الفصل السادس عشر
لقد حُبِست وأُبعِدت عن العالم؛ تلك المرأة ذات الجمال الفاضل الراسخ والشَّعر المُذهَّب.
تساءل جرانت للمرة الأولى، لماذا كان مُذهَّبًا. لعله كان فِضيًّا مُذهَّبًا؛ كانت شقراء مُتألِّقة. كان من المُؤسِف أن كلمة «شقراء» تدنَّت إلى درجةِ أنها كادت تحمل مدلولًا مُحقَّرًا.
لقد حُبِست لتقضيَ بقيَّة أيامها حيث لا يمكن أن تُمثِّل مشكلةً أو مصدرَ إزعاج لأحد. كانت تُرافِقها دوَّامة من المتاعب طَوال حياتها. كانت إنجلترا قد اهتزَّت بزواجها من إدوارد. وكانت هي الوسيلة المُستتِرة التي تسبَّبت في دمار ورويك. وتسبَّب لطفها مع عائلتها في إقامة فصيل جديد تمامًا في إنجلترا، ومنع ارتقاء ريتشارد إلى العرش في سلام. كان وقوع معركة بوسوورث أمرًا أدَّى إليه ضمنيًّا ذلك الاحتفال الصغير البسيط في براري نورثهامبتونشير حين أصبحت زوجة إدوارد. ولكن لم يبدُ أن أحدًا حمل نحوها ضغينة. فحتى ريتشارد الذي أخطأت في حقه سامحها على الفظائع المُترتِّبة على علاقاتها. لم يحمل أحدٌ نحوها ضغينة، حتى جاء هنري.
لقد اختفت في غموض. إليزابيث وودفيل. الملِكة الأرملة التي كانت أم ملكة إنجلترا. أم أميرَي البرج، التي عاشت بحُرية وفي رغد في ظل حكم ريتشارد الثالث.
كان ذلك خرقًا غريبًا في النمط، أليس كذلك؟
أبْعَد جرانت عن تفكيره مسألةَ تاريخ الأشخاص، وبدأ يُفكِّر بطريقةٍ شُرطية. كان الوقت قد حانَ كي يُرتِّب أوراق قضيَّته. كان الوقت قد حانَ كي ينظمها من أجل عرضها. من شأن هذا أن يُساعِد الشاب في كتابه، والأفضل من ذلك أنه سيُساعده في تصفية ذهنه. ستكون الأمور بالأبيض والأسود حسبما يراها.
مدَّ جرانت يده نحو لوح الكتابة والقلم، وكتب مُدخلًا مُنمَّقًا:
القضية: هي اختفاء صبيَّين (إدوارد أمير ويلز، وريتشارد دوق يورك) من برج لندن عام ١٤٨٥، أو في وقت مُقارِب لذلك.
تساءل إن كان من الأفضل أن يُدوِّن أسماء المُشتبَه بهما في عمودَين مُتوازيَين أم واحدًا تِلو الآخر. ربما كان من الأفضل أن ينتهيَ من ريتشارد أولًا. لذا دوَّن عنوانًا مُنمَّقًا آخر، وبدأ في تلخيصه:
ريتشارد الثالث
السجل السابق:
جيد. لديه سجلٌّ مُمتاز في الخدمة العامة، ويتمتع بسمعةٍ طيبة في حياته الخاصة. السمة البارزة كما تُشير إليها أفعاله هي المنطق السليم.
- (أ)
كانت استفادته مُستبعَدة؛ إذ كان يوجد تسعة ورثة آخرين من آل يورك، من بينهم ثلاثة ذكور.
- (ب)
لا يوجد اتهامٌ معاصر.
- (جـ)
استمرَّت أمُّ الطفلَين على علاقتها الودية به حتى وفاته، وكانت بناتها يَحضرن حفلات القصر.
- (د)
لم يُظهِر خوفًا من ورثة آل يورك الآخرين، فأنفق بسخاء على معيشتهم، وكفلَ لكلٍّ منهم وضعه الملكي.
- (هـ)
كان حقُّه في التاج لا يقبل الجدال؛ إذ صادَق عليه قانونٌ برلماني وتزكيةٌ عامة؛ فكان الصبيَّان خارج نطاق وراثة العرش، ولم يكونا يُمثِّلان خطرًا عليه.
- (و)
لو افتُرِض أنه كان قلِقًا من عدم الولاء، فإن الشخص الذي كان يتعيَّن عليه أن يتخلَّص منه لم يكن الصبيَّين، وإنما الشخص الذي كان سيَخلُفه على العرش، وهو ورويك الصغير. وهو الذي أعلن على الملأ أنه وريثه حين مات ولده.
هنري السابع
السجل السابق:
مُغامر، عاش في بلاط ممالك أجنبية. ابن لأمٍّ طموحة. لا شيء سلبيَّ معلوم فيما يتعلق بحياته الخاصة. لم يتولَّ منصبًا أو عملًا عامًّا. الصفة البارزة كما تُشير أفعاله هي الدهاء.
- (أ)
كان من المهم له كثيرًا ألا يعيش الصبيَّان. بإبطاله للقانون الذي يُقرُّ بعدم شرعية الصبيَّين، جعل الصبي الأكبر منهما ملِكًا على إنجلترا، والأصغر وريثه.
- (ب)
في القانون الذي قدَّمه أمام البرلمان من أجل إدانة ريتشارد، اتهم ريتشارد بالطغيان والقسوة المعتادَين، لكنه لم يذكر مسألة الأميرَين الصغيرين. والاستنتاج الحتمي هنا أن الصبيَّين كانا على قيد الحياة، وكان مكانهما معروفًا.
- (جـ)
حُرِمت أمُّ الصبيَّين من دخلها، وأُودعت ديرًا للراهبات بعد مرور ثمانية عشر شهرًا من جلوسه على العرش.
- (د)
اتَّخذ تدابير عاجلة من أجل أن يأمن جانب ورثة العرش الآخرين، وأودعهم الحبس المؤقَّت حتى تمكَّن من التخلص منهم بأدنى قدرٍ من الفضيحة.
- (هـ)
لم يكن لديه أدنى حق في الجلوس على العرش. منذ وفاة ريتشارد، كان ورويك الصغير هو الملك «الشرعي» لإنجلترا.
خطر لجرانت للمرة الأولى، وهو يكتب هذا، أنه كان بمقدور ريتشارد أن يُضفيَ الشرعية على ابنه غير الشرعي، جون، ويفرضه على الأمة. لم يكن ثَمة افتقار إلى سابقة في مثل هذا المسعى. في نهاية المطاف، كانت عشيرة بوفورت بأَسرِها (بما في ذلك أمُّ هنري) تنحدر، ليس من اتحادٍ غير شرعي وحسب، وإنما من سِفاحٍ مُزدوج. لم يكن يُوجَد ما يمنع ريتشارد من جعل ذلك الصبي، «النَّشِط الحسن التصرُّف» الذي كان يعيش في رفاهة في منزله، مُستحقًّا شرعيًّا للعرش. كان من المُؤكَّد بناءً على تدابير ريتشارد أن هذا المسار لم يكن قد تبادر إلى ذهنه. كان قد عيَّن ابن أخيه وريثًا له. كان المنطق السليم هو السمة الغالبة عليه حتى في أشد أوقات حزنه. المنطق السليم والمشاعر الأسرية. لم يكن ابنه غير الشرعي ليجلس على كرسي آل بلانتاجانت بغضِّ النظر عن مدى نشاطه وحُسن تصرُّفه ما دام ابن أخيه موجودًا، ويمكن له أن يشغل الكرسي.
كان من اللافت للنظر كيف مدى تَغلغُل هذا الجو الأُسري في الحكاية بأكملها. من رحلات سيسيلي بصحبة زوجها، وحتى اعتراف ابنها الطوعي بابن أخيه جورج وريثًا له.
وخطرَ بباله للمرة الأولى أيضًا وبقوةٍ كبيرة كيف أن هذا الجو الأُسري قد أضفى القوة على حُجة براءة ريتشارد. إن الصبيَّين اللذين من المُفترَض أنَّ ريتشارد قتلهما كما لو كان يقتل مُهرَين توءمًا كانا ابنَي إدوارد، كانا طفلَين لا بد أنه عرَفهما معرفةً شخصية وجيِّدة. أما هنري، على الجانب الآخر، فكان الصبيَّان لا يُمثِّلان له إلا رمزَين. عقبتَين في طريقه. ربما حتى لم تكن عيناه قد وقعت عليهما. وبغضِّ النظر عن جميع المسائل المتعلقة بالشخصية، فإن الاختيار بين هذين الرجلين باعتبارهما مُشتبَهًا بهما قد يتقرَّر على هذا الأساس وحده تقريبًا.
كان من المُهدِّئ للذهن تمامًا أن يرى القضية مُنظَّمة ومُرتَّبة على هيئة «أ» و«ب» و«ج». لم يُلاحظ من قبلُ كيف أنَّ سلوك هنري كان مُثيرًا للرِّيبة والشك بصورةٍ مُضاعَفة حيالَ قانون اللقب الملكي. وإن كانت مطالبة ريتشارد بالعرش عبثية كما أصرَّ هنري، فمن المُؤكَّد أن التصرف البديهي كان إعادة قراءة القانون على العامة وإثبات زيفه. لكن هنري لم يفعل أي شيء من هذا القبيل. بل كابَد عناءً لا مُتناهيًا من أجل محو أي ذكرى لذلك القانون. كانت النتيجة النهائية محسومة، وهي أن حق ريتشارد في العرش كما هو مُبيَّن في قانون اللقب الملكي كان لا جدال فيه.