عبد الله نديم باشا (١٢٦١–١٣١٣هـ، ١٨٤٥–١٨٩٦م)
إن كان يستحق الإعجاب من نبغ — والظروف له مواتية — من أسرة عريقة في المجد أو الغنى أو الجاه ونحو ذلك مما ييسر للأبناء أن يتعلموا، ثم يشقوا لهم طريق الحياة وطريق المجد فأولى بالإعجاب من ينبغ والظروف له معاكسة، لا حسب ولا نسب ولا غنى ولا جاه، بل ولا القوت الضروري الذي يمكن الفتى من أن يجد له وقت فراغ يثقف فيه نفسه.
قد يدعو إلى شيء من الإعجاب منظر شجرة يانعة ضخمة مثمرة، تعهدها بستانيها بكل ما يصلحها، ومن وضع في المكان المناسب والغذاء الكافي، ولري المتوافر في أوقاته، ولكن أدعى إلى الإعجاب بذرة طرحت حيثما اتفق، فمدت جذورها بنفسها تجد في حصولها على غذائها، فقد تجده وقد لا تجده، وتعاكسها الطبيعة فتكافحها وتتغلب عليها، ثم هي آخر الأمر تكون أينع ما كانت شجرة وأضخمها وأوفرها إثمارًا. كذلك كان من النوع الثاني «عبد الله نديم»، كل الدلائل تدل على أنه سيكون نجارًا أو خبازًا، ولو تنبأ له متنبئ متفائل لقال إنه سيكون نجارًا ماهرًا ناجحًا، فأما أديب يملأ الدنيا ويقود الرأي العام ويحسب حسابه في كل ما يخطه قلمه أو تنطق به شفتاه، فلا يدور بخلد أحد حتى فاتح الرمل والضارب بالحصى.
على أنه في الإسكندرية — قريبًا من بيتهم — مسجد هو صورة مصغرة من الأزهر، يدرس فيه المشايخ ما يدرس في الأزهر وعلى نمطه، وذلك هو مسجد الشيخ إبراهيم باشا.
فدرس فيه عبد الله نديم ما شاء الله أن يدرس، ولكنه كان تلميذًا خائبًا في هذه الدراسة، لا يصبر على جفافها، ولا يقدر على حل ألغازها، ولا يتحمل العناء في تفهم كتب نحوها وفقهها فكان لا يواظب على درسه ولا يبدي به اهتمامًا.
كان عبد الله نديم يغشى هذه المجالس الأدبية التي ليس لها منهج، فيسمع شعر الشاعرين وزجل الزجالين، ونوادر المتماجنين، وقصائد الراوين، فيصغى إلى كل ذلك في فهم كأنه كله آذان، ويدرك من غير وعي أن هذا بابه وهذا فنه، وأنه إنما خلق لذلك لا للنحو ولا للصرف. فاشتاقت نفسه أن يسلك هذا المسلك ويسير في هذا الطريق، وقد منح حافظة لا قطة، وقدرة على التقليد فائقة فأخذ يحاكي بعد ما اختزن، ويغني بعد ما سمع، فطورًا يوفق فيستدعي ذلك إعجاب أمثاله، وطورًا يخذل فيستخرج ضحك أقرانه، ومن كل ذلك كان يتعلم.
وإلى جانب هذا تعلم درسًا في منتهى القيمة، درسًا تعلمه «حافظ» ولم يتعلمه «شوقي» وتعلم «بيرم التونسي» ولم يتعلمه «توفيق الحكيم»، درسًا قل أن يفقهه الأدباء مع عظيم خطره وكبير أثره، ذلك هو أن نشأته في صميم الأحياء الشعبية مع رهافة حسه، ويقظة نفسه، وفقره وبؤسه، علمته أن يحيط إحاطة واسعة بلغة الشعب وأدبه، من أمثال وحكايات وجوه معاملات وصنوف تصرفات، فرسم ذلك كله في نفسه لوحات كان لها أكبر الأثر في حياته الأدبية المستقلة، والنفس الحساسة الفنانة تختزن حتى حفيف أوراق الأشجار، وهفهفة الأغصان، ودبيب النمال، وحلاوة البسمات، وأدق مجالي الجمال والقبح، ثم تعرف كيف تستخدم ذلك في فنها متى آن أوانه.
لقد نفض أبوه يده منه، فأخذ عبد الله نديم يبحث عن وجه للكسب، فاتجه اتجاهًا غريبًا، هو أن يتعلم فن الإشارات التلغرافية ثم يتكسب منه، وكذلك كان. فتعلمه واستخدم بمكتب التلغراف ببنها.
ثم نقل إلى مكتب القصر العالي حيث تسكن والدة الخديوي إسماعيل، وقد كان قصرًا من أفخم القصور، يقع على النيل فيما يسمى الآن «جاردن سيتي» خدم وحشم وموسيقى وطرب، وما شئت من ألوان النعيم والترف، وقد تعلم منه عبد الله نديم كيف يعيش الأمراء والسادة، كما تعلم في بيته وحارته في الإسكندرية كيف يعيش الفقراء والعبيد.
وعاد إليه في القاهرة شوقه إلى الأدب ومجالس الأدباء، وكان حظ القاهرة في ذلك أوفى، ففيها — مثلًا — مجلس محمود سامي البارودي، وكان مجلسًا عامرًا يسمر فيه السمر اللذيذ: فأدب قديم يعرض، وأدب حديثه ينشد؛ وعرض للمعنى الواحد صيغ صياغات مختلفة، ونقد قيم لهذا ولذاك، يتخلله نوادر فكهة، وأحاديث في الأدب حلوة. اتصل عبد الله نديم بهذا المجلس وأمثاله، وتوثقت الصلة بينه وبين كثير من أدباء مصر إذ ذاك، وأخصهم سبعة، أولع بهم واستفاد من معارفهم وأدبهم: شاعر مصر محمود سامي البارودي، وشيخ الأدباء عبد الله باشا فكري والسيد علي أبو النصر البليغ الشهير، ومحمود صفوت الساعاتي، الواسع الاطلاع، الكثير المحفوظ، المتفتن في الطرائف الأدبية، والشيخ أحمد الزرقاني الكاتب الأديب، ومحمد بك سعيد بن جعفر باشا مظهر الشاعر الناثر، وعبد العزيز بك حافظ عاشر الأدب والأدباء الأدب والأدباء الكريم الوفي.
وكان الذي أرشده إلى هؤلاء الأدباء وعرفه بهم، وأحكام الصلة بينه وبينهم، الشيخ أحمد وهبي أحد المولعين بالشعر، الناظمين له، والمحرر بالوقائع المصرية في بعض أيامه.
فأتم على هؤلاء وأمثالهم دراسته، وشرب من منهلهم، وارتوى من ينابيعهم، فهو في النهار تلغرافي، يتقبل الإشارات ويرسلها، وبالليل أديب يتقبل نماذج الأدب ويحاكيها.
ولكن لم يمهله الحظ، فقط غلط في عمله في القصر العالي غلطة سببت غضب خليل أغا عليه. ومن خليل أغا؟ هو كبير أغوات الوالدة (أم إسماعيل)، وكان القصر مملوءًا بالأغوات، يقومون بشئون القصر، ويستقبلون المدعوات ويصحبونهن إلى باب الحريم، ونال كبيرهم خليل أغا من النفوذ ما لم ينله ناظر النظار ولا الأمراء والوجهاء، ولحظوته عند الخديوي إسماعيل ووالدته، وإشارته حكم، وطاعته غنم، يخضع له أكبر كبير، ويسعى لخدمته أعظم عظيم، رأيه نافذ في الدواوين والمصالح، يتحكم في مصر والسودان، ويأتمر بأمره كبار الموظفين والأعيان، حاز الثروة الضخمة والجاه العريض، كأنه كافور الأخشيدي في أيامه، حتى إنه لما عقد عقد زواج الأنجاب في القصر العالي حضره النظار والعلماء وكبار الأعيان، فكان يرأس الجميع «خليل أغا». كان من خصاله أن يذبح ويسبح، ويغصب ويبني مدرسة.
فما عبد الله نديم إذا غضب عليه خليل أغا العظيم؟! إذا غضب عليه خليل أغا فصل من وظيفته، ولكن إذا غضب عليه خليل أغا ضرب وطرد، وضاقت عليه الأرض بما رحبت.
سدت في وجهه أبواب الرزق في القاهرة كما سدت في الإسكندرية، وانتهى به الأمر إلى أن ينزل على عمدة من عمدة الدقهلية يقيم عنده ويعلم أولاده، ثم ما لبث أن تخاصم مع العمدة، فأما العمدة فيرى أنه آكله وأسكنه مقابل تعليم أولاده، وأما عبد الله نديم فيرى أن هذا حق الضيف ويبقى له أجر التعليم، واختلفت وجهة النظر، وتشادا ثم تسابا، وغلى مرجل عبد الله نديم؛ فكان ذلك نعمة على أدبه إذا انفجر المرجل وتدفق عبد الله نديم يصوغ في هجاء العمدة أدبًا لاذعًا، تدفعه عاطفة حادة، فعرف نفسه أديبًا وعرفه من حوله لسنًا يملك ناصية القول.
واتصل أمره بعين من أعيان المنصورة ذي مروءة فاستدعاه وأكرمه، وفتح له دكانًا يبيع فيه المناديل وما إليها، فاتخذ دكانه متجرًا للمناديل ومجمعًا للأدب، يجتمع فيه بعض أصحابه يتذاكرون الأدب، ويتناشدون الأشعار، ويتبادلون النوادر. وبين هذا وذاك تأتي شارية لمنديل أو شار لعصابة.
وكانت هذه العادة فاشية في المدن، فقد يكون التاجر ذا ثقافة فقهية وأدبية فيتخذ أصحابه من دكانه مكانًا للبحث في الفقه أو الحديث في الأدب، إذا لم تكن قد غزتنا المدنية الأوربية فعلمتنا التخصص، وأن مكان التجارة للتجارة فقط، وأما الحديث في العلم والأدب فله مكان آخر. وقد أدركنا أول زماننا شيئًا من هذا، فكانت بعض الدكاكين مدارس، وخاصة في الأدب، لأن الأدب لم يكن يدر رزقًا، إنما هو فن للمتعة، وكثير من أدباء عصر عبد الله نديم كان من هذا الطراز، فحسن أفندي عبد الباسط — الأديب الشاعر الهجاء — كان في بعض أيامه يفتح دكان عطارة في الزقازيق، ويجتمع به في دكانه أدباء الزقازيق وظرفاؤها، والشيخ أحمد وهبي الشاعر الأديب كان له دكان طرابيش بالغورية، وكانت مجتمع الأدباء والشعراء، ولكن أكثر هؤلاء لم ينجحوا في تجارتهم فالأديب فنان، والفنان — في الغالب — سمح يقدر الذوق الفني أكثر مما يقدر الدرهم والدينار؛ والتجارة تحتاج إلى الضبط والدقة، والعناية بالإيراد والصرف، والفنان — عادة — طليق لا تطيق نفسه القيود والحدود. وعلى كل حال وجد عبد الله نديم بعد برهة دكانة وليس فيها مناديل ولا جوارب، ولكن جماعة يتناشدون الأشعار، ويستهلكون ولا يغلون، فأغلق دكانه وطوف بالبلاد ينزل ضيفًا على هواة الأدب، إلى أن نزل بطنطا، وصادف مولد السيد، فكانت له حادثة ظريفة لفتت إليه الأنظار وشهرته بين الناس.
وكانت البيوت أعظم شأنًا من الدكاكين في أنها مجتمع الأصدقاء من ذوي العلم والفن يسمرون فيها السمر اللذيذ ويتحدثون الحديث الظريف، هذا بيته منتدى الأدباء وهذا بيته مجموع الفقهاء، وهكذا كل رجل يعرف مكانه من هذه البيوت على حسب ذوقه وميله، ويكثر ذلك في طبقة الأوساط والأغنياء من ذوي الميل العلمي والفني. وأدركت في حارتنا المتواضعة ثلاث بيوت من هذا القبيل، كان صاحب أحدها قاضيًا شرعيًا كبيرًا، فكان بيته منتدى الفقهاء والعلماء يتسامرون عنده في الدين والفقه، والثاني موظفًا ظريفًا يسمر عنده أصحابه بالأخبار والفكاهات، ليلة يدعون قارئًا جميل الصوت، وأحيانًا فكهًا حسن الحديث؛ والثالث دفافًا يضرب على الدف في الأفراح، فكان عنده كثير من هواة الآلات الموسيقية، يحيون عنده الليالي الملاح حتى الصباح. فما بالك بالموسرين إذا شغفوا بأدب أو علم أو فن، وكانوا كرامًا يفتحون بيوتهم للهواة من أمثالهم، يجدون فيها الطعام الشهي والفن الشهي؟!
كان بيت شاهين باشا كنج بطنطا — وهو مفتش الوجه البحري إذا ذاك — من هذا القبيل، كرم حاتمي، وذوق أدبي، وظرف نواسي، فتعرف به عبد الله نديم، فوجد فيه شاهين باشا قبح منظر، مع طلاقة لسان، وخفة روح، وسرعة بديهة فغطى ذلك على قبح منظره، واتخذه له نديمًا.
٢
كان مرة يجلس في قهوة أيام المولد الأحمدي سنة ١٢٤٩هـ ومعه طائفة من أصحابه، ومنهم علي السيد علي أبو النصر الشاعر، والشيخ أحمد أبو الفرج الدمنهوري الأديب الماجن، قطع عليهم اثنان من «الأدباتية».
والأدباتية طائفة من الشحاذين يستجدون بأدبهم العامي وطلاقة لسانهم في الشعر، وحضور بديهتهم، عرفوا بالإلحاح في الطلب، فإذا رددتهم أي رد أخذوا كلمتك على البديهة، وصاغوا منها شعرًا يدل على استمرارهم في طلبهم، واستغواء ممدوحهم، وقد جمعوا إلى طلاقة لسانهم وحضور بديهتهم منظرهم المضحك في ملبسهم وحركاتهم، فزرج خارج العمامة، وطبلة تحت الإبط، وحركات يدور معها رز العمامة كأنه نحلة، وتحريك لعضلات وجوههم كأنهم قردة، وسموا «أدباتية» جمع «أدباتي» وهي لفظ سخرية لأديب. فمر هذان الرجلان من طائفة «الأدباتية» على الحاضرين حتى وصلا إلى عبد الله نديم، فقال أحدهما:
فأجابه عبد الله نديم على البديهة:
فرد «الأدباتي»، ورد عبد الله نديم، وظلا كذلك نحو ساعة، غلب «الأدباتي» فانصرف مهزومًا.
ونقل السيد علي أبو النصر القصة إلى شاهين باشا كنج، فاستظرفها جدًا، وخطرت له فكرة طريفة أيضًا أن يقيم حفلًا عامًا، يدعو فيه كبار «الأدباتية» والزجالين ويدخلون في مساجلة مع عبد الله نديم، فيكون منظرًا لطيفًا، ومحفلا طريفًا. ففعل ونصب سرادقًا أمام بيته، وأحضر رؤساء هذا الفن، وشرط عليهم أنهم إن غلبوا كافأهم، وإن غلبوا ضربهم، فرضوا، واستمرت المساجلة نحو ثلاث ساعات، غلب فيهم النديم، فكانت الحادثة سبب شهرته بين الأدباء والظرفاء.
عاد فرأى في الإسكندرية منظرًا جديدًا لم يكن أيام كان بها كانت المجالس الأدبية يوم فارقها تتحدث في غزل أبي نواس، ووصف البحتري، وهجاء ابن الرومي، ومديح الشعراء في إسماعيل، وفكاهات الشيخ الليثي، فإذا انتقلوا من ذلك فإلى من عارض شعر هؤلاء من المحدثين، وما أنشأه الناشئون من سمار المجلس في مثل هذه الأغراض، ولما عاد إليها وجد المجالس تتحدث في حالة البلاد ووقوعها في أسر الدين، وفي الدول وتدخلها، ورأى جمعية سرية تسمى «مصر الفتاة» يجتمع أعضاؤها فينتقدون هذا كله في صراحة وحماسة، والأدب يتحول فيأخذ شكل الكلام في الأمة ومصالحها، وآلامها، ويحتل ذلك مكان غزل أبي نواس، وشعر صريع الغوني، والنفوس بفضل تعاليم «جمال الدين الأفغاني»، وصحبة ثائرة تتطلع إلى نوع من الأدب غير الذي كان، وتجد غذاءها في الصحف السياسية والمقالات النقدية، فيشتغل في الصحافة من هذا النوع «أديب إسحاق» و«سليم نقاش» في جريدتهما «مصر» و«التجارة»، ويمدهما جمال الدين وتلاميذه بمقالاتهم وإرشاداتهم.
فأعد عبد الله نديم نفسه للأدب الجديد والمطلب الجديد، وانغمس في هذا التيار، وحول قلمه في هذا الاتجاه، يمد هذه الصحف بمقالاته في مثل هذه الموضوعات؛ فلقي من النجاح ما لفت إليه الأنظار، وكان له فضل كبير في إدراك أن الكتابة في الموضوعات السياسية إنما يتناسبها أسلوب متدفق سريع مرسل لا يقيده السجع إلا قليلًا، لينسجم وحركات النفس المتحمسة الثائرة.
وفكر مع بعض أصحابه من أعضاء جمعية «مصر الفتاة» أن يحولوها من جمعية سرية إلى جمعية علنية، تعمل جهارًا في الأعمال المشروعة، وجد هو وصحبه يجمعون المال لها من أعيان الإسكندرية، وسموها الجمعية الخيرية الإسلامية (وهي غير الجمعية القائمة الآن بهذا الاسم). وكان من أهم أغراضها إنشاء مدرسة تعلم الناشئة على نمط غير النمط الجاف الذي تسير عليه مدارس الحكومة إذ ذاك، فيضيفون إلى تعليم مبادئ العلوم بث روح الوطنية والشعور القومي في الأمة، وقد كان هذا غرضًا جديدًا دعا إليه الشعور القومي الذي كان في طور التكون.
وتم ذلك كله فجمع المال، وأنشئت المدرسة وجعل عبد الله نديم مديرها، وافتتحها بخطبة رن صداها في الثغر، وكان ذلك في أواخر أيام إسماعيل، وأقبل عليها كثير من أبناء الفقراء والأيتام، ووضع لها برنامج يحقق الغرض، وتكفل هو بتعليم الإنشاء فيها والأدب، وأخذ يمرن الطلبة على الخطابة والتمثيل، وعلى الجملة نفخ فيها من روحه، ولعلها أول جمعية مصرية إسلامية في مصر أسست لمثل هذا الغرض.
ثم وثق الصلة بين المدرسة والقصر، وكان الخديوي إسماعيل قد عزل وحل محله الخديوي توفيق، فتقرب النديم إليه واستزاره المدرسة فزارها، ورجا منه أن تنسب الرياسة لولي عهده «عباس»، فقبل وأغرم بتعليم التلاميذ الخطابة، فكان ينتهز كل فرصة لإقامة الحفلات يخطب فيها، ويحضر الخطب لتلاميذه ليخطبوها، ثم يمرنهم أن ينشئوا الخطب لأنفسهم، ويصلح خطأهم ويرشدهم، فأسس بذلك نخبة يحسنون التحرير، ويحسنون القول. ولم يكتف بذلك، بل خرج بالمدرسة على ميدان الحياة العامة، فكان يحضر بعض الروايات التمثيلية في نقد بعض العيوب الاجتماعية، ويمثلها هو وتلاميذه في بعض الملاهي العامة، من ذلك أنه أنشأ روايتين اسمهما «الوطن وطالع التوفيق» و«العرب» ومثلهما في «تياترو زيزينيا» حضرهما الخديوي توفيق، ونجح فيهما نجاحه أعلى ذكره.
ولكن ظهر فساد في الجمعية نسبوه إليه، ففصل من المدرسة ومن الجمعية.
عند ذاك اتجه إلى إنشاء صحيفة، وحبب إليه ذلك سابقة اتصاله بصحيفتي أديب إسحاق وسليم نقاش، ومرانته على الكتابة فيهما، وشعوره بأن الناس أعجبوا بما كتب، وأنه كان يكتب فيستغل أصحاب الصحف مقالاته مادة ومعنى فلا يؤجرونه على ما كتب، وكثيرًا ما يضنون عليه حتى بذكر اسمه في ذيل مقالاته، بل يتركون القارئ يفهم أنها لهم ومن إنشائهم.
فأخرج صحيفة سماها «التنكيت والتبكيت» وفي هذا الاسم دلالة على غرضه وأسلوبه، فهو يرمي إلى تأنيب المصريين على ما وصلوا إليه، في أسلوب قد يكون لاذعًا وقد يكون مضحكًا.
وفي الحق أن هذه الصحيفة كانت عجبًا في موضوعاتها وأسلوبها.
انظر العدد الأول: تجد تنكيتا وتبكيتا لأكبر المصائب التي كان يحسها ذلك العصر: مقال عنوانه «مجلس طبي لمصاب بالإفرنجي»، وهي قصة شاب صحيح البنية، قوي الأعصاب، جميل الصورة، لطيف الشكل، في رقة ألفاظ وعذوبة كلام، وفي عزة ومنعة لا يشاركه فيها مشارك، يلتف حوله أهله يعززونه ويؤازرونه حتى لا تمتد إليه يد عدو، ولا حيل محتال. وبينما هو في ذلك تسلل إليه أحد الماكرين يتظاهر بالصلاح والتقوى، ويضمر الختل والغدر، فأسلمه إليه أهله انخداعًا به. فعرضه هذا الماكر على الأسواق يريه من الغواني من تعارض الشمس بحسنها، وتكسف البدر بنورها، فمانع حينًا، ولكنه رأى أهل بيته وقعوا في مثل هذه الغواية، وانغمسوا في مثل هذه الضلالة، فسار سيرهم، وترك النفار والآباء، وسار في الطريق الذي رسمه المنافق الخادع، فما سار فيه حتى أصيب بالداء الإفرنجي (الزهري) فاصفر وجهه، وارتخت أعضاؤه، وذهبت بهجته، غارت عيناه، وتشوه وجهه، وتبدلت محاسنه بقبائح تنفر منها الطباع، وتمكن الداء منه، وسرى في دمه وعروقه، فصار يقلب طرفه لعله يجد من قومه من ينقذه من مرضه.
واجتمع الأطباء من قومه يفصحون الجسم، ويشخصون مرضه، ويقفون على أصله، ويركبون الدواء ليقف سريان الدواء، ويتعلق بهم أهل المريض يسألونهم الإسراع في معالجته: والاجتهاد في دفع مصابه، فطمأنهم الأطباء ونصحوا لهم بالهدوء والتحرر ممن كانوا السبب في الدواء. حتى لا يفسدوا العلاج، وابتدءوا يعملون بمشورة الأطباء ويبذلون الجهد في معالجته.
وواضح أن هذه قصة رمزية، أرد أن يصور فيها شعور الناس في هذه الفترة بعد ما كان من الإسراف، ووقوع مصر في الديون الباهظة، وتدخل الدول الأجنبية؛ من مراقبة ثنائية وإنشاء صندوق الدين، وما إلى ذلك، كما يصور بها ألم الناس من هذا المرض الإفرنجي، وأملهم في النجاة منه يسعى عقلائهم، وتفكير أولي الرأي فيهم، كل ذلك في أسلوب روائي مفهوم.
قد كانت هذه المسألة هي صميم المسألة المصرية، ومشكلتها الكبرى، فبدأ بها على هذا النحو، وعالجها هذا العلاج، وكان بارعًا في التورية بكلمة «الداء الإفرنجي».
ويلي ذلك مقال في «عربي تفرنج» يصف فيه شابًا من صميم الفلاحين، تعلم في مصر، ثم في أوربا، وعاد إلى بلاده يسفه أباه لما قابله على المحطة وقابله كيف يقبله، ويطالبه أن يسلم عليه بيديه فقط، ويكتفي أن يقول له «بن أريفيه» وينسى لغته، حتى اسم البصل، فهو لا يعرف إلا أن اسمه «أونيون» — ويختم هذا بالمغزى من القصة، وهو أن لا أمل في مثل هؤلاء إلا إذا حافظوا على لغة قومهم وعاداتهم، وصرفوا علومهم في تقدم بلادهم.
ثم قصة ترمي إلى نقد ما كان يجري بين العامة من اجتماعهم في القهوة، وسماعهم للقصاص (الشاعر)، انقسامهم إلى معسكرين، متعصب لعنترة، ومتعصب لزغبة، وما كان أحدهم — وقد ختم القصاص الليلة بوقوع عنترة أسيرًا — إذا ذهب إلى ابنه وأيقظه من نومه وأمره أن يقرأ في الكتاب حتى يخلص عنترة من الأسر، وإلا مات كمدًا، فلما لم يطعه ابنه، وأفهمه أن هذا تخريف في تخريف، نزل عليه بعصاه حتى أدماه، والجنون فنون.
ويلي هذه قصة تمثل الفلاح الجاهل، المرابي الماكر؛ إذ أراد الفلاح أن يقترض منه مائة جنيه، فأعطاه سبعين، وكتب عليه «كمبيالة» بمائة وعشرين وحسبها كما يأتي: المائة فائدتها عشرون، تخصم في المائة فيكون فيه الباقي سبعين، وتضم الفائدة فيكون عليه مائة وعشرون، ويقتنع الفلاح بذلك لجهله بأبسط مسائل الحساب؛ ثم يقدم الفلاح للمرابي قطنًا وقمحًا ثمنها الحقيقي ١٢٥ جنيهًا، يحسبهما المرابي بأربعين، ويغالطه أغلاطًا مضاعفة حتى يجعله مدينًا بمائتي جنيه وعشرة، كل ذلك والفلاح في غفلة لا يدري ما يصنع به — فإذا عوتب المرابي على ذلك قال: ماذا أصنع! إن الفلاح حمار، وأنا أريد أن أكون غنيًا كبيرًا في خمس سنين!
ثم قصة غني كبير بنى بيتًا فخمًا، وأثثه أثاثًا بديعًا، وكان من أثاثه مكتبة كبيرة، فلما أتم ذلك كله عرضه على الزائرين، فسأله أحدهم عن المكتبة وما يحوي، ليعرف أي نوع من العلوم والفنون يهوى، فقال الغني صاحب البيت: لقد دخلت بيت فلان وفلان فرأيت في مضيفة كل منهم خزامة كتب عليها ستارة خضراء وبجانبها منفضة من الريش؛ والخادم كل يوم ينفضها ويسمح الزجاج الخزانة، فعلمت أن هذا طراز جديد في بناء البيوت وتأثيثها، فقلدتهم في ذلك، ولا علم لي بعلم أو فن. «وهكذا أصبح الكل نائمًا في غفلة التقليد».
•••
نعم، هذا كله في العدد الأول من صحيفة «التنكيت والتبكيت»، نقد للسياسة العامة للبلد، ونقد للعيوب الاجتماعية الخاصة. كل ذلك في أسلوب يسترعي الانتباه، فقد التزم اللغة البسيطة السهلة عن تفكير وروية، فقال في فاتحتها: إنه لا يريد منها أن تكون منمقة بمجارات واستعارات، مزخرفة بتورية واستخدام، ولا مفتخرة بخامة لفظ وبلاغة عبارة ولا معربة عن غزارة علم وتوقد ذكاء، ولكن أحاديث تعودناها، ولغة ألفنا المسامرة بها لا تلجئ إلى قاموس الفيروز أبادي، ولا تلزم مراجعة التاريخ، ولا نظر الجغرافيا، ولا تضطر لترجمان، يعبر عن موضوعها، ولا شيخ يفسر معانيها، وإنما هي في مجلسك كصاحب يكلمك بما تعلم، وفي بيت كخادم يطلب منك ما تقدر عليه، ونديم «يسامرك بما تحب وتهوى».
ثم هو يدرك أن في الناس خاصة وعامة، وكل يحب أن يقصد إلى تغذيته بالأدب، وأشعاره بوجوه النقد، لذلك يختار موضوعات الخاصة فيكتبها باللغة الفصحى كموضوع «الداء الإفرنجي» فهو موضوع دقيق لا يقدر قدره إلا الخاصة؛ أما الفلاح والمرابي وسماعوا القصاص فمكتوبة للعامة، فيجب أن تكتب بلغتهم العامية، وهو في اللغة العامية ماهر كل المهارة، ويعرف أمثالهم وأنواع كلامهم، ويضع على لسان الخادم والسيد والمرأة والرجل، والفقير والغني، والماكر والمغفل، وما يليق به، في دقة أحكام وظرف.
ثم هو قد فطن لشيء جليل القدر، وهو أن التعليم والنقد من طريق القصص أجذب للنفس وأفعل في النقد، فأكثر منه بل كاد يتلزمه.
لذلك كله نجح في صحيفته، ووصل نداؤها إلى أكبر عدد ممكن، فمن كان قارئًا قرأ، ومن لم يكن قارئًا سمع ففهم.
ولم يكتف بذلك، بل نراه في عدد تال يلتفت التفاتة لها خطرها في الإصلاح السياسي والاجتماعي، وهي أن من أهم بين أسباب غفلة الشرق ضعف الخطابة، واقتصارها — تقريبًا — على خطب المساجد، وهي خطب لا تمس الحياة الواقعة بحال من الأحوال، وإنما هي عبارة دينية محفوظة، ومعان متكررة مألوفة، لا تحرك قلبًا ولا تضيء حياة.
فكتب مقالًا قويًا في قيمة الخطابة وأثرها في تاريخ الإسلام، ودعا إلى أن يحضر خطب المساجد أعرف الناس بشئون الحياة، وأقدرهم على التأثير، وأن تشرح هذه الخطب الموقف الحاضر في وضوح، وتبين الأخطار المحيطة بالأمة في جلاء، وأن يتبرع القادرون بقدر من المال يخصص لهذا الغرض، ويتفقوا مع ديوان الأوقاف ليسمح بإلقاء هذه الخطب في المساجد، ثم تطبع وتنشر في أنحاء البلاد، ليصل صداها إلى كل قرية وبلدة، وأعلن استعداده للاشتراك في إعدادها، ووضع خطبة نموذجية توضح غرضه، تتضمن المحافظة على حقوق البلاد والنهي على الظلم والبغي، والدعوة إلى الائتلاف لمواجهة الأخطار التي تظهر دلائلها في الأفق، والاتحاد مع المواطنين ما غير نظر إلى اختلاف الدين، والتذكير بمجد مصر السابق، والالتفاف حول الخليفة والخديوي، والتحذير من تمكين الأجنبي من وضع يده على سياسة البلاد، والتحرز من إتيان عمل يتخذه وسيلة لتدخله ومعاملة النزلاء الأجانب بالحسنى، ومن حفظ حقوق تجارتهم وعدم الإساءة إليهم.
هذه هي المعاني التي رأى أن الحاجة ماسة إليها في ذلك الوقت (في أول حكم الخديوي توفيق قبيل الثورة العرابية)، صاغها صياغة دينية تناسب صلاة الجمعة فبدأها بالحمد لله، والثناء على رسوله، وختمها بالحديث الشريف: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا». — وقد حقق «الراديو» أخيرًا فكرة عبد الله نديم في إذاعة الخطبة شكلًا، ولكن لما تتحقق فكرية موضوعه.
وانتهت هذه الصحيفة على هذا الموضوع.
٣
ففرح الناس وتهللوا لهذه الوعود القيمة وتفتحت آمالهم، ولكن الحكم الشورى لم يرض طوائف كثيرة — لم يرض الحاشية، وكان السيد جمال الدين أشار على الخديوي توفيق بتغيير حاشية إسماعيل، فأغضبهم عليه. قال الشيخ محمد عبده: «ووكيل دولة فرنسا أخذ يسعى في إقامة الموانع دون إعطاء حق النظر في تصحيح الميزانية، وتقرير الأمور المالية، ودعا وكيل إنجلترا إلى مساعدة في إقناع الخديوي بضرر هذه الأوضاع الجديدة» فتغير رأي الخديوي توفيق في ذلك كله؛ فاستقال شريف باشا ونفي السيد جمال الدين، وأخذت الأمور مجرى آخر كان سببًا من أسباب الثورة.
ثم جاءت وزارة رياض باشات بعد وزارة شريف، وفي تاريخ مصر الحديثة كان شريف باشا دائمًا رمز الحكم الشورى، ورياض باشا رمز الحكم الاستبدادي، وكلاهما كان يلتف حوله كثير من الخاصة، فحول شريف جماعة ترى أن الحكم الشورى هو الوسيلة الوحيدة لإنقاذ البلاد من الفوضى، والأمل الوحيد في وقف كل سلطة عند حدها، والباعث الوحيد للأمن والحرية في نفوس الأفراد، وحول رياض جماعة ترى أن الحكم الشورى لا يصلح إلا إذا نضجت الأمة وعرفت شئونها ومجاري السياسة حق معرفتها، ورزقت من الشجاعة في القول والجد في العمل قدرًا صالحًا، وإلا كان الحكم الشورى نقمة، والأمة لم تبلغ هذا الحد؛ وكان الجدال والنزاع يدور على الفكرتين في الصحف والمجالس، على كل حال؛ فقد كان هذا درسًا لتنوير الرأي العام في السياسة، وتفتيح الأذهان للنظر في المسائل العامة.
وكانت شخصية رياض شخصية معقدة — ذكي، خبير بالإدارة، قوي العزيمة صبور على العمل، معتز بنفسه، لا يرى بجانب رأيه رأيًا، إذا وثق بشخص لم يسمع فيه قول قائل، وإذا أساء الظن بإنسان فإلى النهاية، نزيه، يحب الخير لمصر، ولكن حسبما يرى هو وبالطريقة التي يراها، قليل الثقة بالمصريين ممتلئ عقيدة بأنهم مملئون عيوبًا، كبير التعظيم للأجانب، معتقد بقوتهم، يرى أنه لا يستطيع الحكم إلا بالاعتماد عليهم أو على أقواهم، لا يرى بأسًا من إغضاب الخديوي وإغضاب الأمة في سبيل إرضائهم، ومع ذلك يبذل أقصى جهده في أن ينال منهم أقصى ما يستطيع لخير أمته — شديد الحب للحكم لا تعتزله إلا مكرها. فكانت أخلاقه هذه من عوامل التمهيد للثورة العرابية.
ألغى السخرة العامة كإقامة الجسور على النيل، وحفر الترع من غير أجر والسخرة الخاصة، كعمل الفلاحين في أرض سيدهم من غير مقابل، ونفذ ذلك في غير هوادة، فأغضب بذلك الأعيان، وأعطى السلطة العامة للمديرين، فأساءوا السيرة، وضيق على الصحف، وعطل بعضها، فعامل أصحابها سرًا بعد أن كانوا يعملون جهدًا، وسافر بعضهم إلى أوربا يصدر الجرائد في الطعن عليه، وعارض الخديوي في أن يمنح الرتب والنياشيين لمن يراهم أهلًا، كما عارضه في كثير من رغباته فغضب الخديوي عليه، وعاقب «رياض» المدير الذي سخر الأهالي في حفر ترعة خاصة بالخديوي. وتصرف ناظر الحربية في وزارته تصرفات أغضبت رجال الجيش المصريين، فطلب عرابي وأصحابه تشكيل مجلس عسكري لتحقيق الشكايات، فمال رياض إلى إجابة مطلبهم، ولكن أشيع عنه أنه هو الذي يمانع في ذلك فغضبوا عليه — كل ذلك وهو لا يريد أن يتخلى عن الحكم.
تبلبلت الأفكار واضطربت، وكلها تتفق في وجوب تغيير الحال، وإن اختلفت أسباب غضب كل طائفة، فالأعيان يحبون رجوع سلطتهم في تسخير الناس، والضباط المصريون يريدون العدل بينهم وبين الشراكسة، وبعض ذوي الرأي يرون أن هذا كله تأييد لوجهة نظرهم في أنه لا يصلح الأمور إلا نظام الشورى والخديوي ناقم على رياض لخشونته، وبعض الأجانب لا يسرهم ما قام به رياض من ضبط الأمور المالية. كل ذلك هيأ للثورة العربية.
وتطورت مطالب العرابيين من عدل بين الضباط، إلى تغيير شكل الحكومة من نظام استبدادي إلى نظام شوري، إلى التهييج على الخديوي توفيق إلى المناداة بعزله لالتجائه إلى الدول لحمايته، إلى الدعوة للجهاد في سبيل صد المغيرين. واتسعت الحركة، من حركة محصورة في الجند والضباط، إلى حركة وطنية واسعة تشمل العلماء والأعيان والتجار والزراع وغيرهم، واندس وسط الحركة من يعمل صالح أمير ليحل محل الخديوي توفيق، فجماعة تعمل لصالح الأمير حليم ابن محمد علي، ومن هؤلاء صاحب جريدة «أبو نضارة» ومنهم من يعمل لحساب الخديوي إسماعيل لإعادته، ومن هؤلاء راتب باشا السرادر، وهكذا.
في هذا الجو الذي صورناه صورة صغيرة جدًا عمل عبد الله نديم، واحتضنه العرابيون، فكان خطيب الثورة وكاتبها ومشعلها.
اتخذ جريدة «الطائف» بدل «التنكيت والتبكيت»، ونقل مكانها من الإسكندرية إلى القاهرة، وبدأها عنيفة قوية، تنقد تصرفات الخديوي إسماعيل في جرأة بالغة، وتشرح بؤس الفلاحين في السخرة والعذاب المهين الذي يلقونه من الرؤساء، وما شاهده بنفسه من أحداث، وكيف يخر الناس قتلى من الجوع والبؤس، والإعياء والضرب، وكل رئيس يريد أن ينال حظوة من فوقه بالمغالاة في التعذيب.
وكان عبد الله نديم في هذه الصحيفة يعبر عن آراء النواب في ضرورة الإصلاح عن طريق الحكم النيابي؛ وقد كتب سلطان باشا رئيس النواب إلى إدارة المطبوعات أن تعتبر جريدة «الطائف» لسان النواب المعبر عن أفكارهم، فاعترفت الإدارة بذلك، ونشر هذا رسميًا بأمر نظارة الداخلية، ولكن لما رأت إدارة المطبوعات عنفه وتهييجه عطلته شهرًا.
أصبح «الطائف» في الثورة العرابية لسان الدعاية لها، يقدم من عاداها، ويشجع من والاها، ويلقب «عرابي» بحامي حمى الديار المصرية، ويتطور بتطورها فينقد الأوروبين وتصرفاتهم، وينقد الخديوي توفيق لارتمائه في أحضانهم، وفي أسلوب لاذع وتهكم ساخر، فإذا كانت الحرب نقل جريدة «الطائف» إلى المعسكر يحرض الجنود على القتال، ويحرض الشعب على تقديم المئونة، وينشر خبر التبرعات وكلما اشتد الأمر واشتد في تهييجه؛ وقد قلت صفحاتها لاشتداد الظروف: من أربع إلى اثنتين إلى واحدة، وهو يهرج في أخبار الحرب، فيقلب أخبار هزيمة المصريين إلى أخبار انتصار، وانتصار الإنجليز إلى أخبار هزيمة، وظل كذلك حتى تمت الهزيمة، وتم التسليم.
هذا عمله في الصحافة، وإلى جانب ذلك كان عمله في الخطابة.
فقد طاف في كل مجتمع يخطب، وأعطى من ذلاقة اللسان ما يستدعي العجب، فما هو إلا أن يحرك لسانه حتى يتدفق وتنهال عليه المعاني والألفاظ انهيالًا، وقد نشر في البلاد فن الخطابة، وعلم كثيرًا من الناشئة أن يخطبوا في المحافل؛ وأعطى لهم المثل بمقدرته وكفايته، وبدأ ذلك أيام كان يعلم الإنشاء والأدب، في مدرسة الجمعية الخيرية في الإسكندرية. فلما أعلن الدستور في أول عهد توفيق (٧ فبراير سنة ١٨٨٢)، سرت في النفوس هزة فرح لا تقدر، وأمل الناس أن الحكم النيابي سيصلح كل مفاسد الماضي، ويرسم كل وسائل السعادة للحاضر والمستقبل — واشتاق الناس أن يسمعوا الكلام الكثير في هذا الموضوع، فكان عبد الله نديم وصحبه وتلاميذه الذين يغنون للناس بآمالهم، فأقيمت الحفلة تلو الحفلة إليها النديم وفرقته ليخطبوا والنديم هو قطب الرحى. يخطب أولًا، وكلما خطب خطيب وتناول موضوعًا قام النديم بعده يعقب عليه، ويتخذ من كلامه موضوعًا يطنب فيه، وفي هذه الحفلات يحضر النظار وكبار الضباط والعلماء والنواب والأعيان، فتطرب نفوسهم لهذا طربهم من عبده الحمولي ومحمد عثمان.
هذه حفلة تقيمها جمعية المقاصد يفتتحها «النديم» بقصيدة، ثم يشكر الجمعية على احتفالها بالدستور، ويتلوه إبراهيم اللقاني فيبين الفرق بين عهد الاستبداد وعهد الشورى، فيعقبه النديم يكمل موضوع الفروق بين العهدين؛ ثم يقوم الشاب مصطفى ماهر — باشا فيما بعد — فيتكلم في الحث على الاجتهاد في العلوم والفنون، ويستحث الأغنياء على إنشاء بنك أهلي يحمي الأهالي من استغلال المرابين، ويختم ذلك بالدعوة إلى الألفة والاتحاد، فيقوم بعده النديم يتكلم في هذا الموضوع، ثم يقوم الشيخ محمد عبده فيبين مزايا الحكومة النيابية، ويطالب بوجوب أن يكون النواب من المتعلمين، ويحث على تعميم التعليم، وعلى احترام حرية القول والكتابة، وسن القوانين المبينة لحقوق الأفراد وواجباتهم، ويقوم «النديم» بعده معقبًا على قوله، ثم يقوم أديب إسحاق فيتكلم في شعور النواب وتضامنهم مع النظار في كل ما يجلب الخير للبلاد، ويتلوه النديم؛ ثم يقوم فتح الله أفندي صبري (فتحي باشا زغلول) فيخطب في الحث على الاتحاد والثبات، وينتهي هذا الاجتماع.
وتتكرر أمثال هذه الاجتماعات، ويقال فيها مثل هذه الخطب، ويقوم بالدعوة إليها كبراء البلد، وكلها على غرار الحفلات السابقة، عمادها عبد الله نديم وإن اختلفت بعض الموضوعات، كدعوة إبراهيم اللقائي إلى التمسك بأسباب القوة والاتحاد، والحث على مجانبة الخوف والجبن، وخطبة فتحي زغلول في الأخذ بالمبادئ التي تمدن البلاد، والدعوة إلى إنشاء جمعية تفتح مدارس ليلية يتعلم فيها من لم يسمح له عمله بالتعلم.
ويدعى عبد الله نديم إلى حفلة في الإسكندرية على هذا الطراز، وكل هذه الحفلات توصف في جريدة الوقائع المصرية، ويذكر فيها خلاصة ما دار فيها من خطب، فتنشر في البلاد.
فلما عطل الدستور؛ وتطورت الأمور، وكانت الثورة العرابية، تحولت خطب عبد الله نديم إلى موضوع الثورة، وكان يخطب في كل مجتمع: في الأزهر وطلبته، والجيش وجنوده، وفي حفلات «الأفراح»، فما يكون مجتمع لغرض من الأغراض إلا ويطلع عليهم عبد الله نديم، وجماعة من ناشئته يعتلون المكان العالي ويخطبون في موضوعات الثورة، حتى كان إذا سئل محمد عثمان «المغني»: أين تغني الليلة؟ يقول: «في الفرح الفلاني مع عبد الله نديم». وهو في هذا الموقف لا يتحرج من التهريج، فيقول مثلًا في بعض خطبه: إن طوابي الإسكندرية إذا أطلقت مدافعها يبلغ مرماها جزيرة قبرص من هذا الجانب، ومدافع الآستانة إذا أطلقت تبلغ هذه الجزيرة من الجانب الآخر. فكيفما جالت الأساطيل الإنجليزية فهي تحت رحمة مدافعنا، فيصفق الناس؛ ويخطب «فتحي زغلول» فيقول النديم: ألا تعجبون لما أبدى هذا التلميذ في خطبه من العلم والبيان والتفنن في المواضيع، مع أن جلادستون خطيب إنجلترا لا يتناول إلا موضوعًا واحدًا؟! ويخطب مصطفى ماهر فيقول النديم: أشهدكم أيها الناس أن أمة يكون هذا مقدار استعداد التلميذ فيها لا يغلبها أحد في أمرها.
على كل حال كان عبد الله نديم لسان الأمة في عهده بخطبه، وقلمها بصحفه، ينتقل في الأقاليم ولا يكل ولا يمل، وينشر آراءه ومشاعره في أكبر عدد ممكن من الأمة؛ وبذلك كله ساعد نمو رأي عام مصري يؤمن بالحكم الشورى، ويتطلع إلى الإصلاح في الأمور الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فإن كان السيد جمال الدين رسول الخاصة في هذه المعاني، فعبد الله نديم كان رسول العامة، قطر المعاني التي تدعو إليها جمال الدين إلى الشعب، وأوصلها إلى التاجر في متجره، والفلاح في كوخه، والتلميذ في مدرسته؛ كان السيد جمال الدين بحكم أرستقراطيته في نشأته وثقافته والبيئة التي تحيط به، ولغته في كلامه وكتابته، معلم الخاصة، وكان عبد الله نديم بحكم ديمقراطيته في النشأة والعلم والبيئة واللغة معلم العامة.
لسنا الآن بصدد الحكم على الثورة العرابية وما نفعت وما أضرت والمسئولين عنها، والمآخذ عليها، وإنما كل ما يعنينا الآن أن نقول: إنه إذا تبخرت أقواله التي دعت إليها فورة الثورة، وتبخرت أنواع تهريجه وتهويشه، بقى لنا جانب كبير من جوانب نفع عبد الله نديم في هذه الحركة، وهو إيقاظ الشعور في الشعب بحقه في الشكوى من الظلم، والمطالبة بالعدل، وإفهامه أن الحاكم يجب أن يكون مسئولًا أمامه، وأن هناك نوعًا جديدًا من الحكم غير الذي ألفه: من رجوع الأمور كلها إلى إرادة الحاكم يفعل ما يشاء، ولا يسأل عما يفعل، وهذا النوع الجديد هو حكم البلاد نفسها بنفسها ممثلًا في نوابها، وأن مصر للمصريين لا للدولة العليا، ولا لأية دولة أجنبية؛ وهذه معان قد كانت عند خاصة الخاصة، فنشرتها الثورة وعبدالله نديم في العامة.
ولئن أخفقت الثورة فيقظة الرأي العام — إلى حد ما — وشعوره بنفسه، وتنهيه لحالته الاجتماعية والسياسية لم يخلق، ويتجلى ذلك على الأخص إذا قورن بينه وبين حالته من قبل.
٤
لقد أعيت الحكومة أمره، فأصدرت عليه حكمًا غيابيًا بالنفي المؤبد من القطر المصري.
ها هو ذا أول مرة يذهب إلى «بولاق» ويستخفي عند صديق له وفي أيامًا حتى يخف عنه الطلب، فيخرج وقد لبس «زعبوطًا» أحمر، واعتم بعمامة حمراء وربط عينيه بمنديل، وأطال لحيته، وأمسك عكازًا طويلًا، وتصنع أنه من مشايخ الطرق، ونزل في سفينة مع خادمه إلى بنها، فلم يفطن له أحد.
وجزع خادمه وكان أميًا، وأراد أن يرجع إلى أهله، فأيقن «النديم» أنه إذا عاد انكشف أمره، فأخذ يقرأ الجريدة يومًا، ثم تصنع إلى الفزع وقال: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»، فسأله الخادم عما أفزعه، فقال «النديم»: إن الحكومة قد جعلت لمن يرشد عني ألف جنيه، ولمن يأتيها برأسه خمسة آلاف؛ فخاف الخادم، وأخذ يبالغ في التنكر أكثر من سيده، واستراح من هذا الباب، وظل معه طول مدة الاستخفاء. وقال هو عن نفسه في هذه الفترة: «خرجت من مصر مستخفيًا فدرت في البلاد متنكرًا، أدخل كل بلد بلباس مخصوص، وأتكلم في كل قرية بلسان يوافق دعواي التي أدعيها، من قولي إني مغربي أو يمني أو فيومي أو شرقاوي أو نجدي، وأصلح لحيتي إصلاحًا يوافق الدعوى أيضًا، فأطيلها في مكان عند دعوى المشيخة، وأقصرها في آخر عند دعوى السياحة — مثلًا — وأبيضها في بلد، وأحمرها في قرية، وأسودها في عزبة». فأحيانًا كان اسمه الشيخ يوسف المدني، وأحيانًا الشيخ محمد الفيومي، وأحيانًا سي الحاج عليّ المغربي، وهكذا، وأحيانًا كان يجتمع بمن يعرفهم فيثير عجبهم، لأن المقدرة مقدرة «النديم»، ولكن يختلف في الشكل والصوت واللهجة، فيقولون: سبحان الله جل من لا شبيه له.
وكان من مهارته في استخفائه أنه رأى جد الحكومة في طلبه، فاستعان برجل من الفرنسيين يعرفه ويثق به، فأشاع عنه أن النديم هرب إلى «ليفورنو» في إيطاليا، ونقلت هذا الخبر جريدة «الأهرام» وصدق الناس ذلك، وعنفت الحكومة رجال الضبط على إهمالهم حتى تمكن من الخروج، فخف عنه الطلب، ولم يكن كل ذلك إلا خدعة. وكتب صاحب جريدة «المحروسة» مرة بعد استخفائه بسنتين: إنه «قد تعددت الأقوال في مقر عبد الله النديم، فمن قائل إنه التجأ إلى البلاد الإيطالية، ومن قائل إنه فر إلى طرابلس الغرب، ومن زاعم أنه أتى السودان واتصل بالمهدي وصار له نديمًا، وقال قوم إنه سارع في السفر إلى «سيلان» للاجتماع بعرابي، والحقيقة فيما نعلم أنه أتى باريس في الأيام الأخيرة، ونشر فيها مقالة أتى فيها على ذكر الحرب العرابية، وندد بالمصريين، ونسب إليهم الضعف والجبن» إلخ.
ومنها عطف بعض الناس عليه، وإيمانهم بأن المروءة تقضي عليهم — وقد تزل بساحتهم — أن يخفوا أمره إذا علموا، وأن يساعدوه على الاستخفاء مهما أغروا بالمال، كالذي كان من عمدة «العتوة» بمديرية الغربية، وهو الشيخ محمد الهمشري، فقد نزل عنده وعرفه بنفسه، فأكرم مثواه، وأقامه في داره أكثر من ثلاث سنوات في مكان منعزل له باب خاص؛ وزوجه؛ وزوج خادمه؛ فلما توفى دعت زوجته أكبر أولادها، وقالت له: هل نطمع في المكافأة أو تكون كأبيك شهمًا تحفظ الجار وتحمي اللاجئ؟ فوعدها بأن يكون كأبيه في حفظه؛ ووفى بذلك؛ حتى أحس «النديم» بوشاية واش، فخرج من عندهم حامدًا مروءتهم.
وصادفه مرة مأمور مركز شركسي، والنديم في تنقله بين البلاد، فعرفه، فصرف جنده ثم اختلى به، وقال: لا ضرورة لتنكرك فقد عرفتك، وأعطاه ما معه من نقود، ورسم له خطة السير في طريقه حتى لا يضبط.
وكان في أول مرة أمره شديد الحنين لأبيه وأمه وأخيه. لا يعرف ما صاروا إليه؛ شديد الشوق لمعرفة كتبه وتآليفه وأوراقه التي تركها في بيته بالإسكندرية، ثم وسط الصديق الفرنسي أن يتعرف كل ذلك ويأتيه بالأخبار؛ فعرف الفرنسي أن أسرته تشتت والناس تنكروا لهم، والأرصاد وضعت حولهم، وإن أباه يقيم عند قريبة له في الريف، وأن كتبه وتأليفه التي أنفق فيها تسعة عشر عامًا، عندما ضربت الإسكندرية وهاجر منها أهلها وضعها أبوه في ثلاثة صناديق كبار شحن بها عربة من عربات السكر الحديدية، فلما وصلت إلى كفر الزيات ازدحم على القطار المسافرون من المهاجرين ازدحامًا هائلًا، فلم يسع رجال المحطة إلا أن يرموا جميع ما بالعربة في النيل، ومنها الصناديق ال ثلاثة وفيها كل ثروته العقلية.
ثم لما هدأت الأحوال وخف عنه الطلب كان يتصل بأبيه وأخيه اتصالا منظمًا.
وتأتي عليه أزمات ثم تنفرج، فهذا عيد الأضحى وهو في «برية المندرة» يسكن وسط الحقول، لا يسكانه أحد إلا زوجته، ولا يجد القوت الضروري، ويأتيه خادمه الذي يسكن بعيدًا عنه يشكو له البؤس والفقر وعدم القوت في يوم العيد، فما هو إلا أن بعث له رجل من أهل البر والمروءة بما يملأ بيته قمحًا وعسلًا وسمنًا وثيابًا، كما يبعث الأطلس والحرير للبس زوجته، وشيئًا من ذلك الخادم وزوجته، وأتيح له من الفراغ ما مكنه من إكمال نفسه بالمدرسة والتأليف، فكان إذا اطمأن في قرية قرأ ما تصل إليه يده من الكتب، وكانت مكتبته في هذه الأيام مكتبة خفيفة يسهل حملها إذا دعا داعي الرحيل السريع، فكانت تفسير القرآن لأبي السعود، وقاموس الفيروز أبادي، و«الوافي» في المسألة الشرقية لأمين شميل، وجغرافية ملطبرون الذي ترجمه الشيخ رفاعة؛ وألف فيما يعن له في الدين والتاريخ. فكان هذا نعمة عليه لم يستطعها في أيامه الأولى. كتب لصديق له في هذه الفترة يقول: إن سالت عني فأنا بخير وعافية، وحالة رائقة صافية، لا أشعل فكري بما يأتي به الليل إذا كنت بالنهار، ولا أتعب ذهني بتوالي الخطوب والأكدار، ولا أتألم من طول المدة، ووقع الشدة، لاعتقادي أن لكل شدة مدة، متى انتهت جفت الأوحال، وحسنت الحال، فتراني فكري كليمي، وقلمي نديمي — تارة أشتغل بكتابة فصول في علم الأصول، وأجمع عقائد أهل السنة، بما تعظم به الله المنة، وحينًا أشتغل بنظم فرائده، في صورة قصائد، ووقتًا أكتب رسائل مؤتلفة، في فنونها مختلفة، وآونة أكتب في التصوف والسلوك وسير الأخبار والملوك، وزمنًا أكتب في العادات والأخلاق، وجغرافية الآفاق، ومرة أطوف الأكوان، على سفينة تاريخ الزمان، ويومًا أشتغل بشرح أنواع البديع، في مدح الشفيع … وقد تم لي الآن عشرون مؤلفًا بين صغير وكبير، فانظر إلى آثار رحمة الله اللطيف الخبير، كيف جعل أيام المحنة، وسيلة للمنحة والمنة. أتراني كنت أكتب هذه العلوم، في ذلك الوقت المعلوم، وقد كنت أشغل من مرضعة اثنين وفي حجرها ثالث وعلى كتفها رابع، وأتعب من مربي عشرة وليس له تابع، أشتغل بعض النهار بتحرير الجورنال، وأقضي ليلي في دراسة الأحوال، مشتغلًا بمجالس الجمعيات الخيرية ومدارسها التعليمية، وزيارة الإخوان، ومراقبة أبناء الزمان، وقد نسيت الأهل والعيلة، وربما نسيت الطعام يومًا وليلة، فكنت كآلة يحركها البخار، لا سكون لها ما دام الماء والنار. فمتى كنت أنظر للمخلفات، وأكتب هذه المؤلفات؟
وكان في رحلته برًا بخادمه «حسين» الذي غير اسمه فسماه «صالحًا»، وزوجه، وعلمه القراءة، والكتابة، وحفظه جملة سور من القرآن، وعلمه الفقه والتوحيد، واتخذه صاحبًا.
لشد ما أتعب نفسه في استخفائه، وأتعب الناس معه ولكن ما أكثر ما أمتعهم أيضًا بأحاديثه وفكاهاته، ووعظه وسمره.
وأخيرًا نزل «بالجميزة» فعرفه عمدتها وكتم أمره، ولكن رجلًا اسمه حسن الفرارجي — كان جنديًا ثم استخدم جاسوسًا — عرفه فكتب إلى السراي وإلى الداخلية، فأمرت بالقبض عليه، وذهب وكيل حكمدار الغربية ومعه قوة من الجند فالتفوا حول البلدة، وأراد «النديم» الهرب بحيله القديمة فلم يستطع، فاستسلم. وكان من حسن حظه أنهم لم ينتبهوا إلى أوراقه. وكان في بعضها هجاء شديد للخديوي توفيق لو اطلعوا عليه لتغير مجرى حياته. وكان القبض عليه في صفر سنة ١٣٠٩هـ. واستخفاؤه في ذي القعدة سنة ١٢٩٩هـ. وأرسل إلى طنطا للتحقيق معه، وكان وكيل النيابة إذا ذاك قاسم بك أمين، فأحسن معاملته، وأمر بأن ينظف مكانه في السجن، ويضاء كما يريد، وأن يمكن من شرب القهوة والدخان كما يشاء، وأمده بالمال من عنده. وكان هم التحقيق متجهًا إلى معرفة من آواه، وهل كانوا يعرفونه أو لا يعرفونه؟ ولكنه أنكر كل الإنكار أن يكون أحد ممن آواه يعرف حقيقته؛ ثم صدر أمر الخديوي توفيق بالعفو عنه وإبعاده عن مصر إلى أي جهة شاء؛ فاختار يافا ونزل بها، فأكرمه أهلها، واتخذ بها دارًا جعلها منتدى للأدباء والعلماء، وطوف في فلسطين يشاهد آثارها، ويحج إلى مزاراتها، ويجتلي حسن طبيعتها.
ثم مات توفيق وتولى عباس، فعفا عنه، وسمح له بالعودة إلى مصر سنة ١٨٩٢ فعاد وفكر طويلًا فيما يفعل وأين يتجه، وتردد بين مصر والإسكندرية، وأخيرًا عين اتجاهه، وقرر أن ينشئ بالقاهرة مجلة «الأستاذ» فكان صفحة جديدة في باب جهاده.
٥
كانت الظروف التي تولى فيها الخديوي عباس ظروفًا دقيقة، شاب ناشئ في الثامنة عشرة من عمره، دعي من (فينا) حيث يتعلم ليتولى الحكم في مصر، ومصر قد انتهت ثورتها العرابية واطمأن الإنجليز إلى احتلالها، ووضعوا أسس نظامها، وتمكنوا من وضع أيديهم على كل شأن من شئونها، وعباس الشاب لقن آراء الاستقلال والشعور بالوطنية والعزم على العمل لتسترد مصر ما فقدت، وهو يعيب على جده إسرافه، ويعيب على أبيه توفيق استسلامه، وعلى رجال المعية ضعفهم، وشباب الأمة يبلغه هذا الشعور فيجاوبه، فيتوجه الخديوي لصلاة الجمعة في المسجد الحسيني فيقابله الشعب في حماسة، «ويتقدم الطلبة وغيرهم من المحتشدين بالسكة الجديدة — نحو العربة الخديوية ويقصون جيادها ويجرونها بأنفسهم»، ويغير الخديوي رجال المعية بغيرهم ممن هم أقرب إلى نفسه ومبادئه.
وفي ذلك الوقت كانت فرنسا تشعر بخطئها في سياستها الماضية التي آلت إلى ضعف نفوذها في مصر، فأخذت تبحث عن طريقة لاسترداد بعض ما فقدت فرأت أن يكون من هذه السبل الالتفاف حول «عباس».
وتركيا كذلك تأسف هذا الأسف، وتتجه هذا الاتجاه — وكل هؤلاء وهؤلاء يطالبون بالوفاء بوعد إنجلترا بالجلاء عند صلاح الأمور.
والحكومة الإنجليزية تلوح في البرلمان الإنجليزي من طرف خفي بالنصح لعباس أن يتبع سياسة والده في مسألة الإنجليز والتحالف معهم.
وأخذ الخديوي عباس يتصل بالشعب ويوسع نفوذه عن طريق الرحلات في المديريات، ومقابلة الأعيان، وزيارة المعاهد والمدارس، كما أخذ يميل إلى مباشرة الأعمال بنفسه بالاتصال بالمديرين، وتكليفه المختصين كتابة التقارير عن نظم التعليم والجيش ونحو ذلك، فبدأ شيء من الجفاء بينه وبين اللورد كرومر، وتسرب ذلك إلى الشعب.
عند ذلك بدأت تظهر في البلد تيارات مختلفة، وبدأت توضع بذور الأحزاب المختلفة، وبدأت تتجلى بوضوح اتجاهات الصحف المختلفة.
هذه تؤيد الحركة الوطنية وتناصر الميول الخديوية، إما عن إخلاص، وإما رغبة في الكسب، وإما خدمة للسياسة الفرنسية، وهذه تؤيد السياسة الإنجليزية، إما رغبة في الاستفادة، وإما عن عقيدة أيضًا.
وظهر أثر ذلك في الجدل في المجالس والمناظرة في الصحف.
في هذا الأفق المملوء بالسحب، ظهر «عبد الله نديم»، وقد سمح له الخديوي عباس بدخول مصر، فمكث قليلًا يتعرف الأحوال، ويدرس ما فاته من شئون مصر مدة غيابه، ثم صح عزمه على تحديد الغرض وإنشاء جريدة «الأستاذ» قال عنها: «إنها جريدة علمية تهذيبية فكاهية»، تصدر يوم الثلاثاء من كل أسبوع، وظهر العدد الأول منها في أول صفر سنة ١٣١٠هـ-٢٣ أغسطس سنة ١٩٩٢م، يتولى هو تحريرها، ويتولى أخوه إدارتها، وقد كتب في أول عدد منها أنها لا تتعرض للسياسة العملية الإدارية؛ أما السياسة من حيث هي فن فإنها تدخل في موضوعها العلمي.
كانت أول أمرها تعد امتدادًا لجريدته «التبكيت والتنكيت» من حيث موضوعها وأسلوبها، فهي تعني أكثر ما تعني بنقد العيوب الاجتماعية في المجتمع المصري، وفيها مقال أو نحو ذلك في شئون الإصلاح السياسي من وجهة عامة، ثم هي تحرر باللغة العربية الفصحى في المقالات السياسية الإصلاحية، وباللغة العامية في الموضوعات الاجتماعية.
والمطلع على ما كتبه في هذا العهد يرى أنه بعد رجوعه من مخبئه قد فوجئ بموجة من الانحلال الخلقي في البلاد. فإفراط لم يكن معهودًا من قبل في شرب الخمور، وعدم اكتراث الشاربين ينقد الناقدين، وانتشار للخمارات في المدن والبلاد والقوى، وابتزاز الأروام للأموال عن طريقها — وشعور النساء بالحرية، فهن يكثرن من الخروج في الشوارع متبرجات بزينتهن، ثم الحشيش والمعاجين والإفراط فيها والاحتفاء بمجالسها. ثم استعمال كلمة الحرية وسيلة للانهماك في اللذات والشهوات؛ وأعجب من ذلك السقوط في تقليد المصري للأوربي تقليدًا أعمى في لي لسانه بالقول، والتشدق باستخدامه كلمات أجنبية أثناء حديثه بالعربية، ولبس الضيق المحبوك من الثياب الإفرنجية؛ فنقد كل ذلك في أسلوب قوي جريء، واتهم الأوربيين بتشجيعهم هذه الأمور حتى يسقط الشرق وتنحل أخلاقه؛ ونقد كذلك منهاج التعليم في البلاد، وخلوها من بث الروح القومية والعصبية المصرية؛ وحث أبناء البلاد على إنشاء الجمعيات الخيرية التي تسد هذا النقص، ونحو ذلك.
وعجب مما رأى من أن كثيرًا من أولي الرأي في الأمة أصابتهم الدهشة والرعب من الاحتلال، فانطووا على أنفسهم، ولزموا دورهم، فإن تكلموا في الشئون العامة فمن وراء حجاب، وتركوا الناس مبلبلة أفكارهم، مضطربة نفوسهم، لا يعرفون أين يتجهون، فدعا إلى خروج ذوي الرأي من عزلتهم؛ واختلاطهم بالرأي العام في المجامع العامة، ويخطبون فيهم، ويشرحون ما حدث وما يحدث، حتى يكونوا على بصيرة من أمرهم.
في كل ذلك كتب «عبد الله نديم» في الأعداد الأولى من «الأستاذ» — ووجد النفوس مستعدة لهذه الدعوات كأنها حائرة تنتظر الدليل، ضالة تلتمس الهادي، فانتشر «الأستاذ» انتشارًا فاق ما كان يتوقع، فقد كان يطبع منه حول ثلاثة آلاف، كأكبر جريدة يومية إذ ذاك، وأعيد طبع الأعداد الأولى منه.
وقد حاول مرة أن يحرر الجريدة كلها باللغة العربية الفصحى، فأتته رسائل الاحتجاج الكثيرة تذكر له خطأه، لأن المرأة تسمع مقالاته في بيتها، والعامي يسمعها وهو في مصنعه ومتجره، والفلاح في حقله، وكلهم يستفيد من نقده، وكثير يتعظ بنصحه؛ فنزل عند رأيهم، وأعادها كما كانت عربية فصيحة في بعضها، عامية في بعضها.
واستمر على هذه النغمة كذلك في الأعداد التالية؛ والمطلع على الحوادث التي كانت تجري في تلك الأيام يرى أن علو هذه النغمة كان صدى لما يحدث من أزمات؛ ففي هذه الأيام بعينها اشتد الجفاء بين الخديوي عباس واللورد كرومر، ففي ١٥ يناير سنة ١٨٩٣ أقال الخديوي مصطفى باشا فهمي منتهزًا فرصة مرضه، وعهد إلى حسين فخري باشا في تشكيل الوزارة، فعارض اللورد كرومر في تعيين الوزارة من غير أخذ رأيه؛ واشتد الأخذ والرد، وأنذرت إنجلترا الخديوي إنذارًا شديدًا، وانتهت المسألة باستقالة حسين فخري وتعيين رياض باشا حسبما أشار اللورد كرومر. وانتشر الخبر في الشعب، فأقبلت الوفود على الخديوي في ١٨ يناير تلقى الخطب في تأييده في موقفه، وظهر أثر ذلك واضحًا في الجرائد التي تناصر الحركة الوطنية، فكان هذا هو السبب فيما نرى من حرارة مقالات النديم في تلك الأيام وما بعدها، ومناصرته للخديوي، ومنازلته للجرائد المخالفة في قوة ووضوح.
وهو — مع هذا — توسع في اقتراحات الإصلاحات الاجتماعية، فينقد علماء الأزهر في انزوائهم وعدم معرفتهم بالدنيا وما يجري فيها، ويضع برنامجًا واسعًا لإصلاح الأزهر، كما ينقد الزراعة في مصر وتأخرها، ووجوب إصلاحها على أساس علمي صحيح، وفوضى اللغة العربية، ووجوب إنشاء مجمع يحفظ كيانها ويكمل نقصها، والخرافات والأوهام، والطرق الصوفية وما يجري فيها من مخاز وعيوب.. إلخ.
ثم علت نغمته طبقة أخرى، فأخذ ينقد الإنجليز صراحة في سياستهم في الهند ومصر، ويسب من يلوذ بهم ويهيج الناس على المبشرين وطرق التبشير.
ويقول: إن السياسة تؤيدهم وتلعب ألاعيبها من ورائهم، فتألبت عليه الجرائد المخالفة له في مذهبه من إنجليزية وعربية وحذرت منه، وقالت إنه يعد البلاد لفتنة بين المسلمين وغيرهم، وبين المصريين بعضهم وبعض، ويحرك الضغائن بين المصريين والأجانب، ويهيئ لثورة كالثورة العرابية، ونصحت لأولي الأمر من الإنجليز أن يأخذوا حذرهم منه وإلا ساءت العاقبة، وشهرت به بعض الجرائد الإنجليزية كالتيمس، والديلي نيوز، وقالت إنه متعصب للدين، مقبع لجميع أعمال الأوربيين، وإنه ثوري مهيج، وأيدتها المقطم، ودافع عنه المؤيد والأهرام والوطن، وبعض الجرائد الفرنسية، ولم يأل هو جهد في منازلة خصومه والتشهير بهم، وإعلان عدم المبالاة بما يجري له، فقد لاقى العذاب ألوًانا في أيام استخفائه، فكل ما سيناله هين بالقياس إلى ما لقي، وأعاد نشر قصيدة له في ذلك كان قد أنشأها في مخبئه، ومنها:
وأخيرًا طلب اللورد كرومر من الخديوي عباس نفيه فأطاع، ولم يستطع أن يحمي من كان يحميه، وودع «الأستاذ». قراءه في آخر عدد منه صدر في ١٣ يونيه سنة ١٨٩٣. فكان عمره أقل من عام، ولم يذكر في وداعه السبب الحقيقي الذي من أجله أغلق «الأستاذ» ونفى صاحبه، بل قال إن سبب ذلك المرض وحاجته إلى الاشتفاء، وقال في آخر وداعه: وما خلقت الرجال إلا لمصابرة الأهوال، والعاقل يتلذذ بما يراه في فصول تاريخه من العظم والجلال، وعلى هذا فإني أودع إخواني قائلًا:
وكان ينشر ملحقًا «للأستاذ» هو صفحات من كتاب ألفه وهو في المخبأ اسمه «كان ويكون» جمع فيه بعد، ولم يتم نشره، كان يريد من تدوينه عرض خلاصة أفكاره الدينية واللغوية والسياسية والأدبية والتاريخية والإنسانية، ملتزمًا فيه حرية الفكر، وعدم التعصب لدين أو جنس، ذاكرًا فيه ما شاهده في مصر من أحداث، مبينًا ما وراءها من علل.
ووضعه على نمط قصصي، إذ كان له صديق فرنسي أتى من باريس قبل الثورة العرابية، وتعلم العربية والتركية، وأقامه في مصر متتبعًا حوادثها، وعرف عبد الله نديم في الإسكندرية سنة ١٢٩٢ هجرية، وتوثقت بينهما الصلة، وكانت له ضيعة قريبة من البلدة التي اختبأ فيها «النديم» فاتصل به في مخبئه، وكان الفرنسي يزوره ويخدمه في قضاء أغراضه؛ وكثيرًا ما يدور الحديث بينهما في الدين والسياسة فبنى كتابه «كان ويكون» على هذا، ودون فيه ما كان يدور بينهما من حديث وجدل، وأكثر ما نشر كان في أصول الأديان، وتاريخ اليهودية والمسيحية والإسلام، يتخلل ذلك بعض أخبار عن أحواله في مخبئه، وبعض نظرات سياسية. ومما يؤسف له أن إقفال جريدة «الأستاذ» حال بينه وبين نشر القسم السياسي والتاريخ المصري من الكتاب، وما نشر منه يدل على نظر عميق واطلاع واسع وسماحة دينية لطيفة، وعاطفة جياشة بحب الخير لمصر والشرقيين.
٦
خرج «النديم» إلى يافا؛ حيث كان قبل العفو عنه، ورتبت له الحكومة المصرية خمسة وعشرين جنيها شهريًا يعيش بها، على شرط ألا يكتب شيئًا في الجرائد يتصل بسياسة مصر.
وما لبث أربعة أشهر في يافا حتى وشى به الوشاة بأنه يطعن في سياسة الدولة العليا، ويلمز السلطان، فصدر الأمر بإبعاده أيضًا.
فأخذ يذرع الأرض لا يعرف أن يستقر، فلا مصر تقبله، ولا أي أرض من أراضي الدولة العثمانية تحله، ونزل الإسكندرية أياما حتى تحل مشكلته.
وعجيب أن يقبل «نديم» (وظيفة) مفتش للمطبوعات وهو الذي ينال الأذى دائمًا من إدارة المطبوعات، وأن يرضى أن يتحكم في الصحف، وهو الذي كان يأبى أن يتحكم فيه أحد، وأن يكون أداة لتقييد الحرية، بعد أن كان داعية لتأييد الحرية!! ولكن يخفف من هذا أن «الوظيفة» كانت صورية محضة، وكان الغرض منها أن يمنح المكافأة في مظهر غير وضيع.
ها هو ذا في الآستانة قد عطلت كل مواهبه، فلا خطابة ولا كتابة، ولا تهييج ولا تحميس، وهو في وسط يكاد يختنق منه، ولا يفرج عنه إلا مجلس السيد جمال الدين، يحادثه ويسامره، وكل يشكو إلى صاحبه قفصه.
ولكن أنى لصاحب هذا اللسان أن يهدأ؟
لقد وقع الخصومة مع أبي الهدي الصيادي كما وقع فيها معه السيد جمال الدين، ولكن السيد عف اللسان في الخصومة الشخصية، أما «النديم» فويل لمن عاداه.
كان أبو الهدي عجبًا من العجب، إذا أرخت الدولة العثمانية في عهد عبد الحميد احتل كثيرًا من صفحات تاريخها، وكان مستترًا وراء الصفحات الباقية، يرن اسمه في كل أنحاء المملكة من مصر وسورية والعراق وتونس والجزائر، ويتقرب إليه الولاة في حل كل عظيمة — أثبت به القدر أنه على كل شيء قدير.
سوري من حلب، فقير المال والحسب، دفعته المقادير إلى الآستانة، وكان ماهرًا ذكيًا وسيم المحيا، ماضي العزيمة، قادرًا على معرفة نفوس الناس ومن أن تؤتي، فتغلب على عقل السلطان عبد الحميد بأحلامه وتفسيراته، والطرق ومشيختها، فربط نسبه بأعلى نسب، فهو قرشي هاشمي علوي، وهو في الطريقة رفاعي له الأتباع الكثيرون، لا يعبأ بالمال يأتيه على كثرته فينفقه ويستدين، لأن عز الجاه والسلطة عنده أقوى من عز المال.
له أعين تأتي له بكل الأخبار، فيستغلها أمهر استغلال. لم يقف عند الدين والولاية والصوفية، بل مد نفوذه إلى الشئون السياسية والإدارية والعسكرية؛ يحلم فلا حد لحلمه، ويبطش فلا حد لبطشه سمي «مستشار الملك» و«حامي العثمانيين» و«سيد العرب»، استمال كثيرًا من الأمراء والوجهاء والأعيان والعلماء والأدباء فكانوا عونًا له على كل ما أراد؛ يبطش بهم حين يريد البطش، ويؤلف بهم الكتب حين يريد شهرة العلم، وينظم بهم القصائد حين يريد الأدب والشعر، إلى كرم وسماحة وحسن حديث.
الدنيا كلها يجب أن تسخر لشخصه، وأن تخضع لأمره، الحق ما أتى من طريقه، والباطل ما أتى من طريق غيره — عدو كل سلاح، وخصيم كل حر. كم له من ضحايا في السجون، وفي أعماق البحار، وفي ذل الفقر، وفي بؤس المنفى. تتملقه الأمراء، وتهابه العظماء.
هذا أبو الهدي الصيادي الذي لم يتحرز عبد الله نديم أن يخاصمه وينازله، ويطلق فيه لسانه، ووضع فيه كتابًا سماه «المسامير»، لم ينشر في حياته، وهو كتاب لا يشرف الصيادي ولا عبد الله نديم، لأنه استعمل فيه أسلوبًا وضيعًا وهجاه فيه هجاء مقذعًا.
وبلغ أبا الهدي أمر هذا الكتاب المخطوط، فأبلغ السلطان عبد الحميد أن فيه أيضًا هجاء له؛ فبحث عنه طويلًا من غير جدوى، استطاع «جورج كرتشي» الذي كانت متصلًا بالسيد جمال الدين و«النديم» أن يحتفظ به ويخفيه ويفر به إلى مصر، ثم يطبعه.
لم تطل حياة «النديم» في الآستانة طويلًا، فقد أصيب بالسل، واشتدت عليه العلة، فمات في العاشر من أكتوبر سنة ١٨٩٦، واحتفل بجنازته احتفالًا كبيرًا مشى فيه السيد جمال الدين — الذي لحقه إلى ربه بعد أشهر — ودفن في مدفن يحيى أفندي في «باشكطاش».
وكانت أمه وأخوه قد علما بشدة مرضه، فسافرا إليه، ولكن لم يدركاه إلا ميتًا، ووجدا متاعه وأثاثه وكل شيء له قد نهب، فعادا وليس في يدهما إلا الحزن والأسى.
مات في نحو الرابعة والخمسين من عمره، فلم يكن بالعمر الطويل، ولكنه عمر عريض فطالما غذى الناس بقلمه وهيجهم بأفكاره، وأضحكهم وأبكاهم، وحير رجال الشرطة. وأقلق بال رجال السياسة، ونازل خصومه من رجال الصحافة، فنال منهم أكثر مما نالوا منه، ولم يهدأ له لسان ولا قلم حيث حل، ولا على أي حال كان، حتى هدأه الموت الذي يهدئ كل ثائر.
مهما أخذ عليه فقد كان عظيمًا!
فتح للناس في جريدتيه «التبكيت والتنكيت» و«الأستاذ» أبوابًا من الإصلاح الاجتماعي كانت مغلقة، في التعليم والزراعة، واللغة والصناعة، والأخلاق وما إلى ذلك، فسار المصلحون على أثره.
وكانت الجرائد المشهورة في عهده «المقطم» و«الأهرامات» و«المؤيد» و«النيل»، وكان لها ثلاث اتجاهات: منها ما يسالم الاحتلال ويؤيده، ومنها ما يؤيد الحركة الوطنية ويؤيد من ورائها السياسة الفرنسية، ومنها ما يؤيد الحركة الوطنية والنزعة الإسلامية والارتباط بالدولة العثمانية، وكل منها يعرض وجهة نظره في شيء من الهدوء والرزانة والوقار. فلما طلع «الأستاذ» دعا إلى أن مصر للمصريين، لا لتركيا ولا للأوربيين، وناصر الحركة الوطنية والالتفاف حول الخديوي أمير البلاد، ودعا الذين غلبهم الخوف بعد الاحتلال أن يبرزوا من مكامنهم، ويمسحوا الخوف عنهم، ويتصلوا بالجمهور ليوقظوه، ودعا إلى تأليف الأحزاب حتى يكون كل جريدة حزبها، ولكل حزب برنامجه؛ ولم يسلك سبيل الهدوء كما سلكه معاصروه، بل كان حادًا عنيفًا، والحدة منه استتبعت الحدة من الجرائد الأخرى، والغضب يبعث الغضب، والصوت العالي يبعث في الرد عليه الصوت العالي، فتميزت الجرائد بعضها عن بعض في وضوح وجلاء.
وكانت هذه الحدة وهذا الجدل المتتابع في المسائل العامة أكبر موقظ للرأي العام النائم، يفهمه موقفه وما يضره وما ينفعه، وأي غاية يريد منه هؤلاء وهؤلاء، ومواطن ضعفه، وكيف السبيل إلى قوته، وللنديم الفضل الكبير في ذلك.
وكانت جريدة «الأستاذ» هي الأستاذ لمصطفى كامل، تعلم منها الاتجاه والنغمة، وإن اختلفا من حيث الثقافة والأسلوب بحكم الزمن والأحداث والظروف.
نعم كان في «النديم» شيء من التهريج كالذي رأيناه. وكان من تهريجه أنه كان في أول مرة يرتدي الثياب الإفرنجية، فلما ظهر بعد الاستخفاء لبس الجبة والقفطان، واعتم بعمامة خضراء، وادعى أنه شريف إدريسي ينتسب إلى الحسن بن علي، وكثير من الواقفين على الحقيقة ينكر ذلك، وربما دعاه إلى هذا شعوره بمركب النقص، من حيث نشأته الفقيرة المتواضعة، وما مرن عليه من التصنع أيام الاستخفاء، وحالة الوسط الذي عاش فيه من أنه لا يمجد إلا ذا الثراء أو ذا الحسب — ومع هذا فالعظيم يقدر بكله لا ببعضه.
كانت عظمته في ذكائه وقوة لسنه. وقال فيه المرحوم أحمد باشا تيمور: «كان شهي الحديث، حلو الفكاهة، إذا أوجز ود المحدث أنه لم يوجز، لقيته مرة في آخر إقامته بمصر فرأيت رجلًا في ذكاء إياس، وفصاحة سحبان، وقبح الجاحظ. أما شعره فأقل من نثره، ونثره أقل من لسانه، ولسانه الغاية القصوى في عصرنا هذا».
ثم هو شجاع لا يخاف، يلذه مواجهة العظماء ومنازلة الكبراء في غير خوف ولا وجل، إلى تواضع مع العامة ومضحكاتهم ومؤانسته وملاطفتهم، لا يعبأ بالقول ولا يخاف البطش، فإذا نزل أحد وسلط عليه لسانه كانت الكارثة، نازل الخديوي توفيق والاحتلال، وأبا الهدي الصيادي، ولكل جاهه وسلطانه الذي أذل أعناق الكثيرين، كل ذلك وهو فقير يعيش من يده إلى فمه، ما أتاه أتلفه، وما وصل إلى يده بدده، معتمدًا على ربه الذي يرزقه كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا.
ضعيف الجسم كثير العلل، وربما كان ذلك هو السبب في موت أولاده جميعًا في طفولتهم، فقد رزق قبل الاستخفاء بمحمد، وعثمان، وإلياس، وفاطمة، وعائشة، وسكينة، وخديجة. كما رزق أيام الاستخفاء بحفصة وريا. وكلهم لم يعش طويلًا. ومع هذا فهو — على مرضه — دائب العمل دائم الحركة، لا يعتريه كلل ولا ملل؛ يود أن يخلد اسمه بالعمل، بعد أن حرم تخليد اسمه بالمولد.
وربما كان أعظم شيء فيه ثباته على مبدئه؛ باع نفسه لأمته حسبما يعتقد الخير لها، ولم يتحول عن ذلك على كثرة من تحول في مثل مواقفه. هؤلاء زعماء الثورة العرابية حاولوا أول أمرهم ينكروا ما فعلوا، فلما لم ينفعهم إنكارهم وعوقبوا عادوا وخضعوا، وعاشوا في مسألة ومهاودة. أما هو فلم ينكر ما قال. ولقي في مخبئه الأهوال. وكان جديرًا بمن لقي ذلك كله أن يهدأ، وإذا هدأ فلا لوم عليه. ولكنه ظل يجاهد، وينفي فيجاهد، ويعفي عنه فيجاهد. ويحذر فلا يحذر، ويطمع فلا يطمع، حتى لقى مولاه رحمه الله.