الفصل الأول
قطعة من جزيرة الروضة هي بعض بستان قصر المختارة الذي كان للإخشيد ملك مصر في الثلث
الثاني من القرن العاشر الميلادي، يرى فيها إلى يسار الناظر مقعد ووراء المقعد أشجار
كثيرة
وإلى اليمين مثلها، وفي مؤخر المنظر مجرى ماء هو بعض مجرى النيل العظيم يلوح من ورائه
بعض
قباب الجيزة ومآذنها.
إذا أزيح الستار رُؤيت نجلاء ابنة الإخشيد قادمة في زورق جميل من اليسار، تجدف فيه
وصيفتها زينب. أما نجلاء ففتاة تركية العنصر بيضاء في الثامنة عشرة من عمرها ترتدي قفطانًا
من الحرير الأزرق فوقه عباءة فضفاضة، وقد اعتمَّت اعتمام المتفضل لولا أهداب من الجوهر
تتدلى في مهوى القرطين. وأما زينب فامرأة في الثلاثين ممتلئة الجسم ضليعة، ملبسها ملبس
الجواري المقربات.
الوقت بعد العشاء بساعة أو يزيد قليلًا والقمر بازغ من وراء الأشجار إذ نحن في أول
العشرة
الثانية من الشهر — فالمنظر إذ ذاك تغشاه أنوار وظلال، فإذا تقدم المشهد تقدم القمر معه
وعلا فضاء المكان بلونه الفضي، حتى إذا أسدل الستار على الفصل كان القمر قد مال فحجبته
الأشجار اليسرى شيئًا ما، ثم أظلم المكان مرة ثانية.
زينب
(يقف الزورق)
:
أننزل الروضة يا سيدتي الأميرة؟
نجلاء
:
أتعبك التجديف على عجل … أم ترين بساط الروض أجمل منظرًا من بسيط الماء في هذه
الليلة القمراء؟
زينب
:
كلا، ولكني …
نجلاء
:
لا بأس هلم.
زينب
:
إنما رأيتك تنظرين إلى هذا المكان فظننت أنك تطلبينه (تنهض، وتخطو إلى البر وتأخذ في ربط الزورق إلى جذع شجرة إلى
اليمين).
نجلاء
:
كنت أتلفَّت لأتبين من فيه (تنهض من مجلسها، وتأتي
زينب فتأخذ بيدها، وهي تخطو إلى البر).
زينب
:
هل كنت ترين أحدًا؟
نجلاء
:
كلا، ولكن خيِّل إليَّ أني سمعت حسًّا فأشفقت أن يكون ظافر هنا على عادته فيعكر
عليَّ صفو ساعة أتلمسها من ليلي ونهاري (تخطو إلى البر، وتسير نحو المقعد).
زينب
:
ويحي يا سيدتي، حسبه بعض هذا الهجران! هل في أسرة الإخشيد أبيك من هو أوسم منه
وأشجع؟
نجلاء
:
ويحك زينب، إني ما خصصتك من بين الجواري بخدمتي إلا ثقة مني بأمانتك، فإذا أنت
أرهقتني بعد اليوم بحديث ابن عمي، فلن يكون لك مني إلا ما تعلمين (تجلس على المقعد).
زينب
:
ويحي يا سيدتي، والله ما حداني من الأمر إلا أني رأيته حزينًا فأشفقت
عليه.
نجلاء
:
إذا كنت قد أشفقت عليه فَأَحرِ بك أن تبكي عليَّ.
زينب
:
إنك بخير والحمد لله.
نجلاء
:
كيف أكون بخير وأنا أستشعر في نفسي شِقْوةً وحزنًا منذ تحدثوا بزواجه
مني؟!
زينب
:
إذا كنت لا ترغبين في هذا الزواج، فلماذا لم تعلني الأمر إلى أمك؟
نجلاء
:
لقد شكوت لها واستحلفتها أن تحول دونه فوعدتني خيرًا، ولكني أخشى تعنُّتَ أبي.
وأقسم لئن لم تصرف عني هذا الأذى لأُلْقِيَنَّ بنفسي في أحضان هذا النيل، إنه مشوق
لعروسه منذ ثلثمائة من السنين.
زينب
:
وي، تلقين بنفسك في الماء؟!
نجلاء
:
هلم، هلم، ها هو ذا آت. إلى الزورق …
(تنهض وتذهب إلى الزورق.)
زينب
(تنظر نحو اليسار وتتأمل وهي تتبع سيدتها)
:
ليس هو القادم يا سيدتي.
نجلاء
:
لا يعنيني، كل أبناء عمي سواء.
زينب
(تحل رباط الزورق، ثم تركب وتتناول المجداف، وهي ناظرة صوب
القادم)
:
ولكنه ليس من أبناء أعمامك على ما أرى.
نجلاء
:
من ذا يستطيع دخول حديقة المختارة غير واحد منهم … هلم سيري بنا. أسرعي، إني أسمع
وقع خطواته … (تخرجان).
(يدخل الأمير مزاحم من اليسار، وهو مرتد قباء من الحرير الأبيض، وقد
تمنطق بسيف عربي، وعلى رأسه عمامة صغيرة ذات أهداب، ويقف يتأمل حائرًا.)
مزاحم
:
أين مبارك يا ترى؟ لماذا لم يوافني بمركبي إلى هذا المكان؟ أتُراني ضَلِلتهُ
(حائرًا)، ألستُ أرى الجيزة؟ أم أني أطالع
الفسطاط. ذلك قصرُ المختارة أمامي، وتلك قطائع ابن طولون عن يميني، وهذا الحصن من
ورائي، وهذا النيل عن يساري (يقف حائرًا)، ويح
الغريب يرى البقاع متشابهات، والأصقاع متشاكلات حتى لا يهتدي إلى موعد ولا يطمئن
لمكان … (يخطو نحو المقعد، ويجلس حيث كانت نجلاء
جالسة) لا بأس فلأقض بمصر ليلة أخرى أمتع العين بمنظر النيل قبل ألَّا
نرى النيل، ونشهد عروس الدنيا قبل ألا عروس … حرام على الناس أن يقلقوا مطمئن النبت
في مرقده من هذه الأرض، أما والله لأصرفنَّ أبي عنها ولأكونن لها من دون سيفه
درعًا، مصر أنت كنانةُ الله في أرضه من أرادك بسوء قصمه الله.
(ينهض ويأخذ في الغناء):
بالله يابانة الفسطاط إن خطرت
عليك ريح الصبا من جانبي ميلي
ولا يصدُّنك حرٌّ في لفائفها
فذاك شوقي إلى الفسطاط والنيل
وأنت ياسوسنًا يفتر مبسمه
عن لؤلؤ بين منضود ومعسول
إن رفَّ طيف خيالي بعد فرقتنا
فلا تمل لمقال الريح والقيل
وجد بها قبلة تحيى النفوس فقد
رأيت خلديَ في ضم وتقبيل
وأنت يا ظبيات النيل باكرها
حيا العفاف بتكميل وتجميل
تركت قلبي يرعى بينكنَّ هوى
كما رعى الأمَّ طفل غير مفصول
بالرغم منيَ أن أنأى وقد علقت
نفسي بتربك يا دار العطابيل
أفديك من نظرة يا ريم خائنة
ومن أمانيِّ قلب غير متبول
أنتن حور وتلك العِين عارية
صوَّرن منكن في طهر وتكميل
وما الملائك إلا قومكن وما
تلك الفراديس إلا روضة النيل
رضوانها الملك الإخشيد يكلؤها
من الأذى بمساميح بهاليل
قوم همو بعض حسن الدهر حوضهمو
ممنَّع بمواضيه المصاقيل
أصفت شمائلهم آي الجمال بدت
للعين في كل مطبوع ومنقول
مهد الحضارة لا ينزل هواك على
عاديك إلا بتذليل وتنكيل
طهرت حتى استعاروا منك دينهمو
وشوَّهوه بتغيير وتبديل
وأنت إن أنكرتك الأرض باقية
للفضل والنبل وِرْدًا غير مجهول
(يخرج ماشيًا تحت الأشجار يمينًا، ويعود الزورق بنجلاء وزينب،
ويقف بهما هنيهة.)
نجلاء
:
من صاحب هذا الصوت الجميل يا ترى؟
زينب
:
إني ما سمعت هذا الصوت من قبل، ولكن في نفسي صورة من صاحبه وإن كنت لا أدري أين
رأيته، بيد أنه من دمشق يا مولاتي.
نجلاء
:
سيري بنا، لعله من ضيوف أبي.
زينب
:
عفوك يا سيدتي (تترك الزورق وهي قابضة على حبله وتهرع
إلى البر تنظر إلى مزاحم وهو سائر في الخميلة، ثم تعود).
نجلاء
:
ويحك زينب ماذا تفعلين؟ لا يليق بك هذا.
زينب
(تعود فتركب الزورق)
:
تذكرته يا مولاتي، سأخبرك عنه.
نجلاء
:
سيري، سيري، أسرعي (تخرجان) عرِّجي على خليج
عمر.
مزاحم
(يعود من اليمين ويتجه نحو النيل وظهره إلى الناظر، ثم يتقدم
يسارًا)
:
أسمع صوت زورق يدنو، أيكون مبارك قد تتبع مصدر صوتي؟ هذا زورق فيه فتاتان، يا
الله! أتكونان من بيت الإخشيد؟ أأنا في حديقة المختارة؟ (
يتلفت) حقًّا إنني أخطأت.
(يدخل الأمير ظافر من اليمين ولا يزال مزاحم يراقب الزورق.)
ظافر
:
ويحك، من أنت؟
مزاحم
(يلتفت)
:
سلام أيها الأمير.
ظافر
:
ثكلتك أمك من أنت؟
مزاحم
:
غريب ضللت الطريق.
ظافر
:
قبِّحت، كيف تخطئ، وهذه الجزيرة كلها حرم الأخاشدة؟!
مزاحم
:
لا أعرف أنها كلها كذلك، فقد خبرني خادمي أن ركنها هذا مباح للسابلة، فإذا كان قد
أخطأ فعذره أنه غريب عن مصر مثلي.
ظافر
:
فلماذا تجيء هنا في مثل هذه الساعة من الليل، وأنت تعلم أن أبواب الفسطاط لا تفتح
لسارب بالليل واردًا أو صادرًا بعد الغروب بساعة؟
مزاحم
:
ذلك لأني راحل عنها في هذه الليلة المقمرة تفاديًا من حرارة النهار، وإذا بقيت
بالفسطاط، فإني لا أستطيع الخروج.
ظافر
:
وأين مركبك الذي ترحل به؟
مزاحم
:
ذهب خادمي لاكترائه من المقس، ثم يعود به إليَّ حيث واعدني، أما أنا فاكتريت
زورقًا كان على شاطئ الفسطاط عبرت به خليج عمر، وقد سرت في الجزيرة على غير هدى كما
تبين لي، فاعذرني أيها الأمير.
ظافر
:
كم لبثت هنا؟
مزاحم
:
بعض الساعة أيها الأمير.
ظافر
:
ويل لك، إنما جئت ترعى نسوة القصر في خلوتهن كالذئب يرقب حمامة المرج لدى
وكرها.
مزاحم
:
معاذ الله أيها الأمير، إن نساء مصر كظباء مكة صيدهن حرام.
ظافر
:
ولحمهن مرٌّ يا شقي. ألم تكن ترقب ابنة الإخشيد وهي في زورقها؟
مزاحم
:
كلا والله، وما ينبغي لي. ولكني سمعت حفيف زورق، فزعمت أن خادمي جاء
ليحملني.
ظافر
:
إذن فارحل عن هذا المكان على الفور. هذا قصارى ما يعفو به عن مثل جرمك الأمير
ظافر بن حسين أخي الإخشيد.
مزاحم
:
شكرًا لك أيها الأمير فهل تدلني على الطريق؟
ظافر
(مشيرًا إلى الماء)
:
دونك الطريق.
مزاحم
:
طريق الماء؟
ظافر
:
أجل.
مزاحم
:
كيف أنتقل إلى الشاطئ أيها الأمير وليس لي مركب هنا؟ ألا تدلني على مكان السابلة
حتى ألاقي خادمي؟
ظافر
:
ألقِ بنفسك في الماء، عجِّل.
مزاحم
:
ما هكذا كرم الأخاشدة!
ظافر
:
ويحك، عجِّل (يضع يده على مقبض سيفه).
مزاحم
:
هب أني استطعت الوصول إلى الشاطئ سابحًا فمن ذا يفتح لي باب الفسطاط؟ بل من ذا
يبيعني ثوبًا يقيني أذى البلل حتى ألاقي خادمي؟
ظافر
:
لا يعنيني الأمر، أغرب وإلا قتلتك.
مزاحم
:
عفا الله عنك أيها الأمير، بيد أن معي من دمشق سيفًا غير مفلول الحد، ولكني عرفت
خطئي فتقبلت منك كل ما كان كفَّارة، وإن كانت الأعمال بالنِّيات.
ظافر
:
ويل لك من وقح، أيقال هذا لمثلي؟
مزاحم
:
هوِّن عليك أيها الأمير لا تخش بأسًا، دعني أتلمَّس خادمي لعلي أراه فأدعوه. إني
أسمع حفيف مركب (يتراجع نحو النيل) تالله لا
أريد أن أحمل من مصر أثرًا سيئًا، ولا أطيق أن أترك فيها دمًا مطلولًا.
(يسير نحو النيل ليتبين خادمه.)
ظافر
:
ارجع وإلا قتلتك.
مزاحم
:
مهلًا.
ظافر
(يسعى وراءه بالسيف وهو مغضب ويضربه به غمزًا من ورائه، فيسقط
مزاحم متعثرًا، يمسك جرحه بيده)
:
خذها إلى جهنم.
مزاحم
:
وي! وي! هكذا! يا للنذالة! يا للنذالة (يغشى
عليه).
ظافر
:
تدعي التماس خادمك، وما تلتمس إلا نظرة من ابنة عمي (يتراجع عنه حتى يحتويه ظلام بعض الشجر).
(تعود نجلاء وزينب، فإذا رأتا مزاحمًا ملقى على الأرض وهو على هذا
الحال هرعتا في ذعر ووجل وانكبتا عليه تفحصان أمره.)
نجلاء
:
وي! من هذا؟
زينب
:
هذا الذي كان يغني منذ هنيهة.
نجلاء
:
أتراه قتيلًا؟! أجل، إني لا أجد به حراكًا … وهذا دم يسيل من عطفه.
زينب
:
يا الله! ترى أحد الحراس قد استرابه؟
نجلاء
:
مسكين هذا الفتى ترى من قاتله؟
ظافر
(يأتي من وراء الأشجار)
:
أنا يا سيدتي.
نجلاء
:
يا الله، ظافر! ما جنايته؟ (تنهض).
ظافر
:
أتحزنين لقتل الفاسقين؟
نجلاء
:
كيف عرفت ذلك؟ إنني كنت الآن أسمعه يشدو بمديح مصر وأهلها ويطري أمراءها
وأخشيدها، ثم يودعها آسفًا ويفارقها حزينًا. أفيكون نصيب مادحكم القتل؟
ظافر
:
أكنت تسمعين غناءه يا سيدتي، ثم تروحين وتجيئين على صفحة الماء أنت وهذه
الفاجرة؟
زينب
:
وي!
نجلاء
:
ويحك يا ظافر، ماذا تعني؟
ظافر
:
أعني أنك كنت على موعد من هذا الخائن. متى كان لأحد من عبيد أبيك أن يجرؤ على
الدنو من حرمه إلا أن يكون على موعد؟
نجلاء
:
ماذا أصابك يا ابن عمي حتى ترميني بما تستحي الأبالسة أن تنعتني به. أم زعمت —
لأني وجدتك جاف الطبع فكرهت أن أكون لك — أنني عالقة بهذا الأمير؟!
ظافر
:
يا الله! من ذا خبرك أنه أمير إلا أن يكون لك به خبر قديم؟ لماذا لم تعلني إلى
الحراس أمره إذ جاء إلى هذا الحرم لولا أنك تسترين؟ لقد فاجأته وهو يودِّعك ويشيع
زورقك بعينيه. أم زعمت أني لا أعرف دسائس الفاسقين وحيل العاشقين. إنهم ليطرقون
الحمى، ويستبيحون الحرم احتماءً في توهم الناس استحالة الاستباحة، كاللص يخفي
غنيمته في أبين مكان اختفاءً وراء إنكار الناس عليه هذا الخطل. تطلبينه في هذا
المكان، ولو أنصفت لطلبته في خدرك يا ابنة العم الطاهرة!
نجلاء
:
الله بيني وبينك يا ظافر، أبمثل هذا تكلمني؟! (تبكي).
زينب
:
سيدي الأمير، ما هذا الرَّيب؟
ظافر
:
حسبك مكرًا أيتها الجارية، وأنت أيتها السيدة الطاهرة اذهبي إلى خدرك، لقد أبردت
الريح جسمانك اللطيف لولا ما أدفأه من حر الشوق ونار الغرام. خذيها إلى
حجرتها.
زينب
:
هلمي يا سيدتي، هلمي.
نجلاء
:
ألم أقل لك إني أمقت هذا المكان؟
(يدخل مبارك، وهو عبد أسود في الأربعين من عمره يلبس لباس الخدم في
القصور.)
مبارك
:
الأمير ظافر؟ (يتراجع في تحية وإكبار) معذرة
يا مولاي! إني حسبتك سيدي الأمير مزاحمًا!
نجلاء، وزينب
:
مزاحم؟
ظافر
:
من مزاحم هذا؟
مبارك
:
ولد الأمير محمد بن رائق صاحب الشام.
زينب
:
ولد ابن رائق، حقًّا، حقًّا.
ظافر
:
ها هو ذا، خذه وانصرف به على الفور.
مبارك
(يلتفت، فيراه ملقى على الأرض، فيهرع إليه ويجثو بجواره
باكيًا)
:
ويلاه، سيدي، قتيلًا!
ظافر
:
ويحك انهض.
مبارك
:
ماذا جنى يا سيدي، ماذا جنى؟
ظافر
:
ويحك يا عبد السوء، أنسيت أن سيِّدك جاسوس لعين؟
مبارك
:
جاسوس؟ متى كان للأمراء أن يتجسَّسوا؟
ظافر
:
كيف تقدمان مصر في هذه الأيام، وأبوه يعدُّ العدَّة لقتالنا؟!
مبارك
:
إنما جاء سيدي إلى بلادكم منذ شهرين مستشفيًا من داء عز في دمشق دواؤه. يا لله!
ماذا فعل؟!
ظافر
:
خير لك أن تخرج به على الفور.
مبارك
:
بل الخير أن أقصد إلى مولاي الإخشيد. أين مكانه الآن يا مولاتي؟
ظافر
:
ويحك يا عبد السوء.
(يجرد سيفه ليقتله، فتنهض نجلاء وتقف في طريقه، وتقف زينب تحمي
العبد.)
نجلاء
:
أجُرْمًا على جُرْم؟!
ظافر
:
أيتوعدني العبد بالشكاية إلى الإخشيد؟!
مبارك
:
إني إنما أطلب بالشكاية شهادة لي عند مولاي تبرئني مما يبدر في ذهن الوالد
الثاكل، وسيتبين الإخشيد أمري، فإن كنت جاسوسًا وقتلني كان في القتل شفاعة.
ظافر
(يتراجع وهو يتمتم بكلمات وعيد ثم يتلفت إلى مبارك)
:
إني أنا رئيس الشرطة، ولي وحدي الحكم عليك … انهض احمل سيدك حيث شئت، ولا تبت
بمصر بعد الليلة، وإلا ألحقتك بسيدك.
مبارك
:
لا، وربي، لا، لا أفارق مرقد سيدي حتى يأذن الإخشيد بدفنه. هذا ابن ملك يا سيدي،
وليس من حق العبد أن …
ظافر
:
ويحك يا عبد السوء، تتحداني؟! انهض به من هنا وانصرف، بل … إني سألقيه لك في
النيل.
نجلاء
(تعود هي وزينب تقفان في وجهه)
:
ما هذا؟! ما هذا؟!
والله لئن فعلت لأبلغنَّ والدي الأمر بنفسي ولأكوننَّ حربًا عليك.
ظافر
:
أنت؟!
نجلاء
:
نعم.
ظافر
:
لماذا؟!
نجلاء
:
يا عجبي! لأنك اتهمت بريئًا وقتلت بريئًا.
ظافر
:
العجب منك يا نجلاء! هبي القول حقًّا، أيجمل بك أن تعملي على مجازاة قريب في
غريب؟!
نجلاء
:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، وهذا الأمير من بيت
آبائنا في فرغانة، ولعمري إنك لتعرف الرأي في ذلك من أبي.
ظافر
(يصمت هنيهة، ويفكر، ثم يقرُّ رأيها متأسفًا)
:
صدقت يا نجلاء، وهذا شر ما في الأمر.
نجلاء
:
ماذا؟
ظافر
:
لا يزال عمي على بعد الشقة، وتقادم العهد — على ما ذكرت من خلق البداوة — من
آبائنا. لا جناح عليَّ أن أقتل رجلًا يدخل حمى الإخشيد تحت ستار الليل بلا استئذان،
وأنا رئيس الشرطة وحارس مباءته.
ولكني لا آمن غضبته لقتلي رجلًا يجري فيه دم آبائه! ولو كان من أعدى أعدائه! وكان
عذري فيما فعلت مبينًا، فاعذريني يا نجلاء، واستري أمري، ولا تأخذيني بما أسأت به
إليك، فإن المحب غيور، وذا الوجد سريع الظنة.
نجلاء
:
إليك عني، لا أطيق الآن حديثًا.
(تتركه وتجلس على المقعد.)
زينب
:
وهذا الخادم يا مولاي؟
ظافر
:
سأجعله من خاصة رجالي وأجزيه خير الجزاء.
مبارك
:
لا يعنك أمري يا سيدي، لن أفارق لحد سيدي حتى يوافيني القدر، ولكنْ ماذا يقول
أبوه إذا افتقده في عيدنا القريب، ولم يجده؟!
ظافر
:
سنكتب له أن الأجل وافاه! وسأبعث بالرسالة أحد أتباعي الأمناء! أليس هذا التدبير
حسنًا يا زينب؟!
زينب
:
شأنك وما ترى يا مولاي، وإذا كنت لم تستطع أن تحسن إلى الأمير في حياته، فلا
أقلَّ من أن تحسن إليه بإكرام دفنه، وأن تراقب الله بعد ذلك.
ظافر
:
أقسم بالله لأتصدقنَّ على روحه بألف دينار كل عام. ولأكفِّرن عن ذنبي بإطعام
فقراء الفسطاط ما بقي من رمضان، إن كان في ذلك رضا لابنة عمي.
زينب
:
أجل، أجل.
ظافر
:
هلم يا مبارك، هات مركبك نحمل به جثة الأمير إلى منزل الشرطة.
زينب
:
اذهب يا مبارك.
مبارك
:
نحمله؟!
نجلاء
:
اذهب يا مبارك.
مبارك
:
إن به ملاحين، فهل ترى أن يأتيا به إلى هذا المكان؟
ظافر
:
كلا، لنأت به نحن.
مبارك
:
ونترك سيدي طريحًا على الأرض وحده؟!
نجلاء
:
إنا باقيتان معه حتى تعودا، هلم عاوني على حمله إلى هذا المقعد (تسير نحو
مزاحم).
ظافر
(يتقدم نحو مزاحم)
:
لا بأس.
نجلاء
:
خل عنك، لن تكون لك يد عليه بعد هذا …
(يتعاونان على حمله، ويرقدانه على المقعد.)
مبارك
:
وا سيداه!
(يخرج ظافر يتبعه مبارك.)
زينب
:
لقد عذرتك يا سيدتي لمقتك هذا الأحمق، وأثنيت عليك لغضك الطرف عن سيئته، ولعل في
كتمانك الأمر سبيلًا إلى التخلص منه.
نجلاء
(وهي متمعنة في مزاحم)
:
رحم الله شبابك أيها الأمير … عليَّ بوسادة من سقيفة الكرم.
زينب
:
أمرك يا مولاتي.
نجلاء
:
عزيز عليَّ موتك أيها الأمير، لقد وقفت ترقب النيل ونفسك أبرُّ منه جودًا، وتلمح
زهر السماء ومحياك أشرق منها نورًا. أفق أيها الراقد الكريم وانظر من تبكي شبابك
وتندب رواءك، أخت ليس كمثلها أخت، وأمٌّ ليس كمثلها أم، إنما النفس شقيقة نفس لا
تزال تحنُّ إليها حتى تلتقي بها، وقد وجدت صنوي فيك أيها الأمير. والله لو يطيق هذا
الصدر أن يكون لك لحدًا لقنع من دنياه بذلك وضن بك حتى تستحيل إليَّ وأستحيل إليك،
لقد طالما التمست عيني مثلك يملأ نفسي أنسًا ويفعم قلبي نعمي حتى هديت إليك، ولكن
ميتًا … ميتًا، لا يطول بقربك اغتباطي ولا تدوم بجوارك هناءتي، فالوداع أيها الأمير
… (تقبله؛ فيتنبه مزاحم ويشرع جفنيه) … يا الله!
مزاحم
:
الحمد لله الذي وهبني أختًا!
نجلاء
:
الحمد لله الذي ردك إلينا وشاء لنا الطمأنينة بعد الأسى.
مزاحم
:
… شكرًا لك يا سيدتي، أكنت تبكين! شكرًا لك شكرًا.
نجلاء
:
كنت أندب شبابك أيها الأمير.
مزاحم
:
من ذا خبرك أني أمير؟
نجلاء
:
طيب قلبك، وجلال نفسك، وأثر العزة في عينك قبل أن ينبئني مبارك بأمرك.
مزاحم
:
أجاء مبارك؟ أين هو الآن؟
نجلاء
:
سيعود بمركبك قريبًا، إنا حسبناك قد فارقتنا، فالتمست غيبته لأستغفرك عما أصابك
في حمى الإخشيد.
مزاحم
:
إن هو إلا جرح في الخاصرة، أبى الله إلا أن يجمد دمه حتى لا يعيب الناس أهل مصر
في شيء، ولكن كان حزني على أثره في نفسي أشد من ألمي منه، فتضافر عليَّ وجدان
غيبائي عن الوجود، حتى أحيتني زفراتك وردتني عبراتك. ولو أوحى إليَّ أني ظافر بعد
جرحي بأخت لاستعجلته، فهل لك أن تذكري لي من أنت؟
نجلاء
:
نجلاء بنت الإخشيد.
مزاحم
:
بنت الإخشيد! معذرة يا سيدتي وواهبة الحياة لي، ما أنت إلا ملك كريم لا تطمع
النفس أن تؤاخيه.
نجلاء
:
ولكنك دعوتني أختًا، ولعمري لهو لقب أشتهيه، فادعني به ما حييت.
مزاحم
:
إنَّا كذلك على كل حال، أفلا أدعوك بعده بما في نفسي.
نجلاء
:
كيف يكون ذلك؟
مزاحم
:
منى النفس يا نجلاء (تكون زينب قد عادت
بالوسادة).
نجلاء
(تنهض)
:
زينب!
مزاحم
:
وصيفتك؟
نجلاء
:
نعم، ها هو ذا الأمير قد رده الله إلينا!
زينب
:
الحمد لله على ذلك، كيف حالك الآن أيها الأمير؟
مزاحم
:
بخير مادمتما.
زينب
:
إنك لا تدري كم قاست سيدتي من أجلك.
مزاحم
:
كأني أعرف ذلك، وقد نلت جزائي عليه سلفًا.
نجلاء
:
وقد أثابني الله عنه خيرًا (يدخل
مبارك).
مبارك
:
انتظر أنت يا سيدي.
زينب
:
مبارك!
نجلاء
:
انظر!
مبارك
:
سيدي الأمير! مالي بشكر الله يدان، مالي بشكر الله يدان.
(يجثو، ويقبِّل ركبتيَّ سيده.)
مزاحم
:
شكرًا لك يا مبارك، لا تبكِ، الحمد لله على ذلك.
مبارك
:
الحمد لله، الحمد لله، أعالجت جرحك يا سيدي؟
مزاحم
:
كأني به غير قاتل يا مبارك، فلا تخش بأسًا.
نجلاء
:
ما أوفى مباركًا أيها الأمير، لقد همَّ أن يزل بنفسه سرفًا من أجلك.
مزاحم
:
شكرًا لك يا مبارك، أين السفينة؟
مبارك
:
لا تبعد عن هذه البقعة كثيرًا، أعزمت على الرحيل الليلة؟
نجلاء
:
لا بدَّ لك من البقاء بمصر حتى يلتئم جرحك.(يدخل ظافر).
ظافر
:
ما هذا؟! لماذا غبت عني (يرى مزاحمًا جالسًا)!
أفقت يا سيدي؟! …
مزاحم
:
سلام أيها الأمير.
ظافر
:
إذن فقد وجب رحيلك عن هذه الديار، هلم عجِّل.
نجلاء
:
ألا يبقى حتى تتم له العافية؟
زينب
:
أرى ذلك يا سيدي الأمير.
ظافر
:
كلا، إني لا أريد أن ينتشر خبر وجوده، حتى لا يلومني عمي على إبقاء جاسوس لابن
رائق في مصر بغير علمه.
مزاحم
:
جاسوس؟!
مبارك وزينب
:
جاسوس؟!
زينب
:
أهذا ما وعدتني؟!
ظافر
(لزينب)
:
ويحك، قم يا سيدي الأمير.
نجلاء
:
فإذا …
مزاحم
:
لا روع عليك، خذ بيدي يا مبارك.
ظافر
:
أحسنت.
نجلاء
:
كلا … لا ترحل!
مزاحم
:
سلام أيتها الأميرة. سلام أيتها الأخت. شكرًا لكِ، ثقي أنني لا أنساك.
ظافر
:
كفى وداعًا أيها الأمير، إنك تغلبنا على حلمنا. هلم اتبعني …
(يتلفَّت ظافر صوب السفينة.)
مزاحم
:
وداعًا …
(تقع نجلاء على المقعد.)