إمارات الوحشية في حيواناتنا الداجنة
اهتدى الإنسان منذ أزمان بعيدة إلى إدجان بعض الحيوانات وهو يستخدمها الآن لأغراض شتى: للحمل وللمطعم والملبس، فنحن نستخدم الفرس والحمار للحمل ونستخدم الثور في جر المحراث أو غيره من الأثقال، ونأكل لحمه ولحوم الخراف والمعز ونستعمل أصوافها في ملابسنا.
وإذا نحن نظرنا إلى هذه الحيوانات من الوجهة البيولوجية وجدنا في أخلاقها وفي خلقتها دلائل الوحشية القديمة، كما نلحظ أيضًا الأسباب التي جعلت الإنسان يختارها، ويدجنها دون غيرها من الحيوانات.
فأول ما يلحظه الإنسان في هذه الحيوانات أنها كلها اجتماعية؛ أي: أنها تعيش مجتمعة أسرابًا، فالخيل والحمير والثيران والخراف والمعز والفيلة والكلاب كانت تعيش عيشة اجتماعية، وهذا ما يسر للإنسان تذليلها وسهل عليها عشرته؛ لأن الحيوان الاجتماعي يختلف عن الحيوان الانفرادي «مثل الأسد والضبع» بقدرته على التفاهم مع إخوانه وإدراكه لحقوق الغير والطاعة لرئيسه عند اللزوم والنظر إلى مصلحة السرب أو القطيع العامة، وهذا ليس في الحيوان الانفرادي كالنمر والضبع، فإنها لانفرادها في معيشتها لا تعرف كيف تعامل أفراد نوعها، فإذا تقابل أسدان اعتركا في الحال وقتل أحدهما الآخر.
والإنسان لم يدجن الأسد والضبع والنمر ونحوها من الحيوانات الانفرادية؛ أي: التي تعيش منفردة، أو لم يستطع إدجانها؛ لأنها لا تدرك معنى الاجتماع وطرق المعاملة وحقوق الغير كما يدركها الحيوان الاجتماعي كالفرس؛ إذ هو ينظر إلى الإنسان مثل ما ينظر إلى فرس آخر، فهو يعرف من حياته الاجتماعية القديمة أنه لا يحسن به عض أخواته أو رفسها أو الاعتداء على طعامها أو عصيان أمر رئيسه، والإنسان يستفيد من هذه الأخلاق فيذللـه ويركبه.
والفرس حيوان سهول ويظهر أنه نشأ في جزيرة العرب أو في أرض تماثلها في قلة خصبها وانبساط أرضها؛ لأنه إذا أكل احتف ما أمامه احتفافًا كأنه معتاد رعي النباتات والجذور الضئيلة ولا يخرج لسانه ويجز العشب جزًّا كما تفعل البقرة؛ لأن البقرة كانت تعيش قديمًا في الغابات فكانت تلتقط غذاءها بلسانها من أوراق الأشجار الكثيفة، ولذلك تجد فلاحنا يربط الخيول والحمير وراء البقر والجواميس، فإذا رعت البقرة جانبًا من المرعى، ربط فيه الفرس فيحتف ما يبقى فيه.
ولا شك في أن سرعة الخيل كانت سلاحها الأكبر أمام أعدائها ولو كان الفرس حيوان غابات لما اعتاد هذه السرعة في الجري، وهذا يدل على أنه كان يعيش في السهول، ولا شك أيضًا في أن الذئاب كانت العامل الأكبر في إيجاد هذه المزِيَّة فيه؛ لأنها تكاد تكون العدو الوحيد له في مواطنه، فكانت دائمًا تطارده وتفترس كل بطيء يتأخر عن القطيع فلا يبقى ويتوالد إلا السريع، فالذئب سبب سرعة الخيل، ثم إن ضرع الفرس صغير مع أن ولدها يحتاج إلى كمية من اللبن توازي الكمية التي يرضعها العجل من أمه أو أكثر منها، والسبب في ذلك أن المهر لا يرضع إلا قليلا في مواعيد متقاربة، وذلك أولا لأنه يلازم أمه دائمًا ولا يفارقها، وثانيًا لكي لا يملأ بطنه فيبقى خفيفًا قادرًا على اللحاق بأمه وقت هجوم العدو عليها، والحال عكس ذلك في البقر فإنها تخفي ولدها في خميلة أو دغل بعد أن تشبعه وتسرح النهار كله بعيدًا عنه، وعند رجوعها يكون قد اشتد عليه الجوع فيحتاج إلى لبن كثير، وهذا كان السبب في كبر ضرع البقرة الذي استفاد منه الإنسان.
وإذا قارنت بين حوافر الفرس وأظلاف الثور وجدت أن أظلاف الثور مشقوقة، والسبب في ذلك أن الثور كان يعيش في الغابات حيث الوحل والتراب الندي، فبقيت قدمه مشقوقة لكي تتسع حينما يرفعها فيسهل عليه نزعها من الوحل، ولو كان مثل حافر الفرس لالتصقت بالوحل وعاقته عن الجري، فحافر الفرس مصنوع للرمال الجافة وأظلاف الثور للتراب الرطب وللوحل الذي يكون عادة في الغابات.
والحمار يماثل الفرس في تركيبه وهما قريبان بيولوجيًّا، ولهذا يمكن المزاوجة بينهما غير أن نسلهما يكون في الغالب عاقرًا، وأهم ما يستغربه الإنسان في الحمير كراهتها للسير في الماء، وقد فسر أحدهم ذلك بأن الحمير نشأت في البلاد التي يكثر التمساح في أنهارها، فكراهة الحمار للماء آتية من هذه الذكرى، فهو أبدًا يرى بغريزته شبح عدوه في الماء. وسلاح الثور قرناه وقوتهما على النطاح، وقد استثمر الإنسان هذه الخاصة واستعمله للجر؛ لأن الجر والنطاح من قبيل واحد فالثور هو حامل نير المحراث يفعل ما يفعله مع أعدائه عند العراك، ولهذا السبب نظن أننا نخطئ في وضع النير على رقبته وكان الأولى أن نقرنه برأسه كما يفعل الفلاحون الألمان، فإن قوة الثور في رأسه عند قرنيه وجميع عضلات رقبته معدة لتقوية رأسه.
ومما يلاحظ أن الثور يكره اللون الأحمر ويهتاج عند رؤيته، والسبب في ذلك على ما يرجح الباحثون هو توهمه وجود الدم، فإنه من الملاحظ أن الجواميس الوحشية إذا رأت جاموسًا مجروحًا بينها تثخنه نطاحًا حتى تقتله أو تبعده عنها وقد يظهر أن هذا العمل فظيع.
ولكن يرجح أن الغرض منه هو إبعاد الثور المجروح لكي لا يبقى الوحش الذي جرحه متابعًا له في سيره، فالقطيع يطرده ويبعده عنه لكي يبعد عنه الوحش الذي يتأثره، كأن الجواميس تقول للوحش: «خذه واتركنا»؛ أي: أن الانتخاب الطبيعي قد جعل هذه الحيوانات تطرد الجريح عنها لفائدة المجموع.
والكلب من الحيوانات التي أدجنها الإنسان قديمًا، وهو ذئب بِخَلْقه وخُلُقه، ولذلك تنجح المزاوجة بينهما دائما ولا يكون نسلهما عاقرًا كالبغل، ومعنى ذلك أن قرابة الذئب والكلب أشد من قرابة الفرس والحمار، وإذا نظرت إلى الكلاب وهي تتعارك أو تتهارش رأيت أن الكلب يعامل إخوانه الكلاب مثلما يعامل الإنسان، فقوانين القطيع الاجتماعية — لأن الكلاب كانت تعيش قطعانًا — هي نفس القوانين التي يراعيها الكلب عند معاملته لصاحبه، فهو ينظر إليه كأنه كلب شديد الحيلة يمشي على رجليه وينظر إلى أهل البيت الذي يسكنه كأنهم أفراد قطيع واحد، ولذلك يدافع عن أصحابه ويدفع أعداءهم كأنهم أعداؤه ويقاتلهم إلى حد الموت.
ولغة الكلب من أبين لغات الحيوانات، فهو يوقوق عند الخوف ويضغو عند الجوع ويهر عند ابتداء القتال وينبح إذا أراد أن ينادي إخوانه، ولا شك في أن هذه الأصوات كانت تفيده قديمًا؛ لأنه لضعفه كان لا يصيد إلا مجتمعًا، فهذه الأصوات تدل سائر القطيع على مراد الكلب المصوت.
وللكلب حركات لا تقل عن الأصوات في الدلالة على ما في نفسه، فهو إذا أذعن وأقر بذنبه واستصفح استلقى على ظهره وأرخى ساقيه وصمت، يفعل ذلك أمام صاحبه إذا لوح أمامه بالعصا كما يفعله أمام كلب كبير إذا رأى الشر في عينيه، وذنب الكلب آلة تفاهم بينه وبين إخوانه فهو يبصبص به عند التذلل والطلب ويرفعه عند الغضب، وإذا جرى جذبه إلى ما بين ساقيه، قيل: والغرض من ذلك أن لا يمسك به عدو يتأثره، فهذه الأصوات والحركات تدل دلالة واضحة على أن الكلب كان اجتماعيًّا؛ لأنه لا فائدة منها لحيوان انفرادي لا يحتاج إلى إخوانه ولا تحتاج هي إليه.
والحيوان الانفرادي الوحيد الذي يعيش مع الإنسان هو القط ولا يخفى أن القط ليس حيوانًا أنيسًا، وغاية ما يفعل أنه يأوي إلى بيوتنا كما تأوي إليه الفيران والعصافير ويمتاز عنها بقلة خوفه، فهو لا يصاحب أحدًا وإذا انتقل سكان البيت الذي يسكنه لم يذهب معهم بل بقي فيه، وإذا رأى صاحبه يتشاجر مع غيره بقي هادئًا لا يتحرك لمساعدته، وإذا رأى قطين يتعاركان تركهما وذلك لأنه انفرادي بطبعه لا يفهم اصطلاحات الاجتماع وآدابه كالكلب، وقد رأينا في الملاعب من يعلم الخيل والحمير والكلاب والمعز ألعابًا شتى ولكننا لم نر أحدًا أفلح في تعليم قط لعبة ما، وذلك لأن القط لا يفهم أصول المعاملة من طاعة وجزاء ومكافأة واشتراك وغير ذلك مما تفهمه الحيوانات الاجتماعية؛ لأن ذلك من مقتضيات الاجتماع والتعليم.
ولون القط يدل على أنه كان حيوان غابات؛ لأنه يماثل ظل أوراق الأشجار على الأرض، فكان يحتمي وهو وحش بهذه الألوان ويختفي بواسطتها عن أعين أعدائه وفرائسه، ويظهر لنا أن الألوان الزاهية أو البيضاء أو السوداء التي تُرى بها القطط أحيانًا حديثة العهد؛ أي: أنها حدثت فيها بعد إقامتها في البيوت بين الناس وعدم احتياجها إلى الاحتماء باللون.
ومما يلاحظ أن صغار القطط وهي في وكناتها تفح كالثعبان وأكثر صغار الطيور تفعل ذلك أيضًا وهي في عشائشها، وغرضها من ذلك فيما يظن هو طرد العدو بإيهامه أن في الوكنة أو العش ثعبانًا سامًّا؛ لأن الثعابين أعداء ألداء لأكثر الطيور والحيوانات اللبونة ولذلك فإن هذه تخافها طبعًا وغريزة من غير تعلم. وتقليد فراخ الطيور والقطط للثعابين يعتبر من العوامل البقائية المهمة في حياتها.
والخروف آنس الحيوانات، ولو باد الإنسان من الأرض فجأة لما عاشت بعده أسبوعين؛ لأن الخروف أصبح أعزل لا يحسن شيئًا من أصول القتال ومبادئه، فإذا ارتفعت عنه حماية الإنسان ورعايته لم تبق عليه الحيوانات المفترسة ولم يستطع مقاومتها، وقد يمكن أن يعود الفرس والكلب والثور إلى الوحشية التامة فتكافح الوحوش الضارية، ولكننا لا نظن أنه يمكن للخروف أن يفعل ذلك.
والخروف حيوان اجتماعي محض، ومما يلاحظ فيه أنه في عدوه يقتفي أثر سابقه بالضبط ولا يحيد قيد شبر عنه، مثال ذلك أنه قد يقفز خروف فوق قناة فترى أن بقية خرفان القطيع تفعله بالضبط من غير روية أو تعلم، وهذا ليس بالأمر الهين، كما يظهر لأول وهلة فإذا اجتمع مئة رجل وأرادوا أن يقفزوا فوق قناة لم يستطيعوا ذلك إلا بعد أن يفكر كل منهم ويقيس بعقله المسافة التي يجب أن تُقفز ودرجة التحفز التي يجب أن تهيأ قبل القفز، ولكن الخراف تقفز بداهة بغير روية، والسبب في ذلك على ما نظن هو حاجتها قديمًا إلى تقدير الأشياء التي من هذا القبيل بداهة وسريعًا؛ لأن الخروف حيوان جيلي، بدليل وجود أبناء أعمامه المتوحشة الآن في الجبال، فهو يحتاج في جريه إلى تتبع قائده بسرعة وخفة حتى لا يدركه العدو المطارد.
والخنزير من الحيوانات التي أصبحت في يد الإنسان آلة ميكانيكية أو معملًا كيماويًّا لتحويل المادة النباتية إلى مادة حيوانية فإنه سرعان ما تصل الأعشاب إلى كرشه وتتحول شحمًا ولحمًا.
والسبب في ذلك أن الخنزير كان يسكن قديمًا الأقاليم الباردة حيث يتجرد وجه الأرض من النباتات وقت الشتاء، ودليل ذلك أن الخنزير البري من سكان تلك الأقاليم إلى الآن، وكان الخنزير ينزوي وقت الشتاء فيقضي نحو ستة أشهر بغير طعام، ولهذا السبب نشأت فيه تلك الشراهة الخارقة تبعثه دائمًا للتفتيش والتنقيب عن الطعام؛ لأنه كان يضطر إلى اختزان كمية كبيرة من الشحم في جسمه ليتغذى بها وقت الشتاء على نحو ما يفعل النحل في اختزان العسل، والعسل والشحم يكادان يكونان مادة واحدة، والفرق بينهما أن النحل يخزن عسله في بيوت معدة لذلك حتى إذا جاء الشتاء أكله، أما الخنزير فيخزن شحمه في جسمه.
ومن الحيوانات التي ذللها الإنسان واستولدها للذبح المعز، وأهم ما نلاحظه فيها خفتها في الحركة وقدرتها العجيبة على المشي في الحافات الضيقة أو المستدقة؛ فإنك قد ترى أحيانًا عنزتين تروحان وتغدوان تمرحان وتتواثبان على حائط عال لا تزيد تخانته على ربع متر أو أقل، والسبب في ذلك أن المعز كانت تعيش قديمًا على قمم الجبال وتحتاج إلى الوثوب والالتجاء إلى القمم المستدقة لامتناعها على الحيوانات المفترسة، ومصداق ذلك أن الوعل والأيل يفعلان ذلك وهما من جنس المعز ويمثلان الآن عيشتها الوحشية القديمة، وكثيرون من أصحاب الملاعب يستفيدون من هذه الخاصة في المعز ويدربونه على المشي على الحافات الدقيقة مما يدهش لغرابته المشاهدون.
والجمل من الحيوانات التي يظهر في خَلقها وخُلقها تأثير الوسط الذي عاشت فيه قديمًا، فهو حيوان صحاري ورمال قليلة المراعي والمياه، ومن يراه يمشي في شوارعنا الموحلة أو المرشوشة يشعر أن الخف صنع للرمال، والجمل مشهور بصبره على العطش وقدرته على اختزان ما يكفيه من المياه مدة طويلة، وهو صبور على الجوع أيضًا؛ لأن في سنامه كمية وافرة من الغذاء يتقوت بها عند قلة الطعام، فهو من هذه الوجهة مثل الخنزير غير أنه لا يفرق شحمه مثله على جميع أعضائه بل يجمعه في أعلا ظهره، وهذه كلها خصائص توافق الصحاري التي كان يعيش فيها.
ومن أراد أن يلمح لمحة من حياة الجمل الوحشية فلينظر إليه وهو يأكل الحسك والأشواك فإن شغفه الشديد بها يدل على تأصل ذوقه لهذه النباتات الصحراوية، فإن الصحاري لا تنبت لقحل أرضها وقلة الغيث فيها غير هذه الأشواك، وكانت الجمال قديمًا تفتش عنها وتتغذى بها، وما زال فلاحنا للآن إذا شعر بضعف شهوة الجمل في أكل البرسيم أو الفول، وهما من الأطايب لمثل هذا الغذاء، يأخذه إلى حيث يجد هذه الأشواك فيرد إليه شهوة الأكل بها.
والفيل أكبر الحيوانات التي ذللها ا لإنسان، ولو لم يكن اجتماعيًّا في حياته الوحشية لما استطعنا تذليله، فإن الأسد أضعف منه قوة ولكننا لم نتمكن من تذليله؛ وذلك لأنه لا يعرف طرق المعاملة مثل الحيوانات الاجتماعية، ولا يعرف معنى العقاب والطاعة والمكافأة، ويشعر إذا قربنا منه بالعداء وشهوة الافتراس، أما الفيل فينظر إلينا كما ينظر إلى إخوانه الفيلة فيعرف ما له وما عليه ويميز بين العقاب الخفيف عند الخطأ الطفيف والعقاب الشديد عند الخطأ الكبير.