت الكبير بينها في أسلوب التخطيط.
التنمية الاقتصادية السوفييتية
يعتبر الاتحاد السوفييتي المثال الكلاسيكي على نموذج الدفعة القوية. تلا ثورة عام ١٩١٧ أربع سنوات من الحرب الأهلية انتصر فيها البلاشفة، ثم أقرُّوا بمطالب الفلاحين في امتلاك الأراضي وتوزيعها بالتساوي على العاملين في الزراعة. بحلول عام ١٩٢٨، كانت السياسة الاقتصادية الجديدة قد أعادت إحياء الاقتصاد. كان لينين قد مات، ووصل ستالين إلى السلطة.
واجهت جمهوريات الاتحاد السوفييتي المشكلة نفسها التي واجهتها الدول الفقيرة؛ فكان معظم السكان يعيشون في مناطق ريفية ويمارسون حِرَفًا يدوية وكذلك الزراعة على نطاق صغير، وكانت الدولة في حاجة إلى بناء اقتصاد حديث حضريٍّ؛ وهو ما تطَّلَبَ بدوره الاستثمار الكثيف في التكنولوجيا الحديثة. تمثَّل الحل السوفييتي في التخطيط المركزي، وصارت الخطة الخمسية رمزًا له، ونظرًا لأن الشركات السوفييتية كانت مملوكة للدولة، كانت توجِّهها أوامر عليا (الخطة) بدلًا من الاستجابة لقوى السوق. ولفترة طويلة، ظل النموذج السوفييتي يبدو مثالًا على النجاح العظيم، كما ألهم تطبيق أسلوب التنمية المخططة في كثير من الدول الفقيرة.
بدأت الدفعة القوية السوفييتية مع تطبيق الخطة الخمسية الأولى في عام ١٩٢٨. كانت استراتيجية النمو تقوم على أربع ركائز: تمثَّلت الركيزة الأولى في توفير الاستثمارات للصناعات الثقيلة وتصنيع الماكينات؛ وهو ما أدى إلى الإسراع في القدرة على بناء المعدات الرأسمالية، ومن ثَمَّ زيادة معدلات الاستثمار. كان الاتحاد السوفييتي كبير الحجم بما يكفي لاستيعاب إنتاج المصانع الكبيرة التي صارت هي النموذج المعتاد. أما الركيزة الثانية فكانت استخدام الأهداف الإنتاجية المُتَطلبة في توجيه عمليات الشركات. ونظرًا لأن تعظيم الإنتاج قد يؤدي إلى تكبد خسائر، كانت الائتمانات المصرفية تُمنَح بسهولة بالغة للشركات لتغطية نفقاتها. وحلت «قيود الميزانية المرنة» محل «قيود الميزانية الصعبة» التي تميِّز الرأسمالية. وأما الثالثة، فصارت الزراعة نشاطًا اقتصاديًّا جماعيًّا. سياسيًّا، كانت هذه السياسة هي الأكثر جدلًا؛ إذ كانت بغيضة بالنسبة للفلاحين الذين كانوا يفضلون امتلاك مزارع عائلية صغيرة، وإعادة توزيع دورية للأراضي من قِبَل القرية لضمان تحقيق المساواة. ترتَّب على تطبيق سياسة الزراعة الجماعية انخفاض حادٌّ في إنتاجية الزراعة، كما أدت إلى حدوث مجاعة في عام ١٩٣٣. وتمثَّلت الركيزة الرابعة في التعليم العام، فسرعان ما نُشِر التعليم على نطاق واسع كما صار إجباريًّا، ووُضِعت سياسة نشطة لتعليم البالغين بغرض تقليص الوقت اللازم لتدريب كامل القوة العاملة.
أدت هذه الإجراءات إلى نمو الاقتصاد بسرعة، وعندما وقع الغزو الألماني في عام ١٩٤٠، كان الآلاف من المصانع والسدود ومحطات توليد الطاقة قد أنشئت. وجهت الخطط الاستثمارات إلى قطاع الصناعات الثقيلة الذي ازدهر بقوة، وبحلول عام ١٩٤٠ زاد إنتاج الحديد الغُفْل من حد أقصى يصل إلى ٤ ملايين طن سنويًّا قبل الحرب إلى ١٥ مليون طن، وهو ما كان يمثِّل ضعف إنتاج بريطانيا، ولكنه كان لا يزال نصف إنتاج الولايات المتحدة. ارتفع حجم توليد الطاقة الكهربائية من ٥ إلى ٤٢ مليار كيلوواط/ساعة. (وصف لينين الشيوعية ذات مرة مازحًا: «القوة السوفييتية زائد إدخال الكهرباء في جميع أرجاء البلاد.» ووَفْق هذا التعريف، تُعتبَر الثورة قد حقَّقت نجاحًا.) وارتفع معدل الاستثمار من حوالي ٨٪ من إجمالي الناتج المحلي في عام ١٩٢٨ إلى ١٩٪ في عام ١٩٣٩.
زاد إنتاج السلع الاستهلاكية أيضًا ولكن بصورة ضئيلة. يرجع السبب في ذلك، جزئيًّا إلى ترتيب الأولويات، وجزئيًّا إلى التحويل الكارثي للزراعة إلى نشاط جماعي. وعلى أية حال، فقد تعافى الإنتاج بنهاية العقد نفسه. في عام ١٩٣٩، كان الاتحاد السوفييتي ينتج حوالي ٩٠٠ ألف طن من القطن المحلوج، وهو ما يماثل ضعف مستوى الإنتاج في عام ١٩١٣، وأعلى بنسبة ٥٠٪ من إنتاج بريطانيا العظمى (التي انخفض إنتاجها انخفاضًا ملحوظًا نظرًا للمنافسة اليابانية)، لكنه كان يمثل ٥٢٪ فقط من إجمالي إنتاج الولايات المتحدة، وفي حين انخفض الاستهلاك لكل فرد انخفاضًا حادًّا في عامَيْ ١٩٣٢ و١٩٣٣، كانت هناك زيادة بنسبة ٢٠٪ في متوسط مستويات المعيشة بين عامَيْ ١٩٢٨ و١٩٣٩. بالإضافة إلى ذلك، انتشرت الخدمات التعليمية والصحية بصورة هائلة.
كانت الحرب العالمية الثانية ضربة قاصمة بالنسبة للاتحاد السوفييتي؛ فَقَدَ ١٥٪ من المواطنين السوفييت حياتهم (وصل معدل الوفيات بين الرجال بين ٢٠–٤٩ عامًا إلى ٤٠٪)، كما دُمِّرَت المنازل والمصانع. في المقابل، استُعِيد إجمالي رأس المال بحلول عام ١٩٥٠، وجرى استئناف النمو الاقتصادي السريع. ظل الاستثمار في حدود ٣٨٪ من إجمالي الناتج المحلي، وبحلول عام ١٩٧٥، كان الاتحاد السوفييتي ينتج أكثر من ١٠٠ مليون طن من الحديد الغُفْل متفوِّقًا على الولايات المتحدة، كما زاد إنتاج السلع الاستهلاكية أيضًا بسرعة، وبدا وكأن النموذج السوفييتي هو الطريقة المثلى التي تستطيع من خلالها أية دولة فقيرة تحقيق النمو.
ثم ما لبث أن سار كل شيء في الاتجاه الخاطئ؛ بدأ معدل النمو في الانخفاض تدريجيًّا في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، وبنهاية العقد وصل معدل النمو إلى صفر. دعا الرئيس جورباتشوف إلى تطبيق سياسة «إعادة الهيكلة» (البيريسترويكا)، فأفسح التخطيط المركزي المجال للسوق، ولكن كان الوقت قد فات لإنقاذ الاتحاد السوفييتي، فانهار.
في حالة الاتحاد السوفييتي، هناك سؤالان يطرحان نفسيهما؛ أولًا: ما الذي سار في الاتجاه الصحيح؟ لماذا زاد إجمالي الإنتاج المحلي لكل فرد بسرعة كبيرة من عام ١٩٢٨ إلى سبعينيات القرن العشرين؟ يتعلق جزء من الإجابة ﺑ «إجمالي الإنتاج المحلي»، وجزء آخَر ﺑ «عدد السكان». زاد إجمالي الإنتاج المحلي سريعًا؛ نظرًا لفعالية المؤسسات السوفييتية في بناء مصانع ضخمة حديثة. زاد تدفق الاستثمارات على الصناعات الثقيلة من القدرة على بناء الكيانات الصناعية والمعدات، كما أدت قيود الميزانية المرنة إلى توفير فرص عمل للأفراد الذين لم يكن ليتوفر لهم فرص عمل في اقتصاد يوجد فيه فائض في العمالة. ساهم تحويل الزراعة إلى نشاط جماعي أيضًا في نمو إجمالي الناتج المحلي (وإن كان إسهامًا محدودًا)، من خلال تسريع معدلات هجرة الأفراد إلى المدن حيث توجد الوظائف الجديدة. في البداية، لم يتطلب التخطيط توفر رؤية عميقة؛ حيث اقتصر الهدف آنذاك على تبنِّي التكنولوجيا الغربية بما يلائم الظروف الروسية.
أما السبب الثاني لنمو إجمالي الناتج المحلي لكل فرد بسرعة فهو بطء نمو عدد السكان. ارتفع عدد السكان من ١٥٥ مليون نسمة في عام ١٩٢٠، إلى ٢٩٠ مليون نسمة في عام ١٩٩٠. كان النمو البطيء يرجع جزئيًّا إلى ارتفاع معدلات الوفيات جرَّاء تحويل الزراعة إلى نشاط جماعي، وإلى الحرب العالمية الثانية بصورة خاصة، لكن تضاءلت أهمية هذين العاملين في ضوء انخفاض معدلات الخصوبة. في عشرينيات القرن العشرين، كانت المرأة السوفييتية تنجب في المتوسط سبعة أطفال، بحلول ستينيات القرن العشرين، وصلت هذه النسبة إلى ٢٫٥. ساهم التوسع في التحضُّر إلى نمو إجمالي الناتج المحلي، فيما تمثَّل أكثر الأسباب أهمية في ذلك (مثلما هو الحال في الدول الفقيرة بصورة عامة) في تعليم المرأة وممارستها العمل خارج المنزل.
ثانيًا: ما الذي سار في الاتجاه الخطأ تحديدًا؟ لماذا تباطأ النمو في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين؟ تتنوع الإجابات بين أسباب عابرة وأخرى جوهرية، وتشمل نهاية اقتصاد فائض العمالة، وإهدار الاستثمارات في تنمية إقليم سيبيريا، وصراع التسلح مع الولايات المتحدة الذي استنزف موارد البحث والتطوير من الصناعة المدنية، والصعوبة المتزايدة في التخطيط مع اكتمال اللحاق بالركب التكنولوجي الغربي، وتحوُّل المهمة إلى التخطيط للمستقبل، واستحالة السيطرة المركزية (ماذا كان سيحدث للاقتصاد الأمريكي لو كان يجب على الرئيس إدارته بنفسه؟) فضلًا عن الشعور بعدم الثقة والإذعان اللذين يولدهما الحكم الديكتاتوري. وقد أدى انهيار الاتحاد السوفييتي إلى رفض الكثير من المراقبين لسياسة تخطيط الدولة والاحتفاء بمزايا السوق الحرة. ولكن دولًا أخرى أبلت بلاءً أفضل عن طريق تبنِّي صور أخرى للتخطيط.
اليابان
كانت أهداف السياسة اليابانية قبل الحرب العالمية الثانية تتلخص في شعار «دولة غنية وجيش قوي»، وقد أدت هزيمة اليابان في الحرب إلى رفض «الجيش القوي»، لكنها سعت لتحقيق الجزء الأول من الشعار أيْ «الدولة الغنية» بتفانٍ أكثر من ذي قبلُ. كانت اليابان في حاجة إلى دفعة قوية لسد فجوة الدخل مع الغرب، وكان المشروع الاقتصادي الياباني في غاية النجاح؛ فقد ارتفع الدخل لكل فرد بمعدل ٥٫٩٪ سنويًّا بين عامَيْ ١٩٥٠ و١٩٩٠، فيما بلغت ذروة النمو نسبة ٨٪ بين عامَيْ ١٩٥٣ و١٩٧٣. بحلول عام ١٩٩٠، حققت اليابان نفس مستويات المعيشة لدول أوروبا الغربية.
حقَّقت اليابان هذه الطفرة من خلال اعتماد سياسة معاكِسة لسياسة التكنولوجيا التي اتبعتها إبَّان عصر ميجي والعصر الاستعماري، فبدلًا من تكييف التكنولوجيا الحديثة بما يتلاءم مع أسعار عناصر الإنتاج، لجأت اليابان إلى استخدام أحدث التكنولوجيات وأكثرها كثافةً في رأس المال على نطاق واسع. بلغ معدل الاستثمار نحو ثلث الدخل القومي في سبعينيات القرن العشرين. ارتفع إجمالي رأس المال بصورة سريعة للغاية؛ مما أدى إلى ظهور اقتصاد عالي الأجور خلال جيل واحد. وهكذا، ضُبِطت أسعار عناصر الإنتاج وفقًا للبيئة التكنولوجية الجديدة، وليس العكس.
تطلَّب التصنيع الياباني في مرحلة ما بعد الحرب التخطيط، والذي اضطلعت فيه وزارة التجارة الدولية والصناعة بدور البطولة. وقد استُخْدِمت الأدوات السياسية التي طوَّرتها اليابان خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين لتسريع معدلات النمو.
ركَّزت وزارة التجارة الدولية والصناعة على نوعين من المشكلات. تتعلق المشكلة الأولى بحجم الإنتاج، وهي المشكلة التي أدت إلى فشل سياسة إحلال الواردات بالتصنيع في أمريكا اللاتينية. كان الصلب أحد أكثر الصناعات نجاحًا في اليابان، فارتفع الإنتاج من ٢٫٤ مليون طن في عام ١٩٣٢ إلى أقصى حجم له عند مستوى ٧٫٧ ملايين طن في عام ١٩٤٣، ثم انخفض إلى ٠٫٥ مليون طن في عام ١٩٤٥، ثم عاد إلى ٤٫٨ ملايين طن في عام ١٩٥٠. تتمثَّل إحدى السمات الأساسية في إنتاج الصلب في انخفاض تكاليف الإنتاج إلى حدودها الدنيا في المصانع الكبيرة الحجم الكثيفة رأس المال. في عام ١٩٥٠، وصل الحجم الأدنى للإنتاج الفعَّال إلى ١–٢٫٥ مليون طن. كانت معظم المصانع الأمريكية أكبر من مثيلاتها اليابانية، فلم يضاهِهَا إلا مصنع ياباني واحد (ياواتا الذي بلغت قدرته الإنتاجية ١٫٨ مليون طن)، أما باقي المصانع اليابانية، فكانت تنتج نصف مليون طن أو أقل من الصلب؛ نتيجةً لذلك، كان الصلب الياباني أغلى من نظيره الأمريكي أو الأوروبي بنسبة ٥٠٪ على الأقل، على الرغم من انخفاض الأجور في اليابان. تمثَّل هدف وزارة التجارة الدولية والصناعة في خمسينيات القرن العشرين في إعادة هيكلة الصناعة اليابانية، بحيث يجري إنتاج الصلب في مصانع تحقِّق الحجم الأدنى للإنتاج الفعَّال، وكان مصدر قوة وزارة التجارة الدولية والصناعة يتمثل في سيطرتها على النظام المصرفي، وسلطتها في توفير العملات الأجنبية التي كانت ضرورية لاستيراد فحم الكوك والحديد الخام. بحلول عام ١٩٦٠، زادت قدرة الإنتاج اليابانية لتبلغ ٢٢ مليونَ طنٍّ من خلال مصانع ضخمة حديثة. بعد عام ١٩٦٠، اتخذ إشراف وزارة التجارة الدولية والصناعة على عملية التنمية الصناعية صورة أقل مباشَرة، فاستمر التوسع الصناعي من خلال إنشاء مصانع جديدة في مواقع جديدة. كانت هذه المصانع جميعها تحقِّق الحجم الأدنى للإنتاج الفعَّال الذي ارتفع آنذاك إلى حوالي ٧ ملايين طن. في المقابل، كانت معظم قدرة الولايات المتحدة الإنتاجية تتركز في مصانع قديمة لا تبلغ الحجم الأدنى للإنتاج الفعَّال، كما كانت المصانع اليابانية أكثر تطورًا من الناحية التكنولوجية أيضًا. كان ٨٣٪ من الصلب الذي تنتجه اليابان خلال منتصف سبعينيات القرن العشرين يُصهَر في أفران أكسجين أساسية في مقابل ٦٢٪ في الولايات المتحدة، وكانت نسبة ٣٥٪ تُصَبُّ في اليابان باستمرار في مقابل ١١٪ في الولايات المتحدة. وعلى الرغم من الزيادة الكبيرة في الأجور، ظلت اليابان أقل دول العالم تكلفةً في إنتاج الصلب؛ نظرًا لالتزامها باستخدام التكنولوجيا الحديثة كثيفة رأس المال. كانت اليابان تنتج أكثر من ١٠٠ مليون طن في عام ١٩٧٥.
مَن كان سيشتري كل هذا الصلب؟ كانت صناعات بناء السفن، والسيارات، والماكينات، والإنشاءات أكبر العملاء المحليين، وكان على هذه الصناعات أن تتوسع بمحاذاة صناعة الصلب؛ ومن ثَمَّ كان ضمان تحقيق ذلك يمثِّل مشكلة تخطيط أخرى، فكان من الضروري تحديد طبيعة التكنولوجيا التي تستخدمها هذه الصناعات، كما جرى اعتماد منهج المصانع الضخمة الحجم الكثيفة رأس المال في هذه الصناعات مثلما حدث مع صناعة الصلب. في حالة صناعة السيارات — على سبيل المثال — كان نصيب الشركات اليابانية من رأس المال لكل عامل أكبر من نظيره في الشركات الأمريكية، وكان رأس المال الياباني أكثر كفاءةً أيضًا في استثماره؛ إذ إن مبدأ الإنتاج الآني كان يعني اشتمال الإنتاج على قَدْرٍ أقل من المكونات غير المكتملة، بالإضافة إلى ذلك، كان نطاق الإنتاج في اليابان أكبر حجمًا. في خمسينيات القرن العشرين، اقترب الحجم الأدنى للإنتاج الفعَّال لمصانع التجميع من ٢٠٠ ألف سيارة سنويًّا، وكانت شركات فورد وكرايسلر وجنرال موتورز تنتج ما بين ١٥٠ ألف و٢٠٠ ألف سيارة لكل مصنع سنويًّا. في ستينيات القرن العشرين، دمجت مصانع سيارات يابانية جديدة خطوط تجميع متعددة وعمليات كبس في الموقع؛ وذلك لرفع الحجم الأدنى للإنتاج الفعَّال إلى أكثر من ٤٠٠ ألف وحدة سنويًّا. كانت جميع شركات تصنيع السيارات اليابانية تنتج عند ذلك المستوى، بل وتمكنت الشركات الأكثر كفاءةً — مثل هوندا وتويوتا — من إنتاج ٨٠٠ ألف سيارة لكل مصنع سنويًّا. وقد أدَّى انتقال اليابان إلى استخدام أساليب الإنتاج الكثيفة رأس المال إلى نشأةِ أكثر الصناعات كفاءةً في العالم، وهي صناعة قادرة على تقديم منتجاتها بأسعار تنافسية، وكذلك دفع أجور مرتفعة للعاملين فيها.
تمثَّلت المشكلة الثالثة في التخطيط في ضمان زيادة طلب الاستهلاك في اليابان لشراء المنتجات الاستهلاكية المعمِّرة. ساهمت مؤسسات العلاقات الصناعية اليابانية المتميزة في تحقيق ذلك؛ فالشركات الكبيرة، واتحادات الشركات، وأجور الخدمة الطويلة، والتوظيف مدى الحياة، كل هذا يعني أن الشركات الناجحة كانت تشارك موظفيها في بعض فوائض أرباحها. وعلى أية حال، وفرت الشركات الصغيرة كذلك وظائف عديدة في اليابان، وفي خمسينيات القرن العشرين (مثلما كان الحال في الفترة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية) كانت هذه الشركات تدفع أجورًا منخفضة. خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، أدى التوسع الصناعي الهائل إلى إنهاء فائض العمالة، واختفى الاقتصاد المزدوج، مع ارتفاع الأجور في قطاع الشركات الصغيرة بسرعة. أدى ارتفاع الدخول الناشئ عن التوسع في توفير فرص العمل إلى ثورة في نمط الحياة؛ إذ أَقْدَمَ اليابانيون على شراء الثلاجات والسيارات التي جرى تصنيعها بفضل التوسع في توفير الصلب. لم يقتصر الأمر على امتلاك اليابانيين لمزيد من الأجهزة، بل صار طعامهم أفضل وصاروا أكثر طولًا. في عام ١٨٩١، كان متوسط طول الفرد المجنَّد في الجيش ١٥٧ سنتيمترًا، فيما وصل طول نظيره في عام ١٩٧٦ إلى ١٦٨ سنتيمترًا. لقد أثبت الإنفاق الاستهلاكي في اليابان صحة قرارات التوسع في بناء القدرة الإنتاجية وزيادة الأجور، بحيث صار استخدام التكنولوجيا الكثيفة رأس المال ملائمًا، وذلك بعد تطبيق القرارات، إنْ لم يكن قبلها.
تعلقت المشكلة الأخيرة في التخطيط بالأسواق الدولية، وقد كان لهذه المشكلة تداعيات تجاوزت سلطات وزارة التجارة الدولية والصناعة. في منتصف سبعينيات القرن العشرين، كانت صناعة الصلب اليابانية تصدِّر ما يقرب من ثلث إنتاجها — إلى الولايات المتحدة بصفة أساسية — وكانت تصدِّر نِسَبًا مماثلة من السيارات والسلع الاستهلاكية المعمرة إلى الولايات المتحدة أيضًا، وقد انهار إنتاج الصلب والسيارات في الولايات المتحدة تحت وطأة المنافسة اليابانية، وبالفعل كان أفول نجم الحزام الصناعي الأمريكي مكافئًا لمعجزة اليابان الاقتصادية. كان بإمكان الولايات المتحدة بسهولة منع الواردات اليابانية من خلال مواصلة سياسة فرض التعريفات المرتفعة التي كانت تفرضها منذ عام ١٨١٦، وقد جرى التفاوض على فرض «قيود التصدير الطوعية»، لكنها كانت مجرد إجراءات مؤقتة، بدلًا من ذلك، قررت الولايات المتحدة خفض التعريفات الجمركية فقط في حال قامت الدول الأخرى بالمثل (تحرير التجارة متعدد الأطراف). يرجع أحد أسباب ذلك إلى بروز الولايات المتحدة من الحرب العالمية الثانية كأكثر اقتصادات العالم تنافسية؛ لذا بدا التوسع في فرصها التصديرية أكثر فائدة من حماية سوقها المحلي بلا ضرورة، ولكن شكَّك نجاح الصادرات اليابانية في صحة هذا الافتراض. لكن اليابان كانت قد رسَّخت مكانتها بصفتها حائط الصد للولايات المتحدة الأمريكية ضد الشيوعية في شرق آسيا، كما حافظ موقعها الجيوسياسي المهم على خياراتها التجارية.
لم يكن من الممكن أن يدوم عصر النمو السريع إلى الأبد، وعادة ما يُرجَع تاريخ انتهاء فترة الازدهار الكبير في اليابان إلى انهيار سوق العقارات وفقاعة الأسهم في عام ١٩٩١، وهو ما أفضى إلى عصر الانكماش، ولكن كان سبب ذلك أكثر عمقًا، حيث تمثَّل في غياب الظروف التي مهَّدت الطرق أمام النمو السريع في المقام الأول. حقَّقت اليابان نموًّا سريعًا من خلال سد ثلاث فجوات مع الغرب: رأس المال لكل عامل، ومستوى التعليم لكل عامل، وحجم الإنتاجية. وقد تحقَّق ذلك بحلول عام ١٩٩٠، وصارت اليابان حينها كأي دولة متقدِّمة؛ أيْ يمكنها تحقيق نمو بالسرعة نفسها التي تتطور بها التكنولوجيا — أيْ واحد أو اثنين بالمائة سنويًّا. ومن ثَمَّ، كان تباطؤ النمو ما بعد عام ١٩٩٠ حتميًّا.
الصين
سارت كوريا الجنوبية وتايوان في أعقاب اليابان مباشَرةً في اللحاق بركب الغرب، فكلاهما كانت مستعمَرة يابانية، وهو ما جعل بداية نموهما مسألة ملتبسة. وُضعت أنظمة تعليمية حديثة، لكنها كانت أنظمة تركِّز على تعليم اليابانية بدلًا من الكورية أو التايوانية، وكان الهدف من تنمية البنية التحتية والتنمية الزراعية تحويل المستعمَرتين إلى مصدر للغذاء لليابان. بلغ مستوى الدخل لكل فرد في عام ١٩٤٠ إلى ١٥٤٨ دولارًا أمريكيًّا. في أعقاب الحرب العالمية الثانية، طُرِد اليابانيون وصودرت ممتلكاتهم وأُعيد توزيع ممتلكاتهم من الأراضي بين سكان المناطق الريفية، وهو ما أسفر عن نشوء مجتمعات متساوية من الفلاحين. ابتداءً من خمسينيات القرن العشرين، شرعت الدولتان في التصنيع بنشاط بالغ، وقد تبعت كوريا الجنوبية تحديدًا نموذج الدفعة القوية الياباني عن كثب، فاستوردت الشركات الكورية التكنولوجيا المتطورة واستوعبتها، حيث جرى استبعاد الشركات الأجنبية من العمل في البلاد. خططت الدولة عمليات الاستثمار وحَدَّتْ من الواردات لحماية الصناعات الكورية التي دعمتها، وكما كان الحال في اليابان، شُجِّعَت الشركات على الإنتاج بجودةٍ وأداءٍ عاليَيْن من خلال إلزام الشركات بتصدير قسط كبير من إنتاجها. أقامت كوريا الصناعات الثقيلة؛ مثل صناعة الصلب، وبناء السفن، والسيارات التي كانت من بين عوامل النجاح اليابانية، والتي بعد عقد أو اثنين أصبحت من عوامل نجاح كوريا أيضًا.
كيف فعلت الصين ذلك؟ تتمثل الإجابة المعتادة في «إصلاحات السوق الحرة»، لكن هذه إجابة غير مكتملة. ينقسم التاريخ الاقتصادي للصين منذ عام ١٩٤٩ إلى فترتين: فترة التخطيط (١٩٥٠–١٩٧٨)، وفترة الإصلاح (من ١٩٧٨ إلى الوقت الحاضر). في الفترة الأولى، تبنَّتِ الصين النظام الشيوعي بما يتسم به من زراعة جماعية وصناعات مملوكة للدولة، فضلًا عن التخطيط المركزي على غرار النموذج السوفييتي. مالت الاستراتيجية التنموية في الصين إلى تفضيل التوسع في الصناعات الثقيلة لإنتاج ماكينات، وبُني المجتمع الصناعي الحضري. ارتفع معدل الاستثمار ليصل إلى حوالي ثلث الناتج المحلي الإجمالي، كما زاد الإنتاج الصناعي سريعًا. جمعت السياسة التكنولوجية — التي صارت تُعرَف باسم «السير على قدمين» — بين التكنولوجيا المتطورة الكثيفة رأس المال، والتصنيع الكثيف العمالة متى كان ذلك ممكنًا، وقفز إنتاج الصلب — الذي يُعَدُّ أحد أهداف الدول التي تطبِّق تصنيع الدفعة القوية — من حوالي مليون طن سنويًّا في عام ١٩٥٠، إلى ٣٢ مليون طن في عام ١٩٧٨. ورغم وجود تحولات في السياسة الصناعية، بما في ذلك القفزة الكبرى إلى الأمام (١٩٥٨–١٩٦٠)، والمجاعة التي تلتها، والثورة الثقافية (١٩٦٧–١٩٦٩)؛ ارتفع الدخل لكل فرد بأكثر من الضعف من ٤٤٨ دولارًا أمريكيًّا في عام ١٩٥٠ إلى ٩٧٨ دولارًا أمريكيًّا في عام ١٩٧٨ (٢٫٨٪ سنويًّا). لم يكن هذا إنجازًا هيِّنًا، لكنه لم يميِّز الصين عن باقي الدول الفقيرة.
في أعقاب وفاة ماو في عام ١٩٧٦، بدأ دينج شياو بينج في تطبيق «إصلاحات» في عام ١٩٧٨، فجرى التخلُّص من التخطيط المركزي وحل اقتصاد السوق محله. وعلى خلاف سياسة «العلاج بالصدمة» في دول أوروبا الشرقية، أجرت الصين إصلاحات من خلال إصلاح وإحلال مؤسساتها تدريجيًّا. ومنذ عام ١٩٧٨، ارتفعت معدلات النمو أيضًا.
جرت الإصلاحات الأولى في قطاع الزراعة، وهي إصلاحات تبيِّن مدى تعقيد المشكلات فيها. كان هناك عمليتا إصلاح تتمتعان بأهمية خاصة؛ أولًا: في عامَيْ ١٩٧٩ و١٩٨١ زادت وكالات التوريد الحكومية من أسعار شراء المحاصيل بمقدار ٤٠–٥٠٪ بالنسبة للإنتاج الذي يتجاوز الكميات الإجبارية المحددة في الخطة. ثانيًا: حل نظام المسئولية العائلية محل نظام الزراعة الجماعية، ووفق هذا النظام الجديد كانت الأراضي الجماعية تُقسَّم إلى مزارع صغيرة، يجري تأجيرها إلى العائلات التي تلتزم بتقديم حصتها من كمية المحصول المطلوبة وفق خطة المنطقة المحلية، فيما كان يحق لها الاحتفاظ بالدخل المتولد عن بيع المحاصيل التي تتخطى كمية التوريد الإجبارية بالأسعار المرتفعة.
ارتفعت إنتاجية المزارع مع وضع هذه السياسات قيد التنفيذ، وهذا هو السبب الرئيسي في أهميتها. بين عامَيْ ١٩٧٠ و١٩٧٨ ارتفعت نسبة الزراعة من إجمالي الناتج المحلي بمعدل ٤٫٩٪ سنويًّا، وهي نسبة تزيد على نسبة ٣٫٩٪ التي تحققت بين عامَيْ ١٩٨٥ و٢٠٠٠. وما بين عامَيْ ١٩٧٨ و١٩٨٤، قفز الإنتاج الزراعي بمعدل ٨٫٨٪ سنويًّا. زاد إنتاج الحبوب أيضًا في الفترة بين عامَيْ ١٩٧٨–١٩٨٤ أسرع من النمو الذي حقَّقه قبل أو بعد هذه الفترة. ونظرًا لأن زيادة الأسعار وتطبيق نظام المسئولية العائلية أدى إلى زيادة الحوافز المالية للفلاحين لزيادة الإنتاج، فإن النتيجة المعتادة هي أن التغيرات في السياسات أدت إلى نمو الإنتاجية.
وعلى أية حال، يجب أن نعترف بأن التطورات الأخرى التي ترتبت على قرارات التخطيط السابقة كان لها الفضل كذلك إلى جانب الإصلاحات في تحقيق هذه النتيجة. لقد استطاع الفلاحون الصينيون زيادة الإنتاج؛ لأنهم استطاعوا استخدام التكنولوجيا المتطورة التي جاءت إلى البلاد، في الوقت نفسه الذي جرى فيه إصلاح المؤسسات الريفية. يتطلَّب زيادة إنتاج الحبوب إدخال التحسينات على ثلاثة مستويات في ظل الظروف الصينية: تحكُّم أفضل في المياه، واستخدام بذور عالية الإنتاجية، واستخدام أسمدة. زادت مساحة الأراضي التي تُروَى في الصين في الفترة بين خمسينيات وسبعينيات القرن العشرين، كما جرى حفر الملايين من الآبار الأنبوبية في شمال الصين لتوفير المياه فيها. أسهمت الزيادة في حصة المياه إلى زيادة إنتاج الحبوب خلال فترة التخطيط، كما كان ذلك شرطًا أساسيًّا لتحقيق الزيادة السريعة في الإنتاج حوالي عام ١٩٨٠.
تطلبت الزيادات الهائلة في الإنتاج توافر بذور تستجيب لاستخدام الأسمدة. تعتبر المشكلة البيولوجية مشكلة عامة في المناطق الاستوائية؛ فإذا جرى استخدام الأسمدة مع الأصناف التقليدية المختلفة للأرز، فإن ذلك يؤدي إلى زيادة عدد الأوراق وطول سيقان النبات، فينحني النبات في النهاية، مما يمنع تكوُّن الحبوب؛ لذا يكمن الحل في زراعة الأرز القصير صاحب السيقان الليفية التي لا تنحني، بحيث تنطبق عملية النمو الزائدة نتيجة استخدام الأسمدة على البذور وليس الأوراق. كان الأرز الياباني يمتلك هذه الخاصية التي كانت الأساس البيولوجي لنمو إنتاجية المزارع خلال عصر ميجي، ولكن لم يكن من الممكن زراعة الأرز الياباني في الجنوب؛ نظرًا لاختلاف طول اليوم؛ لذا كان من الضروري زراعة الأصناف القصيرة التي تناسب خطوط العرض في المناطق الاستوائية. يعتبر أكثر الأصناف شهرة صنف آي آر-٨ الذي جرى تطويره في المعهد الدولي لأبحاث الأرز في الفلبين، وجرى إصداره في عام ١٩٦٦، وقد كان هذا النوع من الأرز وما تلاه من أصناف أخرى الأساس الذي قامت عليه الثورة الخضراء في كثير من مناطق آسيا. ولكن ما لا يقدِّره الكثيرون هو أن الصين كانت في المقدمة؛ فقد كان برنامج تطوير السلالات التابع للأكاديمية الصينية للعلوم أنتج صنفًا قصيرًا من الأرز عالي الإنتاجية قبل عامين من إنتاج أرز آي آر-٨، وقد كان انتشار الأرز القصير الجديد سببًا في ارتفاع إنتاجية المزارع الصينية ارتفاعًا مذهلًا.
لا ينتج الأرز عالي الإنتاجية إنتاجًا كبيرًا إلا إذا جرى تسميده بكثافة. في سبعينيات القرن العشرين، كان المزارعون الصينيون يستخدمون الأسمدة التقليدية إلى الحد الأقصى. وقد تطلب الاستخدام بكثافة أكبر إنتاج مادة النترات صناعيًّا. لم تحقق جهود زيادة إنتاج الأسمدة نجاحًا بارزًا خلال ستينيات القرن العشرين؛ لذا بين عامَيْ ١٩٧٣-١٩٧٤ اشترت الدولة ١٣ مصنعًا للأمونيا من مورِّدين أجانب. بدأ إنتاج هذه المصانع في أواخر سبعينيات القرن العشرين، ووفرت الأسمدة اللازمة التي أدت إلى ارتفاع إنتاجية المحاصيل ارتفاعًا هائلًا. لا يسعنا أن نعرف ما إذا كان الارتفاع في إنتاجية المزارع بين عامَيْ ١٩٧٨ و١٩٨٤ تطلَّبَ إجراء هذه الإصلاحات، أم إنها كانت ستتحقق على أية حال.
تشبه طبيعة التحول التكنولوجي في قطاع الزراعة الصيني مثيلتها في اليابان، وتعكس تطور التكنولوجيا المناسبة لعناصر الإنتاج في الدولة. مثلما كان الحال في اليابان، كانت الأيدي العاملة متوفرة بكثافة فيما كان هناك شح في الأراضي؛ لذا ظل التطور التكنولوجي يركِّز حتى وقت قريب على زيادة إنتاجية الأراضي. وُجِّهت استثمارات قليلة نسبيًّا لتقليص حجم الأيدي العاملة. ويختلف تاريخ الثورة الخضراء في الصين في هذا الصدد عن تاريخها في الهند؛ حيث جرى تبنِّي ميكنة الإنتاج جنبًا إلى جنب مع زراعة المحاصيل عالية الإنتاجية. وقد منحت إمكانية الحصول على الائتمان الرخيص في الهند ميزة لأصحاب المزارع الكبيرة، الذين قاموا بزيادة حجم ملكياتهم على حساب المزارعين الصغار، الذين كانوا عادة ما يفقدون أراضيهم. وقلَّصت عملية ميكنة الإنتاج في المزارع من أعداد العمالة لزراعة الأرض. تجنبت الصين وقوع مثل هذه الصراعات؛ فقد عمل نظام الملكية الجماعية للأراضي على توزيع الحيازات الزراعية بالتساوي في الصين، كما حافظت على المزارع الصغيرة، وهو ما كان يمثِّل إجراءً أكثر عقلانية لتوافر العمالة بكثرة وشح الأراضي، فضلًا عن تحقيق المساواة.
غيَّرت الإصلاحات كذلك القطاع الصناعي، وقد اتخذت الخطوات الأولى في المناطق الريفية كذلك. كان التصنيع من خلال توظيف العمالة سمة أساسية دائمة في الريف الصيني، وهي السمة التي انتقلت إلى المزارع الجماعية. بعد عام ١٩٧٨، جرى تشجيع «شركات المدن والقرى» من خلال مسئولي الحزب المحليين، فقد كان إنتاج السلع الاستهلاكية قد تخلَّف عن الركب، فعملت شركات المدن والقرى على سد هذه الفجوة، من خلال بيع سلعها في السوق الحرة. تتسم صناعات السلع الاستهلاكية بأن نِسَب رأس المال إلى العمالة فيها منخفضة (على عكس الصناعات الثقيلة التي كانت محور اهتمام عمليات التخطيط)؛ لذا استعانت شركات المدن والقرى بتكنولوجيا ملائمة للظروف الصينية، وهو ما يفسِّر نجاحها في المنافسة السوقية. بين عامَيْ ١٩٧٨ و١٩٩٦، ارتفعت معدلات التوظيف في شركات المدن والقرى من ٢٨ مليون إلى ١٣٥ مليون شخص، كما زادت حصة هذه الشركات من إجمالي الناتج المحلي من ٦٪ إلى ٢٦٪. اتسعت عملية التحول إلى السوق عبر القطاع الحكومي من منتصف ثمانينيات القرن العشرين فصاعدًا، عندما جمَّدت الدولة المستهدفات في خطتها، وسمحت للشركات ببيع منتجاتها التي تتجاوز متطلبات الخطة في السوق الحرة، ومنذ ذلك الحين، «تفوَّق الاقتصاد على الخطة» وصار مع اتساعه مدفوعًا بقوى السوق بصورة متزايدة.
في عام ١٩٩٢، صدَّق المؤتمر الرابع عشر للحزب على «اقتصاد السوق الاشتراكية» كهدف للإصلاح، فيما جرى التخلُّص من تخطيط تحقيق التوازن بين الموارد، وهو محور عملية التخطيط المركزي. أدت الإصلاحات التالية إلى ميلاد نظام مالي يحلُّ محلَّ مخصَّصات الدولة للاستثمار، وإلى تحويل الشركات المملوكة للدولة من إدارات حكومية إلى شركات مساهمة. تضمَّن إصلاح الصناعات المملوكة للدولة إجراء تخفيض هائل في العمالة وإغلاق المصانع غير المنتجة، وكانت تلك هي النتيجة التي لم يحققها الاتحاد السوفييتي قطُّ، والتي ربما تكون قد أسهمت في تباطؤ النمو بسبب الاحتفاظ بجانب كبير من القوة العاملة في وظائف غير منتجة بدلًا من إعادة توزيعه في مؤسسات جديدة عالية الإنتاجية، ومع اعتماد الاستثمارات على قوى السوق بصورة أكبر، ظلت معدلات الاستثمار مرتفعة. ولا تزال الدولة نَشِطة — وإنْ كانت أقل انخراطًا بصورة رسمية — في توجيه الاستثمارات في مجالات الطاقة والصناعات الثقيلة. ربما لهذا السبب، واصلت صناعة الصلب نموها الهائل؛ ووصل إنتاجها حاليًّا إلى ٥٠٠ مليون طن سنويًّا. لم تنتج الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي واليابان أكثر من ١٥٠ مليون طن قطًّ؛ لذا فقد حطمت الصين جميع الأرقام القياسية العالمية. ومما لا شك فيه أن تعداد سكان الصين أكبر بكثير، ولكن بلغ الإنتاج لكل فرد — حاليًّا ٣٧٧ كيلوجرامًا (ارتفاعًا من ٢ كيلوجرام لكل فرد في عام ١٩٥٠ و١٠٢ كيلوجرام في عام ٢٠٠١) — مستوى الاستهلاك في الدول الغنية. وبين عامَيْ ١٩٧٨ و٢٠٠٦، ارتفع الدخل لكل فرد بمعدل ٦٫٧٪ سنويًّا.
تعتبر الإصلاحات هي التفسير المعتاد لمعدلات النمو المرتفعة، ولكن كما هو الحال في حالة قطاع الزراعة، لا يُعتبَر هذا التفسير كاملًا. ربما ساهم «إصلاح المؤسسات» في الصين في تحسين أداء الدولة مقارَنةً بنظام ماو، بَيْدَ أنه لم يُسْفِر عن مؤسسات تتفوق كثيرًا على مثيلاتها في معظم الدول الفقيرة حول العالم. وبالفعل، لو كانت الصين تحقِّق نموًّا بطيئًا، لَكان اللوم سيُلقَى على حقوق الملكية، والنظام القانوني، والديكتاتورية الشيوعية المتواجدة في الصين حاليًّا. ليس السؤال المحوري بشأن الصين هو: «لماذا كان أداء مؤسسات السوق الصينية وهي متوسطة الجودة أفضل من نظام التخطيط المركزي؟» بل: «لماذا كان أداء مؤسسات السوق المتوسطة الجودة جيدًا بهذه الصورة؟» ربما تتمثَّل الإجابة في إرث فترة التخطيط، أو السمات الأخرى للمجتمع الصيني، أو سياساته التي تميِّزه عن الدول الفقيرة بصورة عامة.
لا شك في أن إرث فترة التخطيط لعب دورًا في هذا الشأن، ويشمل هذا الإرث سكانًا تلقَّوا تعليمًا رفيع المستوى، وقطاعًا صناعيًّا ضخمًا، ومعدلات وفيات وخصوبة منخفضة، ومؤسسة علمية تتمتع بقدرات بحث وتطوير هائلة، رغم الثورة الثقافية. جرى التوسع في التعليم الأساسي خلال فترة التخطيط، وهو ما أدى إلى أن ثلثَيْ السكان كانوا يعرفون القراءة والكتابة وفق إحصاء عام ١٩٨٢، كما كانت المهارات المهنية منتشرة أيضًا. ارتفع متوسط عمر الفرد من أقل من ثلاثين عامًا في ثلاثينيات القرن العشرين إلى ٤١ عامًا في خمسينيات القرن العشرين، إلى ٦٠ عامًا في سبعينيات القرن العشرين. (وصل متوسط عمر الفرد إلى ٧٠ عامًا في عام ٢٠٠٠.) انخفض متوسط عدد الأطفال لكل امرأة (إجمالي معدل الخصوبة) من أكثر من ٦ في خمسينيات القرن العشرين إلى ٢٫٧ في أواخر سبعينيات القرن العشرين، وذلك حتى قبل تطبيق سياسة الطفل الواحد في عام ١٩٨٠. وعلى غرار الاتحاد السوفييتي، كان انخفاض معدل الخصوبة يرجع على الأرجح إلى تعليم النساء، ومنحهن الفرصة لكسب المال في أعمال مدفوعة الأجر.
ومهما حاول المؤرخون في نهاية المطاف استبعاد أهمية عوامل إرث فترة التخطيط، وإصلاح المؤسسات، والسياسات المتعقِّلة، والثقافة الداعمة، فإن الصين في طريقها لإكمال دورة تاريخية. فإذا نجحت الصين على مدار العقود الثلاثة القادمة في مواصلة تحقيق النمو بالمعدلات السريعة نفسها التي حققتها منذ عام ١٩٧٨، فستتمكن الصين من سد الفجوة مع الغرب، وستصبح الصين أكبر دولة صناعية في العالم، بالضبط مثلما كانت قبل الرحلات التي قام بها كريستوفر كولومبس وفاسكو دا جاما. وهكذا، يكون العالم قد أكمل دورته الكاملة.