الفصل الثالث
(بهو في قصر المختارة بمصر، يطل على النيل، له بابان في الواجهة: أحدهما إلى
اليمين، والآخر بأدنى اليسار، وهذا البهو قسمان: واحد إلى اليمين على شكل إيوان، مفروش
بالبسط البغدادية،
والآخر: وصيد. وإلى اليسار باب كبير يبدو النيل من ورائه، ومآذن الجيزة من بعد.
وبالإيوان مقعد عال بجواره طراحات.)
(تدخل نجلاء مغضبة من الباب الأمامي الأيسر، تتبعها زينب.)
زينب
:
ما هذا يا سيدتي! ألم أوصك بالتؤدة!
نجلاء
:
انصرفي عني.
(تذهب صوْب الباب المطلِّ على النيل.)
زينب
:
وي! ماذا فعلت؟
نجلاء
:
كيف تطرين ظافرًا لي أمام امرأة عمي، وأمي؟!
زينب
:
إنما كنت أجامل وأداري، لأنبهك إلى خطأ اقترفته مع امرأة عمك …
نجلاء
:
إنه ليريبني أمرك!
زينب
:
ويحي يا سيدتي! إن كان يريبك أمري، فما أهون أن تعتقيني وتجعلي العتق كفارة عن
إفطارك يوم رحيل الأمير مزاحم، حتى لا يعجب أهل القصر لافتراقنا!
نجلاء
:
إنني ما أفطرت إلا بأمر الطبيب …!
زينب
:
إذن فاعتقيني لوجه الله، وأريحي نفسك مني.
نجلاء
:
ويحك يا زينب! كيف تقولين هذا، ولا تشفقين عليَّ!
أنا لا أفارقك أبدًا، ألا يخرجني قول امرأة عمي عن الصواب! إني لا أحب ظافرًا،
وأنت تعلمين.
زينب
:
مسكينة أنت يا سيدتي.
نجلاء
:
وا حسرة النفس على مزاحم! لا أدري والله كيف تطيب ليَ الحياة في جوار سواه. لقد
كنت أمنِّي النفس كبار المنى وهو راحل، ولم أكن أدري أنهم كانوا يعدُّون لمقاتلة
أبيه الفوارس والأجناد …! آه.
زينب
:
يا الله …!
نجلاء
:
لقد بذلت جهدي لصرف أبي عن مناوأة القوم، فعلمت أن كليهما راغب فيها، فلما رأيتهم
قد آذنوا بالرحيل سقط في يدي، وعلمت أن الله كتب لي الشقاء، فرضيت به ولزمته، وآليت
لا يخرجني منه سواه.
زينب
:
سيدتي …!
نجلاء
:
مَن لي بنظرة منه يا زينب أبرد بها أوار النار في كبدي، وأقرُّ بها ما يضطرب في
قلبي من الحسرات عليه، والحنين إليه!
زينب
:
أدعو الله أن يصلح حالهم.
نجلاء
:
أيبعد على الله أن يتم ذلك؟!
زينب
:
ليس من شيء على الله ببعيد، ألم يجيء أباك منهم رسول؟
نجلاء
:
إن البريد يأتي الليلة.
زينب
:
عسى أن يكون فيه خبر يا سيدتي.
نجلاء
:
أي خبر تعنين؟! إن كان فوزًا لأبي فهو قهر لي، أو هزيمة للجيش فهو مصاب كبير. ثم
ألا أخشى أن تأخذ أبي عزته التي تعلمين، فيقسم أن لا يعود إلى مقرِّ ملكه حتى يهدم
بيت الأمير ابن رائق على من فيه ويثلَّ عرشه ثلًّا. آه. آه. يا زينب إنني أخشى على
حياة مزاحم.
زينب
:
ما هذه المخاوف! إنك تعيشين في وَهمٍ وَخيال … هلمِّ يا سيدتي إلى الحديقة، إن
منظر النيل ليشرح القلب ويكشف الحزن …
نجلاء
:
إلى الحديقة!
زينب
:
نعم، عسى …
نجلاء
:
أفلا يعقد أبي مجلسه اليوم بهذا القصر؟ إني أخشى أن نلتقي بالأمراء في هذه الساعة
من النهار.
زينب
:
لا أظن ذلك يا سيدتي، أخبرني كافور أن مولانا الإخشيد ذاهب إلى قصره الجديد على
بركة الفيل يتفقد عمارته، ونحن الآن في الأصيل من رمضان، ولا أظن أحدًا يأتي بعد
هذا … لا بدَّ لهم من الإفطار.
(تذهب عند الباب المطلِّ على النيل، ترى على بعد زورق فيه
أميران.)
نجلاء
:
لا بأس، هلمِّ، ويلاه! أتخدعني عيني؟ أم من ذا أرى؟ زينب … أليس هذا الأمير مزاحم
…؟
زينب
(تتأمل)
:
… كأنه هو يا مولاتي! ولكن كيف يعود ونحن معهم في قتال؟! محال.
نجلاء
:
خدعة الحسِّ يا زينب! أكثير على الله أن ألقاه؟!
زينب
:
ليس على الله كثير … يخيَّل إليَّ أن بجواره رجلًا كالأمير خالد بن واثق …!
نجلاء
:
كيف يكون خالد برفقته، وقد صاحب الأمير ظافرًا إلى القتال!
مزاحم
(وهو مارٌّ بالسفينة يغني)
:
يا ربة القصر جودي بالسلام لمن
حياته عندكم لمح فمنتقل
لله أمري وداعي قبل مقتبلي
لمن أحب، وهذا الحل مرتحل
نجلاء
:
صوته والله!
مزاحم
:
نجلاء آمال نفسي كلها جمعت
في نظرة لي ليس من بعدها أمل
جودي بها وكفي ما عدت أرقبها
فتسأمي، إن هذا اليوم لي أجل
زينب
:
كلا يا مولاتي، ألا تسمعين ما يقول؟
نجلاء
:
لا أتبين شيئًا، ولكن لا بأس باستماع هذا الصوت الجميل …!
مزاحم
:
إن كانت السمر فيما بيننا خطرت
فقد سعت بيننا الأحداق والمقل
ما بي من الحرب إلا نارها اشتعلت
في مهجتي، وحشًا في مصر معتقل
قضى ليَ الدهر أن أقضي بمصر، وهل
مصرٌ سوى جَنة الفردوس تقتبل
أتيتكم أترضَّى بالفداء أبي
عما أسأت، فجازوني بمن قتلوا
تالله ما أرتجي إلا جواركمو
فالموت عندكمو سؤل ومبتهل
إن لم يمت بغرار السيف صبكمو
قضت عليه العيون الذُّبل النجل
نجلاء
:
أقسم بهذا الأسى المتمشي في فؤادي لهذا منى النفس!
زينب
:
أدعو الله أن يصدق ظنك يا سيدتي، ولكن أنَّى له أن يصحب خالدًا إن كان هذا
خالدًا؟! لعمري لهو أحد أتباع الطولونيين، عَلم برحيل الأجناد وشاقته القطائع
فجاءها يندبها، وكلهم متشابهون والوقت عشيُّ. فلا يتبين الناظر شيئًا إلا توهُّما،
هلم يا سيدتي، روِّحي عنك. هلم.
نجلاء
:
هلم …
(تخرجان. يدخل الإخشيد وكافور من الباب الأيمن.)
الإخشيد
:
إنما هو توفيق من الله يا كافور، ندبني مولاي أمير المؤمنين للولاية على مصر ولم
يزوِّدني بنفقة الجند. وقد اشتفَّ المادراني بيت مال المسلمين في مصر. فكيف لي أن
أفقأ عين الفتنة وأردُّ الأمن إلى نصابه؟! أفلم يكن احتفاري ذلك الكنز العظيم
وعثوري فيه على ما أغناني عما فعل سلفي من إرهاق القوم بالضرائب فضلًا من الله يا
كافور …!
كافور
:
بارك الله فيك يا مولاي، لقد كره الله أن تعذَّب مصر بأكثر مما لاقت في أيام
الأمير ذوقا، وابن الحمل، وتكين، وأضرابهم.
الإخشيد
:
تلك أيام ما كان أنكرها. لقد شاهدت بعيني كل ما كان يجري بمصر من المنكرات
والمظالم، وأنا تحت إمرة تكين في ولايته لرابع مرة. مضى اليوم خمسة عشر عامًا، وأنا
لشدة تأثري بحوادث ذلك العهد كأنما أنظر إليها عيانًا. ولِّيت الحوف من شمال مصر —
وما أشدُّ حيف أهل هذا الحوف — قوم غلاظ الأكباد بلا قلوب. أولئك هم نسل الذين
كانوا يقطعون الطرق في عهد سلفنا الكريم، عمرو بن العاص، وابن أبي السرح، وابن أبي
بكر ومن جاء بعدهم، فلا غرو أن ساروا في أيامنا على درب آبائهم، فما زلت أروض على
السيف كبودهم، وأطهر على القنا حوباءهم حتى استدعاني الخليفة المقتدر رحمه الله
لمثل هؤلاء القوم من عرب الشام، ولكني كنت أحس أني عائد إلى مصر ثم غير مفارقها،
فقد رأى أبي رحمه الله، إذ كان واليًا لطرسوس من قِبل خمارويه ابن طولون صاحب مصر
ليلة التحم مع الروم في أرمينية، كأنما أرسل بنيه إلى مصر بدار أشبه بقصر أجدادنا
ملوك فرغانة، وأوصاهم ألا يعودوا إلى بغداد، فكنت أول الذاهبين. وقد قص عليَّ رؤياه
ففسرتها لنفسي بما أنا فيه اليوم. وما زلت كذلك حتى وجدتني بمصر كما كان آبائي في
فرغانة.
كافور
:
تلك نعمة الله خص بها أهل هذا البلد يا مولاي. أيامك أيام رخاء وعدل وتقى، لقد
انصرف الناس فيما مضى عن الدرس في الجامع الأكبر خشية ما كان يلحقهم من أذى الجند
يومئذ فانصرفوا عن العبادة فيه أيضًا، فلما أرسلك الله إليهم عرف الجند قائده فهدأ،
فإذا العمران سائر، وإذا الهناءة وارفة، وإذا جامع عمرو غاصٌّ بالعلم
وأركانه.
الإخشيد
:
لقد هدأت ثورة الجند يا كافور ولم تهدأ ثورة العلماء. يحسب المرء نفسه في سوق
الصليبة إذا هو دخل الجامع … هذا يشاحن ذاك على كلمة، وهذا يسب أخاه سبًّا من أجل
رواية، بل لقد رأيت أحدهم تناول خُفَّة فصفع به من كان يجادله.
كافور
:
كذلك كان فلاسفة اليونان يا مولاي، وعنهم أخذنا نحن العلماء.
الإخشيد
:
ها، ها. إنك تحشر نفسك في زمرتهم، أأنت من العلماء يا كافور؟! خسئوا والله إن كنت
منهم، أزعمت إذ جعلتك رفيقًا لولديِّ أنوجور، وعليِّ أنك كهؤلاء!؟
كافور
:
لقد علَّمني الزيَّات الذي اشتريتني منه شيئًا كثيرًا حتى أصبحت …
الإخشيد
:
ما أعود علم الزياتين بالفائدة يا كافور، أنا اشتريتك لأني وجدتك على شيء من
الفروسية، فأما وقد عظم بطنك واسترخى، وغلظت شفتاك حتى كأنك الناقة المخلفة
الأدماء، فقد أسلمتك ولديَّ لتكون لهما أضحوكة وملهى.
كافور
:
ويحي يا مولاي! لقد حفَّظت الأمير نصف القرآن، وبصَّرته بالحديث، وقرأت معه شعر
أبي العتاهية …
الإخشيد
:
هذا كاف، بالله لا تعلمه بعد ذلك شيئًا، إني لا أثق بمثل علمك، سأكِل تربيته
بالأمير يانس، حتى يعلمه الرماية.
كافور
:
تحسن صنعًا يا مولاي، ولكن ألستَ خير من فوَّق السهم وضرب بالسيف، فلماذا لا
تصحبه في غزواتك يا مولاي …؟
الإخشيد
:
ألا تزال تحسد يانس يا كافور، من في الجند كالأمير يانس؟! بله أني علمت أن سداد
الرأي أفعل في بعض الأمور من سداد السيف، فلنعمل به بعد الآن.
(يدخل المملوك.)
المملوك
:
الأمير يانس بالباب يلتمس الدخول يا مولاي.
الإخشيد
:
دعه يدخل، ما وراءه يا ترى؟! لماذا لم يوافني في قاعة المجلس …؟!
كافور
:
لعل وراءه أمرًا خطيرًا يا مولاي.
(يدخل يانس.)
يانس
:
السلام على مولاي ملك الملوك.
الإخشيد
:
وعليك السلام يا يانس، ماذا جاء بك؟
يانس
:
جئت لمولاي بنبأ عن الجند.
الإخشيد
:
أوَصل البريد؟
يانس
:
نعم يا مولاي، إن لواء النصر معقود على جندك حيث ساروا.
الإخشيد
:
أدخلوا طبرية؟
يانس
:
نعم يا مولاي، ولكن كان ذلك بعد أن أُسِرَت طليعة الجيش وكسرت الميسرة في
اللجون.
الإخشيد
:
لا بأس، إن الأمور بخواتيمها.
يانس
:
صدقت والله يا مولاي، ولكن استشهد الأمير ظافر هو وأبوه فتفتحت لهما أبواب جنة
الشهداء.
الإخشيد
:
ويْ أقُتل أخي حسين وولده؟!
يانس
:
تصبَّر يا مولاي، اذكر قول الله تعالى: الَّذِينَ إِذَا
أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ.
الإخشيد
:
إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم لا رادَّ لقضائك ولا تعقيب لكلماتك، فقد جزيتني
على قعودي عن الحملة بفقد أعز الناس عليَّ وأقربهم مني.
كافور
:
خفف عنك يا مولاي، إنما الأعمار مسطورة، والسنون مقدورة، ولئن بلغ مولاي الحسين
وولده منيتهما في القتال فقد كانت كذلك أمنيتهما. الشكر لله واجب على أن قضينا قضاء
الأبطال، وكتب لجيشك النصر بعد الانخذال.
يانس
:
أجدر بمولاي أن يتهيأ الليلة للرحيل إلى دمشق حتى يعرف الجند مولاه وتزدهر الشام
بسيدها. أجل، إن الأمير حانك غرس يد مولاي الكريم وبه كان هذا الفوز المبين، ولكني
أخشى حيلة ابن رائق، وصولة ولده مزاحم، ولا يزال في الشام مِن أتباعهما عديد تستعصي
رقابهم إلا على سيفك البتار، فإن لم تخْلِ منهم الديار، وتحل بهم العطب والبوار،
كانوا لنا في العين قذى، وفي الحلق شجى، وتحت الأقدام هراسًا شائكًا.
الإخشيد
:
عليَّ بالدرع واللامة … أسرع.
كافور
:
سمعًا يا مولاي (يخرج لذلك).
الإخشيد
:
لن أبيت بمصر بعد اليوم حتى أجندل في حسين ألفين، وفي ظافر ألف قاهر … اذهب إلى
الجند ببلاغي، وأعد غرباني وبطسي، ثم سر بها إلى تانس هذه العشية، ثم الفرمة
وانتقلوا إلى مياه عكاء، والحقوا بي على أبواب دمشق، أعد خمسًا بلقًا وعشرة من
الأعوجيات. أما وآبائي لآتينَّ بابن رائق أسيرًا، أو لأسقطنَّ ورقته من شجرة
الأحياء قسرًا، لقد نسي أولئك الأشرار ما فعل سيفي بهاماتهم في قنسرين وطبرية ودمشق
وشواطئ دجلة والفرات، فات أولئك الأوغاد أن الخلافة إنما يحميها الإخشيد وآل بيته
في مصر، عليهم عمادها وبهم بقاؤها، أم ظنوا إذ استبقيت لهم الشام فترة من الزمن أني
يئودني حفظها، وهي ملكي الذي استبحته بحد سيفي، وبأمر من لا طاعة بعد الله إلا له،
إنما الله كان يمدهم في طغيانهم ليروا عاقبة العدوان، أم زعموا أني كالخليفة
يقيمونه ويقعدونه، ويحيونه ويقتلونه كما يشاءون، ويل لهم. ويل لهم … أسرع، أسرع …
هيئ لي الجواد …
يانس
:
مطاع يا مولاي.
(يخرج، ويدخل المملوك.)
المملوك
:
جاء الأمير خالد … وهو يلتمس المثول بين يديك يا مولاي.
الإخشيد
:
الأمير خالد … كيف عاد إلينا؟! دعه يدخل. ستعلم الشام أن سيفي … وعزمتي بعدُ لم
يفلا …
(يدخل الأمير خالد، ومزاحم.)
الإخشيد
:
خالد ماذا عاد بك؟
خالد
:
مولاي عدت أشهد وأشفع.
الإخشيد
:
كيف ذلك؟
خالد
:
إن هذا الذي ترى إلى جانبي غصن من دوحتكم وارفة الظلال.
الإخشيد
:
ماذا تعني؟
خالد
:
هذا هو الأمير مزاحم ولد الأمير ابن رائق.
الإخشيد
:
مزاحم! ولد الأمير ابن رائق! مرحبًا بالسفاح.
مزاحم
:
مولاي! ما جئت أتطلب رحمة ولا أنا أرجوها، إنما يممت قصرك …
الإخشيد
:
فاتحًا!
مزاحم
:
ليس مثلي بالغرِّ وإن عظم، ولا بالدعي وإن جلَّ. أجلْ، إني من قوم إذا طلبوا
المجد بلغوه أوْ همُّوا إلى النجم نالوه، من الأخاشدة ملوك الناس، ولكني أعرف
منزلتي منك، وأمدي من أمدك.
الإخشيد
:
فماذا جاء بك ههنا؟
مزاحم
:
عرفاني حق أبي وطلبي لرضاه، فقد نازلني الأمير ظافر فنازلته، وقاتلني
فقتلته.
الإخشيد
:
ويل لقاتل ظافر!
مزاحم
:
نِعْم ما تفعل يا مولاي.
الإخشيد
:
ويحك! أتسخر من جزائي؟
خالد
:
كلا يا مولاي، إنما يقول حقًّا، فقد كنت في جوار ظافر إذ أحاط جند هذا الأمير
بنا، وكنا قليلين فكدنا نقع أسرى، فلما رأى ظافر هذا الأمير تلثم وطلب إليه النزال.
فبصَّره الأمير بمكانه في الحرب إذ عده أسيرًا، فلم يشأ ظافر أن يبصر ما نحن فيه
وأبى إلا أن ينازل الأمير، وطلع عليه بسيفه وضاربه حتى سقط اللثام عن وجهه، فكفَّ
مزاحم عنه لأنه عرفه، وأبى أن يشرع السيف ثانية معتذرًا إليه.
الإخشيد
:
معتذرًا إليه!
خالد
:
نعم يا مولاي، لقد استحلفه بحق القربى أن يغمد سيفه ويكون معه عونًا على الصلح
فأبى. فعرض عليه الفكاك من الأسر والعودة إلى مصر فأبى، فأبان له من عذره — إذ
يكفَّ عن قتاله — أنه يخشى غضب أبيه إن هو مس ظافرًا بأذى، أن يقول ابن رائق لا
ينبغي لإخشيدي أن يقتل إخشيديًّا فأبى، فكفَّ عنه، فنعته ظافر شر النعوت، ثم هجم
عليه والحسام تقطر منه غضبة طغجية١ صدها الأمير مزاحم بطعنة قاتلة.
الإخشيد
:
لقد أعذرت يا مزاحم، فماذا جاء به إلينا يا خالد؟
خالد
:
بعث به أبوه يا مولاي.
الإخشيد
:
كيف ذلك؟
خالد
:
جاء ابن رائق يتفقد حال الجند، فألفى ولده هذا مكبًا على الأمير ظافر يعتذر إليه
ويبكي عليه ويستمد العفو منه. وإذ علم ابن رائق أن القتيل ابن أخيك لم يكفه من
مزاحم عذره السابق، ولا دليل أسفه اللاحق، بل استنكر منه فعلته، وأنكر عليه نشأته
وغضب لظافر غضبته، حتى خفنا أن يهمَّ به فيقتله.
الإخشيد
:
يقتل ولده!
خالد
:
نعم يا مولاي، ولكنه آذنه بالفراق والإنكار حتى يموت بسيفك كفارة عن ذنبه وفدية
لظافر، أو تعفو عنه؟
الإخشيد
:
أهو بعث به إليَّ كفارة عن ذنبه واعتذارًا مما أصاب ظافر؟
خالد
:
نعم يا مولاي، ودعا الله أن لا يجمعه بابنه لواء.
الإخشيد
:
أكان ذلك قبل أن يغلب ابن رائق في طبرية؟
خالد
:
كنا بين رفح والعريش يومئذ يا مولاي، ولم نعلم بهذا النصر إلا من فمك
الآن.
الإخشيد
:
ثم جاء الأمير مزاحم عملًا بمشيئة أبيه، وبرًّا بمروءته ونخوته؟
خالد
:
أجل يا مولاي.
مزاحم
:
إن حق الآباء من حق الله وطاعتهم من طاعته.
الإخشيد
:
بارك الله في سلالة الأخاشدة، أأراد ابن رائق أن يغلبنا في المروءة كما غلبنا في
الميسرة، أما والله لن يكون هذا … يا غلام.
المملوك
:
… مولاي.
الإخشيد
:
عليَّ بخلعة.
مزاحم
:
يا بارك الله في الإخشيد من بطل
يحمي الخلافة والإسلام والحرما
ملك تهاب ملوك الأرض نظرته
ويشتهيها الذي يرجو الندى عمما
في مصر في الشام في بغداد في حلب
في دار دارة تلقى فضله أمما
إن قصَّر النيل يومًا عن عوائده
فاضت يداه على أرجائه كرما
الإخشيد
:
قم يا مزاحم، قل لأبيك: إنني وهبت له ملك الشام ووهبته مائة وأربعين ألف دينار كل
عام.
مزاحم
:
شكرًا لمولاي واهب الممالك ومانح الأقطار.
(تظهر نجلاء داخلة من حيث خرجت.)
نجلاء: آه …
(يراها الإخشيد.)
الإخشيد: غضوا من أبصاركم أيها الأمراء. قفي يا نجلاء.
مزاحم: رباه!
الإخشيد: أين كنت يا ابنتي حتى تطرقي هذا المكان؟
نجلاء: معذرة يا أبي، علمت أن ليس في هذا القصر أحد فنزلت إلى الروضة وعدت، ولم ينبهني
إلى هذا المجلس أحد. فإذا أنا أراني حيث تجدني.
الإخشيد: إلى اللقاء يا خالد شكرًا لك على نخوتك … أدني مني يا ابنتي … تقدمي … وأنت يا
مزاحم، هات يدك. وارفع رأسك وانظر. هذي عروسك منذ الآن.
مزاحم: عروسي! أفي يقظة أنا أم في منام؟!
الإخشيد: في يقظة ليس بعدها يقظة، اذهب بها إلى أبيك … وقل له: «لن يغلب الإخشيد في مكارمه
إنسان».