الفصل الثاني
في صحراء العريش … جبال ورمال
(مزاحم – مبارك)
مزاحم
(يدخل)
:
مبارك!
مبارك
:
مولاي.
مزاحم
:
هل أنخت الراحلة؟
مبارك
:
نعم يا مولاي، ولكني لا أظننا نجد للمطايا علفًا. إن هذه الصحراء قاحلة
مجدبة.
مزاحم
:
لا تذمها يا مبارك! إن لها عندي فضلًا عظيمًا.
مبارك
:
فضلًا؟! …
مزاحم
:
نعم، إنك لا تعرف ماذا أجد في صدرها من السعة لنفسي. أقف حيالها خاشعًا كأنما أنا
في الحرم؛ ذلك بأنها خالدة يا مبارك، والخلود أدعى إلى الإجلال. انظر كم شاهدتْ هذه
الصحراء من قرون؟ وكم وعت من حديث أمم … هذي التي اخترقها مصرايم أبو المصريين.
وقمبيز ذلك الفارسي اللعين، ثم هذي هي الصحراء التي مرَّ بها بطل الإسلام عمرو بن
العاص إلى مصر ففتحها وهي هي لا تتغير! صحيفة واسعة تعي أساطير الأمم لمن يقرأون.
بل لعلنا الآن حيث أناخ الفاتح يوم جاءه رسول الخليفة … أين نحن الآن يا ترى؟ …
مبارك
:
نحن فيما بين رفح والعريش يا مولاي.
مزاحم
:
إذن فلم يخب ظني. هنا وقف ابن العاص يفْضِ رسالة عمر … أما والله لأبيتنَّ بها
ليلتي.
مبارك
:
مولاي! ما هذا! أمبيتنا بكل دارة؟ وتلوُّمًا بكل مكان! لقد زدت رحلتنا
طولًا بمكثك في كل مكان نزلنا به. ولو أنك تابعت الرحيل لكان لك أسبوع بين أهلك.
إنا على أيام قلائل من دمشق وأبوك في انتظارك.
مزاحم
:
لا تخشَ بأسًا، إنا لا نزال في منتصف رمضان، فلن يفوتك أن تتمتع بطيبات العيد إن
شاء الله.
مبارك
:
سيدي، سيدي! لقد أدركنا قيظ الصيف … ورأيت الصحراء تزجي السهام كأنما هو لهب
الجحيم، فهل ترى المكث خيرًا من السرى؟ وقد اكتمل البدر وكان لنا في غربتنا
رفيقًا!
مزاحم
:
كلا، ولكني أشعر بالسعادة ههنا، بجوار عمرو وفي حمى هذه الصحراء.
مبارك
:
وأين عمرو منك يا مولاي؟! لقد مضى على نزوله هذه المحلة ثلاثة قرون كاملة.
مزاحم
:
إنه هنا، في فؤادي، أتلفت فأراه وأحسُّه، إنه هو الذي منحنا كل هذا الملك الطيب.
ولولا دعة منه وحكمة ما كان بعض هذا. لقد كان ابن العاص قائدًا تحت إمرته ابن
الخطاب نفسه، وأبو بكر وأبو عبيدة بن الجراح، يوم أرسله النبي إلى عمان يفتتحها،
فلما استُخلِف الأوَّلان بعد الرسول وَوَلى أبو عبيدة اللهُ زعامة جيش الإسلام، لم
ير في ذلك غضاضة عليه بل كان مثال العربي الكريم سيدًا في نفسه ماجدًا لا تملكه
غيرة كاذبة ولا وَهمٍ ولا حسد وكذلك الدولة. هلم، هيئ للمطايا غذاءها من حشائش هذه
الصحراء … انظر، هل فيها من مكارم العرب فضل تغذاه؟ … جُسْ خلالها لعلك تجد خضراء
لم يذبل نبتها، منذ أنبته كريم قرشي.
مبارك
:
مطاع يا مولاي.
مزاحم
:
أحسنت.
مبارك
:
على أن لا أبيتنَّ بهذا المكان. إني لا أريد أن تجمعني بظافر أرض تظلني
سماؤها.
مزاحم
:
أقسم بلوعتي لئن عارضتني بعد ذلك لأردَّنك عن دمشق شهرين.
مبارك
:
وي!
مزاحم
:
أفلا تصدق؟
مبارك
:
كيف لا يا مولاي! ولكني لا أدري ماذا تعْني؟
مزاحم
:
أعْني أن أعيدك إلى الفسطاط.
مبارك
:
الفسطاط.
مزاحم
:
قريبًا منها قليلًا.
مبارك
:
جزيرة الروضة!
مزاحم
:
أقرب قليلًا.
مبارك
:
قصر المختارة!
مزاحم
:
نعم … لقد حذرت.
مبارك
:
حذرت …! لن أرجع إلى مصر أبدًا. من ذا يطيق العودة إلى مصر …!
مزاحم
:
أنت.
مبارك
:
أقابل الأمير ظافرًا مرة أخرى!
مزاحم
:
بل تقابل سيِّدتك يا مبارك …
مبارك
:
الأميرة نجلاء!
مزاحم
:
نعم، نجلاء! نجلاء!
مبارك
:
مولاي!
مزاحم
:
آه … إن قلبي لا يطاوعني أن أفارق أرض مصر يا مبارك.
مبارك
:
فلماذا كنت تسير في هذه الصحراء يا سيِّدي إذا كانت أرض مصر تشوقك؟!
مزاحم
:
كنت أعلم أني في مصر حتى أتينا على حدودها، فأيقنت أني مفارقها. هنا لجَّ
قلبي!
مبارك
:
ولماذا لم تخبرني بذلك من قبل يا مولاي؟!
مزاحم
:
ما حسبتني أجد لها كل الذي أجد يا مبارك … يكاد يقتلني الشوق إليها، والحنين إلى
تلك النظرة الدامعة التي كانت ترمقني بها حيًّا وميتًا. انظر يا مبارك يأبى الحب أن
يترك قلبًا مثل قلبي بلا غرام يشغله، أو هيام يذهله، فلما طعنني ذلك الأمير شفع
الحب عند الرَّدى، فوهب قلبي له حتى تكون ميتتي ميتة حب وغرام لا ميتة غدر وانتقام.
غير أني وجدت ابن عمها يتعقب آثارنا. ألم تر أنه أرسل ذلك النوتي في صحبتنا حتى
تنيس، وذلك الدليل في رفقتنا حتى الفرمة؟ وظل يراقبنا — بالفرمة — ثلاثة أيام حتى
رحلنا!
مبارك
:
لقد كان يمكننا أن نقتل الدليل، ونعود إلى مصر في الأيام التي قضيناها في الفرمة
بلا داع.
مزاحم
:
وَيْ! ما ذنب الرجل حتى نقتله!
مبارك
:
ألم يتجسَّس علينا؟ ثم ألم يكن يسبب لي بوجوده شقاءً كالذي تريده لي الآن!
مزاحم
:
إنما أردت أن أطمئن قلب ظافر يا مبارك. إني محب وأعرف أَلمَ الغيرة، فلا تكن
كذلك. سألتك بالله إلا ما ذهبت لإطعام المطايا، ثم تعود.
مبارك
:
ها أنا ذا ذاهب يا سيِّدي (يخرج).
مزاحم
:
آه …
(يغني):
جللت يا بيد قلبي مفعم بهوى
ضاقت به نزُل الفسطاط يا بيد
كتمت وجديَ عن مصر فبرِّح بي
فأوسعي لي أشكو البثَّ يا بيد
أنا فداء حبيب بعض نعمته
عليَّ نشرىَ بعد الموت يا بيد
أحيا المحب لترديه محبته
كيلا يموت بغير اللحظ يا بيد
فالموت لا الشوق داعيه ولا شغف
بمن أحب فنًا، والله يا بيد
(يسمع صوت بوق وطبل.)
ما هذا! أصوت بوق أسمع؟! أهذي علامة جماعتنا؟ أجل هي … بلا شك،
أتُراهم أزمعوا غزو مصر! كلا … لن يكون ذلك … من ذا يأتيني بنبأهم؟ أين مبارك؟ (ينادي)
مبارك! مبارك! إني لا أرى له أثرًا، وأخشى أن يتنكَّبوا عن هذا المكان، فلا ألتقي بهم.
ولكن من ذا يخبر مباركًا أنني سرت إليهم؟ لأترك له في قتب البعير ورقة. أجل … إنهم إذا
حاربوا الإخشيد لم يبق مكان لخِطبة نجلاء …! بل لم تبق مصر كتلك التي تركتها بالأمس،
فأودَعت نفسي أثرًا لا أريد أن يفنى مصدره، حتى لا أشعر بتقدُّم الأجل … أين الدواة؟
أفي الرحل هي؟ أجل …
(يخرج، ويدخل ظافر، وخالد.)
ظافر
:
إني أرى أثر أقدام حديثة العهد بهذا الثري! خالد أترى جيش ابن رائق قد مرَّ بهذا
المكان؟
خالد
:
كيف ذلك أيها الأمير! إن الأمشاط صوب الشام لا مصر، بله إنها لاثنين …
ظافر
:
لاثنين …؟
خالد
:
نعم، هذي القدم كتلك، وتلك كهذي، ولست أظنهما إلا قريبين من هذا المكان.
ظافر
:
حسبك هذيانًا يا خالد.
خالد
:
ألا ترى الطابع لم تعمل به الريح عملًا؟ لولا خشية المبالغة لقلت هذه قدم الأمير
مزاحم، وتلك قدم خادمه مبارك.
ظافر
:
ويحك يا خالد! إنا ما غادرنا الفسطاط إلا بعد رحيلهما بأسبوع كامل!
خالد
:
لعلهما استراحا بالفرمة أو غيرها؟
ظافر
:
كلا، إنهما لم يعرِّجا بمكان. كذلك خبرت.
خالد
:
هذا جائز. سر بنا إلى جماعتنا، إنا قد بعدنا من المحلة كثيرًا.
ظافر
:
أما سئمت عشرة الجند يا خالد؟
خالد
:
لا يسأم عشرة الجند فارس يا ظافر.
ظافر
:
صدقت، ولكني أريد أن أحدثك في سر.
خالد
:
سر؟! لماذا لم تخبرني به من قبل؟ ألم تكن مسافة ما بين العريش والفسطاط كافية
لشرحه؟
ظافر
:
دع عنك الهذر، أتدري ماذا جدَّ بعد رحيل ذلك اللص؟
خالد
:
أنَّى لي أن أدري؟
ظافر
:
مالك تهزأ بحديثي!
خالد
:
لأنك أخرق. لو كنت مكانك لقتلته وانتهيت من أمره، وقتلت العبد أيضًا.
ظافر
:
لقد أردت ذلك … فأنذرتني.
خالد
:
وماذا في ذلك؟
ظافر
:
الخراب المحتم.
خالد
:
وماذا حدث الآن؟
ظافر
:
خراب مثله.
خالد
:
ما أحسن الحال. كيف كان ذلك؟
ظافر
:
ذهبت إلى والدتها وأبلغتها كل ما كان من شأني مع مزاحم هذا، وما تعجل به لساني
معها، وأنذرتها أن تزلَّ بنفسها سرفًا إذا هي لم تحلْ دون اقتراني بها، فوعدتها
أمها خيرًا.
خالد
:
مرحى، مرحى! وهل الزواج اغتصاب أيها الأمير!
ظافر
:
ويحك يا خالد، إن للمزاح حدًّا!
خالد
:
وللجدِّ آخر. إنما أردت أن أقول لك إنك أخطأت. هذا مزاحم جاء على موعد منها كما
قلت لي، ثم عرفت ذلك وتركته، ولم تقطع أملها منه.
ظافر
:
أتظن أنها كانت تعرفه من قبل؟
خالد
:
إذا لم تكن كذلك فلم هذا القول …! بل لماذا كانت حملة عمك على الشام مكروهة لديها
حتى ألحَّت على أمها أن تصرف أباها عنها! أليس لتُبقي مجرى الصلات صافيًا حتى تكون
لمزاحم هذا.
ظافر
:
صه، لن يكون ذلك ما دمت حيًّا. لقد كاد ينصرف عمي عن ملاقاة جيوش ابن رائق، وفكر
في مصالحته على أمر، لولا ما بيَّنت له ما في ذلك من ضعة الشأن وتضعضع
السلطان.
خالد
:
أفأنت الذي حرضته على سوقنا إلى مقاتلة أمير الشام وجنوده …!
ظافر
:
نعم.
خالد
:
أمنْ أجل فتاة تريد إرواء هذه الصحراء الظامئة بدم الفوارس والأبطال …!
ظافر
:
حسب هؤلاء الأبطال أجورهم.
خالد
:
ما أليق هذا الكلام بك أيها الأمير! وما ذنب مثلي حتى أبيع حياتي من أجل امرأة
لغيري؟! لقد والله حسبت ابن رائق عادانا، فاستنفرنا إخشيدنا لنصرته، فهببت إليه من
دياري. وجئت معك أدافع عن بلادي وأميري!
ظافر
:
هو كذلك يا خالد، إن ابن رائق سيَّر الجيوش من دمشق منذ أيام قلائل، ولعلنا نلتقي
بهم بكرة الغد أو ضحاه.
خالد
:
إذن فلأبق، ولكني لا أحارب إلى جانبك.
ظافر
:
ويحك يا خالد، ماذا أصابك؟!
خالد
:
لقد سئمت حديث الحروب، لا عن جبانة ولا ارتياع، ولكن مقتًا لدواعيها، فقد رأيت
أكثرها يُشنُّ من أجل امرأة تطمع فيها، أو لقمة سائغة تشتهيها وأنت في غنى عنها.
ولو أن مثيري هذه الحروب رشدوا وقنعوا من الأمر بما بين اليدين ومسرح العينين
لنالوا خيرًا من تلك المرأة، وساغوا أهنأ من تلك اللقمة. لذلك آليت على نفسي أن لا
أحارب حتى أتبين الحقيقة. فإن كان للدفاع عن نفسي من أذى الباغين فيها، وإلا كنت
أوَّل القاعدين.
ظافر
:
ولكن الدنيا كلها كذلك. أتخالِف سنَّة العالم!
خالد
:
ما رأيت أكذب من إجماع أهل الدنيا على شيء. دعني بالله أمضي إلى جندي (يسمع صوت وقع أقدام) … ما هذا؟!
(يدخل سعيد الأبلق مع بعض الجيش.)
ظافر
:
ماذا جاء بك يا سعيد …؟
سعيد
:
لقد خرجنا نستريض في الصحراء بعد العشاء، فالتقينا بطليعة من جيش الشام، وبينهم
الأمير مزاحم!
خالد
:
ألم أقل إنه قريب منك!
ظافر
:
فماذا حدث …؟
سعيد
:
نازلونا فنازلناهم وكنا قليلين فذهب أكثرنا ضحية، ولولا فضل الأمير مزاحم علينا
لكنا اليوم من الهالكين.
ظافر
:
أي فضل له عليكم يا جبناء؟
خالد
:
حسبك أيها الأمير. لقد شئت أن تتقدم الجيش العظيم بطليعتك وأنت في نفر قليل، فلا
غرو أن يُقتل رجالك جميعًا … ما خبر الأمير مزاحم يا أبلق؟
سعيد
:
لما هجمت طليعتهم علينا وجدته ينادي بهم من بعيد: ارجعوا عنهم. هؤلاء صحبي،
ارجعوا عنهم. هؤلاء رجالي.
ظافر
:
قبِّح الوغد، أفأصبح من أنسباء الإخشيد!
خالد
:
ثم ماذا؟
سعيد
:
لم يسمع له الجمع في أول الأمر، كأنما استرابوه، وكأنما لم يكونوا يعلمون بوجوده،
فهمَّ بيننا وبينهم، فلما عرفه مقدمهم صاح. سلام للأمير، وبذلك كفوا أذاهم عنا
ونجونا سالمين.
خالد
:
إذن فقد وجبت علينا الرجعة إلى القيروان ننذره بالأمر قبل أن نقع جميعًا أسرى في
يد مزاحم.
ظافر
:
لن يكون ذلك، لا بد أن ألاقي مزاحمًا هذا وأقتله بسيفي. أين مزاحم هذا؟ (يدخل مزاحم والجند ومبارك).
مزاحم
:
ها أنذا، من ذا يناديني؟
ظافر
(يتقنع على الفور)
:
ستعرف ذلك عما قريب.
مزاحم
:
لا تغرر بنفسك أيها الفارس المبرقع، إنك في قبضتنا، ومن العيب أن نقتل
أسيرًا.
ظافر
:
ثكلتك أمك. دونك والقتال حتى يحكم السيف بيننا وبينكم، إن لي عليك ديْنًا أريد أن
أتقاضاه اليوم.
مزاحم
:
ديْنًا …!
ظافر
:
أجل، إن كنت أميرًا كما تدعي فدونك والنزال! إني أريدك من دون قومك.
مزاحم
:
إذن فليتنحَّ عني جندي، ولينقع الفارس غلته من عدوِّه الذي لا يعرفه.
ظافر
:
وليتنح عني جندي، لست الآن في حاجة إليهم.
خالد
:
مرحى، مرحى! أجدر بذي الثأر أن يثأره بيده. إلى الوراء أيها الجند.
(يتضاربان، فيسقط اللثام عن وجه ظافر.)
مزاحم
:
يا الله! الأمير ظافر …!
ظافر
:
ثكلتك أمك، إني ظافر.
مزاحم
:
قف بالله حتى أعرض عليك أمرًا.
ظافر
:
ويح الجبان …!
مزاحم
:
ما أنا بجبان يا ظافر، ولكني أكره أن أنازلك، إنَّا سليلا أصل واحد، وفريعا دوح
واحد؟ وهل عَهِدْت الأخ يقتل أخاه؟! بل إن مرآك ليملأ قلبي حنينًا وذكرى.
ظافر
:
وإنَّ مرآك لمثير في نفسي حقدًا وحنقًا، دونك والسيف.
مزاحم
:
لن يكون ذلك يا ظافر، إني إذا قتلتك أغضبت من لا أطيق أن يغضب: أبي، ومن
تعرف.
ظافر
:
ويحك … دونك والقتال.
مزاحم
:
إن أبي ليَكره مني ما تُكرِهُني عليه، فلا تدفعني إلى إغضابه، إنه لا يقبل عذر
معتذر ولا شفاعة شافع. ولقد كان لمن تعرف عليَّ نعمة الحياة أفأرد إليه ابن عمه
مضرَّجًا بدمائه؟ كلا لن يكون جزاء المحسن الإساءة.
ظافر
:
أقصر أيها الجبان.
مزاحم
:
إنما الجبان مَنْ يطعن مِنْ وراء يا ظافر، فهل عهدتني كذلك! إنما أنت الآن أسيري،
ولكن أبتْ عليَّ شرعة العرب إلا أن أجيبك إلى طلبتك، أفلا تجيبني إلى عهد نصرف به
ما بين أبي وعمك من الشحناء؟
ظافر
:
لا يهمني ذلك.
مزاحم
:
إذن فلك حياتك أنت وقومك، عد إلى أهلك مأجورًا.
ظافر
:
ويحك دونك والسيف، فإما قتلتني وإما قتلتك، وليفعل الأبوان بعد ذلك ما شاءا. لقد
سلبتني بيضة آمالي ودرة حياتي، فلا عجب إذا أنا سلبتك حياتك … دونك والقتال.
مزاحم
:
لا يجدي المقال.
(يتقاتلان، فيسقط ظافر جريحًا، ثم يموت.)
ظافر
:
آه! قتلتني، قتلتني، لعنة الله عليك.
مزاحم
:
وا مصيبتاه، قُضِيَ الأمر، ما أردت والله أن أورِدَك موْرد الحتْف، وإنما عمدت
إلى صرفك عن الأذى بجرح أو بعض جرح، فاعف أيها الأمير، اعف عني، ويلاه لقد انقطع
خيط الرجاء، فالوداع أيتها الآمال، الوداع أيتها الحبيبة، الوداع يا مصر، لم يعد لي
في رحابك أمل إخاله، ولا مطمع أناله.
ابن رائق
(يدخل، يتبعه أمراء)
:
ما هذا؟! مزاحم …؟!
مزاحم
:
أبي.
(يتقدم إليه ليقبل يده.)
ابن رائق
:
مرحبًا بك يا ولدي، مرحبًا، لماذا أطلت غيبتك عني؟! خُبِّرت أنك التقيت بجندك
الليلة وأنت في طريقك إليَّ، وكان النصر على يديك بارك الله فيك.
مزاحم
:
يا أبت إنما النصر من عند الله يؤتيه من يشاء.
ابن رائق
:
صدق الله العظيم، ما هذا الذي وراءك؟! إني رأيتك مكبًا عليه وسمعتك تودعه وداع
الصديق للصديق، ما نبؤه …؟
مزاحم
:
عفوك يا أبت، رجل نازلني فلم أعرفه حتى تقاتلنا فقتلته. وميط اللثام، فإذا هو رجل
من كرام مصر له عليَّ عهد وذمة، ما أقبح الحربَ يا أبت! تدفع الصديق إلى مقاتلة
صديقه، والأخ إلى منازلة أخيه. أفلا يكون لها حدٌّ في هذه الدنيا؟
ابن رائق
:
أما وحياتك عندي ما كنت لأسيِّر جيشي إلى مصر لولا ما منَّى الإخشيد نفسه — وهو
أخي القديم — أن يدخل الشام في حوزته كما أدخلها ابن طولون من قبل. أبى عليَّ —
وأنا من بيت فرغانة مثله — أن أكون عن مضطرب الخلافة بمنأى. ولقد دانيته إلى صلح
فأبى، وكذلك نحن. ولئن كسرت طليعة جيشه اليوم وهزمت ميسرته غدًا، فميمنته باقية،
وإني لأخشى أن تدول دولته، أو تذهب دولتي، فيشمت بنا أبناء الخارجيِّ عبد الله
الشيعي، مدَّعي الخلافة في المغرب.
(… أما إلى ابن رائق من سبيل؟ يا قوم خذوني إليه.)
ابن رائق
:
ما هذا؟
(يدخل مبارك.)
مبارك
:
مولاي، يريد أحد أسرانا أن يمثل بين يديك، وقد أبَنَّا له استحالة ذلك، فلجَّ كما
ترى.
الصوت
:
… خذوني مقيدًا.
ابن رائق
:
هلم إلينا طليقًا …
مبارك
:
تقدم أيها الأمير.
(يدخل خالد.)
خالد
:
السلام على مولاي ورحمة الله.
ابن رائق
:
وعليك السلام والرحمة … قم، لا يُسجد لغير الله … ما وراءك؟
خالد
:
جئت يا مولاي ألتمس منك فضلًا بفضل، ولولا ثقتي بمشهور كرمك ونبْل قلبك ما ألحفت
في المثول بين يديك.
ابن رائق
:
فضل بفضل؟! نحن لا نحسن إلى الناس ابتغاء جزاء منهم، إن جئت طالبًا العتق، فقد
أعتقناك لوجه الله اغتباطًا بما وهبنا من النصر، وأن جمعني ببنيِّ.
خالد
:
شكرًا لمولاي، شكرًا. هذا جدير بسليل الأخاشدة. ولكني أعرف الجميل، فإذا استطعت
أن ألقاه بمثله كان دأبي إذ ذاك شكرًا …
ابن رائق
:
من أنت؟ …
خالد
:
الأمير خالد بن واثق بن عطاء، صاحب الإخشيد.
ابن رائق
:
مرحبًا بابن صديقنا، ما سؤلك؟
خالد
:
إن الذي ترى أمامك مخضبًا بدمائه أمير محبب في قومه، محمود في عشيرته، على أنه إن
قُتل بيد ولدك الكريم فقد قُتل عدلًا. لقد عرض عليه الأمير مزاحم صلحًا يستقر به
مضطرب الأمر فأبى، وعرض عليه الفكاك من الأسر فأبى، وهَمَّ أن يقتل الأمير، فُقتِل،
وكذلك عقبى الظالمين!
ابن رائق
:
ماذا أسمع!
خالد
:
ولكني أخشى أن يسيء قومه حكمهم فيك، إذ يقولون قتل ابن رائق أسيرًا!
ابن رائق
:
كلا، والله ما هذا دأبنا.
خالد
:
ما كان سليل الأخاشدة بقاتل أخاه، ولو كان من الكافرين.
ابن رائق
:
أفصح أيها الأمير، ماذا تعني؟
خالد
:
إن الذي قُتل يا مولاي هو الأمير ظافر بن حسين، أخي محمد الإخشيد.
ابن رائق
:
يا الله! أي داهية نزلت! وأي مصيبة وقعت …! أكذلك دأبك يا مزاحم؟! أما والله لا
تبيتنَّ بهذه الأرض ليلة … شكرًا لك يا خالد، أنك جزيت فضلًا بأفضل منه.
خالد
:
إنما أردت أن أعتذر إليك عن ولدك الكريم، وأنبهك إلى أمر جلل، تتناوله بما هو
أخفُّ وأرعى.
ابن رائق
:
كلا، والله ما كانت همة الملوك قتل الملوك، ولا خطة الشرف نقض المعروف. (إلى مزاحم) …
عُدْ إلى الإخشيد فداءً له عن ظافر، وكفارة عن ذنبك … اذهب، لست مني حتى تموت، أو
يعفوَ عنك فتعذر … لو قتلك ظافر لأعذرت، ولكنك جرت وما فكرت …! اذهب، لا جَمعَ الله
بيني وبينك في ظلال لواء …
(يخرج مغضبًا.)
مزاحم
:
أبي! أبي …!