الفصل السابع عشر
في فترةِ ما بعد الظهيرة عندما عاوَد كارادين الظهور في غُرفة المستشفى كان جرانت قد سار نحو النافذة وعاد إلى سريره، وكان مُبتهجًا من ذلك كثيرًا، حتى إن المُمرِّضة القزمة شعرت بالحاجة لتذكيره بأن هذا شيءٌ يمكن لطفل في عمر ثمانية عشر شهرًا أن يفعله. لكن لم يكن يمكن لأي شيء أن يكبت جرانت اليوم.
صاح بتبجُّح قائلًا: «ظننتم أنكم ستُبقونني هنا لأشهُر، أليس كذلك؟»
فقالت بتحفظ: «نحن مسرورون كثيرًا لرؤيتك تتحسَّن بهذه السرعة»، ثم أضافت: «وبالطبع، مسرورون كثيرًا أيضًا لأننا سنستعيد سريرك.»
وراحت خطواتها تُطقطِق في المَمر وهي تبتعد، بشَعرها الأشقر المُموَّج وقامتها المشدودة.
استلقى جرانت على سريره، ونظر إلى غُرفة السجن الصغيرة بشعورٍ يكاد يقترب من المحبة. إن رجلًا وقف على حافة أحد القطبَين أو رجلًا وقف على قمَّة جبل إفرست لا يتفوَّقان بشيء على رجلٍ وقف بجوار نافذة بعد أسابيع من كونه على بُعدِ اثنَي عشر حجرًا فقط من العَوَز. أو هكذا شعرَ جرانت.
غدًا سيعود إلى البيت. سيعود إلى البيت لتعتنيَ به السيدة تينكر. سيَتحتَّم عليه أن يقضيَ نصف يومه في السرير، ولن يكون قادرًا على المشي إلا بمساعدة عصاه، لكنه سيعود رجلًا مستقلًّا. لن يكون تحت رحمة أحد. لن يكون تحت رعاية امرأة مُجِدَّة قصيرة، ولن تعطف عليه امرأةٌ مِعطاءةٌ ضخمة.
كان هذا استشرافًا لمستقبلٍ رائع.
كان بالفعل قد أمطر السيرجنت ويليامز — الذي كان قد أولى عناية بإنهاء مَهامِّه الروتينية في إسكس — بكل تعبير لديه عن الامتنان، وكان حينئذٍ يَتُوق إلى أن تأتيَ مارتا من أجل أن يتباهى أمامها برجولته المُكتشَفة حديثًا.
كان ويليامز قد سأله: «كيف كان تعاملك مع كتب التاريخ؟»
«على أفضلِ نحو. لقد أثبتُّ أنها جميعًا خاطئة.»
ابتسَم ويليامز. وقال: «أظن أنه يوجد قانونٌ ضد ذلك.» وتابَع: «لن يَرُوق هذا لوكالة الاستخبارات والأمن الداخلي. قد يتحوَّل الأمر إلى خيانة أو ازدراء للذات الملكية أو شيء من هذا القبيل. لا يمكن للمرء أن يتوقَّع شيئًا في هذه الأيام. سأحترس لو كنت مكانك.»
«أُقسمُ أنني لن أعود أبدًا ما حيِيتُ لتصديق أي شيء أقرؤه في كتب التاريخ.»
فأشار ويليامز بمنطقه الصارم: «سيتعيَّن عليك أن تستثنيَ بعض الحالات.» وأضاف: «فالملكة فيكتوريا كانت حقيقية، وأظنُّ أن يوليوس قيصر قد غزا بريطانيا بالفعل. ولديك عام ١٠٦٦.»
«بدأت تُساوِرني شُكوكٌ هائلة بشأن عام ١٠٦٦. أرى أنك أتممت مهمة إسكس. كيف يبدو تشامي؟»
«إنه آفةٌ صغيرةٌ شعواء. كان يُعامَل بِلِين طوالَ حياته منذ بدأ يسرق فكَّة النقود من أمه وهو في عمر التاسعة. ربما كان ضرْبه بالحزام وهو في الثانية عشرة من عمره سيُنقِذ حياته. الآن سيُشنَق قبل أن يُزهِر اللوز. سيأتي الربيع مُبكِّرًا هذا العام. كنت أعمل طيلة مساء كل يوم في الحديقة في الأيام القليلة الماضية، بعدما صار النهار يمتد. ستُسَرُّ باستنشاق الهواء العليل مُجدَّدًا.»
كان ويليامز قد غادَر باسمًا رصينًا مُتزنًا، كما يليق برجل كان يُضرَب بالحزام في صِباه من أجل مصلحته.
وهكذا كان جرانت يَتُوق لزائرٍ آخرَ من العالم الخارجي الذي سيُصبح جزءًا منه عما قريب، وكان مسرورًا حين سمع النقر المُتردِّد المألوف على بابه.
فنادى يقول في ابتهاج: «ادخُل يا برينت!»
فدخل برينت.
لكنه لم يكن برينت نفسه الذي غادَره آخرَ مرة.
كان ابتهاجه قد ولَّى. كان عرض صدره المُكتسَب حديثًا قد ولَّى.
لم يَعُد كارادين الرائد السبَّاق.
كان مجردَ شابٍّ نحيل يرتدي مِعطفًا فوقيًّا طويلًا جدًّا وواسعًا جدًّا. بدا كارادين صغيرًا ومصدومًا ومفجوعًا.
راقَبه جرانت في حيرةٍ وجزع وهو يجتاز الغُرفة بمشيته الخاملة غير المُتناسِقة. لم تكن توجد مجموعة أوراق بارزة من جيبه الذي يُشبِه كيس البريد.
أوه، حسنًا، فكَّر جرانت بطريقةٍ فلسفية؛ كان الأمر مُمتعًا ما دام مستمرًّا. كان من المُحتَّم أن تطرأ عقبة في مرحلةٍ ما. فلا يمكن للمرء أن يُجريَ أبحاثًا جادَّة بطريقة الهُواة البريئة تلك ويأمُل أن يُثبت شيئًا من خلالها. لا يمكن للمرء أن يتوقَّع أن يدخل شابٌّ هاوٍ سكوتلاند يارد ويحلَّ قضيةً أعجزت المُحترِفين؛ فلماذا ظنَّ نفسه أذكى من المُؤرِّخين. كان يريد أن يُثبت لنفسه أنه كان مُحقًّا في قراءته للوجه في البورتريه؛ أراد أن يمحوَ عارَ وضعِه أحد المجرمين في موضع القضاة بدلًا من أن يضعه في قفص الاتهام. لكن كان سيَتحتَّم عليه أن يتقبَّل خطأه ويُرحِّب به. لعله كان يتمنى ذلك. لعله، في أعماق أعماقه، كان يزداد سرورًا واغتباطًا بنفسه لبراعته في قراءة الوجوه.
«مرحبًا، يا سيد جرانت.»
«مرحبًا، برينت.»
في الواقع كان الأمر أسوأ على الصبي. كان في عمرٍ يتوقَّع فيه حدوث المعجزات. كان لا يزال في عمرٍ يتفاجأ فيه من انفجار بالون.
قال جرانت للشاب مُمازحًا: «تبدو حزينًا.» وأردف: «حدث شيءٌ غير مُتوقَّع.»
«كل شيء.»
جلس كارادين على الكرسي وحدَّق في النافذة.
سأل في عبوس: «ألا تُصيبك هذه العصافير اللعينة بالإحباط؟»
«ما الأمر؟ هل اكتشفت في نهاية المطاف أنه كانت توجد شائعةٌ متداولة عن الصبيَّين قبل موت ريتشارد؟»
«أوه، بل أسوأ من ذلك بكثير.»
«أوه. أهو شيءٌ مكتوب؟ خطاب مثلًا؟»
«لا، ليس الأمر على ذلك النحو على الإطلاق. إنه شيءٌ أسوأ بكثير. شيءٌ جوهري … جوهري للغاية. لا أعرف كيف أُخبرك.» أخذ كارادين يُحملِق في سخط في العصافير المُتناحرة. وقال: «اللعنة على هذه الطيور. لم يَعُد بإمكاني إطلاقًا أن أكتب ذلك الكتاب، يا سيد جرانت.»
«ولمَ لا، يا برينت؟»
«لأن هذا الأمر ليس جديدًا على أي أحد. كان الجميع يعرفون كل تلك الأشياء طيلة الوقت.»
«يعرفون؟ يعرفون ماذا؟»
«أن ريتشارد لم يقتل الصبيَّين، وكل ذلك.»
«كانوا «يعرفون»؟ منذ متى؟!»
«أوه، منذ مئات ومئات من السنين.»
«تماسَكْ يا صديقي. لم يمرَّ على هذا الأمر سوى أربعمائة عام فحسب.»
«أعرف. لكن هذا لا يُشكِّل أي فارق. كان الناس يعرفون أن ريتشارد لم يفعلها منذ مئات ومئات …»
«هلَّا تتوقَّف عن هذا العويل وتتحدث بالمنطق. متى كانت أول مرة بدأ فيها رد الاعتبار هذا؟»
«بدأ؟ أوه، من أول لحظة مُمكِنة.»
«ومتى كان ذلك؟»
«ما إنْ رحل آل تيودور وكان من المأمون أن يتكلم الناس.»
«تقصد في عهد ستيوارت؟»
«أجل، أظن ذلك … أجل. رجل يُدعى باك كتبَ تبرئةً في القرن السابع عشر. وكتب عنها هوراس والبول في القرن الثامن عشر. وشخص يُدعى مارخام في القرن التاسع عشر.»
«ومَن كتب عنه في القرن العشرين؟»
«لا أحد على حد علمي.»
«إذَن ما المشكلة في أن تفعل أنت هذا؟»
«لكن الأمر لن يكون سواءً، ألا ترى؟ لن يكون اكتشافًا عظيمًا!» قالها بتشديد. «اكتشافًا عظيمًا».
ابتسَم له جرانت. وقال: «أوه، بحقك! لا يمكن أن تتوقَّع أن تتوصل إلى «اكتشافاتٍ عظيمة» في منطقةٍ خالية من الأجمات. إن لم تستطع أن تكون سبَّاقًا، فما المشكلة في أن تقود حملةً عظيمة؟»
«حملة عظيمة؟»
«بالتأكيد.»
«علامَ؟»
«على الزيف والوقائع المُزيَّفة مثل أحداث تونيباندي.»
اختفى التبلُّد من وجه الفتى. وفجأةً ظهَر عليه الاستمتاع، وكأنه شخصٌ رأى مزحة لتوِّه.
وعلَّق قائلًا: «هذا أسوأ الأسماء وأسخفها، حقًّا!»
«إن كان الناس ظلوا طوال ثلاثمائة وخمسين عامًا يُشيرون إلى أن ريتشارد لم يقتل ابنَي أخيه، ولا يزال بوسع كِتاب مدرسي أن يقول بكلماتٍ صريحة مباشرة ومن دون تحفُّظ إنه فعل، فيبدو لي أن تزييف التاريخ، ومثال عليه أحداث تونيباندي، مُتقدِّم عليك منذ وقت طويل. حان الوقت لكي تنشغل بالمَهمَّة.»
«لكن ماذا يُمكِنني «أنا» أن أفعل في حين أن أشخاصًا مِثل والبول وأمثاله قد فَشِلوا؟»
«يوجد مَثلٌ قديم عن المياه المستمرَّة الجريان وتأثيرها على الحجر.»
«سيد جرانت، أشعر الآن بشيء من الهُزال والوهن الشديد.»
«لا بد لي أن أقول إنك تبدو كذلك فعلًا. لم أرَ من قبلُ مثلَ هذا الشعور بالشفقة على الذات. وتلك ليست حالةً مزاجية مناسبة للبدء في مناطحة الشعب البريطاني. سوف تفقد الكثير من ثِقَلك فعلًا.»
«أتقصد لأنني لم أكتب كتابًا من قبل؟»
«لا، هذا لا يُهمُّ على الإطلاق. إن أفضل كتاب لدى معظم الكُتَّاب هو كتابهم الأول؛ فهو أكثر كتاب أرادوا كتابته. لا، أقصد أن كل الأشخاص الذين لم يقرءوا كتابَ تاريخ مُطلَقًا منذ تركوا المدرسة سيشعرون بأنهم مُؤهَّلون لإصدار الأحكام على ما كتبت. سيَتَّهمونك بمحاولة تبييض صفحة ريتشارد، ولكلمة «تبييض» مسحةٌ من ازدراء أو انتقاص لا تجدها في كلمة «تبرئة»؛ لذا سيُطلِقون لفظ «تبييض» على ما تفعل. قلة منهم سيبحثون في الموسوعة البريطانية، وسيشعرون بأنهم جديرون ومؤهَّلون للتعمُّق أكثر قليلًا في المسألة. وهؤلاء سيقتلونك بدلًا من أن يسلخوك. ولن يُزعِج المؤرِّخون الجادون أنفُسَهم حتى بملاحظتك.»
فقال كارادين: «قسمًا بالرب لأحمِلنَّهم على ملاحظتي!»
«أحسنت! تبدو تلك الروح أقرب إلى الروح التي ظفِرَت بالإمبراطورية.»
قال كارادين يُذكِّره: «ليس لدينا إمبراطورية.»
فقال جرانت بنبرةٍ صارمة: «أوه، كلَّا، لديكم.» وأضاف: «لكن الفارق الوحيد بين إمبراطوريتنا وإمبراطوريتكم أن إمبراطوريتكم اقتصادية، في نطاقٍ واحد، بينما إمبراطوريتنا على شكل قِطع وأجزاء في سائر أنحاء العالم. هل كنت قد كتبت أي شيء في الكتاب قبل أن تصطدم بحقيقة عدم أصالته المريعة؟»
«أجل، كنت قد أنهيت فصلَين.»
«ماذا فعلت بهما؟ لم تتخلص منهما، أفعلت؟»
«لا. كِدت أفعل. كِدت أرمي بهما في نار المدفأة.»
«ما الذي منعك؟»
قال كارادين: «كانت مدفأةً كهربائية.» ثم مدَّ ساقَيه الطويلتين في حركةٍ تنمُّ عن الاسترخاء، وأخذ يضحك. ثم تابَع قائلًا: «إنني أشعر بتحسُّن بالفعل، يا أخي. لا أُطيق الانتظار حتى أُوجِّه ضربةً ساحقة إلى فم الشعب الإنجليزي مباشرةً باستخدام بضع حقائق عن بلدهم. إن روح كارادين الأول تغلي في عروقي.»
«تبدو تلك حماسةً خبيثة.»
«كان كارادين الأول وغْدًا عجوزًا لا يعرف الهوادة في قطع الأخشاب. بدأ حياته حطَّابًا، وانتهى به الحال إلى امتلاك قلعة على طِراز عصر النهضة ويخْتَين وسيارة خاصة. سيارة تسيرُ على السكة الحديدية. كان بالسيارة ستائر من الحرير الأخضر المُزركَش، وكانت مُرصَّعة بأعمالٍ خشبية يتعين على المرء رؤيتها ليُصدِّق أنها موجودة. يوجد افتراضٌ شائع، لا سيَّما من قِبَل كارادين الثالث، أن دماء آل كارادين آخذة في الوهَن. لكنني الآن أشعر تمامًا كأني كارادين الأول. أعرف تمامًا كيف كان شعور ذلك العجوز حين أراد شراء غابة بعينها وأخبره أحدهم أنه لن يستطيع الحصول عليها. سأُنجز الأمر بكل حماسة يا أخي.»
فقال جرانت بنبرةٍ مُعتدِلة: «هذا رائع.» وأضاف: «كنت أتطلَّع إلى ذلك الإهداء.» ثم أخذ لوحَ الكتابة من فوق الطاولة وأمسك به. وقال: «كنت عاكفًا على تلخيصٍ يُشبِه ما يقوم به رجال الشُّرطة. ربما سيكون ذا عونٍ لك حين تصل إلى مرحلة النهاية في الكتاب.»
أخذ كارادين التلخيص وراح ينظر فيه بإمعان واحترام.
«اقطع الورقة وخذها معك. لقد انتهيت منه.»
فقال كارادين في حزن: «أظن أنك في غضون أسبوع أو اثنَين ستكون مُنشغلًا كثيرًا بتحقيقاتٍ حقيقية، ولن يكون لديك وقت للاعتناء بتحقيقٍ أكاديمي.»
قال جرانت بنبرةٍ صادقة: «لن أستمتع أبدًا بأي تحقيق بقدرِ ما استمتعت بهذا.» ثم نظر بطرْفِ عينه إلى البورتريه الذي كان لا يزال مُستندًا إلى الكتب. واستطرد: «كنتُ مُحطَّمًا أكثرَ مما يمكن أن تُصدِّق حين أتيتَ وقد تمكَّن منك القنوط، وكنت أظنُّ أن الكتاب باء بالفشل.» ثم عاوَد النظر إلى البورتريه وقال: «تظنُّ مارتا أنه يُشبِه لورينزو دي ميديشي قليلًا. ويظنُّ صديقها جيمس أنه وجه قدِّيس. ويظنُّ طبيبي الجرَّاح أنه وجهُ مُعاق. ويظنُّ السيرجنت ويليامز أنه يبدو كقاضٍ عظيم. لكنني أظنُّ أن رئيس المُمرِّضات هو الأقرب إلى الصواب.»
«وماذا تقول؟»
«تقول إنه وجهٌ تعجُّ ملامحه بأشد صور المعاناة وأفظعها.»
«أجل. أجل، أظن أنه كذلك. وما كان المرء ليَعجَب من ذلك في نهاية المطاف.»
«أجل. أجل، لم يهنأ الرجل إلا قليلًا. لا بد أن آخر سنتَين في حياته كانتا ثقيلتَين مُفاجئتين كانهيارٍ ثلجي. كان كل شيء يسير على خيرِ ما يُرام. وكانت إنجلترا في حالة استقرار أخيرًا. والحرب الأهلية تتلاشى من الأذهان، وحكومة قوية صارمة تُحافِظ على السلام، وتجارة رائجة تُحقِّق الرخاء. لا بد أن المشهد عند النظر من ميديلهام عبر وينسليديل كان يبدو مُبشِّرًا بمستقبلٍ رائع. وفي غضون عامَين، فقدَ زوجته وابنه والسلامَ الذي حقَّقه.»
«أعرف أمرًا واحدًا لم يُصِبه.»
«وما هو؟»
«معرفة أن اسمه سيُمثِّل موضع استهجان وسخرية على مر القرون.»
«أجل. كانت تلك ستُصبح الضربة القاصمة. أتعرِف الشيء الذي أجده من وجهةِ نظرٍ شخصيةٍ الأمرَ «الأكثر» إقناعًا في مسألة براءة ريتشارد من أي تخطيط لاغتصاب العرش؟»
«لا، ما هو؟»
«حقيقة أنه تعيَّن عليه أن يرسل في طلب تلك القوات من الشمال حين أذاع ستيلينجتون أخباره. لو كان يعرف مسبقًا ما كان ستيلينجتون سيقوله، أو حتى كانت لديه أي خُطط لتلفيق قصة بمساعدة ستيلينجتون، لكان قد أتى بتلك القوات معه. إن لم يكن إلى لندن فإلى المقاطعات الرئيسية حيث كانت ستصبح عونًا له. إن إرساله على عَجل أولًا إلى يورك ثم إلى أقاربه من آل نيفيل لهو دليل على أن اعتراف ستيلينجتون أخذه على حين غِرَّة تمامًا.»
«أجل. لقد أتى بصحبة حاشيته من السادة مُتوقِّعًا أن يتسلَّم العرش. فجابه أخبار اضطرابات آل وودفيل حين أتى إلى نورثهامبتون، لكن ذلك لم يُزعزِعه. فاجتثَّ شوكة الألفَي شخص من آل وودفيل، وتابَع طريقه إلى لندن كأنَّ شيئًا لم يكن. وكان لم يزل أمامه سوى تتويج تقليدي بحدِّ علمه. ولم يرسل في طلب قوات تابعة له إلا حين اعترف ستيلينجتون أمام المجلس. وكان عليه أن يرسل خطابًا إلى شمال إنجلترا في مثل هذه اللحظة الحرِجة. أجل، أنت مُحقٌّ بالطبع. لقد أُخِذ على حين غِرَّة.» ثم عدَّل بسبَّابته ذراعَ نظارته بحركته المعهودة، وقدَّم دليلًا مُصاحبًا. «أتعرِف ما الذي أجده أكثر إقناعًا في قضية جُرم هنري؟»
«ماذا؟»
«الغموض.»
«الغموض؟»
«الغموض. التكتُّم. الأعمال القذرة التي تتم بسِرِّية.»
«أتقصد أن هذا من سِماته الشخصية؟»
«لا، لا، لا شيء ماكر بقدرِ الغموض. ألا ترى؛ لم يكن ريتشارد بحاجة لأي غموض، لكن قضية هنري برُمَّتها تعتمد على أن تكون نهاية الصبيَّين غامضة. لم يستطِع أحد قطُّ أن يتوصَّل إلى مُبرِّر لهذه الطريقة القذرة والسِّرية التي من المُفترَض أن ريتشارد قد استخدمها. كان ارتكاب الجريمة بهذه الطريقة ضربًا من الجنون. ولم يكن يمكنه أن يأمُل في أن ينجوَ بفَعلته. إذ كان سيَتحتَّم عليه إن عاجلًا أو آجلًا أن يُفسِّر سبب عدم وجود الصبيَّين. وبقدرِ عِلمه كانت أمامه فترةٌ طويلة من الحكم. ولم يستطِع أحد قطُّ أن يُفكِّر في سبب اختياره لهذه الطريقة الصعبة الخطيرة، في حين أنه كان أمامه أساليب وطُرقٌ أكثر بساطة. لم يكن عليه سوى أن يخنق الصبيَّين، ويُرقِدهما في نعشهما بينما تمرُّ عليهما لندن بأَسرِها وتنتحب على صبيَّين ماتا قبل أوانهما بسبب الحُمَّى. كانت تلك هي الطريقة التي كان «من شأنه» أن يُنجِز الأمر بها، أيضًا. يا إلهي، كانت «الغاية» من قتلِ ريتشارد الصبيَّين أن يمنع قيام أي انتفاضة من أجلهما، ولكي يحصل على أي نفع من القتل كان عليه أن يُعلِن نبأ وفاتهما على العامة، وبأسرعِ ما يمكنه. لو لم «يعرف» الناس بموت الصبيَّين فمن شأن هذا أن يُقوِّض خُطته برُمَّتها. أما هنري فكان مُختلفًا. كان «يتعيَّن» على هنري أن يجد طريقة ليُبعدهما عن الأنظار. «تعيَّن» على هنري أن يكون غامضًا. «تعيَّن» على هنري أن يخفيَ حقيقة توقيت وفاتهما وكيفيتها. كان هنري يعتمد في «القضية برُمَّتها» على عدم معرفة أحد بما حدث بالضبط للصبيَّين.»
قال جرانت مُبتسمًا في وجه المستشار اليافع المُتحمِّس: «هذا صحيح يا برينت، صحيح بكل تأكيد.» وتابع: «ينبغي لك أن تكون في سكوتلاند يارد يا سيد كارادين!»
فضحكَ برينت.
وقال: «سأكتفي بالبحث في تزييف الحقائق التاريخية مِثل أحداث تونيباندي.» وأضاف: «أُراهن أنه يوجد الكثير من الوقائع المُماثلة التي لا نعرف عنها شيئًا. أُراهن على أنَّ كتب التاريخ مليئة بها.»
قال جرانت: «بالمناسبة، حريٌّ بك أن تأخذ كتاب السير كوثبرت أوليفانت معك.» ثم أخرج المجلَّد الضخم المهيب من الدُّرج. وقال: «ينبغي أن يُلزَم المؤرِّخون بدراسة علم النفس قبل أن يُسمح لهم بالكتابة.»
«هه. لن يُفيدهم ذلك بأي شيء. إن الشخص الذي يهتمُّ بالأشياء التي تجعل الناس يتصرفون بسلوكٍ مُعيَّن لا يكتب التاريخ. إنما يكتب الروايات، أو يصبح طبيبًا نفسيًّا، أو قاضيًا …»
«أو مُحتالًا.»
«أو مُحتالًا. أو عرَّافًا. إن الرجل الذي يفهم طبائع الناس لا يتوق على الإطلاق لكتابة التاريخ. فالتاريخ بمثابة دُمَى جنود.»
«أوه، بحقك. ألا ترى أنك مُتزمِّت بعض الشيء في رأيك هذا؟ إن التاريخ مجالٌ واسع للتثقيف والاطلاع على …»
«أوه، لم أقصد ما فهِمتَه. أقصد أنه عبارة عن تحريك دُمًى صغيرة هنا وهناك على رقعةٍ مُسطَّحة. إنه منتصف الطريق إلى الرياضيات، حين تُفكِّر في الأمر.»
فقال جرانت بمكرٍ فجأةً: «إذَن لو كان فيه من سمات الرياضيات فليس للمُؤرِّخين الحق في أن يُقحِموا فيه الأخبارَ القائمة على الشائعات والنميمة.» ما برِحَت ذكرى مور المعظم تُزعِجه. أخذ يُقلِّب في صفحات كتاب السير كوثبرت الضخم المهيب يُطالعه مطالعةَ المودِّع. وحين وصل إلى الصفحات الأخيرة، تباطأت سرعة تقليبه للصفحات حتى توقَّفت.
وقال: «غريب هو مدى استعدادهم لمنح رجل صفةَ الشجاعة في المعركة. ليس لديهم سوى مرويَّات تراثية، ومع ذلك لا أحدَ منهم يتشكك في أمرها. بل في الواقع، لا أحدَ منهم يَقصُر عن التأكيد عليها.»
فقال كارادين مُذكِّرًا إياه: «كانت هذه إشادة من عَدُو. إذ بدأت المرويات التراثية بقصيدةٍ قصصية كتبَها الجانب الآخر.»
«أجل. على يد رجل من آل ستانلي. «ثم قال فارس إلى الملك ريتشارد» إنها هنا في مكانٍ ما.» قلَّب صفحة أو صفحتَين من الكتاب حتى وجد ما كان يبحث عنه. وأضاف: «كان ذلك الفارس هو «السير ويليام هارينجتون الصالح». ذلك هو الفارس المعني.»
«لن ينجوَ رجُل من ضرباتهم؛ فقوَّات ستانلي قوية جدًّا (أولئك الخونة الملاعين!)»
يمكنك أن تعود مع مدٍّ آخر؛ إذ أظنُّ أنك بقيت هنا طويلًا،
جوادك مستعدٌّ طوع إشارتك، وربما يكون النصر حليفك في يومٍ آخر،
وتعود وتحكم بسُموٍّ ملكي، وتضع تاجك وتكون مليكنا.
«لا، أعطِني فأس الحرب في يدي، وضَعْ تاجَ إنجلترا عاليًا على رأسي.
أُقسمُ بمن بسطَ الأرض ولجَّ البحر، لَأمُوتنَّ اليوم ملِكًا لإنجلترا.
لن أفرَّ ولو خطوةً واحدة ما دام بين ضلوعي نفَسٌ يتردد.»
«وحدث ما قاله؛ إذا كان فقدَ حياتَه فقدْ مات ملِكًا.»
قال كارادين يُفكِّر: ««ضعْ تاجَ إنجلترا على رأسي.»» واستطرد: «ذلك كان التاج الذي عُثِر عليه في أجَمة هوثورن بعد ذلك.»
«أجل. أُخِذ غنيمةً على الأرجح.»
«اعتدتُ أن أتصوَّره أحد تلك الأشياء الفخمة التي تُوِّج الملك جورج فيها، لكن يبدو أنه كان مجرد حَلْقة ذهبية.»
«أجل. كان يمكن ارتداؤها على خوذة المعركة.»
فقال كارادين فجأةً: «يا إلهي، من المُؤكَّد أنني كنت سأكره أن أرتديَ هذا التاج لو كنت مكان هنري! من المؤكد أنني كنت سأكرهه!» ثم صمت قليلًا، وقال: «أتعرف ما كتبته مدينة يورك — كُتِب في سجلاتهم — عن معركة بوسوورث؟»
«لا.»
«كتبوا: «في هذا اليوم قُتِل ملِكُنا الصالح ريتشارد، أُصيبَت هذه المدينة بحزنٍ عظيم».»
كان صوت زقزقة العصافير عاليًا أثناء الصمت.
فقال جرانت أخيرًا بنبرةٍ جافَّة للغاية: «هذا ليس نعيَ مُغتصِبٍ مكروه.»
قال كارادين: «لا، لا.» ثم أخذ يُكرِّر: «أُصيبَت هذه المدينة بحزنٍ عظيم» ببطء، وأخذ يُقلِّب العبارة في ذهنه. واستطرد: «اهتمُّوا كثيرًا بما حدث لدرجة أنهم، حتى مع وجود نظام جديد يلوح في الأفق ومستقبلٍ لا يمكنهم توقُّعه، كتبوا في سجلات المدينة رأيهم؛ وهو أن ما حدث كان اغتيالًا، وعبَّروا عن حزنهم تجاهه.»
«لعلهم كانوا قد سمِعوا بالتمثيل الذي ارتُكِب بحق جثة الملك وشعروا بالاشمئزاز قليلًا.»
«أجل. أجل. فالمرء لا يُحبُّ أن يتخيَّل رجلًا أحبه وأكنَّ له الإعجاب مطروحًا مجردًا من ثيابه، ويتأرجح على ظهرِ مُهرٍ كحيوانٍ ميت.»
«لا يُحبُّ المرء أن يتخيَّل حتى عدوَّه بهذا الشكل. لكن رقة الشعور ليست صفةً يمكن للمرء أن يبحث عنها بين عُصبة هنري ومورتون.»
فقال برينت، مُتلفِّظًا بالكلمة كأنه يبصقها لمذاقها السيئ: «هه. مورتون!» واستطرد: «لم يكن أحد «حزينًا» حين مات مورتون، صدِّقني. أتعرِف ما كتب عنه المؤرِّخ؟ أقصد مؤرِّخ لندن. كتب يقول: «في زمننا لم يكن يوجد له مثيل يُقارَن به في كل شيء؛ رغم أنه عاش وسط كراهية العامة في هذه الأرض وازدرائهم الكبير تجاهه».»
التفت جرانت لينظر إلى الصورة التي رافقته لأيام وليالٍ عديدة.
ثم قال: «أتعرِف، مع كل نجاحاته ومع منصب الكاردينال الذي تولَّاه، أظن أن مورتون كان هو الخاسر في تلك المعركة مع ريتشارد الثالث. رغم هزيمة ريتشارد والتشهير به طويلًا، كان هو من خرج بحالٍ أفضل من بين هذين الاثنين. كان محبوبًا في عهده.»
فقال الفتى في رصانة: «هذا الرثاء ليس سيئًا.»
فقال جرانت وهو يُغلِق كتاب أوليفانت للمرة الأخيرة: «لا. ليس رثاءً سيئًا على الإطلاق.» «ما كان رجالٌ كثيرون سيَرغبون في أفضل من ذلك.» ثم سلَّم الكتاب إلى مالكه. وقال: «قلةٌ فقط من استحقُّوا هذا القدر.»
وحين غادَر كارادين، بدأ جرانت يُفرِز الأشياء الموجودة على طاولته؛ استعدادًا لعودته إلى المنزل في اليوم التالي. يمكن للروايات الأنيقة غير المقروءة أن تذهب إلى مكتبة المستشفى لتُدخِل السرور على صدورٍ أخرى غير صدره. لكنه سيحتفظ بالكتاب الذي به صور الجبال. وعليه أن يتذكَّر أن يُعيد إلى «الأمازونية» كتابَي التاريخ. بحثَ عنهما حتى يُعطيَها إياهما حين تأتيه بوجبة العشاء. وقرأ مرةً أخرى، للمرة الأولى منذ أن بدأ بحثه عن حقيقة ريتشارد، حكاية الكتاب المدرسي عن شرِّه وطغيانه. كانت القصة الشائنة ماثلةً أمامه بحروفٍ سوداء لا لَبْس فيها على صفحاتٍ بيضاء. من دون «لعل» أو «ربما». من دون تساؤلات أو تحفظات.
وبينما كان على وشك أن يُغلِق أكبر الكتابَين وقعت عينه على فترة حكم الملك هنري السابع، فقرأ: «كانت سياسة آل تيودور المستقرة والمعتبرة هي أن يتخلَّصوا من كل مُنافسيهم على العرش، خاصةً أولئك الورثة من آل يورك الذين كانوا لا يزالون على قيد الحياة عند جلوس هنري السابع على العرش. وقد نجحوا في ذلك، رغم أن هنري الثامن كان قد تبقَّى له أن يتخلَّص من آخرهم.»
حدَّق جرانت في هذا البيان الصريح. هذا القَبول المُسالِم بعمليات القتل الكثيرة. هذا الاعتراف البسيط بعملية إبادة أُسرة.
لقد نُسِب لريتشارد الثالث القضاء على ابنَي أخيه، وكان اسمه مُرادفًا للشر. أما هنري السابع، الذي كانت «سياسته المستقرة والمعتبرة» هي القضاء على أُسرة بأكملها، فكان يُنظَر إليه باعتباره ملِكًا داهيةً بعيدَ النظر. ربما لم يكن محبوبًا جدًّا، لكنه كان ذا هدف ومُثابرًا بالإضافة إلى كونه ناجحًا جدًّا.
هنا استسلم جرانت. كان التاريخ يُمثِّل له شيئًا لن يمكنه أن يفهمه أبدًا.
كانت القيم لدى المؤرِّخين مختلفة اختلافًا كبيرًا وجَذريًّا عن أي قيم كان يعرفها، لدرجةِ أنه لم يكن يأمُل قطُّ أن يجتمع معهم على أي أرضية مشتركة. سيعود إلى سكوتلاند يارد، حيث كان القتلة قتلة، وما كان يسري على واحد كان يسري على قَدمِ المساواة على الآخر.
وضع جرانت الكتابَين معًا بطريقةٍ مُنمَّقة، وحين أتت «الأمازونية» بالخوخ المفروم المطهو أعطاها إياهما مع كلمات شكر وعِرفان. كان يشعر بالامتنان فعلًا تجاه «الأمازونية». لولا أنها كانت تحتفظ بكتب دراستها لما شرع في طريقه الذي قاده إلى معرفته بريتشارد بلانتاجانت.
بَدت «الأمازونية» مُرتبِكةً مُندهِشة من أسلوبه اللطيف، وتساءل جرانت في نفسه عما إن كان فظًّا للغاية أثناء مرضه حتى إنها لم تتوقَّع منه سوى الانتقاد. كانت هذه الفكرة مُهينة ومُخزية له.
قالت: «سنفتقدك»، وبدا كأن عينَيها الكبيرتين كانتا على وَشْك أن تذرفا. أضافت: «لقد اعتدنا وجودَك هنا. بل إننا حتى اعتدنا ذاك.» وحرَّكت مِرفقها في اتجاه البورتريه.
برزت في رأسه فكرة.
فسألها: «هلا تفعلين شيئًا من أجلي؟»
«بالطبع. أي شيء بوسعي فِعله.»
«هلَّا تأخذين تلك الصورة باتجاه النافذة وتنظرين إليها في ضوءٍ جيد لنفس المدة التي تستغرقينها لقياس نبض أحدهم؟»
«أجل بالطبع، إن كنت تريد مني أن أفعل ذلك. ولكن لماذا؟»
«لا عليكِ. فقط افعلي هذا من أجلي. سأحسب لكِ الوقت.»
فالتقطت الصورة وتحرَّكت نحو الضوء الآتي من النافذة.
راح يَرقُب عقرب الثواني في ساعته.
تركها مدة خمس وأربعين ثانية، ثم قال: «حسنًا؟» وإذ لم يجد منها إجابةً فورية، قال ثانيةً: «حسنًا؟»
فقالت: «غريب.» وأضافت: «حين تنظر إليها قليلًا تجد أنه وجهٌ لطيف حقًّا، أليس كذلك؟»