العائلة الأبوية
العائلة هي أصل المجتمع، وهي أيضًا أصل من أصول المعرفة والذكاء، وقد كتب كثيرون عن أصل العائلة ولكن خيرهم في هذا الميدان هو روبرت بريفولت صاحب كتاب «الأمهات» الذي سيبقى سنين كثيرة مرجعًا لبحث هذا الموضوع.
العائلة أصيلة في جميع اللبونات، ولكنها تختلف في درجتها؛ إذ ليس هناك حيوان، مهما انحط، يخلو من معنى العائلة؛ ذلك لأن الأم ترضع أطفالها وقتًا ما قد لا يزيد على أسابيع في بعض الحالات وقد يبلغ سنة أو يزيد، وما دام هناك رضاع فهناك أم تجتمع بالأطفال التي تلتف حولها وتحتمي بها وتنصت لإشارتها، فهناك عائلة في معنى ما، ولكنها عائلة سريعة الزوال لأن الأطفال لا تكاد تنتهي من الرضاع حتى تترك الأم.
على أننا يجب ألا نستهين بهذه المدة التي يقضيها الأطفال مع الأم، فإن الزواحف التي سبقت ظهورنا نحن اللبونات كانت تبيض وكانت عنايتها كلها مقصورة على البيض حتى إذا انفقأ تركت الأطفال، وكان على كل طفل عندئذ أن يسعى مستقلا لا يعرف له أما فضلا عن أب فلم يكن هناك مجال لأن يتفاهم مع أمه: يعبر عن رغبته أو نفوره وعن خوفه أو جوعه، وجميع هذه العواطف تحرك الذكاء الاجتماعي؛ لأن هذه الأم نفسها مضطرة إلى أن تنقل إلى هؤلاء الأطفال إحساساتها أيضًا وتدعوهم إلى تقليدها في الهرب والهجوم والأكل وسائر السلوك ونحن هنا إزاء عائلة مصغرة قد يتعلم الأطفال فيها عدة أسابيع كما في الفئران أو عدة أعوام كما في الزرافة والفيل والبقرة، وفي هذه الأسابيع أو السنين يتعلم الأطفال ثقافة الأسلاف، ثم يتفرق الجميع عقب الرضاع إذا كان الحيوان انفراديًّا كالقطط، أو تجتمع الأفراد جماعات إذا كان الحيوان اجتماعيًّا كالبقر.
ومحض انتقال الحيوان من أن يبيض إلى أن يلد قد رفع الذكاء لأن الزواحف العصرية لا تعرف أولادها؛ إذ هي تتركها عقب انفقاء البيض، فالأولاد لا تتذكى بالاجتماع والتفاهم مع الأم، أما اللبونات فتمتاز بالرضاع وما يلازمه من تربية وتذكية.
ولكن مدة الرضاع ليست كافية للوصول إلى درجة ممتازة في التربية وتحريك الذكاء، وقد اضطرتنا إقامتنا نحن على الشجر إلى أن نحتمي بالأم من أخطار السقوط من الأغصان، فطالت طفولتنا إلى السنين بدلًا من الشهور، وازددنا بذلك تربية وذكاء، حتى إذا كبرت أجسامها وثقلت وأصبحت الإقامة على الأغصان خطرة تركنا الشجر إلى الأرض، ولكن بقيت لنا هذه الميزة وهي أن طفولتنا تمتد مع الأم، وربما مع الأب، إذا لم يكن هذا الأب نزقًا يجري مع أهوائه ويبحث عن الطريف من الجمال في نسوة أخريات.
والقردة الدنيا، مثل البابون الذي نراه في شوارعنا، يقتصر فيها معنى العائلة على مدة الرضاع، وكبار ذكرانها تستولي على الإناث وتترك صغار الذكران بلا إناث فتفشوا الشذوذات الجنسية بينهما كما تفشو بين البشر حين يحرمون النساء.
ولكن القردة العليا، الجيبون والأورانج، والشمبنزي والغوريلا تعرف العائلة بما يقارب الأسلوب البشري، فإن الأب يلزم الأم والأطفال، ويعيش الجميع معًا سنوات إلى أن يبلغ الصغار سن الشباب فتستقل وتتفرق.
ومجتمعنا البشري البازغ، كان بلا شك شبيهًا بالمجتمع القردي العالي كما نراه بين هذه الأربعة التي ذكرناها، الأب والأم والأولاد يجتمعون حتمًا مدة الرضاع وبعد الرضاع بضع سنوات ثم يتفرقون أو يبقون، والأب أول من يهجر؛ لأنه قوى رائد يتطلع إلى الإناث الأخرى، والرضاع يربط الأطفال بالأم أكثر مما يربطهم بالأب، بل لولا العلاقة الجنسية بين الأب والأم لما كان هناك ما يربط الأطفال بالأب.
فإذا ترك الأب الأطفال وأمهم، أو إذا مات، بقي الأطفال مع الأم، وهنا منشأ الحب البشري، ونحن نحب أمهاتنا بعاطفة تختلف عن العاطفة التي نحب بها زوجتنا أو عشيقتنا؛ لأننا هنا نجد حبًّا جنسيًّا، أما هناك فنجد حبًّا بشريًّا، وقد يثب هنا أحد السيكلوجيين الفرويدبين يزعم أن حب الطفل لأمه جنسي كما هو مركب أوديب عند فرويد.
ولكن هذا خطأ فادح من فرويد؛ لأن الحب الجنسي في صميمه افتراس وأكل ونهم، يدل على هذا أن كثيرًا من الأحياء يختلط فيها الافتراس بالتعارف الجنسي كما نرى في العناكب والعقارب حين تأكل الأنثى الذكر بعد الاجتماع، وأحيانا قبله إذا استطاعت، ويحدث أحيانًا كثيرة أن الذكر من الحيوانات العليا يقاد إلى الأنثى في حدائق الحيوان للتقليح، ولكنه بدلًا من أن يلقحها يفترسها، والعض مألوف في الاجتماعي الجنسي، وهو إيماءة الأكل، والكلمة الفرعونية التي تدل على الأكل هي نفسها التي تدل على القتل، والكلمتان العربيتان «قتل» و«أكل» قريبتان، والنهم إلى الأنثى يشبه النهم إلى الطعام، والاجتماع الجنسي يتم أحيانًا بين الذكر والأنثى بلا أدنى حب.
وكثيرًا ما توقظ عاطفة الغضب على الزوجة وضربها والتغلب عليها، العاطفة الجنسية، وهذا معروف بين الطبقات الدنيا من العامة، بل كثيرًا ما يحدث في الأحلام أن يتخذ العدوان لون التعارف الجنسي، وفي الأميبة الأولى يجري الحب «الجنسي» بالاندغام؛ أي: تندغم إحدى الخلايا في الأخرى كما لو كانت كل منهما تأكل الأخرى.
وليس كذلك الحب من الأطفال لأمهم أو من الأم لأطفالها؛ لأننا هنا نجد شيئًا آخر غير العدوان والافتراس والنهم والأكل نجد الرحمة والحنان والرقة والعطف.
•••
والعائلة الأولى هي عائلة الأم؛ لأن الأب لم يكن يرضع الأطفال، فكان غريبًا عنهم حين كانت الأم حميمة العلاقة بهم، وقد مضى على الإنسان آلاف السنين وهو لا يعرف القيمة الفسيولوجية للاجتماع الجنسي بين الرجل والمرأة، ولذلك كانت الأم هي كل شيء في العائلة ولا تزال في اللغات كلمات تدل على ذلك، منها كلمة «ذوي الأرحام» للقرابة، وكذلك كلمة «حياة» التي اشتقت من الحيا وهو عضو التناسل في المرأة، ولا تزال هناك شعوب باقية إلى عصرنا تعتقد أن الأب ليس له أدنى تدخل في حمل المرأة، وأن هذا الحمل يأتي للمرأة من أرواح البحر التي تنصب على رأسها في الليل ثم تهبط أجنة من الرأس إلى الرحم، وكتاب مالينوفسكي «الحياة الجنسية بين المتوحشين» هو وصف مسهب لأحد هذه الشعوب في ميلانيزيا في الجنوب الشرقي من القارة الآسيوية، ولم يعرف الإنسان قيمة الرجل في التناسل إلا بعد أن استأنس الحيوانات وصار يستكثر منها بالتلقيح.
فالأم هي التي أوجدت العائلة البشرية للرباط الطبيعي بينها وبين الأطفال وهو الرضاع، وبقي البشر ملايين السنين، ثم بعد ذلك مدة غير قصيرة في عصور الحضارة الأولى، وهم يعتقدون أن الأم هي الأصل الوحيد للتناسل، حتى كانوا يصنعون تماثيل للحيا «أصل الحياة» ويحملونها على أجسامهم عوذة أو تميمة تقيهم من الموت؛ لأن هذا العضو الذي ولدنا منه هو أصل الحياة، فما دمنا نحمل تمثاله من طين أو حجر فإننا لن نموت، وهناك ما يرجح أن الودعة قد امتازت بخصائص سحرية لهذا السبب؛ أي: لأنها تشبه الحيا، وقد انحدرت إلينا الودعة وانحطت مكانتها فلم تعد لها غير خصائص غيبية في الحظ والطالع عند العامة، كما لا يزال يحملها الصبيان لمنع العين.
ويدلنا التاريخ القديم لكل أمة تقريبًا على أن الانتساب للأم كان شائعًا، والأسماء العربية القديمة تدل على هذا أيضًا، والأقارب في العصور القديمة هم عائلة الأم؛ أي: الأخوال وليسوا عائلة الأب، والولد في التاريخ القديم كان ينتمي إلى أخواله وليس إلى أبيه أو أعمامه بل كانت القبائل تنتسب إلى النساء دون الرجال، وقد وصف مالينوفسكي الذي أشرت إليه القرابة في النظام الأمومي وأوضح أنها للأخوال، وأن الأب يعد غريبًا.
وقد وصف هيرودتس شعوبًا كثيرة بدائية النظام الاجتماعي ووجد فيها هذا النظام الأمومي؛ أي: أن الأم هي الأصل للعائلة، وهناك ما يدل على أن العائلة المصرية القديمة كانت أمومية، ولعل الضد عند العرب هو بقية هذا النظام.
والإنسان البدائي الذي لم يستقر على زراعة بل كان يعيش جائلًا يبحث عن الجذور والأثمار ويصيد صغار الحيوان، هذا الإنسان كان شيوعيًّا بدائيًّا يجد في الغابات والسهول ملكًا شائعًا لنوعه ليس لأحد اختصاص بجزء منه، وفي هذا الحال تقتصر العائلة على الأم وأولادها، وليس للأب سوي قيمة الرفيق الصديق الذي يمكن الاستغناء عنه.
ثم ينشأ النظام الأبوي للعائلة بعد ذلك؛ أي: حين تتألف القبائل وتحتاج إلى الغزو والقتال؛ لأنه هنا ترتفع قيمة الرجل لكفاءته في الغزو والقتال وتنخفض قيمة المرأة، ولعل أول الغزو كان لسبي المرأة وفي هذه الحال؛ أي: حين تسبى المرأة، يتغير النظام العائلي، فبدلًا من أن يكون أموميًّا يعود أبويًّا، فإذا نشأت القبيلة لأجل السبي الجماعي أو إذا كانت الغاية من الغزو خطف الخراف أو الأبقار المدجنة فإن مركز المرأة ينحط كثيرًا في العائلة، وهي وقت الغزو تُؤخر وتُحمى وتعود عبئًا على الرجال؛ إذ هم يخشون أن تُغزى هي وتُسبى، وعندئذ يتأكد المركز العالي للرجل في العائلة وتخلص صفتها الأبوية.
وصفات الحرب هي الآن صفات الرجولة، والسبي يؤدي في النهاية إلى الضرار؛ أي: إلى تعدد الزوجات، كما كان النظام الأمومي للعائلة قبل ذلك يؤدي إلى الضد؛ أي: تعدد الأزواج.
ولذلك نستطيع أن نرجح أن النظام الأبوي للعائلة لم ينشأ إلا بعد أن تألفت القبائل للغزو، بسبي المرأة أولًا، ثم خطف الدواجن ثانيًا، وما دام هناك دواجن فلا بد أيضًا من غزو المراعي ثم الشروع في امتلاك الأرض، وكل هذا يجوز أن يحدث قبل الاهتداء إلى الزراعة.
ثم ظهر عنصر آخر تغير به نظام العائلة البشرية، ذلك أنه عندما اهتدى الإنسان إلى الدين كان أول إيمانه، وهو بعد في نظام القبيلة، أن هناك ربًّا يحمي قبيلته دون سائر القبائل، ثم كان الغزو لسبي المرأة يجري بين قبيلة وأخرى كما يجري لخطف الماشية أو للمرعى، فأصبح الزواج بأبناء القبيلة الأخرى سنة مألوفة إن لم تجر بالسبي جرت بما يشبه السبي من تعويض المهر، ونشأ من ذلك كراهة الزواج الداخلي، فلا يتزوج الأخ أخته بل لا يتزوج من قبيلته، وصار لكل قبيلة «طوطم» هو شعار القبيلة الذي يمنع الزواج بين أعضائها.
- (١)
إن العائلة البشرية الأولى هي عائلة الأم دون الأب؛ أي: العائلة العامة بين اللبونات والقردة العليا، والأب هنا هو صديق مرافق، وقد يهجر العائلة في أي وقت، ثم إن النظام العائلي «وبؤرته الأم» لا يبقى إلا ريثما يتم نضج الأطفال.
- (٢)
عندما عُرفت القبيلة، ثم عُرف سبي المرأة وغزو الماشية والمرعى، ظهر نظام العائلة الأبوية، الأب هو السيد؛ لأن المرأة التي تُسبى لا يمكن أن يكون لها سلطان في العائلة، بل هي تُستعبد.
- (٣)
لما تماسك نظام القبيلة بعض الشيء اهتدت إلى الدين بإيجاد طوطم تنتسب إليه وترتبط به، وهو يمثل في أغلب الأحيان حيوانًا مألوفًا أو بريًّا، وفي الأكثر طيرًا تعزى إليه حماية القبيلة وإكسابها الشجاعة للنصر.
- (٤)
ما دام السبي قد وُجد وعُرف الغزو فإن العادة تنشأ في كراهة الزواج من الإخوة أو الأقارب، ثم يحرم، ويعود الزواج مقصورًا على الجنس الآخر من القبيلة الأخرى بالسبي أو التعويض بالمهر، وتعم القاعدة بأن أبناء الطوطم لا يتزاوجون فيما بينهم، كل هذا والإنسان لم يعرف الزراعة ولم يستقر، ولكن هذا التدرج لا يؤخذ على أنه يسير في نظام واضح كل واحد يلي الآخر؛ إذ هو يتداخل، وزواج الأخت عند الفراعنة برهان على أن نظام الغزو والسبي لم يعش في مصر المدة الكافية لإلغائه، وقد كان رمسيس الكبير ثمرة خمسة عشر زواجًا متواليًا من هذا النوع؛ أي: زواج الأخ بالأخت.
كذلك يجب ألا ننسى عوامل أخرى للضمد؛ أي: زواج المرأة لعدة رجال، منها وأد البنات للفقر؛ لأنه إذا شاعت هذه العادة في أمة ما قل عدد النساء وزاد عدد الرجال، فيصبح الضمد محتومًا، كما رأينا عند العرب قبل الإسلام، وكما نرى الآن في تبت وسيلان.
•••
هذا ما نشك فيه، بل نرجح أن العائلة الأمومية ستعود، ذلك لأن استقلال المرأة الاقتصادي والكفالات الاجتماعية للأولاد سيجعلان ارتباط الأولاد بالأم أكبر جدًّا من ارتباطهم بالأب، وقد شرعنا هذه السنوات نرى ظاهرة جديدة هي الزواج الاعتزالي في النرويج والسويد والولايات المتحدة الأمريكية حيث قد أتمت المرأة استقلالها الاقتصادي فإنها تعيش في هذه الأقطار مستقلة تتزوج ولكنها تنفرد ببيتها وأولادها مدة الزواج، ولا يعود الزوج سوى زائر، وتُبنى المساكن الكثيرة على هذا الأساس.
ونحن بلا شك نشمئز أو على الأقل ننفر من هذا الوضع الذي يخالف مألوفنا، ولكن يجب أن نذكر أن العائلة الأبوية إنما نشأت؛ لأنها كانت قبل كل شيء رابطة اقتصادية مركزها الرجل الغازي المقاتل أو الكاسب العائل، وقد وصلنا إلى حال جديدة في تطورنا الاجتماعي لم يعد فيها الرجل غازيًّا مقاتلًا، ولم يعد منفردًا في الكسب للعائلة؛ لأن المرأة تكسب مثله، ثم أصبحت هي تمتاز عليه بالميزة الطبيعية الأولى وهي الأمومة؛ أي: الرضاع والعناية بطفولة الأولاد.
وأخيرًا لعلنا لا ننسى أن العائلة الأبوية تزداد أبوية وقسوة؛ أي: رجولة وعدوانًا وقت الحرب، كما حدث في الفاشية والنازية وكلتاهما ردت المرأة إلى البيت وحاولت حرمانها الكسب والاستقلال.