الفصل الثالث

يمثل المرسح رحبة أمام دار صانع الفخار، على اليمين من وسط المرسح إلى أقصاه طولًا وعرضًا جدران دار مبنية باللبن، وفيها بابان أحدهما أصغر من الآخر، وعلى أحد الجدران وهو قصير أوانٍ من طين معرَّضة للشمس لتجف، وعلى يسار المرسح جدار قصير يناله المُتَّكِئ، وفي صدر المرسح بين هذا الجدار والدار فرجة ينفذ منها إلى طريق يؤدي للنيل، ولا يرى المتفرج الطريق إنما يرى ماء النهر عن بعد وضفته الأخرى وعليها نخيل ومزارع، ومن وراء الدار يمينًا، ووراء الجدار القصير يسارًا نخل باسق، منظر الدار حقير والجو صافٍ وضوء النهار شديد.

الواقعة الأولى

(كريبا – ساتني)

كريبا جالسة متربعة أمام رحاة من حجر صغير فوق حجر كبير تطحن عليها حبوبًا من الذرة أمام باب الدار، وساتني جالس على حائط قصير يفكر.

كريبا : ولدي.
ساتني : نعم يا أماه.
كريبا : أحقًّا يا ولدي أنك لا تعتقد أن القمر إنما يأخذ في النقصان؛ لأن خنزيرًا في السماء ينهش منه كل يوم قطعة؟١
ساتني : كلا يا أمي.
كريبا : إذن فما هو الحيوان الذي يلتقمه؟
ساتني : لا يلتقمه حيوان.
كريبا (ضاحكة) : حقًّا إن لك أفكارًا لا يتصورها أحد، ويدهشني أن أباك يكاد يوافقك عليها، ولأسرع بتجهيز الخبز له، حتى إذا عاد وجده حاضرًا.
ساتني : هذا رسول رحيو.
كريبا (جزعة) : رسول قاتل الآلهة؟
ساتني : وهل مَنْ لا روح فيه يحيى ويموت؟
كريبا : لا أود أن أراه.

(تجْمَع الحَب.)

ساتني : لماذا؟
كريبا (لنفسها) : برررر … سأُبخر المكان غدًا بالحشائش المقدسة.

(تخرج ويدخل الوكيل.)

الواقعة الثانية

(ساتني – الوكيل)
الوكيل : أتعلم شيئًا يا ساتني مما جرى اليوم؟
ساتني : لا.
الوكيل : آه! إنها حوادث فظيعة، فظيعة جدًّا.
ساتني : أيوما في خطر، أم مييريس، أم رحيو؟
الوكيل : الجميع بخير في القصر.
ساتني : إذن؟
الوكيل : إن بين أتباعنا من استهوتهم الأغواء، فأتوا من الأعمال الذميمة ما يُؤسف عليه؛ إذ نهبوا بيت جارنا وقتلوا وكيله.
ساتني : كيف ذلك؟
الوكيل : أتذكر ما أمرني به مولاي هذا الصباح بعد تدمير الآلهة؟
ساتني : كلا.
الوكيل : بلى، عندما أمرني بأن أفتح لهم خزائن القمح.
ساتني : نعم نعم، وبعد؟
الوكيل : فذهبت لأنفذ أمره، ولكني اندهشت لما رأيت القوم قد تجمعوا أمام الباب، وأخذوا يتآمرون فيما بينهم ثم انصرفوا عنا، ويظهر أنهم قصدوا بيت جارنا، فأوغروا صدر أتباعه وأحزابه عليهم؛ إذ أرادوا أن يحطموا تماثيل آلهتهم، وينهبوا خزائن الدار، ولما حضر الجند لصدهم، دارت بين الجند وبينهم معركة قُتل فيها نبك الوكيل وغيره، فتفرق المتآمرون، وأمرني مولاي بأن آتي إليك لترد إلى هؤلاء القوم رشدهم، وتردعهم عن غيِّهم، وقد وجدت بعضهم على مقربة من دارك، كأنهم يريدون الاحتماء بك. ها، انظر، إنهم قادمون (يخاطب القادمين قبل أن يدخلوا) ادخلوا، تعالوا. إن ساتني يدعوكم (يتقدم فيدخلهم).

الواقعة الثالثة

(ساتني – الوكيل – بتيو القزم، ثم سوكتي ونرم)
ساتني (إلى بتيو) : إلى أين أنت ذاهب؟
الوكيل : أين تذهب، ومن أين جئت؟
بتيو : كنت معهم أتبعهم حيث يذهبون.
الوكيل : من أين جئت الآن؟
بتيو : جئت مع من جاء، وكان معي سوكتي ونرم.
ساتني : وأين هما؟
بتيو : هناك.
الوكيل : أحضرهما.
ساتني (يتقدم نحو الباب) : تعال يا سوكتي، وأنت أيضًا يا نرم (يدخلان ذاهلين مبهوتين).
الوكيل : لمَ تختبئان؟
نرم : لا نختبئ منك، ولكننا نخشى الجند الليبيين.
ساتني : ولمَ تخشونهم؟
سوكتي : لأنهم يطاردوننا.
الوكيل : ولمَ يطاردونكم؟

(ينظر الثلاثة بعضهم إلى بعض.)

ساتني : أجب يا بتيو.
بتيو : بتيو لا يدري شيئًا.
الوكيل (للآخرين) : أنتما تدريان؟
نرم : لقد حسِبونا إياهم.
الوكيل : حسبوكم من؟
نرم : أظنهم حسبونا أصحاب حادثة الجار.
الوكيل : إذن قد أساء أصحاب تلك الحادثة، ماذا فعلوا؟ تكلم.
نرم : إنهم فعلوا عنده ما جعلتنا نفعله عندكم.
الوكيل : وهل علم الكهنة بما حصل؟
نرم : كلا، ولكن صاحب الدار أرسل في طلب الجند.
ساتني : أأرسل في طلب الجند لهذا فقط؟
نرم : لا أدري.
ساتني : لو لم يكن إلا ما تقول، لما أرسل في طلب الليبيين؛ فإنه من حزبنا ويعتقد ما نعتقد، لا بد في الأمر من سر، تكلم. (يتثاءب بتيو حتى يُسمع صوت تثاؤبه) تكلم.
سوكتي : نعم.
ساتني : ما هو؟
سوكتي (إلى نرم) : تكلم.
نرم : قد كانوا مغتاظين من صاحب الدار؛ لأنه شرير.
الوكيل : نعم إنه قاسٍ، ولكنه كريم لا يبخل بالكثير على الفقراء.
سوكتي : نعم، يعطي في الدنيا ليأخذ في الأخرى.
نرم : أي بعد موته.
ساتني : والآن لا يعطي؟
نرم : مطلقًا.
ساتني : عجبًا!
بتيو : لا يعطي الآن شيئًا حتى جاعت البطون و… (يضحك).
نرم : ولكن شبعت الظهور مما تطعمها سياطه.
سوكتي : وهذا لا يغني من جوع.
نرم : فطلب عبيده قمحًا ليأكلوه.
بتيو : فأوسعهم ضربًا حتى أشبعهم (يضحك).
الوكيل : أما أخذوا من القمح ما مُنِعوه؟
بتيو : الجوع (يضحك ويرقص).
ساتني : أكنتم عالمين بما هم فاعلون؟
سوكتي : نعم.
الوكيل : ولم انضممتم إليهم وقد دعاكم مولاي رحيو إلى خزائنه؟
نرم : خطر ببالنا أنه خيرٌ لنا أن نأخذ من قمح ذلك الرجل اللئيم، بدل قمح سيدك الكريم.
سوكتي : وهذا عدل.
بتيو (إلى الوكيل) : ألا يسرُّك هذا فيبقى القمح في خزائنك؟

(يضحك ويضحك معه رفيقاه.)

نرم : إننا نحبك أنت.
بتيو : نعم؛ لأنك رجل كريم، ونحن معك كرام.
سوكتي : وهذه هي القصة.
بتيو (يجمع أفكاره) : انتظر، أما ذلك الرجل فهو لئيم، فنحن معه لئام (لرفيقيه) أليس كذلك، هه، أليس كذلك؟ (الجميع يشمخون بأنوفهم ويضحكون) أما وكيله نبك فقد كان لئيمًا مثله فمات وحسنًا فعلوا.
ساتني : ماذا تعني؟
سوكتي (ضاحكًا) : إنهم أخذوا الوكيل ثم … (يضحك ولا يستطيع إتمام الكلام من الضحك).
نرم : ثم أدَّوا له ما هم مدينون به من ضربات العصا.
ساتني : أرأيته؟
نرم : نعم.
سوكتي (بشمم) : وأنا أيضًا، وأنا أيضًا.
بتيو : وكم ضحكنا لأن … لأن الوكيل سمين … وطويل أيضًا، ومع ذلك ألقوه … ألقوه على الأرض فسقط كما أسقط أنا، مثلي أنا بتيو، مع أنه كبير وطويل، فسُررت (يلعب بتيو بإحدى قدميه أثناء ما يأتي).
الوكيل : إنهم أساءوا صنعًا.
نرم : كلا، ومع ذلك فقد كان ذلك الوكيل شيخًا، ونال من اللذات ما كفاه.
سوكتي : نعم كان شيخًا، وحسنًا فعلوا إذ قتلوه، لقد كان سمينًا جدًّا، وما أظنه إلا امتلأ من لذات الدنيا حتى لم يعُد يُطيق فخلصوه.
نرم : صدق، ومثل هذا يجب أن يرحل ليخلو المكان لغيره.
ساتني : ولكن القتل حرام.
سوكتي : وما يضرُّ القتل؟
نرم : نعم، قتل رجل كريم حرام، ولكن قتل رجل لئيم حلال.
ساتني : رُبَّ من تظنُّه لئيمًا كان كريمًا وأنت لا تدري.
سوكتي : لو لم يكن لئيمًا لما ظننتُه كذلك.
الوكيل : أنت لم تفهم، فاسمع، أنا لست رجل سوء في نظرك …
سوكتي (مُقاطعًا) : ولهذا لا يريدك أحد بسوء.
الوكيل : دعني أتمم كلامي، أتذكر «كوب» العبد الأسود، فهذا مثلًا كان يظنني من أهل السوء.
نرم : نعم.
الوكيل : فإذا كان قتلني؟
بتيو : ولكن نحن لسنا عبيدًا سودًا مثله.
الوكيل : أنتم لا تفهمون، تدبروا قليلًا فيما أقول، إنه كان يظنني رجل سوء مع أني لست كما يظن، فكان يُعدُّ معذورًا إذا قتلني حسب قولكم.

(الجميع يُطرقون مفكرين.)

سوكتي : فهمت، أنت تقول إن ذلك العبد لو كان قتلني … لا ليس كذلك.
ساتني : يجب على المرء أن يحترم النفس البشرية.

(يُطأطئون الرءوس باحترام موافقين كيلا يطول الأخذ والرد، وفي تلك الأثناء تسقط من نرم صرة، فيسرع بالتقاطها، ويحاول إخفاءها، والخروج بها قبل أن يلحظه أحد.)

الوكيل : ما الذي معك؟
نرم : لا شيء، هذا شيءٌ لي.
بتيو (يبدأ بفتح الصرة) : هذا، هذا عقد! أرنيه.
نرم : نعم عقد.
ساتني : من أين لك هذا؟
نرم : سلبته من صاحب الدار.
ساتني : وتظن أنك أحسنت صنعًا؟
نرم (مترددًا) : ولكن … نعم.
ساتني : لقد وهمت.
نرم : لا تخف، فإنه لم يرني أحد.
ساتني : ولكنه أمر قبيح.
نرم : لا، إنما القبيح ما يؤذيني فعله، وحيث لم يرني أحد فلا خوف عليَّ، إذن فما فعلته غير قبيح.
ساتني : إذا كان هذا الفعل لا يؤذيك، فإنه أذى صاحب العقد.
نرم : لديه غيره.
سوكتي : وهو يتمتع بتلك الحليِّ من زمن طويل، ونرم لا شيء عنده، وما هذا عدل، وكذلك أنا فإني لم أملك قط مثل هذا.

(يُخرج من صدره سوارًا.)

ساتني : وأنت سلبت هذا السوار؟
سوكتي (فرحًا) : إنه لي.
ساتني : أراكم فرحين (يضحكون).
نرم : وبتيو …؟
ساتني وسوكتي : نعم وبتيو؟
نرم : إنه نال خيرًا من هذا كله.
الوكيل : ماذا؟
بتيو : جارية.
الوكيل : أسبيتها قهرًا؟
بتيو : ما رضيَت بي أنثى قط طوعًا.
سوكتي : ولكنها فرَّت منه.
بتيو : نعم (ويبكي).
ساتني : عليكما أن تردَّا هذا العقد وهذا السوار لصاحبهما.
نرم : نردهما؟ ولكن لديه غيرهما.
ساتني : هذا لا يعنيك، أإن كنت بائع عطر مثلًا، أتجد من العدل أن يأتي إليك رجل فيسلبه بحجة أن ما لديك منه كثير، وأن ليس عنده منه شيء؟
نرم : إنك تقول أشياء يصعب عليَّ فهمها.
ساتني : عليك أن ترد هذا السوار يا سوكتي.
سوكتي : أمرك يا مولاي.
ساتني : وأنت يا نرم تردُّ العقد.
نرم : أمرك يا مولاي.

(يسود عليهم الحزن ويسكنون.)

ساتني : أراكم متأسفين، أشعرتم بأنكم أخطأتم فيما فعلتم؟
سوكتي : نعم، أخطأنا.
ساتني : حسنًا.
نرم : نعم أخطأنا إذ أخبرناك بما فعلنا؛ لأننا نراك قد استأت.
ساتني : إني استأت لما فعلتم، فأردت أن أرشدكم إلى ما فيه خيركم.
نرم : إذن فما كنت تقوله لنا غير صحيح، والنعيم والجحيم موجودان.
ساتني : كلا.
نرم : إذا لم يكن إله يجزينا على ما فعلنا؛ لأنه لا إله ولا إنسان يعاقبنا على ما اقترفنا؛ لأنه لم يرَنا أحد فمِمَّن نخاف؟ (سكوت) ومع ذلك سأرد العقد.
سوكتي : أما أنا فلن أرد السوار؛ لأني لم أسرقه إنما الذي سرقه أحد عبيد صاحبه.
الوكيل : ولكنه معك.
سوكتي : نعم، أخذته منه.
الوكيل : أأعطاه لك طوعًا؟
سوكتي : إنه لم يمنعه؛ إذ كان جريحًا ومحتضرًا.
ساتني : كان عليك أن تسعفه.
سوكتي : لم تكن بيننا معرفة.
ساتني : ولكنه إنسان مثلك.
سوكتي : وكم في الناس مثلي ومثله!
ساتني : تجب عليك إغاثة الملهوف.
سوكتي : وما جزائي على ذلك؟
ساتني : اغتباطك بفعل الخير.
سوكتي : إنه لا يعادل اغتباطي بحيازة السوار.
ساتني : إن السعادة في فعل الخير وترك الشر، فإذا أردت أن تُحسن إليك الناس فأحسن إلى الناس، وإذا خشيت أن يسيئك أحد فلا تُسئ إلى أحد، أفهمت؟
سوكتي (واجمًا) : نعم.
ساتني : وأنت؟ وأنت؟
نرم وبتيو (كلٌّ بلهجة تخالف لهجة الآخر) : نعم. نعم.
الوكيل (إلى سوكتي) : أعد ما سمعته.
سوكتي : إذا كانت الناس لا تسرق أساور …
الوكيل : وبعد؟
سوكتي : لا تسرق أساور … (ويضحك).
ساتني (إلى نرم) : وأنت؟
نرم : إنه أخطأ إذ أخذ السوار.
ساتني : لماذا؟
نرم : لأنك غضبت.
ساتني : كلا، ليس لأجل ذلك.
سوكتي : أنا لم أخطئ.
نرم : بل أخطأت، انتظر، لقد فهمت؛ إذا سرقت فقد يأتي رجل آخر ويسرقك، وكذلك إذا قتلت.
ساتني : أصبت، ولماذا يجب عمل الخير؟
نرم : انتظر (إلى سوكتي) وإذا صنعت خيرًا مع إنسان لا تعرفه، فقد يأتي إنسان آخر لا يعرفك فيصنع لك خيرًا.
الوكيل : حسنًا، حسنًا، أفهمت الآن يا سوكتي؟
سوكتي : أظن أني فهمت.
ساتني : قُل، ماذا فهمت؟
سوكتي (بعد عناء طويل) : فهمت أنك لا تريد أن يسرق أحد أساور.
ساتني : بل أريد أن لا يسرق أحد شيئًا مطلقًا، أفهمت؟
سوكتي : لا.
الوكيل (إلى بتيو وهو مُصغٍ بانتباه شديد) : وأنت؟
بتيو : أنا؟ أنا بي دوار شديد.

(يتحادث ساتني مع الوكيل فينسحب بتيو وسوكتي خفية.)

الوكيل : انظرهما!
ساتني : إن الشجرة التي قوَّس الدهر جزعها لا تُقوِّمه في يوم.
الوكيل : مثل هذه الشجرة تُترك على حالها أو تُنزع من جذورها.
ساتني : بل نحاول بالصبر تقويم جزعها ما استطعنا (بشدة) وعلى كل حال يجب أن لا نهمل النبت الناشئ كيلا يعوَّج عوده.

(يسمع صراخ من الخارج.)

الواقعة الرابعة

(ساتني – الوكيل – نرم – ثم مييريس ويوما)
الوكيل : ما هذا الصراخ؟
ساتني : أظنه من نساء تولاهن الجزع.

(تدخل يوما قائدة مييريس وهما مضطربتان.)

يوما : ادخلي بنا يا مولاتي، تعالي، نحن هنا في منزل صانع الفخار أبي ساتني. ساتني، النجدة النجدة! أسرع أسرع، أباك يا ساتني.
ساتني : مييريس! يوما! ماذا أتى بكما؟
يوما : سنخبرك بعد، الْحَق به أولًا.
مييريس : أسعف أباك إنه جريح، وقد أرسلت إلى القصر ليأتوني بمن يلقي السحر على الروح الخبيثة فتخرج من جسمه.
يوما : أحاط بنا قوم …
مييريس : ولكنه دافع عنا … ويلاه! إنهم سيجهزون عليه، اذهب (يتناول ساتني والوكيل ما مع نرم من السلاح ويخرجان عدوًا) يوما، إنه جُرِح، جُرِح وهو يذود عنا، مع أنه من العبيد.
نرم : مولاتي …
مييريس : أسرع إلى القصر وأتني بمطاردي الأرواح الخبيثة.
يوما : آه يا مولاتي، إني أخشى عليه، فقد خلفته طريحًا على الأرض.
مييريس : سيخلصونه، ويأتون به إلى هنا.
يوما : وهل يأتون به حيًّا؟
مييريس (إلى نرم) : طِرْ إلى القصر يا نرم، أما تسمع؟ أسرع وقل لهم أيضًا أن يُرسلوا إلينا النائحات والنادبات، وكل ما يلزم الميت عند الوفاة، فإذا مات في سبيل الدفاع عنا، فإني أريد أن يحتفل به احتفالهم بي إذا مت.

الواقعة الخامسة

(مييريس – يوما)
مييريس : والآن أرشديني يا يوما إلى طريق النيل.
يوما : أتريدين الموت يا مولاتي، أبلَغ بك اليأس إلى هذا الحد؟
مييريس : وا أسفاه! وا أسفاه! لمَ لحقتِ بي لمَّا هربت من القصر، فتبعتني وأرجعتني؟
يوما : ألم أفطن إلى قصدك يا مولاتي؟
مييريس : وهل بقي للحياة معنى فأعيش؟
يوما : ولكنك كنتِ بالرغم من مصابك متعلقة بالحياة، فما الداعي ليأسكِ اليوم؟
مييريس : ما أعظم الفرق بين أمس واليوم! إلى الأمس كنت آمل أن أشفى بمعجزة.
يوما : ربما كانت تلك المعجزة لا تحصل.
مييريس : نعم، ولكني كنت لا أنفكُّ عن ترقبها، حتى تفارق روحي البدن.
يوما : لكنك تدركين إذ ذاك أن ما عللوك به كان خرافة، وأن لا شيء بعد الموت.
مييريس : سواء صدقوا فيما زعموه أو كذبوا، فالإيمان بما وراء الموت عزاء وسلوى، أترين إذا أنا متُّ، لأستقبلن المنون بثغر باسم؛ إذ أكون على وشك اللقاء بولدي المحبوب في العالم الآخر، إن فَقْد أمٍّ ولدها يا يوما، مصاب شديد لا تكاد الأم تصدق به، وكأني بالذي قدَّر هذا الفراق الأليم، أراد أن يخفف من وقعه، فألهم الأم العزاء الجميل؛ إذ ألهمها أمل اللقاء القريب، فهي تقول في نفسها: ما هذا إلا فراق وبعد الموت التلاق … قد يكون ما تدعيه يا ساتني صادقًا، ولكن إذا كان مذهبك يقضي على الأم، بقطع الرجاء من لقاء صغير ثكلته، أو عزيز فقدته، ويجعل الموت سدًّا بين الحياة والآمال، فأبشر بأننا معشر النساء أول من يكفر بك وبمذهبك.
يوما (بحرقة) : مولاتي لا تصدقي ما يقول، لا تصدقي.
مييريس : وا أسفاه، لقد خاب الرجاء!
يوما : لا تصدقي يا مولاتي.
مييريس : كيف؟ ولو كانت آلهتنا موجودة لانتقمت منا على تحقير تماثيلها.
يوما : أما تريْنها انتقمت منكِ من قبل تحقيرها.
مييريس : تقولين ذلك رأفة بي يا يوما، وتحاولين رد الإيمان إلى قلبي، مع أنه تزعزع في قلبك.
يوما : وما أدراك يا مولاتي إنه لم يتزعزع.
مييريس : لقد أبيتِ تقديم نفسك قُربانًا … وخيرًا صنعتِ.
يوما : ما أبيتُ.
مييريس : ما أبيتِ؟
يوما : كلا، وهل تعلمين كيف عرفت اليوم أنك بارحتِ القصر؟
مييريس : كيف علمت ذلك؟
يوما : كنتُ أحاول الهرب أنا أيضًا.
مييريس : كنتِ تحاولين الهرب؟
يوما : نعم، لأذهب إلى الهيكل، وأسلم نفسي إلى الكهنة؛ ليقرِّبوها إلى آمون الذي اصطفاها.
مييريس : وهل ما زلتِ على اعتقادك بهذه السخافات؟
يوما (بصوت منخفض) : لقد رأيت إيزيس يا مولاتي.
مييريس : أأبقوا إذن على بعض تماثيلها؟
يوما : ما تمثالًا رأيتُ يا مولاتي، بل أبصرتُ إيزيس نفسها، رأيتها رؤيا العين …!
مييريس : رأيتها! أنتِ رأيتها؟ وكيف رأيتها؟ لا أدري كيف يرى الإنسان؛ إذ لا أفهم تمامًا معنى الرؤية.
يوما : لقد كلمتني.
مييريس : وسمعتِ صوتها؟
يوما : سمعتُ صوتها.
مييريس : كيف ذلك؟ كيف ذلك؟ أكنتِ نائمة فتمثَّلت لك في الرؤيا؟
يوما : ما كنت نائمة، بل رأيتها في اليقظة، وسمعت صوتها؛ إذ كنت في خلوتي أبكي، فإذا بحركة شديدة ملأت نفسي رعبًا، ثم انبلج نور بهر عيني، وشممت عرقًا طيبًا انشرح له صدري، ورأيت المعبودة قد تجلت عليَّ بجلالها وجمالها، وما لبثت أن اختفت.
مييريس : وكيف إذن سمعتِ صوتها؟
يوما : عادت إليَّ في الغد، وكلمتني بعد أن نادتني باسمي، وقالت لي: إن خلاص مصر في يديك.
مييريس : ولمَ أخفيتِ ذلك عنا؟
يوما : خشيت أن لا يصدقني أحد.
مييريس : ما أسعد حظك يا يوما! إنك لا تدرين مبلغ ما أصابني من الألم بعد أن ذهب من نفسي إيمانها، وتزعزعت فيها معتقداتها، وخاب في الثواب والمآب رجاؤها، وقد خجلتُ من نفسي كيف خدعوها بترهاتهم وأباطيلهم تلك السنين الطويلة، ومع ذلك، فماذا أفادني الآن ظهور الحق وبطلان تلك الأباطيل؟ خلا قلبي من الإيمان بها، فأصبح كدار أصابها حريق فأمست خالية خاوية لا يُرى فيها إلا أطلال ورماد (تمسح دموعها) أراني كامرئ جائع فاته الطعام ولا يجد ما يسدُّ به رمقه، أو ظامئ مُنِع الماء فلم يروَ غليله، أو عارٍ نُزعت عنه ثيابه فلا يجد ما يستره، كنتُ عمياء البصر، فأصبحت روحي أيضًا عمياء، فمَن لي بشعاع من نور الأمل، يُضيء به روحي؟ مَن لي ولو بأمل كاذب، يحل محل الأمل الخائب؟
يوما : ما لكِ والكاذبين؟ تناسي ما سمعته، واذكري ما لقَّنَتْك أمك، إذا كانوا حطموا آلهتنا في تماثيلها، فأحيي أنتِ ذكرها في قلبك، ألا بذكرها تطمئن القلوب.
مييريس : نعم نعم، سأحيي ذكرها في قلبي، لقد نبهوا عقلي، فزعزعوا معتقدي، فلأخالف عقلي ولأعد إلى آلهتي، فإن لم أستطع الإيمان بها كل الإيمان، فلا أقل من أن أفعل ما يفعل المؤمنون، وإذا كانت آلهتي كاذبة، فلأتمسكَنَّ بها حتى يخيل لي أنها من الصادقين، نعم وإني مقدسة تلك الأباطيل، مصدقة تلك الترهات، ممجدة تلك السفاسف، عابدة تلك الصور المشوهة، راكعة أمام تلك النُّصب الجامدة، ساجدة لتلك الأحجار الهامدة (تركع) ويلاه لقد كنت ونفسي فارغة منهم كغابة بلا طير، وشجرة بلا ثمر، ونهر بلا ماء … لا شك أن الإيمان جنة النفوس.
يوما (راكعة) : وحياتي قربان لهم لو يتقبَّلون.
مييريس : إنما الإيمان الأمل، والأمل غاية الحياة.
يوما : أريد تقديم نفسي قربانًا لخالقها.
مييريس : ألا ترين يا يوما أن النفس مندفعة إلى الاعتقاد بقوة فوق قدرة البشر؟
يوما : وهل يستغني الفقير عن الكريم؟
مييريس : ولا يستغني الضعيف عن القوي.
يوما : إذا لم يكن لنا رب فلمن نشتكي؟
مييريس : ومن ندعو لتخفيف آلامنا، ومن نشكر على تحقيق آمالنا؟
يوما (منتحبة) : ما أشقانا وأتعسنا لو تخلى عنا إلهنا!
مييريس (تندفع إلى أحضان يوما) : لا أود أن يتخلى عني، لا أود أن يتخلى عني.
يوما : إنه لا يتخلى عن المؤمنين به.
مييريس : آلهة! آلهة! لا بد لنا من آلهة، الأرض دار السقام، ومهبط الآلام، فلتكن السماء دار الرحمة ودار السلام، تجلَّ يا آمون على خلقك، واظهر لعبيدك.
يوما (بعد سكون) : تجلَّيْ علينا يا إيزيس! ارحمينا (تصرخ منفعلة) مولاتي أظن أنها ستظهر لي مرة أخرى، إيزيس! مولاتي أسمعتِ؟
مييريس : لم أسمع شيئًا.
يوما : وهذه الألحان وهذه الأناشيد؟ ها هي!
مييريس : لا أسمع شيئًا.
يوما : إنها تتكلم … نعم أيتها المعبودة.
مييريس : أترينها؟
يوما (منبهرة) : أراها وها هي مقبلة علينا!
مييريس : أيتها المعبودة …
يوما : لقد اختفت. لم تتمكني من رؤيتها يا مولاتي، ولكن أما سمعتِ خُطاها؟
مييريس : نعم، أظن أني سمعتها. أظن، وكفى بذاك عزاءً.
يوما : ما أسعدني! إلى الهيكل، إلى الهيكل. لقد أشارت إليَّ بيدها قائلة: إلى الهيكل، هيا بنا يا مولاتي إلى الهيكل.
مييريس : هيا بنا إلى الهيكل، ولنصلِّ لهم (تخرجان مسرعتين).

الواقعة السادسة

(ساتني – باخ – رجال، ثم الساحر ومساعداه، وكريبا)

(يدخل الساحر ومساعداه يليهما باخ محمولًا على محفة، ووراؤه وزوجته كريبا، ويحيط بها ويسندها نساء يدخلن معها إلى المنزل ليوصلنها، يأخذ الساحر قليلًا من الطين من صندوق يحمله أحد مساعديه فيكوِّره في يده، ويبدأ يقول بصوت أغنٍّ):

الساحر : يا باخ يا ابن ريتي جُرحت فحلَّت في جسمك روح خبيثة، فسأتلو عليك ما يذهب بها «إن فضائل هذا الذي أمامي يتألم؛ فضائل أبي المعبودات، وفضائل جبينه، فضائل جبين تومو، وفضائل عينيه، فضائل عين حوريس مبيدة المخلوقات» (سكوت).
باخ : ابتعد عني.
الساحر : شفتهُ العليا إيزيس، وشفته السفلى نفتيس، وعنقه عنق المعبودة، وأسنانه سيوف، ولحمه أوزيريس، ويداه من أرواح الآلهة، وأصابعه ثعابين زرقاء وحيات من أولاد المعبودة سلكيت.٢
باخ : ابتعد عني فما عدتُ أعتقد بسحرك.
الساحر (يخرج من الصندوق تمثالًا صغيرًا) : حوريس هنا، رع هنا، نادوا أولياء عين شمس …
باخ : أما انتهيت.

(يدفع بيده التمثال عندما يقربه منه الساحر فيسقط التمثال.)

الساحر : إن الأرواح الخبيثة التي حلت في جسمه أقوى من التعاويذ، فهو لا شك هالك، ولا يجب أن يحضر وفاته إلا ابنه فقط، فاخرجوا أجمعين.

(يخرج الجميع إلا باخ وساتني.)

الواقعة السابعة

(ساتني – باخ)
ساتني : أبي.
باخ : أأنتَ هنا يا ولدي؟ أحسنت، لقد سررتُ بانصراف هذا الساحر الكاذب، فاشفني أنت.
ساتني : ستُشفى يا والدي، فاصبر يأتك الشفاء.
باخ : بل اشفني حالًا.
ساتني : لا أستطيع.
باخ : لمَ لا تريد شفائي؟ أما تراني مجروحًا؟ إني متألم فهيَّا أسعفني.
ساتني : لو كان الأمر في يدي لجدتُ بكل ما عندي في سبيل شفائك.
باخ : إنك تعرف من التعاويذ ما يجهله كهنتنا، فاتلُها عليَّ.
ساتني : لا أعرف شيئًا من هذه التعاويذ.
باخ : لا أظنك تدعني أموت.
ساتني : لن تموت، فاطمئن.
باخ : أطمئن، وبمَ أطمئن (سكوت) ألا تريد أن تشفيني؟
ساتني : لا أستطيع.
باخ : إذن أنتَ لا تستطيع إلا التدمير. ولدي ارحمني، إن دمي يسيل وحياتي تسيل معه، ولا أريد أن أموت (بشدة) لا أريد، لا أريد. لا تترك يدي، لا تتخلَّ عني، أريد أن أحيا، أريد أن أعيش، لقد قضيت حياتي دائبًا مُكِبًّا على العمل، فكم شقيت وكم تألمت. ساتني أتدعني الآن أرحل قبل أن أتمتع بالراحة والسعادة كما وعدتني؟
ساتني : آه يا والدي!
باخ : أتبكي؟ ويلاه! إذن قُضيَ الأمر! نعم، أرى ذلك في عينيك (يتلفت) وهذا السكون الذي حولي؟ آه، الموت! الموت! (سكون طويل) وبعد ماذا يكون؟ (سكون) ألا تجيب؟ إذن فهذه غاية فقير مثلي؛ كدٌّ في الحياة، وشقاء في طلب الرزق، وفقر مدقع، وحرمان من كل لذة، ثم موت؟ أموت وينتهي كل شيء؟ لا جزاء ولا عقاب؟ أنتهى كل شيء؟ (بشدة) ساتني، ساتني، رُدَّ عليَّ يقيني، رد عليَّ إيماني، آه لِم وُلِدتَ أيها الكافر المضل؟ أوُلدت لتهدم، وهل العدم مذهبك؟ لا كنتَ يا نذير الخراب! لقد تمكنت فأقنعتني بكذب ما يعبدون، فرُدَّ لي الآن إيماني، أو أثبت لي أنك من الصادقين، ردني إلى سذاجتي وجهلي، فقد كانا عمادي رد لي إيماني.
ساتني : لا تيأس.
باخ : كيف لا أيأس، ولا دار بعد هذه الدار، ولا جنة للصابرين؟
ساتني : بلى يا أبتِ، وستُرفع إلى دار عليين.
باخ : أنت الآن من الكاذبين، وأراك تغرر بي، لا أوزيريس، لا أوزيريس لا شيء بعد هذه الحياة، فعليك اللعنة بما علَّمتنيه، وعليك اللعنة بما سلبتنيه، رد عليَّ إيماني. (يحاول القيام فيسقط من السرير فيحمله ساتني باحترام ويرده إلى مرقده) أيها الولد الضال، والرجل المُضل، عليك اللعنة! ليتني أستطيع الآن فأنتقم منك، اقترب مني، اقترب أيضًا (يقبض على عنقه) آه، ليت لي قوة، فأنشب أظافري في عنقك، ها ها يا ملعون.

(يُفرج عنه ويسقط ميتًا.)

ساتني (مرتعبًا) : لقد مات، يا أماه يا أماه (يصلح وضع والده) آه يا والدي المسكين ليت كل الحقائق كانت كاذبة، فلا أبكيك اليوم!

(يجثو باكيًا ويداه ممدودتان على جسم والده فتدخل كريبا.)

كريبا : هل مات؟
ساتني : نعم، وا أسفاه!
كريبا : ويلاه، ويلاه! سيدي مات، وا أسفاه! مات السيد، مات السيد، مات السيد!

الواقعة الثامنة

(ساتني – باخ ميتًا – كريبا – ثم النائحات)
النائحات : مات السيد، مات السيد!
كريبا : وا سنداه! وا أبتاه!
النائحات : وا سنداه! وا أبتاه!
كريبا : وا ولداه! وا ولداه!
النائحات : وا أبتاه! وا ولداه!
(يرتمين على الجثة صارخات، ويلطمن صدورهن بقبضة أيديهن وهن يرقصن رقص النائحات في المآتم دون أن ينتقلن من أماكنهن، وينحنين إلى الأرض فيحثين التراب على رءوسهن.)٣
كريبا (تنحني أمام الجثة) : إلى أبيدوس،٤ إلى أبيدوس! إلى أوزيريس،٥ إلى أوزيريس!
النائحات : إلى أبيدوس، إلى أوزيريس!
كريبا : في يوم حشر الناس، نُجمع معًا يا باخ.
النائحات : إلى أبيدوس، إلى أوزيريس!

(يقلدن بأيديهن صورة أخذ الجثة وحملها، وهي حركة من الطقوس الدينية.)

كريبا :
يا نصيبي يا شقيقي يا حبيبي
لا تبارح دار أنسك وصفاك
لا تبارح أرض بيت قد رعيته
لا تبارح قلب زوج قد رعاك
اتركوه، اتركوه، اتركوه
كل قصدي في حياتي أن أراك
النائحات : إلى أبيدوس، إلى أوزيريس!
كريبا : لا تيأس ولا تقنط، فساتني اليوم موجود.
النائحات : لا تيأس ولا تقنط، فساتني اليوم موجود (يُشِرن إليه).
دليثي : بعد أن أبكيك، حنُّو ترثيك، ثم يتلو ولدك الكلمات السحرية، إذا لقيت أوزيريس، والقضاة الاثنين والأربعين، في محكمته الربانية، ونُصِب لك الميزان، وسُئلت عن أعمالك، فقل إنك فعلت الخير، وما أتيت الشر، ولم تخالف قط الأوامر الإلهية.
ساتني : أما أنا فلا أتلو الكلمات السحرية.
النائحات : لا تيأس ولا تقنط، فساتني اليوم موجود.
حنُّو : لا تيأس ولا تقنط، فساتني اليوم موجود، وبعد أن أبكيك، نوريت ترثيك ثم يتلو ولدك الكلمات السحرية، فإذا لقيت أوزيريس وقضاته في المحكمة الربانية، فقل إنك أطعمت الفقير، ونصرت المسكين، ولم تنهب هيكلًا للآلهة، ولم تقتل قط نفسًا بشرية.
ساتني : لن أتلو كلمات لا فائدة منها.
النائحات : لا تيأس ولا تقنط، فساتني اليوم موجود.
نوريت : لا تيأس ولا تقنط، فساتني اليوم موجود، يتلو عليك الكلمات السحرية، فإذا لقيت أوزيريس فقل له إنك لم تنزع عن الموتى أكفانها، ولم تبخس الكيل والميزان، ولم تصد الحيوانات المقدسة، قل له إني عفيف.
النائحات : إني عفيف، إني عفيف!
كريبا : قل له أعطني اليوم جزائي، فإني عفيف، أعطني مما تعطي السماء، أعطني مما تُخرج الأرض، أعطني مما يأتي به النيل من منابعه القاصية الخفية، ولا تيأس ولا تقنط، فساتني اليوم موجود، يتلو عليك الكلمات السحرية.

(يسكتن جميعًا ناظرات إلى ساتني.)

ساتني : كلا لن أقول شيئًا.

(يندهشن جميعًا.)

كريبا (تقترب منه واضعة يديها على كتفيه) : اتلُ الكلمات السحرية.
ساتني : لا أتلوها (ويبتعد).
كريبا : إذن عليك اللعنة!

(تسقط مغمى عليها، فتسرع إلى إسعافها النساء، ويشهق ساتني بالبكاء.)

هوامش

(١) كان هذا اعتقاد عامة المصريين.
(٢) هذه التعويذة حرفية ومنقولة عن الآثار، وكان يقصد بتشبيه أعضاء الإنسان بأعضاء الآلهة؛ أن تخشاها الأرواح الخبيثة فتنصرف عنها.
(٣) يلاحظ أن عادات المصريين الحاضرة في مآتمهم صدى لتلك العادات العتيقة، فما زالت النائحات والنادبات الراقصات والضاربات بالطبول محافظات على تلك التقاليد القديمة، وترى فيما يلي أن تلقين الميت ما يجب عليه أن يقوله عند الحساب له أصل أيضًا في عادات قدماء المصريين، وقد حافظنا على الأصل المصري ما استطعنا، ومكننا من المحافظة عليه في الترجمة ذوق اللغة العربية.
(٤) أبيدوس: مدينة من مدن مصر قديمًا كانت تلي طيبة في العظمة، ومحلها اليوم العرابة المدفونة بمركز البلينا، وكانت مدافنها شهيرة، ووجدت بها جملة جثث محنطة للحيوانات المقدسة.
(٥) أوزيريس: معبود مصري قديم يظهر أن اسمه بلغتهم «ساييري» أو «سيري» أو «أوزيري» وإنما «أوزيريس» اسمه الإغريقي، وكان أوزيريس في البدء معبود جملة بلاد في شرق مصر، وكان إله النيل والخصب المقابل للمعبود «ست» إله الصحراء والجدب، وجاء في أساطير المصريين أن أوزيريس وزوجته إيزيس من جهة راجع قصتها [بهامش ١ الفصل الأول] وست وزوجته نفتيس من جهة أخرى كانوا جميعًا إخوة من أب واحد هو «سيبو» إله الأرض، وأم واحدة هي «نوت» إلهة السماء، فأوزيريس ابن السماء والأرض وإن لم يكن أول مخلوق من بني آدم، فهو في زعمهم أول إله تشكل بزي الإنسان فجمع بين صفتي الألوهية والإنسانية وأول من حكم بين الناس، فلطف من طبائعهم الوحشية، وعلمهم زراعة القمح والكروم، ووضع لهم الطقوس الدينية وشيد المدن، وإليه ينسبون إنشاء مدينة طيبة نفسها، وقد رأينا في شرح ما يتعلق بإيزيس [بهامش ١ الفصل الأول] ما تم له مع أخيه ست، وكيف قتله أخوه وأحيته زوجته إيزيس، إلى أن صار ملكًا على الموتى في الآخرة، فإليه تُقدم الأرواح للحساب في محكمة يشاركه الحكم فيها اثنان وأربعون قاضيًا على ما ورد في الآثار، وقد جعلت تلك الوظيفة لأوزيريس شأنًا عظيمًا لدى قدماء المصريين الذين كانوا يعنون أشد العناية بمصير أرواحهم، فأصبح لأوزيريس المقام الأول في كعبة آلهتهم، وعمت عبادته وادي النيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤