الفصل السابع
كان جرانت قد أطفأ المِصباح الموجود بجوار سريره تلك الليلة، وكان ناعسًا، حين قال له صوت في رأسه: «لكن توماس مور كان هو هنري الثامن.»
أقضَّ هذا مَضجعه، وأطار من عينه النعاس. فأنار المِصباح مرةً أخرى.
لم يكن ما يَعنيه الصوت بالطبع أن توماس مور وهنري الثامن كانا شخصًا واحدًا، لكنه كان يقصد أن توماس مور ينتمي إلى عهد الملك هنري الثامن عند تصنيف الشخصيات بحسب فترات حُكم الملوك الذين عاصَروهم.
رقد جرانت على فِراشه يَنظُر إلى بُقعة الضوء التي خلَّفها مِصباحه على السقف وأخذ يفكِّر. إن كان توماس مور هو مستشار الملك هنري الثامن، فلا بد إذَن أنه عاش طيلة عهده الطويل، وكذلك طيلة عهد ريتشارد الثالث. كان ثَمة خَطب في موضعٍ ما.
مدَّ يده وأمسك بكتاب توماس مور «تاريخ ريتشارد الثالث». كان يحتوي على مقدمة، هي مُختصر لحياة مور، لم يكن جرانت قد كلَّف نفسه عناء قراءتها. أما الآن فقد توجَّه إلى تلك المُقدمة ليعرف كيف كان مور مؤرخًا لعهد الملك ريتشارد الثالث وكذلك مُستشارًا للملك هنري الثامن. كم كان عمر مور حين تولَّى ريتشارد خلافة العرش؟
كان في الخامسة من عمره.
حين وقع ذلك المشهد الدرامي للمجلس في البرج، كان توماس مور في الخامسة من عمره. وكان في الثامنة فقط حين مات ريتشارد في بوسوورث.
كل شيء في ذلك التأريخ كان عبارةً عن أقوالٍ مُرسَلة.
وإن كانت تُوجد عبارةٌ واحدة يمقتها أي رجل شرطة أكثر من أي عبارة أخرى فهي عبارة «أقوال مُرسَلة». وخاصةً حين تُستخدَم دليلًا.
كان جرانت يشعر بالتقزز الشديد، حتى إنه ألقى بالكتاب الثمين على الأرض قبل أن يتذكَّر أنه مِلك للمكتبة العامة، وأن الكتاب مُعار له لمدة أربعة عشر يومًا.
لم يعرف مور ريتشارد الثالث على الإطلاق. لا شكَّ في أنه نشأ بالفعل في ظل عهد ملك من ملوك آل تيودور. كان ذلك الكتاب بمثابة الكتاب المُقدَّس في عالم التأريخ عن فترة الملك ريتشارد الثالث؛ ومن سردِه استقى هولينشيد مادة أعماله، ومنه كتب شكسبير مسرحياته، وفيما عدا أن مور كان يعتقد بالفعل بصحَّةِ ما كتب فإنه لم يكن شيئًا ذا قيمةٍ أكثر ممَّا قال عنه الجندي. كان كتاب مور بمثابة ما وصفَتْهُ لورا ابنة عمومته بأنه «ثلج على الحذاء». كان عبارة عن حدث «ذي مِصداقية تُعادل مِصداقية الكتاب المُقدَّس» رآه شخصٌ ما بخلاف الراوي. كان تمتُّع مور بعقلية ناقدة ونزاهة مُثيرة للإعجاب لا يجعل من قصته دليلًا مقبولًا. لقد قبِلَتْ عقول أخرى كثيرة مُثيرة للإعجاب بتلك القصة عن مرور القوات الروسية عبر بريطانيا. لقد تعامل جرانت لوقتٍ طويل للغاية مع الذَّكاء البشري بحيث لم يكن من المُمكن أن يقبل بصحة رواية شخصٍ ما عن رواية شخصٍ ما لما تذكَّره أو رآه أو أُخبِر به.
كان جرانت يشعر بالتقزز.
عند أول فرصة تسنح له يجب أن يحصل على سردٍ مُعاصر فعليًّا للأحداث التي وقعت في عهد ريتشارد القصير في المُلك. يمكن للمكتبة العامة أن تستعيد كتاب السير توماس مور غدًا، ولتذهب مُهلة الأربعة عشر يومًا إلى الجحيم. لم تُمثِّل حقيقة أن السير توماس كان شهيدًا وعقليةً فائقة أيَّ فارق على الإطلاق مع آلان جرانت. إذ كان آلان جرانت قد عرَف الكثير من العقول العظيمة غير الناقدة التي كان يمكن لأصحابها أن يُصدِّقوا قصةً تجعل وجه مُحتالٍ يحمرُّ من الخجل. كان قد عرَف عالِمًا كبيرًا كان مُقتنعًا بأن قِطعة من شاش الزبد هي عمَّته الكُبرى صوفيا؛ لأن وسيطًا روحانيًّا أُميًّا من أزقَّة بلايموث قال له ذلك. وكان قد عرَف رَجلًا كان حُجَّة في «العقل البشري وتطوُّره»، ومع كل ما كان لديه من علمٍ تعرَّض للخداع على يد وغد مُخادِع لا أمل في إصلاحه؛ لأنه «اعتمد في الحكم على الأمور على نفسه وليس بناءً على تقارير الشرطة». من وجهة نظر آلان جرانت، لم يكن يُوجَد أحدٌ غير مُمحِّص أو على قدرٍ كبير من السذاجة مِثل أصحاب العقليات العظيمة. وفيما يخصُّ آلان جرانت، فقد مُحِي توماس مور وأُلغيَ وجوده وشُطِب، وسيبدأ آلان جرانت من الصِّفر مرةً أخرى صباح يوم غد.
كان ما زال في حالة حنَق عبثية حين غلبه النوم، واستيقظ حانقًا.
عندما ظهر جسد «الأمازونية» الضخم عبر الباب، قال لها جرانت بنبرة اتهام: «أتعرِفين أن السير توماس مور الذي كنتِ تمدحينه لم يكن يعرف شيئًا عن ريتشارد الثالث على الإطلاق؟»
بدَت مذهولة، ليس ممَّا قاله، ولكن من حِدَّته في الحديث. بدا كأن عينَيها ستذرفان الدموع لو نطقَ بكلمةٍ فظَّة أُخرى.
قالت مُعترِضة: «بالطبع كان يعرف!» وتابعت: «لقد عاش في تلك الحِقبة.»
قال جرانت بلا هوادة: «كان في الثامنة من عمره حين مات ريتشارد.» وأردف: «وكل ما عرَفه كان ما قيل له. مِثلي. ومِثلك. ومِثل ويل روجرز الطيِّب الذِّكر. إن تأريخ السير توماس مور لسيرة ريتشارد الثالث لا يستحقُّ أيَّ تبجيل على الإطلاق. إنه محضُ أقوالٍ مُرسَلة لَعينة وخداع.»
سألته المُمرِّضة بقلق: «أتشعُر بأنك لستَ على ما يُرام هذا الصباح؟» واستطردت: «أتظنُّ أن حرارتك ارتفعت؟»
«لا أعرف إن كانت حرارتي قد ارتفعت، ولكن ضغط دمي ارتفع كثيرًا.»
فقالت وقد أخذت كلامه حرفيًّا: «أوه، يا إلهي، يا إلهي.» وأضافت: «لقد كانت صِحَّتك تتحسَّن تحسُّنًا جيدًا للغاية. ستشعر المُمرِّضة إنجهام بالأسى كثيرًا. لقد كانت تتباهى بتعافيك جيدًا.»
كانت رؤية «القزمة» لجرانت على أنه مادة للتباهي تُمثِّل فكرةً جديدة عليه، لكنها لم تُشعِره بالعِرفان والرضا. فعزم جِديًّا على أن يعمل على ارتفاع درجة حرارته إن تمكَّن من فعل ذلك؛ فقط لكي يُحقِّر من «القزمة».
لكن زيارة مارتا الصباحية صرفَته عن تَجرِبة قوة العقل على المادة التي كان عازمًا عليها.
بدا أنَّ مارتا كانت تتباهى بصحَّته الذهنية بنفس القدر الذي تتباهى به «القزمة» بتحسُّنه الجسدي. كانت مسرورةً أنَّ بحثها مع جيمس في المطبعة قد آتى ثماره.
فسألته: «هل اتخذتَ قرارًا بشأن بيركن واربيك إذَن؟»
«لا. ليس واربيك. أخبريني، ما الذي حملكِ على أن تُحضري لي بورتريهًا لريتشارد الثالث؟ هل يُوجَد سرٌّ أو لُغز بشأن ريتشارد؟»
«لا. أظنُّ أننا أخذناه بوصفه رسمًا توضيحيًّا لقصة واربيك. لا، مهلًا. تذكَّرت. لقد رفعه جيمس وقال: «إن كان مُولَعًا بالوجوه، فيُوجَد وجه لأجله!» وقال: «هذا هو القاتل الأكثر شهرةً في التاريخ، ومع ذلك فإنَّ وجهه في تقديري وجه قدِّيس».»
قال جرانت: «قديس!» ثُم تذكَّر شيئًا ما. فتابع يقول: «ضميرٌ يقِظ على نحوٍ مُفرِط.»
«ماذا؟»
«لا شيء. كنتُ أتذكَّر فقط أول انطباعاتي عن البورتريه. هل هكذا بدا لكِ؛ وجه قديس؟»
نظرَت إلى الصورة المُستنِدة على كومة الكتُب. وقالت: «لا يُمكنني أن أراها في مواجهة الضوء»، والتقطتها لتُلقيَ نظرةً أكثر تفحصًا.
فجأةً تذكَّر جرانت أن الوجوه كانت تُمثِّل لمارتا، وكذلك بالنسبة للسيرجنت ويليامز، مسألةً مهنية. انحراف الحاجب، وشكل الفم كان يُمثِّل دليلًا لمارتا على الشخصية بالقدر نفسه الذي كان يُمثله ذلك لويليامز. لا شكَّ في أنها هي نفسها اتخذت وجوهًا تُلائم الشخصيات التي لَعِبتها.
«تظنُّ المُمرِّضة إنجهام أنه كئيب وحزين. وتظنُّ المُمرِّضة دارول أنه مُرعِب. وجرَّاحي يرى أنه ضحية لمرض شلل الأطفال. أما في نظر السيرجنت ويليامز فهو قاضٍ بالفطرة. وتظنُّ رئيسة المُمرِّضات أنه روحٌ مُعذَّبة.»
لم تنطق مارتا بشيء لبُرهةٍ قصيرة. ثم قال: «أتدري، إنه أمرٌ غريب. حين تنظر إليه للمرة الأولى تظنُّ أن وجهه خبيث ومُثير للريبة. بل قد تظن حتى أنه عُدواني. لكن حين تُطيل النظر إليه بعض الشيء تجِد أنه ليس كذلك على الإطلاق. إنه هادئ إلى حدٍّ بعيد. إنه وجهٌ لطيف ودمِث حقًّا، ربما كان هذا ما يعنيه جيمس بقوله إنه يُشبِه القدِّيسين.»
«لا. لا، لا أظن ذلك. ما كان يقصده هو … الخضوع للضمير.»
«أيًّا ما كان، إنه «وجه»، هكذا هو! ليس مجرد مجموعة من الأعضاء التي تؤدي وظائف الرؤية والتنفس وتناول الطعام. إنه وجهٌ رائع. وبتعديلٍ بسيط للغاية، يمكن أن يكون هذا بورتريهًا للورينزو العظيم.»
«أتفترضين أن هذا هو لورينزو وأننا نحسبه رجلًا آخر تمامًا؟»
«بالطبع لا. لمَ تظنُّ ذلك؟»
«لأن لا شيء في الوجه يُلائم حقائق التاريخ. كما أنَّ الصور قد اختلطت من قبل.»
«أوه، أجل، حدث ذلك بالطبع. لكن ذلك هو ريتشارد بلا شك. الصورة الأصلية، أو ما يُفترَض أنها الصورة الأصلية، موجودة في قلعة ويندسور. أخبرَني جيمس بذلك. إنها موجودة ضِمن قائمة موجودات هنري الثامن؛ لذا فهي هناك منذ أربعمائة عام أو نحو ذلك. وتُوجَد نُسَخ مُطابقة لها في بلدتَي هاتفيلد وأولبري.»
فقال جرانت في استسلام: «إنه ريتشارد.» وأردف: «كل ما في الأمر أنني لا أفقه شيئًا فيما يتعلق بالوجوه. أتعرفين أحدًا في المتحف البريطاني؟»
سألته مارتا، وانتباهها لا يزال مُنصبًّا على الصورة: «في المتحف البريطاني؟» وتابعت: «لا، لا أظن ذلك. ليس بحسب ما أستطيع أن أتذكَّر في الوقت الراهن. لقد ذهبت إلى هناك مرةً واحدة لأُشاهد المجوهرات المصرية، حين كنت أؤدِّي دور كليوباترا مع جيفري؛ هل شاهدتَ من قبلُ مسرحية «أنتوني» لجيفري؟ كانت راقية الذوق للغاية، لكن المكان يُثير بداخلي الخوف. يا له من تجميع للعصور. لقد جعلني بالمشاعر نفسها التي تُثيرها فيك النجوم؛ أنني ضئيلة وبلا قيمة. ماذا تريد من المتحف البريطاني؟»
«أردتُ بعض المعلومات عن التاريخ المكتوب في أيام ريتشارد الثالث. كتابات سردية مُعاصرة.»
«ألم يُجدِ السير توماس المُبجَّل نفعًا إذَن؟»
قال جرانت في غِل: «سردُ السير توماس المُبجَّل ليس سوى شائعات قديمة.» كان قد أصبح يشعر ببغُضٍ شديد لمور الذي كان يحوز إعجاب الكثيرين.
«أوه، يا إلهي. مع أن الرجل اللطيف من المكتبة بدا أنه يُبجِّله كثيرًا. قال إن هذا هو «إنجيل ريتشارد الثالث طبقًا لما ورد عن القدِّيس توماس مور»، وما إلى ذلك.»
قال جرانت بوقاحة: «هو أبعَدُ ما يكون عن الإنجيل.» وأردف: «كان توماس مور يكتب أيام حُكم آل تيودور ما أخبره به أحدٌ ما عن الأحداث التي وقعت في إنجلترا أيام حُكم آل بلانتاجانت حين كان مور نفسه في الخامسة من عمره.»
«في الخامسة من عمره؟»
«أجل.»
«أوه، يا إلهي. ليس مصدرًا موثوقًا منه إذَن.»
«لم يكن ذلك حتى وقت وقوع الأحداث مباشرةً. فكِّري في الأمر، إنَّ سرده موثوق بقدرِ موثوقية نصائح وكيل الرهانات. لقد كان يعيش في عصرٍ مُختلف تمامًا. وإن كان خادمًا لآل تيودور فقد كان يُلقي كذبًا باللائمة على ريتشارد الثالث.»
«أجل. أجل، أظن ذلك. ماذا تُريد أن تكتشف بشأن ريتشارد، ما دام لا يُوجَد أي غموض لتبحث فيه؟»
«أُريد أن أعرف ما الذي أفقَده صوابه. ذلك لُغزٌ أعمق من أي شيء واجهتُه مؤخرًا. ما الذي غيَّره بين ليلة وضُحاها تقريبًا؟ حتى لحظة وفاة أخيه كان يبدو أنه جديرٌ بالإعجاب للغاية. كان مُخلِصًا في ولائه لأخيه.»
«أظن أن الشرف الأسمى لا بدَّ أن يُمثِّل مصدر إغراء دومًا.»
«كان وصيًّا على العرش حتى بلوع الصبي السِّن القانونية، كان حاميًا لإنجلترا. وبتاريخه السابق، يحسب المرء أن هذا كان من شأنه أن يكون كافيًا له. كان المرء سيَظنُّ بالطبع أن هذا يروق له؛ كونه حاميًا لكلٍّ من ابن إدوارد والمملكة.»
«ربما كان الصبي غير مُحتمَل، وكان ريتشارد يتوق «لتلقينه» درسًا. من الغريب أننا لا نرى الضحايا إلا ملائكةً بريئة. مثل يوسف في الكتاب المُقدَّس. في الواقع، أنا واثقة من أنه كان شابًّا لا يُطاق إلى حدٍّ بعيد، وأن طرحه في البئر كان قد طال انتظاره. ربما كان ابن إدوارد يُطيل السَّهر ويحتاج إلى من يُسكِته.»
فقال جرانت مُذكِّرًا إيَّاها: «كانا اثنين من الأبناء.»
«أجل، بالطبع. بالطبع لا يُوجَد تفسير. كان تصرُّفًا في غاية الهمجية. يا لهما من مِسكينَين هذان الحَمَلان الصغيران المُزغبان! أوه!»
«لماذا «أوه» هذه؟»
«فكَّرتُ لتوِّي في شيء. الحَمَلان الصغيران المُزغبان جعلاني أُفكِّر فيه.»
«ما هو؟»
«لا، لن أُخبرك تحسُّبًا لئلَّا ينجح الأمر. يجب أن أُغادر الآن.»
«هل تمكَّنتِ من إقناع مادلين مارش بكتابة المسرحية؟»
«حسنًا، في الواقع، لم تُوقِّع عقدًا بعد، لكن أظن أنها اقتنعت بالفكرة. إلى اللقاء يا عزيزي. سأُعرِّج عليك مُجدَّدًا في القريب.»
غادرت مارتا، ومرَّت مُسرعةً بجوار «الأمازونية» التي فوجئت بها فاحمرَّ وجهها خجلًا، ولم يتذكَّر جرانت أيَّ شيء عن الحُملان المُزغبة حتى أتاه حمَل مُزغب إلى غُرفته في مساء اليوم التالي. كان الحَمَل المُزغب يرتدي نظارةً ذات إطارٍ سميك مصنوع من قرون الحيوانات؛ الأمر الذي أكَّد التشابه بطريقةٍ غريبة بدلًا من أن يَصرِف الانتباه عنه. كان جرانت غافيًا، ويشعر بسكينةٍ أكثر ممَّا كان يشعر منذ مدة؛ وكما أشارت رئيسة المُمرِّضات، كان التاريخ طريقةً ممتازة لكي يضع المرء الأمور في نِصابها. أتى صوت الطَّرق على بابه مُتردِّدًا جدًّا حتى إن جرانت اعتقد أنه كان يتخيَّله. فليس من المُلائم أن يتَّسِم الطَّرْق على أبواب المستشفيات بالتردُّد. لكنَّ شيئًا ما جعله يقول: «ادخُل!» وعندما فُتِح الباب ظهر مَن كان بالتأكيد حَمَل مارتا المُزغِب، حتى إن جرانت ضحك بصوتٍ عالٍ قبل أن يتمكن من كَبحِ نفسه.
بدا الشابُّ مُحرَجًا، وابتسم في توتُّر وعصبية، وحرَّك النظارة على أنفه بإصبع سبَّابة طويل ونحيف، ثم تنحنح وقال:
«سيد جرانت؟ اسمي كارادين. برينت كارادين. آمُل ألا أكون قد أزعجتُك أثناء راحتك.»
«لا، لا. تعالَ يا سيد كارادين. أنا مسرور لرؤيتك.»
«مارتا، أو بالأحرى الآنسة هالارد، أرسلَتْني. قالت إنني يُمكن أن أُقدِّم لك بعض العون.»
«هل قالت لك كيف؟ اجلس. ستجد كُرسيًّا هناك خلف الباب. أحضِرْه إلى هنا.»
كان الشابُّ طويلًا وحاسِرَ الرأس، وشَعره أشقر ذو تجاعيد ناعمة تُزيِّن جبهته، ويرتدي مِعطفًا صوفيًّا واسعًا جدًّا يتدلَّى بأزرارٍ مفتوحة حول جسده في طيَّات مُهمَلة، أقرب إلى الطريقة الأمريكية. كان من الواضح أنه بالفعل أمريكي. أحضر الكرسيَّ واستقرَّ عليه والمِعطفُ مبسوطٌ حوله كأنه رداءٌ ملكي، ثم نظر إلى جرانت بعينَين بُنِّيتَين رقيقتَين لم يستطع حتى إطار نظارته أن يُخفيَ سِحرهما وبَريقهما.
«مارتا، أو بالأحرى الآنسة هالارد، قالت إنك تُريد البحث عن شيء.»
«وهل أنت باحث؟»
«أنا أُجري بعض الأبحاث، هنا في لندن. أقصد أبحاثًا تاريخية. وقد قالت شيئًا عن أنك تُريد شيئًا في هذا الصدد. إنها تعرف أنَّني أعمل في المتحف البريطاني في صباح معظم الأيام. سيَسرُّني كثيرًا يا سيد جرانت أن أفعل أي شيء بوسعي لمُساعدتك.»
«هذا لُطفٌ كبير منك، في غاية اللُّطف حقًّا. ما الذي تعمل عليه إذَن؟ أقصد أبحاثك.»
«ثورة الفلَّاحين.»
«أوه، ريتشارد الثاني.»
«أجل.»
«هل أنت مُهتمٌّ بالظروف الاجتماعية؟»
ابتسم الشابُّ فجأةً بطريقة لا تُشبِه طريقة الطلبة على الإطلاق، وقال: «لا، أنا مُهتم بالبقاء في إنجلترا.»
«ولا تستطيع البقاء في إنجلترا من دون إجراء أبحاث؟»
«ليس بسهولةٍ كبيرة. ينبغي أن يكون لديَّ حُجة غياب. يظنُّ أبي أن عليَّ أن أدخل إلى مجال عمل العائلة. إنه مجال الأثاث. بيع الأثاث بالجُملة. حيث تطلبه بالبريد. تطلبه من كُتيِّب. لا تُخطئْ فَهمي، يا سيد جرانت؛ إنه أثاثٌ جيِّد جدًّا. يعيش طويلًا. كل ما في الأمر أنني لا أستطيع أن أُولِيَ اهتمامًا كبيرًا بوحدات الأثاث.»
«وباستثناء الاستكشاف القطبي، كان المتحف البريطاني أفضلَ ملاذ يُمكِنك التفكير فيه.»
«حسنًا، إنه دافئ. وأنا أُحبُّ التاريخ حقًّا. لقد تخصَّصت في دراسته. وفي الواقع، يا سيد جرانت، إن كنتَ تُريد أن تعرف حقًّا، فقد تحتَّم عليَّ أن أتبع أتلانتا شيرجولد إلى إنجلترا. إنها الفتاة الشقراء الغبية في مسرحية مارتا؛ أقصد مسرحية الآنسة هالارد. أقصد أنها تؤدي دور الفتاة الشقراء الغبية. لكنها ليست غبيةً على الإطلاق، أقصد أتلانتا.»
«لا، بالطبع. إنها شابَّة موهوبة جدًّا بالفعل.»
«أرأيتها؟»
«لا أظنُّ أن أحدًا في لندن لم يرَها.»
«وأنا أيضًا. صحيح؛ فالمسرحية مُستمرة بلا توقُّف. لم نكن نحسب، أنا وأتلانتا، أنها ستستمرُّ لأكثر من بضعة أسابيع؛ لذا فقد تبادَلْنا عبارات الوداع وقُلنا: أراك مع بداية الشهر! حينها اكتشفنا أنَّ الأمر سيستمرُّ إلى مدَّةٍ غير مُحدَّدة، بحيث تحتَّم عليَّ أن أجدَ عُذرًا لآتيَ إلى إنجلترا.»
«ألم تكن أتلانتا عُذرًا كافيًا؟»
«ليس كافيًا لأبي! إن عائلتي مُتعالية كثيرًا بشأن أتلانتا، لكن أبي هو الأسوأ. فحين يستطيع أن يحمل نفسه على الإتيان على ذِكرها، فإنه يُشير إليها بقوله «تلك المُمثلة الشابَّة التي تعرفها». كما ترى، أبي هو كارادين الثالث، ووالد أتلانتا هو بقدرٍ كبيرٍ شيرجولد الأول. إنه يمتلك مَتجرًا صغيرًا للبِقالة في شارع ماين في الواقع. كما أنه من ملح الأرض، إن كنت مُهتمًّا بمعرفة ذلك. وبالطبع لم تُحقِّق أتلانتا الكثير في الولايات المتحدة. أقصد على خشبة المسرح. هذا هو نجاحها الكبير الأول. لذلك لم ترغب في أن تفسخ عقدها وتعود إلى الوطن. في الواقع، سيتطلَّب الأمر شجارًا كبيرًا لحَملِها على العودة إلى الوطن بأي شكل من الأشكال. إنها تقول إننا لم نُقدِّرها حقَّ قدرها.»
«لذلك انصرفتَ إلى البحث.»
«كان عليَّ أن أُفكِّر في أمرٍ ما لا أستطيع فِعله إلا في لندن. وكنت قد أجريت بعض الأبحاث في الجامعة. لذا بدا المتحف البريطاني هو ما يُمكنك أن تَصِفه بأنه المكان المُناسب لي. يُمكنني أن أستمتع وفي نفس الوقت أُبرهِن لأبي أنني حقًّا أعمل، كِلا الأمرين في الوقت نفسه.»
«أجل. إنها أفضل حُجَّة غياب صادفتُها من قبل. بالمناسبة، لماذا أنت مُهتمٌّ بثورة الفلاحين؟»
«إنها حِقبةٌ مُثيرة للاهتمام. وظننتُ أنها ستُدخِل السرور على والدي.»
«هل «هو» مُهتم بالإصلاح الاجتماعي؟»
«لا، لكنه يكره الملوك.»
«كارادين الثالث يكره الملوك؟»
«أجل، الأمر طريف حقًّا. لن أستبعد أنه يضع تاجًا في أحد صناديق ودائعه. أُراهن أنه يخرج الصندوق بين الحين والآخر، ويتسلل إلى محطة جراند سنترال، ويضع التاج على رأسه في مرحاض الرجال. أخشى أنني أتسبَّب في إرهاقك يا سيد جرانت؛ بثرثرتي عن شئوني الخاصة هكذا. لم آتِ من أجل ذلك. لقد أتيتُ من أجل أن …»
«أيًّا كان ما أتيت من أجله، فقد نزلتَ لي من السماء مباشرةً. لذا استرخِ، إن لم تكن في عَجلة من أمرك.»
قال الشابُّ وهو يُمدِّد ساقَيه أمامه: «لستُ في عجلة أبدًا.» وبينما كان يفعل ذلك لامَسَت قدماه، من ناحية الطرف الأبعد لساقَيه الطويلتَين، الطاولة الموضوعة بجانب السرير، فاهتزَّ بورتريه ريتشارد الثالث في وضعه غير الثابت، وسقط على الأرض.
«أوه، سامِحني! كانت تلك رعونة منِّي. لم أعتَدْ حقًّا على طول ساقَيَّ بعد. يحسب المرء أنه سيَعتاد على الشكل الذي يتَّخذه جسدُه في الثانية والعشرين من عمره.» الْتَقط البورتريه، ونفض التراب عنه بحذرٍ بسِوار كُمِّه، وتأمَّله باهتمام. وقرأ بصوتٍ مسموع: «ريتشارد الثالث. أنج. ريكس.»
قال جرانت: «أنت أول شخص يُلاحظ الكتابة على الخلفية.»
«حسنًا، أظن أنها ليست واضحةً للعيان إلا إن نظر المرء إليها بتدقيق. أنت أول شخص أُقابله لديه صورة ملك مُخصَّصة لتُعلَّق على الجدار.»
«ليس وسيمًا للغاية، صحيح.»
قال الفتى ببطء: «لا أعرف.» وتابَع: «ليس وجهًا قبيحًا، من ناحية الوجوه. كان لديَّ أستاذ في الجامعة كان يُشبِهه كثيرًا. كان يعيش على البزموث وأكواب الحليب؛ لذا كانت تبدو على ملامحه قليلًا نظرةُ عداوة للحياة، لكنه كان ألطف مخلوق يمكن تخيُّله. هل كنتَ تُريد معلومات عن ريتشارد؟»
«أجل. لا أريد شيئًا مُبهَمًا أو صعبًا. فقط أُريد أن أعرف من المرجع الموثوق المُعاصِر له.»
«حسنًا، من شأن هذا أن يكون سهلًا جدًّا. إنه ليس بعيدًا عن الزمن الذي أنا مُهتم به. أقصد الفترة التي أُجري عليها أبحاثي. بالتأكيد المرجع الموثوق في عصرنا السير كوثبرت أوليفانت يُغطي كلتا الفترتَين. هل قرأتَ كتب أوليفانت؟». قال جرانت إنه لم يقرأ شيئًا سوى الكتب المدرسية وكتاب السير توماس مور.
«مور؟ مُستشار هنري الثامن؟»
«أجل.»
«أظنُّ أن كتابه كان ذا دفوعٍ خاصة!»
قال جرانت: «بدا لي وأنا أقرؤه أقربَ إلى المنشورات الحزبية»، وأدرك للمرة الأولى أن هذا هو الأثر الذي خلَّفه كتابه في نفسه. لم يكن كسردِ رجلِ دولة، بل كان كمنشورٍ حزبي.
لا، كان مثل طريقة كاتب عمود صحفي. مِثل كاتب عمود صحفي ممَّن يستقُون معلوماتهم من مصادر غير موثوقة بالمرَّة.
«هل تعرف أيَّ شيء عن ريتشارد الثالث؟»
«لا شيء سوى أنه قتل ابنَي أخيه، وعرَض مُلكه مُقابل جواد. وأنه كان لديه جاسوسان يُعرَفان باسم القط والجُرَذ.»
«ماذا؟!»
«كما تعرف: «القط، والجُرَذ، ولوفل كلبنا، يحكمون إنجلترا بأَسرِها تحت ظلِّ خنزير».»
«أجل بالطبع. كنتُ قد نسيتُ ذلك البيت الشعري. ماذا يعني، أتعرف؟»
«لا، ليس لديَّ أدنى فكرة. لا أعرف تلك الفترة جيدًا. كيف أصبحت مهتمًّا بريتشارد الثالث؟»
«اقترحت عليَّ مارتا أن أُجريَ بعض الاستقصاء الأكاديمي؛ لأنني لا أستطيع أن أُجريَ أيَّ تحقيقٍ عملي لفترةٍ طويلة قادمة. ولأنني أجد الوجوه مُثيرةً للاهتمام، أحضرَت لي صورًا لكل الشخصيات الرئيسية. أقصد الشخصيات الرئيسية في الألغاز العديدة التي اقترحتها. وقد حصلت على صورة ريتشارد بالمُصادفة إلى حدٍّ ما، لكن تبيَّن أنه يُمثِّل أكبر لغز في المجموعة كلها.»
«حقًّا؟ من أي ناحية؟»
«إنه مُدبِّر الجريمة الأكثر إثارةً للاشمئزاز في التاريخ، ووجهه وجهُ قاضٍ عظيم؛ وهو رجل دولة بارز. عِلاوةً على ذلك، كان بإجماع الآراء مُثقفًا على نحوٍ غير عادي، ويعيش عيشًا كريمًا. كما كان بالمناسبة رجل دولة ناجحًا. حكَم شمال إنجلترا وفعل ذلك بامتياز. كما كان ضابط أركان ماهرًا، وجنديًّا وفيًّا. ولا يَعرِف أحدٌ أيَّ سلبيات عن حياته الخاصة. ولعلك تعرف أن أخاه كان، باستثناء تشارلز الثاني، أسوأ من أنجب نظامنا الملَكي.»
«إدوارد الرابع. أجل، أعرف. رجلٌ ضخم وسيم طولُه ست أقدام. ربما كان ريتشارد يُعاني من ضغينة يُكنُّها له بسبب التناقض بينهما. وذلك يُفسِّر رغبته واستعداده لمحو ذُرية أخيه.»
كان هذا شيئًا لم يَخطُر على بال جرانت.
«أتُلمِّح إلى أن ريتشارد كان يُكنُّ مشاعرَ كُرهٍ مكبوتة لأخيه؟»
«ولماذا مكبوتة؟»
«لأن حتى أسوأ مُنتقِديه يُقرُّون بأنه كان مُخلِصًا لإدوارد. كانا معًا في كل شيء منذ كان ريتشارد في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمره. ولم يكن أخوهم الآخر ذا نفع لأي أحد. أعني جورج.»
«من كان جورج؟»
«دوق كلارينس.»
«أوه. ذاك! كلارينس برميل نبيذ مالمسي.»
«ذلك هو. إذَن لم يكن يُوجَد سوى هذين الاثنين، أقصد إدوارد وريتشارد. وكانت بينهما فجوةٌ عمرية تَبلُغ عشر سنوات. وهو الفرق العمري المناسب تمامًا لتقديس البطل.»
فقال الشابُّ كارادين بتأمُّل: «لو كنتُ أحدب، بالتأكيد كنتُ سأكره أخي الذي نسَب لنفسه الفضل وأخذ نِسائي ومنصبي المُفضَّل.»
ثم قال جرانت بعد صمت: «هذا مُحتمَل.» وتابع: «إنه أفضل تفسير صادفتُه حتى الآن.»
«ربما لم يكن ذلك الكُره صريحًا على الإطلاق، كما تعلم. ربما لم يكن شيئًا يُدرِكه هو نفسه. ربما تكون مشاعر الكُره قد أخذت تتنامى بداخله حين سنحت فرصةُ الحصول على التاج. ربما قال، أقصد هنا أن مشاعر الكُره لدَيه جعلته يقول في نفسه: «ها هي فُرصتي! كل تلك السنوات التي قضيتها في خدمته وحمل أشيائه والوقوف خلفه بخطوةٍ دائمًا، ولم أتلقَّ شكرًا عليها. ها أنا أتلقَّى أجري. ها أنا أُصفِّي حساباتي».»
لاحَظ جرانت أن كارادين استخدم عن طريق الصُّدفة البحتة الوصفَ التخيُّلي نفسه الذي استخدمته الآنسة باين إليس. الوقوف خلفه بخطوة. هكذا رأته الروائية، واقفًا مع مارجريت الرقيقة الرصينة وجورج على درَج قلعة بينارد يُشاهدون أباهم وهو ينطلق إلى الحرب. كان مُتأخرًا في الخلف بخطوة، «كالعادة».
قال كارادين، وهو يُعدِّل بسبَّابته الطويلة بطريقته المعتادة إحدى ذِراعَي نظَّارته ذات الإطار السميك: «ومع ذلك فهذا مُثير جدًّا للاهتمام، ما تقوله حول كون ريتشارد من الصنف الجيد من البشر حتى وقت وقوع الجريمة.» واستطرد: «ذلك يجعله أقرب إلى كونه بشريًّا. تلك النسخة الشكسبيرية عنه، ليست سوى صورةٍ هزلية له. ليست بشرية على الإطلاق. سيكون من دواعي سروري أن أُجريَ أي استقصاء تُريد يا سيد جرانت. سيكون هذا تغييرًا لطيفًا لموضوع ثورة الفلاحين.»
«القطُّ والجُرَذ بدلًا من جون بول ووات تايلر.»
«بالضبط.»
«في الواقع هذا لُطفٌ كبير منك. سأكون سعيدًا بأي نتيجة لتنقيبك. لكن في الوقت الراهن، كل ما أتطلَّع إليه هو سردٌ مُعاصر للأحداث. إن هذه الأحداث لا بدَّ أنها كانت ذات تأثيرٍ على البلاد بأَسرِها. وأريد أن أقرأ سردًا مُعاصرًا لها. ليس ما سَمِعه أحدهم يُروى عن أحداثٍ وقعت حين كان في الخامسة من عمره، وفي ظلِّ عهدٍ مُغاير تمامًا.»
«سأتوصَّل إلى ذلك المُؤرِّخ المُعاصِر. ربما يكون فابيان. أم إنه هنري السابع؟ على أي حال، سأتوصَّل إليه. وفي تلك الأثناء، ربما ترغب في الاطلاع على كتاب أوليفانت. إنه بمثابة حُجَّة العصر الحديث عن تلك الفترة، أو هكذا أفهم.»
قال جرانت بأنه سيُسَرُّ بالاطلاع على كتابات السير كوثبرت.
«سآتيك بكتاباته حين أُعرِّج عليك غدًا؛ لا ضَير إن تركت كتاباته في المكتب من أجلك، حسبما أظن، أليس كذلك؟ وسأُوافيك بما توصَّلتُ إليه بمجرد أن أعرف بشأن الكُتاب المُعاصِرين. أهذا يُناسبك؟»
قال جرانت بأن هذا مِثالي.
فجأةً تملَّك الخجل من الشابِّ كارادين، فتذكَّر جرانت الحمَل المُزغب الذي كان قد نسيَ بشأنه في ظلِّ إقباله على هذا النهج الجديد في تناول ريتشارد. ثم ودَّعه كارادين في همود وتمنَّى له ليلةً طيبة، وخرج بخطواتٍ مُتثاقِلة من الغُرفة يتبعه ذيل مِعطفه الكبير الذي كان يُجرجِره خلفه.
فكَّر جرانت في أنه يبدو أن أتلانتا شيرجولد كانت في علاقةٍ جيدة، بصرف النظر عن ثروة كارادين.