الأفكار كلمات
جميع اللبونات التي تتسلق الأغصان، أو الجدران تعرف كيف تمسك الأشياء بيديها، كما نرى في الفأر والقط والسنجاب وجميع القردة الدنيا والعليا، فالتسلق هو الدرس الأول الذي يؤدي إلى الإمساك والتناول.
ولكن ما دام الحيوان يحتاج كثيرًا إلى التسلق فإنه لا يتناول كثيرًا، وإنما يصبح التناول عملًا أساسيًا لليد حين يترك الحيوان الشجر ويعيش على الأرض بحيث يسعى على ساقيه فقط ويرصد يديه للتناول دون الحاجة إلى التسلق.
وهذا هو ما حدث لنا، فقد كنا نعيش على الشجرة ثم لسبب ما، كأن نكون قد نمونا وزاد وزننا فلم تعد الأغصان تتحملنا، أو ربما حدث جفاف، وهذا أرجح، جعل الأشجار قليلة الأثمار والغذاء … تركنا الأشجار كي نسعى ونبحث عن الطعام على الأرض.
وقناتنا الهضمية لا تزال تدل على أننا كنا وما زلنا نتغذى بالنبات، بالأثمار والجذور وورق الشجر، ولكننا بعد أن تركنا الشجر بسبب الجفاف شرعنا نتعود افتراس الحيوانات الصغرى ونأكل اللحم، وهذا هو ما يفعله البابون الذي يعيش على السهول والوديان المعشبة في إفريقيا، فإنه يأكل العشب ولكنه يفترس الحيوانات الصغرى، وأحيانًا يهجم على القطعان لافتراس جدي أو خروف.
وحين تركنا الشجر وتعودنا افتراس الحيوانات الصغرى تغيرت أسماؤنا بعض الشيء وتغيرت أسناننا، وكسبنا من أكل اللحم شيئين؛ أولا: هو هذا الوقت الذي كنا نقضيه في تناول الأعشاب والأثمار القليلة الغذاء والتي كانت تستغرق نهارنا كله، فإننا أصبحنا نقتنع بالوجبة من اللحم تكفينا مع صغر حجمها لأن نرتاح مدة طويلة ونحن في شبع لوفرة ما في اللحم من الغذاء، وكانت هذه الراحة مجالًا وفرصة لنا كي نفكر، وثانيًا: تعلمنا من الافتراس كيف نتناول، بل كيف نقذف الحجر على الفريسة، فتمرنت أيدينا بالقذف على وزن الأشياء وعلى التعاون مع المخ على التدبير في الافتراس.
وكان هذا أول الطريق نحو الاختراع.
ليس القذف اختراعًا، وإنما هو شيء نجده مصادفة فنتناوله ونقذف به الفريسة، والقردة، حتى الدنيا، تعرف كيف تقذف خصمها، ولكن هذا القذف قد علمنا قيمة الحجر الذي نقذف به؛ إذ يجب أن يكون على وزن معين وعلى شكل معين.
ولكن الفرق بيننا وبين القردة أننا «نخترع» وهي «تستعمل» فقط.
ولكن حتى هنا يجب ألا نجزم، فإن الشمبنزي استطاع أن يخترع فإن كوهلر علق بعيدًا عنه بعض الموز ووضع أمامه عصوين إحداهما أنبوبية، فحاول القرد أن يصل إلى الموز بإحدى العصوين فوجد أنها دون المسافة، فعمد، بعد تفكير، إلى الأخرى وتأملها، ثم أدخلها في العصا الأنبوبية حتى طالت، واستطاع بذلك أن يجعل من العصوين عصا واحدة تبلغ الموز وتسقطه.
وهذا اختراع بدائي، فإن القرد هنا صنع «آلة» وبذلك ارتفع عن «الإدراك الحسي» الحيواني إلى «التصور الذهني» البشري.
الإدراك الحسي لا يحتاج إلى تفكير؛ لأني «أحس» أن حجرًا قريب مني فأتناوله وأقذف به حيوانًا، وليس هنا اختراع؛ لأن الاختراع يحتاج إلى «تصور»؛ أي: أني أؤلف فكرة مع فكرة أخرى أو مع جملة فكرات أتصورها كلها من البداية إلى النهاية، ولما أدخل القرد العصا الصغيرة داخل العصا الكبيرة تصور ما سوف يعمل بها بعد إطالتها.
وهذا هو الاختراع وإن يكن مؤلفًا من فكرتين فقط.
أما في الإنسان فالاختراع يتألف من طائفة من الفكرات؛ لأننا نحن نتصور بعقولنا صورًا مختلفة نؤلفها ونستخرج منها الفكرة المركبة، أما الحيوان فيدرك بإحساسه: حجر على اليمين، وعصفور على الشمال، فيمكن أن يقذف.
وأعظم ما ساعدنا على الاختراع هو اللغة؛ لأن الفكرة كلمة وقد أحس الإغريقي هذه الحقيقة حين اشتقوا المنطق «لوجيك» من الكلمة «لوجوس»، وما دمنا نرث نحو مئتي أو ثلاث مئة كلمة فإننا بذلك نرث نحو مئتي أو ثلاث مئة فكرة، نجمع بينها ونتصور بها وهذا هو ما ينقص الشمبنزي أذكى القردة العليا.
قد نقول هنا: إن الشمبنزي عرف وتصور فوضع العصا داخل العصا دون أن تكون لديه كلمات، وهذا صحيح، ولكن كان تصوره هنا بسيطًا: فكرتين فقط هما تقدير المسافة إلى الموز والعصا الطويلة.
أما نحن فنحتاج إلى اللغة؛ لأننا نحتاج إلى أن نؤلف نحو عشر فكرات نستخرج منها صورة، فإذا لم يكن لهذه الفكرات كلمات فإننا نعجز عن «التصور».
والتصور الذي يربط فكرة بفكرة والذي ينبع من المخ قد ربط بين ملايين الخلايا التي بالمخ، وأيضًا زاد النمو في هذا المخ كي يزداد قدرة على التصور.
وعندي أنه ليس المخ الكبير الذي نمتاز به من القردة العليا هو الذي أوجد اللغة وزاد قدرتنا على التفكير والاختراع، وإنما العكس هو الصحيح؛ أي: أن قدرتنا على إيجاد الكلمات وتوارثها زادا حجم المخ.
والأصل في اللغة هو الاجتماع؛ إذ لا معنى للغة إذا كان الإنسان قد عاش منفردًا.
قدرة اللسان على النطق أوجدت الكلمات؛ أي: الفكرات.
والكلمات الجديدة العديدة احتاجت إلى ذاكرة؛ أي: احتاجت إلى تدريب.
وكما أن التدريب يكبر عضلات الرياضي كذلك تدريب المخ بالذاكرة وبالتفكير قد كبر المخ.
•••
ولكننا هنا يجب ألا ننسى الأساس لكل هذا وهو الاجتماع.
ذلك أن الكلمات والأفكار اجتماعية وليست فردية، وحين كنا على الشجر كنا نعيش منفردين، أو على الأكثر عائلتين لكل منا زوجته وأبناؤه لا نحتاج إلى أن نجتمع جماعات.
أما حين تركنا الشجر للقحط الذي نشأ من الجفاف احتجنا إلى الاجتماع كي نصيد غزالًا أو عجلًا أو حمارًا؛ لأن الصيد هنا يحتاج إلى أن نقوم به مجتمعين ونترصد ونتفاهم ونعين الواجبات لكل فرد ونتفق على حركات للهجوم والدفاع، وكل هذه الأشياء تحتاج أولًا إلى إيماءات باليد والفم ثم إلى ترجمة هذه الإيماءات، وقت الظلام إلى الأصوات؛ أي: الكلمات.
إن الذي حمل الإنسان على أن يجتمع هو الصيد، ونحن نرى حيوانات تصيد منفردة غير مجتمعة مثل الأسد والببر والنمر، ولكن هذه الحيوانات تفترس وتاريخها التطوري يسير نحو إيجاد المخالب والأنياب، أما نحن فقد انتقلنا من حياة الشجر النباتية، بلا مخالب وبلا أنياب، إلى حياة الصيد، فلم تكن لأحدنا القدرة على الافتراس، ولذلك احتجنا إلى الاجتماع.
واحتاج الاجتماع إلى اللغة وإلى اختراع الآلات.
وبإيجاد «المجتمع البشري» خرج الإنسان من حدود التطور السابق الذي كان يؤثر في الفرد ويغيره إلى حدود التطور الاجتماعي الذي يغير المجتمعات.
بل إن اللغة نفسها اختراع اجتماعي؛ لأن الحيوان الذي يعيش منفردًا لا يحتاج إليها؛ إذ لا يحتاج إلى التفاهم.
ولكن اللغة، كلمات اللغة، هي الأفكار.
والمخ البشري هو ثمرة الاجتماع، وليس العكس.
أي أن المجتمع البشري احتاج إلى معانٍ كثيرة وكلمات كثيرة اقتضت إيجاد مخ كبير يتسع لها.
لما تركنا الشجر إلى السهول لم تكن أمخاخنا تزيد على أمخاخ القردة العليا، ولكن اجتماعنا للصيد والدفاع، وتجوالنا للبحث عن الطعام، وتدبيرنا للترصد، وأخيرًا لغتنا التي تفاهمنا بها، كل هذا قد أدى إلى أن تكبر أمخاخنا كما تكبر عضلات الذراع عند العامل الذي يعمل بها.
إن الذي يفصل بين الإنسان والحيوان هو المجتمع البشري الذي احتاج إلى اللغة ثم احتاجت اللغة «الكلمات: الأفكار» إلى المخ الكبير الذي يتسع لاختزانها واعتمالها.
•••
رأينا أن التعبير باليد قد أدى إلى التعبير باللسان؛ أي: أن الشفتين واللسان والحنجرة صارت تؤدي في الظلام حركات اليد في النهار فظهرت اللغة.
ومهارة اليد في صنع الآلات وفي الافتراس والتناول سبقت بالطبع مهارة اللسان في النطق، بل هي التي أوجدتها، ولذلك نجد أن منطقة النطق في المخ تتاخم منطقة الحركة لليد اليمنى.
ولذلك إذا أصيب أحدنا بفالج في الجزء الأيمن من جسمه فإنه لا ينطق؛ لأن شلل اليد اليمنى يؤدي إلى شلل اللسان والحنجرة؛ أي: منطقة النطق، ولكن إذا كان هذا الفالج بالجزء الأيسر من الجسم فإننا نحتفظ بالقدرة على النطق.
اليد اليمنى هي يد المهارة والتعبير في الصناعة، ومنطقة حركتها تتاخم لذلك منطقة الحركة للسان والحنجرة والفم.