حوافز التفكير في التطور
من أعظم ما أخر الشعوب العربية عن المساهمة في الموكب العلمي العصري أن فني الرسم والنحت كانا مجهولين عندها، ولا عبرة برسم هنا وهناك على قماش أو خزف؛ لأننا نعني أن يكون الرسم فنًّا يحيا به وله فنانون محترفون، وكذلك الشأن في النحت.
فقد ورث الأوروبيون فن النحت عن الإغريق والرومان الوثنين، وابتدعوا هم فن الرسم، ولم يجدوا مانعًا من التقاليد في ذلك.
ثم حين جاء ميعاد النهضة استطاع الباحثون في علوم الإنسان والنبات والحيوان والطب والطبيعيات أن يستخدموا فن الرسم في تطوير هذه الأشياء، فتقدمت علومها بذلك، وهنا حيل بين العرب وبين متابعة هذه العلوم بهذا التحريم الذي ذكرنا لفني الرسم والنحت، ثم يضاف إلى هذا تحريم التشريح للجثث البشرية.
وهناك قصة معروفة عن اثنين من اللغويين العرب أيام العباسيين فقد تحدى أحدهما الآخر في قدرته على تسمية أعضاء الفرس، ولكن الثاني تحداه أن يعين الأسماء للأعضاء على جسم الفرس؛ إذ كان الأول قد حفظ الأسماء من الكتاب وليس من الفرس.
ولو كان العرب قد مارسوا الرسم والنحت لما كان يمكن أن تقع هذه الحادثة.
ونذكر هنا كتابًا فرنسيًّا ألفه رجل يدعى بيلون في سنة ١٥٥٥؛ أي: قبل ٤٠٠ سنة، وقبل كتاب داروين «أصل الأنواع» بأكثر من ٣٠٠ سنة، وقد أسماه «تاريخ طبيعة الطيور» ولم يكن في ذهنه شيء عن معنى التطور، ولكن كتابه هذا، برسومه ومقارناته بين الصور، أوحى فكرة التطور وحفز على بحثها، ونحن ننقل منه رسمين أحدهما معظم «أي الهيكل العظمي» إنسان والثاني معظم طائر وقد قابل بين الرسمين عظمة لعظمة كي يوضح أن المبنى العظمي في الإنسان لا يختلف كثيرًا عن المبنى العظمي في الطائر، والحق أن المتأمل يعجب من التقابل، ولولا المنقار البارز لأنكر أنه ينظر إلى معظم طائر إزاء معظم إنسان.
إن الحمار ينتمي إلى الجواد ولا يختلف منه إلا في التعديلات … وإن الإنسان والقرد يعودان إلى أرومة واحدة مثل الجواد والحمار، وإن كل عائلة، سواء من النبات أم الحيوان، قد اشتقت من أصل عام، بل إن جميع الأحياء قد نبعت من نوع واحد مفرد، وهذا النوع، بمرور العصور، قد أعقب جميع السلالات المعروفة الآن.
وهذه الكلمات تدل على أنه كان «يؤمن» بنظرية التطور، ولكنه كان «يؤمن» فقط إذ إنه لم يستطع التعليل العلمي لتطور الأحياء ولذلك لا تُعزى إليه النظرية.
وربما كان أعظم ما فتح الأذهان إلى النظرية أن لينيوس السويدي عمد إلى ترتيب النباتات لغويًّا، بحيث نستطيع أن نعين الاسم لنبات نجهله، وكان بتحري المشابهة والتناظر بين النباتات، ومع أن غايته كانت لغوية فإنه نص على أننا حين نسمي نباتًا يجب ألا نخرج عن القرابة القائمة بينه وبين نبات آخر في التكوين النباتي.
ومع أنه لم يفكر بتاتًا في التطور، ومع أنه كان يعتقد أن الأحياء النباتية مخلوقة كما هي وعلى ثبات لا يتغير، فإن ترتيبه اللغوي أدى إلى ترتيب ذهني، فبسط بذلك الميدان للتفكير التطوري ليس في النبات فقط بل في الحيوان أيضًا.
وقد مات لينيوس عام ١٧٧٨.
قلنا: إن بوفون قد لمح التطور، وإن لينيوس بسط الميدان بترتيبه اللغوي لأسماء النباتات، وبعد ذلك جاء لامارك الذي أعده أنا أعظم من داروين من حيث إصابته في تعليل التطور بأنه يعود إلى العادات التي يتعودها الحي؛ نباتًا أم حيوانًا، من تغير الوسط ومن مرانته على أن يلاءم بين أعضائه وبين هذا التغير، ثم توارث الأبناء لهذه التغييرات، وكتاب لامارك «فلسفة العلوم الحيوانية» أخرجه عام ١٨٠٩؛ أي: قبل كتاب داروين بخمسين سنة تمامًا.
- (١)
أن الأحياء؛ نباتًا وحيوانًا، تكثر بالتناسل بحيث لا تجد الغذاء الكافي لها جميعًا، وعندئذ:
- (٢)
يحدث «تنازع البقاء»؛ أي: أن الحي ينازع الحي الآخر على الطعام، والبقاء للغالب الذي يقتل غريمه، وهو يغلبه لأنه قد حصل على:
- (٣)
ميزات وراثية على غريمه هيأت له النصر، ولكننا لا نعرف كيف نشأت هذه الميزات.
- (٤)
هذه الميزات تتوارث، وعندئذ تتغير الأعقاب عن الأسلاف.
- (٥)
التغير ينشأ بسيطًا كما نرى في السلالات التي أحدثناها نحن في الكلاب مثلا؛ إذ إن عندنا منها ١٨٥ سلالة.
- (٦)
إذا طال الزمن صارت السلالات أنواعًا مستقلة حتى إنه لا يخصب بينها التلافح.
وأوجد داروين عبارة «تنازع البقاء»، وأوجد هربرت سبنسر كلمة «التطور»، وكلتاهما كانت أداة أو خميرة مخصبة للتفكير في القرن التاسع عشر وبداية هذا القرن، ونحن نعزو نظرية التطور إلى داروين؛ لأنه علل النظرية بتعليلات عديدة كثير منها مقنع.
ولكننا ما زلنا إلى الآن في مشكلة داروين ولامارك، وهي: هل التطور يحدث بتأثير البيئة التي تعلم الحيوان عادات كما يقول لامارك أم بعناصر وراثية نجهلها تحدث «تنازع البقاء» بين الأحياء التي ورثتها كما يقول داروين؟
الذي أعتقده أن التطور يحدث بتأثير البيئة، وأعنى بالبيئة هذا المناخ والغذاء وأسلوب العيش والأمراض والأعداء؛ لأن الحي يستجيب لكل هذه الأشياء بأن يتخذ عادات معينة في المقاومة والملائمة والرجوع والاستجابات، ثم تتكرر هذه العادات في أبنائه وأحفاده من الأجيال القادمة حتى تثبت وتصير وراثية لها أعضاء معينة تعين الوظائف.
•••
وقد تأخرت فكرة التطور في الشرق والغرب معًا بسبب الأديان التي نصت على قصة آدم وحواء كأنها الأصل الوحيد لظهور الإنسان، وأن من يقول بغير ذلك يعد كافرًا.
ولكن القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كانا عصر النقد للأديان كما كانا عصر التسامح الذي انتهى إليه الأوروبيون وعملوا به بعد حروب دامية حطمت القيم الإنسانية وعممت البغض، ولكنها انتهت بإيثار التسامح على التعصب، وأن لكل إنسان الحق في أن يؤمن بما يشاء، فلم يعد أحد يخشى التفكير في أصل الكون أو الإنسان؛ لأن الدين يقول بنص أو رواية أو أمر يجب أن نصدقها ونطيعها.
وانتهت أوروبا، بفضل لامارك ثم داروين، إلى الإيمان بفكرة التطور، فكرة أولا، ثم عقيدة بعد ذلك وانتقلت من ميدان الأحياء في النبات والحيوان، إلى ميادين أخرى في الحضارة والاجتماع.
بل أخذت عقيدة التطور هنا مكان العقيدة الدينية وأصبحنا نفهم منها أن الأخلاق أيضًا تتطور، وأن معاني الارتقاء هي أيضًا معاني التطور، بل إن يعقوب صروف مؤسس المقتطف كان يسمي نظرية التطور: نظرية النشوء والارتقاء.
ومع أننا لا نستطيع أن نجزم بأن كل تطور هو ارتقاء فإن موكب الأحياء في الألف مليون سنة الماضية هو على وجه عام موكب الارتقاء من حياة الغيبوبة والغريزة في الخلية الأولى إلى حياة الوعي والعقل في الإنسان.
وقد تأخرت أقطار الشرق العربي في الأخذ بنظرية التطور وتأخرت بذلك ثقافتها، حتى إننا لا نجد إلى الآن كتابًا عربيًّا مثلًا في «تطور الأديان» أو «تطور المجتمع العربي» أو «تطور الأخلاق» ولا يمكن أن توجد مثل هذه المؤلفات المنيرة المبصرة إلا بعد أن تسلم الجماهير العربية المتعلمة بأن التطور عقيدة بل ديانة كما هو حقيقة، وهذا ما لم يتحقق إلى الآن للأسف.
ومن العجب، بل من المحزن أيضًا، أن نجد الزنوج في إفريقيا الغربية يسمون أنفسهم «متطورين» إذا كانوا قد ارتقوا وأخذوا بأسلوب العيش والتفكير العصريين وانفصلوا من حياة الغابة والقبيلة التي كان يحياها آباؤهم.
هذا ما نجد بين الزنوج في إفريقيا الغربية، ولكننا لا نجد في الأقطار العربية إلى الآن «متطورين»، ولست أقصد بذلك أننا ما زلنا بعيدين عن معنى النهضة، ولكني أقصد إلى أن مغزى التطور قد فهم في إفريقيا الغربية ولم يفهم في الأقطار العربية.
ومعنى التطور هدم وبناء.
هدم لتقاليد الماضي وبناء لتقاليد المستقبل.
إن الفرخ لا يخرج من البيضة إلا بعد أن يكسرها، والبذرة لا تنمو شجرة باسقة إلا بعد أن تتفتت وتنمحي.
ودعاة التقاليد يدعون في الحقيقة إلى الجمود حتى تبقى البيضة بلا كسر والبذرة بلا تفتت، ويقابل هؤلاء دعاة التطور حيث التحرر من التقاليد والأخذ بأسلوب العيش والتفكير العصريين.
إن التقاليد تعوق التطور، والاستعمار يأكل ويشبع من الشعوب التي تجمدت بالتقاليد وسيطرت عليها الأديان التي تعلمها أن السعادة في عالم آخر وليست في هذا العالم، وأن العقيدة الدينية أهم من البترول.
والنظرة الموجزة لأقطار الشرق العربي توضح لنا كيف أن التفكير السائد يتجه نحو الماضي، وحسب القارئ، أن يذكر «الأدباء» الذين يؤلفون عن المشاكل الدينية وأشخاص التاريخ قبل ألف سنة ويعدون هذه الأبحاث أدبًا أو «ثقافة» تنفع العرب.
إنها ثقافة بلا شك، ولكنها ليست الثقافة التي تحتاج إليها جماهير العرب التي تنشد القوة في المستقبل.
إن برنارد شو يتحدث عن «شهوة التطور»، وهو ينصح بتنقيح الدين مرة على الأقل كل سنة.
أي أنه يجد في الدين قواعد وسلوكًا للحياة وليس قواعد وسلوكًا للعالم الآخر، فيجب أن تتغير هذه القواعد وفق التطورات الاجتماعية والاقتصادية.
فعلى أبناء الشعوب العربية أن يجعلوا من التطور عقيدة بل عقيدة دينية إذا كفر بها إنسان فإنه لن يعاقب على كفره بجهنم بعد الموت، ولكنه يعاقب بالموت أو الفقر والذل وهو حي في هذا العالم.
ولو كانت لي السيطرة على الأقطار العربية لقررت ترجمة مئة كتاب عن تطور الأحياء والأخلاق والمجتمعات والأديان والصناعات والاقتصاديات ونحوها حتى يتغير العرب وحتى يأخذوا بالابتكار والاختراع والقوة والثراء بدلا من أن يلتزموا تقاليدهم ويبيعوا بترولهم بأبخس الأثمان مع أنه وقود الصناعة التي كان يمكن أن ترفعهم إلى أرقى مكانة بين الشعوب المتمدنة.