الدور الثاني (أغسطس–٢٢ أكتوبر/١٠ جمادى الأولى)
(١) معركة أبي قير البحرية
ولو شاء الكاتب أن يضرب بالسهم الأوفر في ميدان التخيلات، وتصور المحتملات، لوجد الباب واسعًا لمثل هذه التأملات! فقد كان من الممكن أن تبقى مصر مستعمرة فرنسية منذ ذلك الحين إلى الآن! ولقد كان من الممكن أن ينجح نابوليون في الاستيلاء على عكة والتوسع في مطامعه وأمانيه وآماله في الشرق، كما صرح بذلك «لبورين» في حديث سنأتي عليه، وكان من الممكن — نتيجة لازمة لذلك — أن لا يعود بالسرعة إلى فرنسا ليقبض على صولجان ملكها، ويدوخ الممالك، ويثل العروش، ثم يهوي كما يهوي الشهاب النازل!
ولقد أكد الثقاة أن الدولة العثمانية ما كانت لتنضم إلى إنكلترا في محاربتها فرنسا، وتتفق مع الروسيا، عدوتها التاريخية، لذلك الغرض إلا بعد أن وثقت أن قوة فرنسا في البحر الأبيض المتوسط قد تلاشت بعد وقعة أبي قير البحرية التي يقول عنها الإنكليز في كتاباتهم: «إنها لم تكن انتصارًا فحسب، بل كانت فتحًا»!
ولقد بلغ من انتهاك قوة الأسطول الإنكليزي بعد هذه الواقعة الهائلة، أنه لم يستطع القضاء على البقية الباقية من السفن الفرنسية، وإن كانت قد وقعت هذه السفن الباقية، عند الحملة الشامية، غنيمة لسفن الأسطول الإنكليزي تحت قيادة السر سدني سميث.
ولنابوليون أقوال كثيرة في الانتقاد على الأميرال «بروبز» الفرنساوي وعلى الكونتراميرال فيلنوف الذي كان في إمكانه — على رأي نابوليون — أن يعود بالسفن التي فر بها ليقضي على الأسطول الإنكليز في نهاية الواقعة في منتصف الليل أو في الصباح، ولكتاب الفرنساويين مناقشات كثيرة في هذا الموضوع، بين مخطئ ومصوب، ومنتقد على برويز، ومعارض لنابوليون، نضرب عنها صفحًا؛ لأنها كما ذكرنا خاصة بهم، غير أنه لا يفوتنا أن نذكر أن الفريقين من المتحاربين في واقعة أبي قير — فرنساويين وإنجليز — رجالًا وضباطًا وقادة، قد أظهروا في ذلك الوقت العصيب من صفات الشهامة والبسالة والتفاني في خدمة الوطن ما يجب أن يبقى درسًا للأجيال الخالفة، وأن تتعظ به الأمم، وتتفاخر به الدول، فقد أصيب الأميرال «برويز» بقنبلة ألقته صريعًا على ظهر باخرته الأوريان «الشرق» وأرادوا نقله إلى سفينة أخرى فقال: «أتركوني أموت هاهنا»! وأصيب نلسون الأميرال الإنكليزي بإصابات قطعت لحم جبهته فانهدل على عينه وظن أنه مات، ومع ذلك رفع اللحم بيديه إلى جبينه وعصبه، وبقي يصدر الأوامر لمتابعة القتال! … وحكاية ذلك الفتى «كلاسيلانكا» ابن الضباط كاسبلانكا الذي بقي والنار تحرق الباخرة أوريان، لا ينتقل من مكانه؛ لأن أباه أمره بالبقاء فيه حتى احترق!! إلى غير ذلك من الروايات التي تهز الأوتار الحساسة، وتولد عواطف الحماسة، وتخلد في أعقاب الأمم الراقية شعور الوطنية والعواطف القومية!
ولقد سبق لنا أن ذكرنا أن نابوليون علم بنكبة أسطوله، وهو قادم من الصالحية، ثمل بنشوة الفرح والظفر على إبراهيم بك، ومن معه، وإن يكن قدا ساءه عدم استطاعته الحصول على ما كان مع إبراهيم بك وبقية الأمراء والمصريين من الثروة والخيرات، وقد روى «بوريين» في مذكراته أن كليبر قومندان الإسكندرية إذ ذاك، لما علما بنتيجة واقعة إبي قير، أوفد للقاهرة ضابطًا من أركان حربه ببيان مفصل فلما وصل إلى القاهرة لم يجد نابوليون بها والتقى ببوريين كاتم أسراره، فعلم منه بتفاصيل الواقعة وكلفه بالسفر إلى الصالحية لملاقاة القائدة العام، وهناك التقى به على بعد فرسخين من الصالحية.
تحدث الناس بتلك الأخبار فصعب على الفرنساويين واتفق أن بعض النصارى الشوام نقل عن رجل شريف يسمى السيد أحمد الزور من أعيان التجار بوكلة الصابون أنه تحدث بذلك فأمروا بإحضاره وذكروا لذلك «كذا في الأصل» فقال: أنا حكيت ما سمعته من فلان النصراني فأحضروه أيضًا، وأمروا بقطع لسانيهما أو بدفع كل واحد منهما مائة ريال فرنسية نكالًا بهما، وزجرًا عن الفضول فيما لا يعنيهما، فتشفع المشايخ فلم يقبلوا، فقال بعضهم: أطلقوهما ونحن نأتيكم بالدراهم فلم يرضوا، فأرسل الشيخ مصطفى الصاوي فأحضر مائتي ريال ودفعها في الحضرة.
فتأمل في هذه المعاملة الغريبة التي يظهر منها تغيظ الفرنساويين وشديد رغبتهم في أن لا يذاع نبأ تحطيم عبارتهم، ويظهر أن الفرنساويين الذين فعلوا ذلك لما أحضر الشيخ الصاوي النقود خجلوا من أنفسهم، ووبختهم ضمائرهم؛ إذ يقول الشيخ الجبرتي: «فلما قبضها الوكيل ردها ثانية إليه، وقال: فرقها على الفقراء فأظهر أنه فرقها كما أشار وردها إلى صاحبها، فانكف الناس عن التكلم في شان ذلك.»
وكان وقع الخبر بطبيعة الحال على الفرنساويين شديد، والذي يقوله «ميو» في مذكراته يعبر عن شعور الفرنساويين؛ لأن «ميو» كما سبق أن ذكرنا، كان مع نابوليون في محاربة إبراهيم بك، وعلم بالخبر عند قدوم رسول كليبر بالقرب من الصالحية، وقد أكثر «ميو» من الندب والعويل قائلًا: «يا رب كيف تنتهي هذه الحملة في مصر، وكيف نؤمل المساعدة وقد حيل بيننا وبين بلادنا! أنعيش في مصر بقية حياتنا، بعيدين عن أولادنا وآبائنا وأزواجنا وخليلاتنا …؟ فقدنا كل هذا وأصبحنا في ديار مقفرة، وبين قوم لا نألفهم ولا يألفونا … إلخ.» وقال بوريين: «بالرغم من تجلد نابوليون وتدرعه بالصبر ليبعث الطمأنينة في قلوب القواد والضباط والجنود، فإنه كان كلما سار على انفراد معي يبدي الجزع، ويظهر الغيظ والحنق، قائلًا: «إن حكومة الديركتوار مؤلفة من رجال سفلة أدنياء فهم يحسدونني ويبغضونني، وأحب ما يحبون أن أفنى أنا ومن معي في هذه البلاد، وفضلًا عن كل هذا أفلا ترى أن جميع الجنود يتذمرون ولا يود واحد منهم الإقامة هنا»، وقال بوريين أيضًا: «وعبثًا كنت أهدئ خاطره وأعزيه بقول: حقيقة إن الخطب جلل، ولكنه كان يكون أشد وأنكى لو أن نلسون عثر بالحملة وهي قادمة لمصر وحطم عمارتنا وأغرقنا مع جنودنا، أو لو بقي نلسون في الإسكندرية أربعًا وعشرين ساعة لكانت القاضية علينا، أما الآن فنحن حكام هذه البلاد، ولدينا الجنود والذخائر، والخيرات والأموال.»
(٢) سياسته بعد المعركة
كان نابوليون في «الدور الأول» يريد أن يجعل مصر مستعمرة فرنساوية تتصل بفرنسا، وأما في هذا الدور — بعد أن حيل بينه وبين وطنه — فقد صمم على أن يجعلها دار إقامة، وقصبة ملك كان يحلم به في الشرق، كما هو ظاهر من كلماته التي ألقاها على ضباطه، ولذلك كانت خطته السياسية في هذه المدة، التوسع في استجلاب رضاء المصريين والتقرب منهم، والامتزاج بهم، فكأنما يقول: أما وقد قُضي علينا بالبقاء مع هؤلاء القوم فلنجتهد في إدراك تصوراتهم وفهم معتقداتهم، والاشتراك معهم في أخلاقهم وعاداتهم، ولطالما قيل إن نابوليون أسلم أو ادعى الإسلام، وللمؤرخين مناقشات في هذا الصدد سنأتي على شيء منها بعد، والمؤكد في الأمر أن فكرة إسلام نابوليون ترجع إلى هذه الفترة.
يجوز لنا أن نتصور بحق أن نابوليون، وقد أدرك واعتقد أو تصور «لأنه لم يكن قط يحلم بأنه يستطيع العودة إلى فرنسا ويؤسس فيها ما أسسه من الملك والصولة والإمبراطورية العظيمة» أنه وقد حيل بينه وبين بلاده، فإنه سيبقى في هذا الديار ويقيم فيها سلطة تضارع سلطة المماليك، مثل السلطان حسن أو الغوري أو بيبرس أو صلاح الدين «ولم يكن الكثيرون من المماليك مسلمين أصلًا» … ولا يبعد أن نابوليون مع ما أوتي من سعة القريحة ومضاء العزيمة، وبعد الخيال، قد صور لنفسه وفي نفسه مملكة مصرية يملكها بونابرت، تتسلط على البحر الأحمر، وبلاد العرب والشام أيضًا، ويتم له في مصر ما تم لمحمد علي، وهو أكفأ منه سياسة وأكثر علمًا، ومعه رجال من الدرجة الأولى في الكفاءة العلمية … فلماذا لا تكون فكرة الإسلام قد توطدت في نفسه واعتمدها، وكان من الممكن — إذا لم يستطع مبارحة القطر المصري — أن يقوم بتنفيذها! وأي خيال يستطيع أن يصور لنا ماذا كان مستقبل مصر، لو أن نابوليون أسلم حقيقة، وصاغ مصر والشرق على درجة ما استطاع أن يفعل بعد في فرنسا!!
وكانت الصفحة الثانية من سياسته الداخلية تقضي عليه بأن يهيئ لضباطه وجنوده أسباب الراحة والاطمئنان ووسائل التسلية، ليخفف عنهم ألم الحنين إلى الوطن وليوطد عزيمتهم على البقاء في هذه الديار واتخاذها وطنًا ثانيًا.
وأما خطته السياسية الخارجية تبعًا لمقتضى ظروف هذا المركز، فكانت ترمي إلى التودد إلى الدولة العثمانية، وأمراء المسلمين في الشام والحجاز.
وسنأخذ الآن في بسط الأعمال التي قام بها نابوليون لتنفيذ هذه الخطة في وجوهها المختلفة، أما مع المصريين فإنه ما كادت تستقر قدمه في القاهرة حتى أخذ يزور علماء الأزهر وكبار المسلمين في دورهم، ويدعوهم إليه ويحادثهم ومنهم علم أن موعد الاحتفال بوفاء النيل قد حان، فانتهز هذه الفرصة لإقامة شعائر ذلك الاحتفال بمزيد الأبهة ومظاهر الأفراح التي يألفها المصريون، ويتخذها رجال السياسة آلة لإلهاء الشعوب، وصرفها عن أمور كثيرة، بما في ذلك من إدخال السرور على الجنود، وصرفهم عن التفكير في حقيقة موقفهم.
(٣) حفلات ومظاهر
كان وصول نابوليون للقاهرة مساء يوم الأربعاء «٣ ربيع الأول/١٥ أغسطس» قال الجبرتي: «ففي يوم الجمعة خاصة أمر صاري عسكر بالاستعداد وتزيين العقبة كالعادة، وكذلك زينوا عدة مراكب وغلايين، ونادوا على الناس بالخروج إلى النزهة في النيل والمقياس والروضة على عاداتهم وأرسل صاري عسكر أوراقًا لكتخدا الباشا «وكيل الوالي الذي بقي بعد خروجه كان اسمه مصطفى بك»، والقاضي التركي «الذي أبقوه في وظيفة القضاء الشرعي لإفهام المصريين أن صفة السيادة العثمانية محفوظة»، وأرباب الديوان وأصحاب الثورة والمتولين المناصب وغيرهم بالحضور في صبيحة «يوم السبت ٦ ربيع الأول و١٨ أغسطس»، وركب «نابوليون» بموكبه وزينته، وعساكره وطبوله وزموره، إلى قصر قنطرة السد وكسروا الجسر بحضرتهم وعملوا شنك مدافع ونفوطًا «أي أطلقوا المدافع والصواريخ» حتى جرى الماء في الخليج وركب وهم صحبته حتى رجع داره.»
وكتاب الفرنساويين يصفون ذلك الاحتفال بالتطويل ويقولون: إن المصريين على بكرة أبيهم فرحوا وطربوا، وطبلوا وزمروا، وأن المشايخ جمعوا بين الدعاء لله سبحانه وتعالى، والصلوات على نبيه الكريم، وبين الدعاء لنابوليون وباركوه وبجلوه!!! هذا وصاحبنا الجبرتي يقول: «وأما أهل البلد فلم يخرج أحد منهم تلك الليلة للتنزه في المراكب على العادة سوى النصارى الشوام والقبط والأروام والإفرنج البلديين ونسائهم وقليل من الناس البطالين»!!
والمعلم نقولا الترك يقول في هذا الصدد: «وكان موكبًا عظيمًا ومحفلًا جسيمًا يذكر جيلًا فجيلًا، وعم الأمان كل الناس، وخرج الرجال والنساء من دون بأس وصنع أمير الجيوش وليمة عظيمة لسائر العلماء والأعيان، وأهل الديوان والجنرالية والفسالية «لعله يعني أوفسية، الضباط» وحكام الخطوط المصرية، وقد أعجبت أهل مصر القاهرة، تلك الأحوال الباهرة.»
والفرق بين جلال الجبرتي وتحفظه، والمعلم نقولا الترك ومغالاته، غير خاف سببه.
ويظهر أن نابوليون سرته نتيجة ذلك الاحتفال فأخذ يسأل عن الموالد والأعياد، فعلم أن المولد النبوي يقع في العاشر من شهر ربيع الأول، فاستدعى إليه السيد خليل البكري وقلده نقابة الأشراف، بدلًا من السيد عمر مكرم الذي سافر مع إبراهيم بك واستقر بغزة، قال الشيخ الجبرتي — وروايته في هذه الأمور أصدق الروايات — «ثم سأل صاري عسكر الشيخ خليل البكري عن المولد النبوي ولماذا لم يعملوه كعادتهم، فاعتذر بتعطيل الأمور وتوقف الأحوال، فلم يقبل «نابوليون» وقال: لا بد من ذلك، وأعطى له ثلاثمائة ريال فرنسية معاونة، وأمر بتعليق تعاليق «كذا» وأحبال وقناديل واجتمع الفرنساوية يوم المولد ولعبوا ميادينهم وضربوا طبولهم ودبادبهم، وأرسل الطبلخانة الكبيرة «الجوفة الموسيقية العسكرية» إلى بيت الشيخ البكري، واستمروا يضربونها بطول النهار والليل بالبركة تحت داره، وهي عبارة عن طبلات كبار مثل طبلات النوبة التركية، وعدة آلات ومزامير مختلفة الأصوات مطربة، وعملوا حراقة نفوط مختلفة وصواريخ تصعد في الهواء.»
وفي رواية كتاب الفرنساويين أن نابوليون أعطى السيد البكري ألفًا وثمانمائة فرنك «فأما أن يكون الريال الفرنسي ستة فرنكات والمعروف أنه خمسة، أو أن رواية الشيخ الجبرتي أقل تسعين ريالًا»، وأن نابوليون ذهب إلى منزل السيد البكري حيث جلس بجوار المنشدين الذين أخذوا في تلاوة القصة النبوية، وكان يهتز معهم كأنما هو مشارك لهم في التلاوة والنغمات، ثم مدت الموائد، وكان عددها يربو على عشرين مائدة نصبت على الطريق الشرقية في بهو كبير، وكانوا يجلسون على وسائد لا على كراسي وحول كل مائدة خمسة أو ستة أنفار، وقد جلس نابوليون حول واحدة من هذه الموائد وبجواره السيد البكري، وتفرق كبار قواده حول الموائد الأخرى يأكلون مع القوم بأيديهم.
وكان منزل السيد خليل البكري إذ ذاك بالقرب من بركة الأزبكية في الجهة الجنوبية من ميدان الأوبرا الحالي، حيث العمارة المطلة على الميدان الآن، وكان السيد خليل البكري من الذين توددوا للفرنساويين كثيرًا، ولقي بسبب ميله إليهم متاعب كثيرة في أثناء التقلبات والثورات التي سيجيء ذكرها، ولم يكن السيد خليل البكري المشار إليه من ذوي الأخلاق الفاضلة، بل كان — كما يؤخذ من ترجمته في وفيات الجبرتي ومن أخباره الواردة عنه — متساهلًا في أمور دينه على شاكلة أبناء الأسر العريقة في الحسب الذين أخذوا بأسباب النعيم والترف، وللجبرتي كلام طويل عن خروج ابنه البكري «عن حدود الحشمة مع الفرنساويين»، وعن السيد البكري ومملوكه، نضرب عنه صفحًا، وإنما أشرنا إليه من قبيل وصف الحالة الأخلاقية لبعض دعاة الأمة في ذلك الحين، والمعلم نقولا الترك يذكر السيد البكري، بعد حكاية مولد النبي فيقول عنه: «وقد كان السيد خليل البكري محبًّا لجمهور الفرنساوية، فلأجل ذلك بغضه الإسلام «أي المسلمون» المصرية.»
إلى الشريف غالب بن مسعود
في الوقت الذي أنبئوك فيه بدخول الجيش الفرنسي إلى مصر، أرى من الواجب عليَّ أن أؤكد لك بأن نيتي ترمي إلى تأمين طريق الحج إلى مكة بكل الوسائل الممكنة، وستبقي المساجد والأملاك التي للحرمين الشريفين في مصر كما كانت في الماضي لا ينازعهما فيها منازع.
إننا أصدقاء لنبي المسلمين ولدينهم وسنعمل كل ما نستطيعه لإرضائكم وللتودد إلى الدين الإسلامي.
أريد منك أن تعلن الناس في كل مكان أن قوافل الحج لا تلقى في طريقها مقاومة، بل ستكون محمية بطريقة تجعلها في مأمن من اعتداء البدو عليها.
فانظر إلى هذه الدعاوى وتفهم منها ما كان يرمي إليه نابوليون في سياسته.
وهكذا أخذ نابوليون يتودد بجميع الوسائل للمصريين وعلمائهم وكبرائهم فكانت أوامره للقواد الذين عينهم في جهات القطر المصري مشددة بضرورة المحافظة على عادات المصريين وتقاليدهم، وعدم التعرض لدينهم وأموالهم وأعراضهم، وكان يُوصي بذلك جميع الضباط والجنود المقيمين في القاهرة وضواحيها، ثم كان لا يفتر لحظة عن استرضاء المشايخ والسؤال عن خاطرهم، والاجتماع بهم، والتحدث معهم في المسائل العمومية وفي الأديان، مظهرًا عظيم ميله إلى الدين الإسلامي إلى غير ذلك من وسائل التلطف وحسن السياسة ونهاية الدهاء.
وكان مما التفت إليه، للتأثير على جيشه وحمله على الرضى بحالته، أن شرع في الاستعداد لإقامة احتفال كبير يوم تذكار تأسيس الجمهورية الفرنساوية، وكان ذلك اليوم يقع في ٢٢ سبتمبر، ولكن نابوليون شرع في الاستعداد للاحتفال به في الأسبوع الأخير من شهر أغسطس، عقب الاحتفال بالمولد النبوي مباشرة، ونص الأمر الذي أصدره، لبيان برنامج ذلك الاحتفال، مؤرخ في ٢٦ أغسطس، وهذا الأمر يقضي بأن تحتفل الجنود الفرنساوية والموجودة في القاهرة حول بركة الأزبكية، والتي في الإسكندرية عند عمود السواري، والتي في الصعيد على أطلال طيبة «مع أنه في ذلك التاريخ لم يكن «ديزيه» قد برح بجيشه الفاتح للصعيد بلدة بني سويف» وقد وصف الجبرتي الزينات التي أقامها الفرنساويون للاحتفال بعيدهم هذا، فقال: «إنهم أقاموا في وسط بركة الأزبكية صاريًا عظيمة «مسلة» نقشوا عليها تصاوير سواد في بياض ووضعوا قبالة باب الهواء بالبركة شبه بوابة كبيرة عالية «قوس النصر» من خشب مقفص وكسوها بالقماش المدهون مثل لون الصاري ونقشوا عليها تصاوير حرب المماليك المصرية معهم، وهم في شبه المنهزمين بعضهم واقع على بعض، وبعضهم ملتفت إلى خلف، وعلى موازاة ذلك من الجهة الأخرى بناحية قنطرة الدكة التي يدخل منها الماء إلى البركة مثال بوابة أخرى، وأقاموا أخشابًا كثيرة منتصبة مصطفى منها إلى البوابة الأخرى شبه الدائرة متسعة محيطة بمعظم فضاء البركة، بحيث سار عمود السواري «المسلة» الكبير المنتصف المذكور في المركز، وربطوا بين تلك الأخشاب حبالًا ممتدة وعلقوا بها صفين من القناديل، وبين ذلك تماثيل لحراقة البارود وأقاموا في عمل ذلك عدة أيام.» ولا ينقص وصف الشيخ الجبرتي شيء، سوى أن تلك الأخشاب المنتصبة كانت مائة عمود وتسعة أعمدة عدًّا رفع على كل عمود منها راية وكتب عليها أسماء مديريات فرنسا، وأن تلك التماثيل التي ذكرها كانت بشكل هياكل نقش عليها الذين قتلوا في معارك المماليك بمصر.
وفي حادي عشرة كان يوم عيدهم الموعود به فضربوا في صبيحته مدافع كثيرة، ووضعوا على كل قائم من الخشب بندبرة من بندبراتهم الملونة، وضربوا طبولهم، واجتمعت عساكرهم بالبركة الخيالة والرجالة، واصطفوا صفوفًا على طرائفهم المعروفة بينهم، ودعوا المشايخ أعيان المسلمين والقبطة والشوام، فاجتمعوا ببيت صاري عسكري وجلسوا حصة من النهار، ولبسوا في ذلك اليوم ملابس الافتخار، ولبس المعلم «جرجس الجوهري» كركة بطرز قصب على أكتافها إلى أكمامها، وعلى صدرها شمسات قصب بازرار «سترة تشريفة فرنساوية» وكذا «فلتيوس» وتعمموا بالعمائم الكشميري، وركبوا البغال الفارهة، وأظهروا البشر والسرور في ذلك اليوم إلى الغاية، ثم نزل عظماؤهم «الفرنساوية» وصحبتهم المشايخ والقاضي وكتخدا الباشا وركبوا وذهبوا عند الصاري الكبير الموضوع بوسط البركة، وقد كانوا فرشوا في أسفله بسطًا كثيرة، ثم إن العساكر لعبوا ميدانهم، وعملوا هيئة حربهم «مناورة» وضربوا المدافع والبنادق، فلما انقضى ذلك اصطفت العساكر صفوفًا حول الصاري، وقرأ عليهم كبير قسوسهم ورقة بلغتهم، لا يدري معناها إلا هم وكأنها كالوصية أو النصيحة أو الوعظ.
وليت شعري: هل كان الشيخ عبد الرحمن الجبرتي أحد المدعوين في ذلك الاحتفال، حتى إنه شهده عن قرب واشترك فيه، أو أنه كان من المفرجين من بعيد؟؟
كل الدلائل تشير إلى أنه كان من المدعوين؛ لأنه كان من كبار العلماء الذين يُشار إليهم، وكان قبل من المتقربين إلى المماليك، فلا يعقل أن تترك دعوته، وإن ساءه من المعلم جرجس الجوهري والمعلم فلتيوس لبسهما تلك الملابس المقصبة، إلا أن النقطة التي يصعب علينا تحقيقها، هي قوله إن كبير قسوسهم «الفرنساوية» قرأ عليهم ورقة بلغتهم، ولم يك مع الفرنساويين قساوسة، فقد كانوا خرجوا من جميع الأديان في الثورة، وكتاب الفرنساويين يقولون إن الذي تلا ذلك الخطاب على الجنود، هو نابوليون نفسه! فكيف أخطأ الجبرتي في تمييزه بين «صاري عسكر بونابرته»، وبين «كبير قسوسهم»؟؟ وإن يكن من المحتمل كثيرًا، أن يكون نابوليون قد كتب ذلك الخطاب وعهد إلى أحد كبار العلماء بتلاوته، إلا أن «ميو» وهو أيضًا شاهد عيان، يقول إن الذي خطب في الجنود هو نابوليون بصوته الرنان، والمعلم نقولا الترك وهو شاهد عيان آخر، لم يذكر شيئًا عن خطاب ما، وأحسن ما ورد في عبارته عن هذا الاحتفال قوله عن الصاري الكبير الموضوع في وسط الأزبكية: «إن الفرنساويين كانوا يسمونه شجرة الحرية، وأما أهالي مصر فكانوا يقولون إن هذه إشارة إلى الخازوق الذي أدخلوه فينا باستيلائهم على مملكتنا»!
وإني لا أشك في أن عبارة المعلم نقولا هذه صحيحة، فهي وإن تكون من نكات العامة في مصر، ومع أنها سخافة من سخافاتهم، إلا أنها تعبر عن شعور القوم في ذلك الحين! وغريب تصورهم أنه كانت لهم مملكة وضاعت، مع أنهم كانوا دائمًا عبيدًا للحكام المماليك، وهم لا يقلون في الأجنبية عن أولئك الفرنساويين، سوى أن أولئك كانوا مسلمين «وإن كان إسلامهم ضعيفًا»، وهؤلاء كفار، لا يعرف لهم دين ولا عقيدة.
أيها الجنود:
أيها الجنود، إن مستقبلكم باهر؛ لأنكم جديرون بما قمتم به من جلائل الأعمال، وجديرون بالحكم الذي يحكمون به عليكم، فإما أن تموتوا موت الأبطال الذين نقشت أسماؤهم على هذا الهرم، وإما أن تعودوا لوطنكم مكللين بغار الفخر والفخار، ومصحوبين بإعجاب العالم من صغار وكبار! واعلموا أننا منذ برحنا وطننا ونحن موضوع رعاية وعناية أبنائه، وفي هذا اليوم يحتفل مثلكم أربعون مليونًا من الفرنساويين بخلع نير الاستبداد وبإقامة الحكم الدستوري، وهم في أفراحهم يذكرون أنهم مدينون لأعمالكم ولدمائكم في حفظ السلم ونمو الثروة والتمتع بالحرية المدنية.
«ثم رجع صاري عسكر إلى داره فمد سماطًا عظيمًا للحاضرين، فلما كان عند الغروب أوقدوا جميع القناديل وعملوا حراقة وصواريخ» … إلى آخره.
(٤) المسلمون والأقباط
إن يكن الشيخ الجبرتي قد ساءه من المعلم جرجس الجوهري، كبير الأقباط في ذلك العهد، توشحه بتلك الملابس المذهبة في الاحتفال، وخروجه مع أمثاله عما اعتاده من الملابس التي ألفها المصريون، إلا أنه مع ذلك قد كان من المحبين للمعلم جرجس، ومن المعجيبن به، وحقيقة يظهر من غالب ما كتبه الجبرتي عنه، أو من بقية الأخبار التي وردت عن ذلك الرجل، أنه كان من أكابر القوم، جامعًا لكثير من الصفات الطيبة، فهو لم يفعل مثل المعلم «يعقوب» الذي خرج عن حدوده وجمع له جندًا من بعض فقراء الأقباط، وكاشف المسلمين بالعداوة، كما سيأتي في مكانه.
وقد ذكر الجبرتي في وفيات سنة ١٢٢٥، بعد الحوادث التي نحن بصددها باثنتي عشرة سنة ترجمة المعلم جرجس الجوهري وأطراه … قال: «مات المعلم جرجس الجوهري القبطي كبير المباشرين، وهو أخ المعلم إبراهيم الجوهري، ولما مات أخوه في زمن رياسة الأمراء المماليك تعين مكانة في الرياسة على المباشرين والكتبة، وبيده حل الأمور وربطها في جميع الأقاليم المصرية، نافذ الكلمة، وافر الحرمة، وتقدم في أيام الفرنسيين فكان رئيس الرؤساء، وكذلك كان مع العثمانيين لما كان يسديه إليهم من الهدايا والرغائب، ورأينه يجلس بجانب محمد خسرو باشا «سيأتي ذكره في تاريخ محمد علي» وبجانب شريف أفندي الدفتردار، ويشرب بحضرتهم الدخان، وكان عظيم النفس ويعطي العطايا ويفرق على جميع الأعيان عند قدوم شهر رمضان من الشموع العسلية والسكر والأرز والكساوي والبن، ويعطي ويهب، وأنشأ دارًا كبيرة عند قنطرة الدكة.»
وبهذه المناسبة لا نجد مناصًا — خصوصًا وقد ذكرنا تقرب نابوليون من المسلمين وعلمائهم وتودده لهم ولدينهم ومعتقداتهم — أن نقول كلمة في هذا المكان عن سلوك الفرنساويين مع النصارى عمومًا، والأقباط خصوصًا في ذلك العهد، ولقد كنت أظن أن حنا بك شاروييم يخصص في كتابه «الكافي» فصلًا لهذا الموضوع فلم أجده أعاره أدنى نظرة، ولعل له في ذلك حكمة.
ليس لدينا تعداد موثوق به عن سكان القطر في زمن الفرنسيس، ولكن يُؤخذ من المصادر الفرنسية أن عدد الأقباط كان في ذلك الحين من تسعين إلى مائة ألف على رواية «لاكروا»؛ أي: نحو ثمن عددهم اليوم، فإذا لاحظنا أن عدد المسلمين، منذ ذلك الحين قد تضاعف خمس مرات «أي: من مليونين ونصف مليون» تقريبًا إلى ثلاثة عشر مليونًا في الوقت الحاضر فيكون الأقباط قد تضاعفوا ثمانية مرات، وهي نتيجة غريبة مع وجود تعدد الزوجات عند المسلمين، ومع التساوي في حالة الرخاء والطمأنينة في القرن التاسع عشر، وربما كان عددهم أكثر مما ورد في رواية «لاكروا».
وليس بضائر الأقباط إذ ذاك أن يلجئوا إلى الفاتحين ويتوددوا إليهم، ويفرحوا بقدومهم للخلاص من مظالم المماليك وسوء معاملتهم وبقائهم محتقرين في بلد، يعتقدون أنها في الأصل بلدهم، وإن كان الأقباط على ما اعتقد قد كانوا أحسن حالًا من مواطنيهم المسلمين؛ لأن الأقباط كانوا آلات المماليك في تحصيل الضرائب، وكانوا كُتاب أيديهم والمباشرين لأعمالهم الحسابية، وأمورهم الداخلية، ومن ذا الذي كان من المصريين المسلمين في زمن المماليك «في يده حل الأمور وربطها في جميع الأقاليم المصرية، نافذ الكلمة موفور الحرية»، مثل المعلم جرجس الجوهري، كما قال عنه الجبرتي؟
كان ظلم المماليك في الحقيقة واقعًا في الأكثر على الفلاحين المسلمين، ولم يكن الأقباط في ذلك الوقت ممن يشتغلون بحراثة الأرض وزرعها، كما أنه قد كان في دهاء الأقباط وحسن حياتهم وصفاتهم الكثيرة التي أوجدها أثر الاستبداد في نفوسهم، خير واسطة للتخلص من المظالم والتقرب من الحكام، بما لا يتيسر في كثير من الأحوال لمواطنيهم المسلمين، وزد على هذا أنهم لكونهم فئة قليلة مستضعفة، كانوا أكثر اتحادًا، وأحسن معاونة لبعضهم البعض من المسلمين، بحيث إذا لحق واحد منهم ظلم وجدت كبراءهم في ذلك الزمن يذهبون إلى الحكام ويتوسلون إليهم في منع الظلم عن ابن طائفتهم.
ومع هذا نقول لا غضاضة عليهم إذا فرحوا بقدوم الفاتح الأجنبي تخلصًا من احتمال الظلم على كل حال، ولم يكن عند الأقباط، ولا عند المسلمين في ذلك الزمن، عاطفة وطنية؛ إذ لم يكن الوطن لهؤلاء ولا لهؤلاء! وأما إذا كان المسلمون بعكس ذلك من حيث عدم الرضى عن الفاتح الأجنبي، وميلهم للأتراك والمماليك، فذلك لأسباب كثيرة أهمها الرابطة الدينية بينهم وبين الخلافة الإسلامية، التي لم يكونوا يعتبرونها دولة أجنبية عنهم، وبسبب هذا الشعور تمكن الأتراك من المصريين في مصر، وكذلك من العرب في آسيا، وأبقوهم تحت سلطانهم إلى عهد قريب جدًّا.
والآن نبحث في: هل كان من وراء تودد الأقباط للفرنساويين فائدة للأقباط! وترقية أحوالهم؟ الجواب على هذا صريح واضح، وهو أنه إن لحق المسلمين ظلم واحد من الغاصبين، فإنه قد لحق الأقباط ضعف ذلك، والقضية في هذا الشأن بديهية لا تخفى إلا على عمى البصيرة الذين تغرهم الزخارف، والذين تخدعهم أقوال الفاتحين الأجانب وتوقعهم في حبائل مكرهم؛ إذ لا نزاع مطلقًا في أن الفاتح الأجنبي إنما يعمل جهده لإرضاء الأغلبية بالتودد لها والتقرب منها، ولا يهمه أن يستضعف جانب الأقلية أو تهضم حقوقها، وتبقى دائمًا هذه خطته مهما تظاهر بعكس ذلك أمام الأقلية بقصد غرس أسباب النفرة ليسود الحكم من جراء التفرقة.
ولو كان نابوليون يثق بأنه إذا أباد الأقباط على بكرة أبيهم ينال ثقة المسلمين ويحل في قلوبهم محل العثمانيين، لما تأخر عن ذلك طرفة عين!! ثم هل ادعى نابوليون المسيحية الأرثوذكسية كما ادعى الإسلام وتظاهر بمدح الدين الإسلامي؟ وقد كان أقرب للتصديق في الأولى من الثانية!
خذ المثال الآتي: قال الجبرتي في حوادث شهر رمضان من تلك السنة: «نبهوا الفرنساوية بالمناداة في أول رمضان بأن نصارى البلد يمشون على عاداتهم مع المسلمين أولًا، ولا يتجاهرون بالأكل والشرب في الأسواق، ولا يشربون الدخان ولا شيئًا من ذلك بمرأى منهم … كل ذلك لاستجلاب خواطر الرعية حتى إن بعض الرعية من الفقهاء مر على بعض النصارى وهو يشرب الدخان، فانتهره فرد عليه ردًّا شنيعًا، فنزل ذلك المتعمم وضرب النصراني واجتمع عليه الناس وحضر حاكم الخطة، فرفعهما إلى قائمام، فسأل من النصارى الحاضرين عن عادتهم في ذلك فأخبروه عن عادتهم القديمة أنه إذا استهل شهر رمضان لا يأكلون ولا يشربون في الأسواق ولا بمرأى من المسلمين أبدًا، فضرب النصراني وترك المتعمم لسبيله»!
وذكر الجبرتي في حوادث يوم ٨ جمادى الآخرة قال «وفيه قتلوا «الفرنساوية» أربعة أنفار من القبط قيل إنهم سكروا في الخمارة وعربدوا فاغتاظ لذلك القبطة.» وقس على هذا كثيرًا.
ولكن الأقلية مع الأسف تنسى دائمًا هذه الحقيقة البديهية، ونعني بها سعي الفاتح الأجنبي في إرضاء الأكثرية، فإذا حدثت قلاقل ومشاكل يحرض ذوو الأغراض من الطرفين الطبقة لواطئة فتتسع الهوة، ثم متى تأكد الحاكم الأجنبي أن الأكثرية غير راضية عنه وغير ممكن استجلاب خواطرها، كما تأكد ذلك الفرنسيون بعد، فإنه يأخذ في إيغار صدور الفئة القليلة ويظهر نحوها انعطافه وحمايته فيحدث مثل ما حدث من المعلم يعقوب، وتأليفه فرقة من فقراء الأقباط لمقاومة المسلمين ومحاربتهم، وكانت عاقبة ذلك وبالًا على شخصه هو حتى اضطر أن يهجر وطنه، ويسافر مع الفرنسيين عند خروجهم، كما سيجيء ذلك مفصلًا في مكانه.
إلا أنه من مصلحة الأغلبية، أكثر مما هو في مصلحة الأقلية، أخذ الأغلبية للأقلية تحت جناحها بما تظهره نحوها من واجب الانعطاف، وما تبديه من حسن الصلات؛ لأن الأقلية في كل زمان ومكان مستضعفة ميالة إلى المودة والرعاية، فإذا قابلتها الأكثرية في ربع الطريق قطعت لها الأقلية ثلاثة أرباعه الباقية، وباجتماع الكلمة تسهل للأكثرية مقاومة الأجنبي، ومصادمة الحوادث، ومقارعة الدسائس، دون أن تشعر بثغرة في حصنها، أو ثامة في درعها، أو فلول في سيوفها، وبهذا تقضي السياسة والمصلحة، وبهذا يقضي العدل، وبهذا تفضي الوطنية، بل بهذا يقضي الدين نفسه الذي يتخذه الفريقان آلة للتفريق.
(٥) سياسة الإنشاء للبقاء
كان من مقتضى سياسة نابوليون في هذا الدور أن يدرس طبيعة البلاد ويقف على جميع مواردها ويجمع الوسائل التي يستطيع بها طول البقاء فيها، وبالجملة يوطن نفسه ومن معه على الرضاء بمصر والاستفادة منها، وإن أمكن فليجعلها النقطة المركزية لفتوحاته وآماله في الشرق، ولكي يصل إلى هذه الغاية فكر في إنشاء المجمع العلمي المصري «انسيتو ديجبت» الذي لا يزال موجودًا بالاسم إلى الآن، يجمع بين أعضائه في الوقت الحاضر زمرة من أهل العلم والفضل من الأجانب وبعض المصريين، وكان صدور أمره بذلك في ٢٢ أغسطس سنة ١٧٩٨ ولا حاجة بنا إلى تعريب نص ذلك الأمر، بما فيه من بيان اختصاصات ذلك المجمع وجلساته وأعضائه وأعماله، ولكنا نكتفي لفائدة التاريخ بالبيان الآتي:
- (١)
تقدم ونشر العلوم والمعارف في الديار المصرية.
- (٢)
بحث ودراسة وطبع المباحث الطبيعية والصناعية والتاريخية لمصر.
- (٣)
استشارته في المسائل المختلفة التي ترى الحكومة عرضها عليه.
قال لاكروا: إن إنشاء المجمع لفت نظر الأهالي فإن المكتبة وجميع الآلات والأدوات الخاصة بدراسة العلوم الطبيعية والرياضية والنباتات المختلفة والأحجار المتنوعة التي جمعها العلماء لتحقيق مباحثهم، وما أشبه ذلك من الأمور، استدعى اهتمام الأهالي فصاروا يفكرون في الأسباب الداعية لهذه المساعي، حتى لقد خيل لهم أن الغرض منها صناعة الكيمياء أو صناعة الذهب! ولكن لما أدركوا الغرض الحقيقي من ذلك تحببوا إلى العلماء وتقربوا إليهم ومال إليهم المتعلمون من المصريين وكثير من الطبقة الواطية من أصناف العمال، والصناع الذين كان العلماء يسألونهم عن صناعاتهم وأعمالهم.
وأفردوا للمديرين والفلكيين وأهل المعرفة والعلوم الرياضية، كالهندسة والهيئة والنقوشات والرسومات والمصورين والكتبة والحساب والمنشئين، حارة الناصرية حيث الدرب الجديد وما به من البيوت، مثل بيت قاسم بك وأمير الحج المعروف بأبي يوسف، وبيت حسن الكاشف جركس القديم والجديد الذي أنشأه وشيده وزخرفه وصرف عليه أموالًا عظيمة من مظالم العباد!
وفيه جملة كبيرة من كتبهم وعليها خزان ومباشرون يحفظونها ويحضرونها للطلبة ومن يريد المراجعة، فيطلب من يريد المراجعة ما يشاء من الكتب فيحضرها الخازن فيتصفحون ويراجعون ويكتبون حتى أسافلهم من العساكر.
وذكر الجبرتي بعض عمليات كيماوية وطبيعية عرضت عليه مما لا يخفى أمره اليوم على تلامذة المدارس في المعامل الكيماوية والطبيعية! ولكنه يقول عنها: «ولهم في ذلك أمور كثيرة وأحوال وتراكيب غريبة، ينتج منها نتائج لا تسعها عقول أمثالنا.»
رحمك الله يا شيخ جبرتي وبرد ثراك! لو عشت لرأيت أن عقول أولاد أحفادك وسعت أكثر من ذلك! وما هو إلا جهل الحكام، واستبداد الظلمة الذي جعلك تتصور استحالة إدراك تلك المبادئ من العلوم، علوم أولئك الذين كانوا همجًا وبرابرة، في الوقت الذي كانت مدارس بغداد وقرطبة وسمرقند والقاهرة نفسها، تفيض بالعلم وبالنور!! وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون.
وهنا يجب أن نقول إن الحملة الفرنسية إن كانت قد فشلت من حيث هي، ولم تخلف وراءها لدى المصريين سوى الآثار المحزنة، والتذكارات المؤلمة، إلا أن العمل العلمي الذي قام به رجال البعثة العلمية من بحث وفحص وتأليف وتصوير مما سنأتي على خلاصة وافية له في المكان اللائق به، قد غطى على تلك العيوب وأبقى إلى اليوم أثرًا علميًا فاخرًا باهرًا، إن لم يكن قد أفادنا من وجهة مباشرة فائدة مادية علمية، وحتى وإن لم تستفد منه فرنسا ما أملته، إلا أن ذلك لا يمنع من الاعتراف بأنه عمل تطاطئ أمامه الرءوس إجلالًا وإكبارًا.
(٦) الاستعداد الحربي
لم يكن ليخفى على نابوليون أنه في مصر محاط بالأعداء من الجنوب والشمال والشرق والغرب، ففي الجنوب مراد بك ومعه قوة كبيرة من المماليك تعضده العربان الهوارة وعرب الحجاز أيضًا، وقد وقف الفراء على مطاردتهم لمراد بك في الفصل السابق، ومن الشمال الأساطيل الإنكليزية تمر ذاهبة وآتية تقطع عليه السبيل، بل وتحصره ومن معه حصرًا تجاريًّا وعسكريًّا، ولا يزال إبراهيم بك ومن معه من المماليك على حدوده الشرقية، في أول بلاد الشام، وكذلك عرب درنة وقبائل البدو من أولاد علي والهنادي يناوشونه ورجاله من آن لآخر، فلذلك وجه نابوليون همته إلى تحصين البلاد وإقامة الطوابي والحصون حول القاهرة.
وقد ابتدأ الإنكليز يدسون له الدسائس ويحرضون عليه الأتراك، قال الجبرتي في حوادث شهر ربيع الثاني: «وفي ثالثة «الجمعة ١٤ سبتمبر» حضرت مكاتبة من إبراهيم بك خطابًا للمشايخ وغيرهم مضمونها: إنكم تكونون مطمئنين ومحافظين على أنفسكم والرعية وإن حضرة مولانا السلطان وجه لنا عساكر وإن شاء الله عن قريب سنحضر عندكم، فلما وردت تلك المكاتبة وقد كان سأل عنها بونابرت فأرسلوها له وقرئت عليه فقال: المماليك كذابون.» ثم لم يكن ليخفى على بونابرت أيضًا أنه على الرغم من كل ما عمله من أسباب التودد والتقرب إلى المصريين، فإن التوفيق بين الفريقين لا يزال بعيدًا … وكيف يتصور عكس ذلك ولديه في كل وقت شاهد على ميل المصريين للعثمانيين؟؟ فمن الحوادث التي لا يخفى معناها على مثله أن أحد الأغوات الأتراك حضر من الإسكندرية في ذلك التاريخ بقصد زيارة المشهد الحسيني قال الجبرتي: «فشاهده الناس واستغربوا هيئته، وفرحوا برؤيته، وقالوا: هذا رسول الحي! «تأمل هذا التعبير» حضر من عند السلطان بجواب للفرنسيس يأمرمهم بالخروج من مصر «وتأمل هذا أيضًا»، فاختلفت روايات الناس وآراؤهم وأخبارهم وتجمعوا بالمشهد الحسيني وتبع بعضهم بعضًا، وصادف أن بونابرت في ذلك الوقت بلغه مما نقل وتناقل بين الناس من أنه ورد مكتوب إلى المشايخ أيضًا وأخفوه فركب من فوره وحضر إلى بيت الشيخ السادات بالمشهد الحسيني، ثم جلس مقدار ساعة وركب ومر بعسكر من باب المشهد والناس قد كثر ازدحامهم بالجمع والخطة «بسبب ذلك الأغا» وهم يلغطون ويخلطون، فلما نظروه وشاهد هو جمعيتهم داخله أمر من ذلك فصاحوا بأجمعهم وقالوا بصوت عال «الفاتحة»، فشخص إليهم وصار يسأل من معه عن ازدحامهم فلطفوا له القول، وقالوا له: إنهم يدعون لك! وذهب إلى داره وكادت تنشأ من ذلك فتنة.»
وأصعدوا إلى القلعة مدافع ركزوها بعدة مواضيع وهدموا أبنية كثيرة وشرعوا في بناء حيطان وكرانك وأسوار وهدموا قصر صلاح الدين، ومحاسن الملوك والسلاطين، ذوات الأركان الشاهقة، والأعمدة الباسقة.
وكان من مقتضى الحيطة العسكرية إزاء تحريضات إبراهيم بك أن يتخذ نابوليون خطة التشديد في مراقبة القادمين من الأغراب، منعًا لنقل، الأخبار قال الجبرتي في حوادث هذا الشهر أيضًا: «إنهم نبهوا على الأغراب من المغاربة وغيرهم والخدامين الباطلين ليسافروا إلى بلادهم، فذهب جماعة منهم إلى بونابرت، وقالوا له: إن السفر غير ممكن؛ لأن طريق البر غير مأمون وسفن الإنكليز في البحر تقطع عليهم الطريق.» ويظهر أن العبارة الأخيرة حركت أشجان نابوليون من جهة وافحمته من أخرى، فتركهم وشأنهم واكتفى بأن أصدر أمره أن لا يخرج أحد من البلد إلا بجواز من محافظ المدينة، ولا يسمح لغريب بالدخول إليها إلا بعد التحقق من أمره، ومما رواه الجبرتي في حوادث ربيع الثاني أنهم قتلوا شخصين وطافوا برأسيهما ينادون ويقولون: «هذا جزاء من يأتي بمكاتيب من عند المماليك أو يذهب إليهم بمكاتيب.»
واشتد نابوليون في معاملة كل من يعلم عنه أنه يكتب للمماليك، أو يتلقى منهم الرسائل، أو يبعث لهم بالمعونة المالية، وأخذ الناس بالشبهة وسعى بعض المفسدين في إيذاء الرجال والنساء أيضًا بهذه الوسيلة، مثل ما حدث لزوجة عثمان بيك الطمنبرجي «أو الطنبورجي» الذي كان من كبار المماليك وفر مع مراد بك إلى الصعيد، فإنه اتصل بالجنرال «دبوي» أنها ستبعث مع خادم لها خمسمائة محبوب لإيصالها إلى زوجها، فبعث «دبوي» إليها فاستغاثت بالشيخ المهدي والشيخ السرسي فذهبا معها، ومع ذلك، ومع عدم ثبوت شيء ضدها، ومع الحاح المشايخ في الإفراج عنها والمبيت بدار الحاكم الفرنسي بدلًا عنها، فإن الجنرال «دبوي» قال: «نو نو.» «كما رواها الجبرتي حرفيًّا» فباتت عندهم وتلطف الجبرتي فقال: «وصحبتها جماعة من النساء المسلمات والنساء الإفرنجيات.» ومع ذلك فإنهم، بعد رجاء القاضي الكبير وكتخدا الباشا والمشايخ لدى نابوليون نفسه، أطلقوا سراحها في مقابل دفع ثلاثة آلاف ريال فرنسية «ستمائة جنيه».
إلى الجنرال ديبوي (٢٥ أغسطس ١٧٩٨)
- (١)
هل كتب لمراد بك بعد أن حلف لنا يمين الطاعة؟
- (٢)
لمن من المماليك قد كتب بعد مصادقته لنا؟
- (٣)
أي نوع من المكاتبات كان بينه وبين عربان البحيرة؟
ولصاحبنا المرحوم الحاج عبد الله براون الإنكليزي المستشرق في كتابه «بونابرته في مصر» إعجاب بالسيد محمد كريم وقال عنه: إنه أبى دفع الفدية ومات شهمًا مقدامًا!! وما أدري على من اعتمد في هذه الرواية ومصدره الوحيد في هذا الجبرتي، وهو يقول: إنه تذلل وقال اشتروني يا مسلمين؟
ولكن الذي يلفت النظر ولا يفوت المؤرخ هو ملاحظة أن الفرنسيين كانوا على استعداد للعفو عن السيد محمد كريم عفوًا تامًّا لو أنه دفع لهم ما أرادوه من المال فداء عن نفسه، وإذن فلم يكن العدل أو القصاص هو المقصود بالذات، وإنما كانت الغاية اغتصاب المال ممن يظنون أنه كان رجلًا غنيًّا، أو أن أغنياء البلد سيشفقون عليه ويجمعون المال لخلاص حياته، وفي ذلك من العار والشنار ما فيه.
وسواء استحق السيد محمد كريم تلك العقوبة لخيانة عهدًا قطعه على نفسه — وهو عهد أُعطي لعدو البلاد تحت سيف القهر والقوة — أم أنه نال ذلك العقاب جزاء وفاقًا لمظالم سابقة ارتكبها، ونفوس بريئة أزهقها، والعدل الإلهي جرى مجراه!! فإن ذلك شيء، وتصور المصريين أن الفرنساويين قد ظلموا رجلًا من كبار رجالهم، شيء آخر، خصوصًا إذا كان السيد محمد كريم ينتسب حقيقة إلى الأشراف بلقب السيادة، وإن كان لقب «السيد» يطلق في مصر على أبناء البلد فيقولون «سي السيد» فلان، لكل معمم وتاجر ومن لا صفة له من العلم أو الوظيفة، ولا شك أن نابوليون أراد أن يلقي على المصريين درسًا ثقيلًا، ولكنه ككل الأوروبيين لا يصلون إلى فهم الروح الشرقية، ولذلك فإنه بدلًا من أن تستفيد سياسته من قتل السيد محمد كريم والتمثيل به، قد خسر أضعاف ذلك من تغير القلوب، وإعطاء أعدائه سلاحًا ماضيًا لمحاربته وتنغيص سلطته.
ولتحصين بحيرة المنزلة وفحصها حدثت محاربات ووقائع عسكرية بين الفرنسيين وبين أهالي الجهات الواقعة بالقرب من دمياط وفي مديرية الدقهلية.
ولما كانت المصادر العربية خالية كل الخلو من الإشارة إلى تلك الوقائع والملاحم رأيت من الواجب أن أعتمد على المصادر الفرنسية فألخص من «لاكروا» الروايات الآتية في مكانيها، قبل أن ننتقل إلى مخابرات نابوليون مع والي عكا، وقبل أن ندخل في أسباب وتاريخ ثورة القاهرة، ليرى القارئ المصري أن الفرنسيين لم يكونوا مطمئنين لا في الداخل ولا في الخارج، ولا في القاهرة ولا في الأقاليم، وفي ذلك من الموعظة السياسية والتاريخية ما فيه.
وإلى القارئ ملخص لتلك الملاحم والحوادث التي جرت في شمال القطر المصري ملخصه عن «لاكروا» قال ما خلاصة تعريبه:
عين الجنرال مينو «الذي أسلم بعد وسمي عبد الله مينو» محافظًا لرشيد وبعد أن وجه عنايته لنشر أعلام الأمن في ربوع هذه الأرجاء وإعادة الطمأنينة إليها قرر أن يتفقد الأحوال بنفسه فيها، واستصحب معه الجنرال «مارمون» الذي أرسله القائد العام بمهمة خاصة، وقاما للطواف في البلاد ومعهما بعض أعضاء المجمع العلمي في مصر الذين انتهزوا هذه الفرصة للبحث والتنقيب خدمة للعلم».
وفي اليوم العاشر من شهر سبتمبر سافرت هذه البعثة من رشيد سائرة على ضفاف النيل، ولم يكن رجالها يخافون أهل البلاد أو يرتابون في إخلاصهم بعد أن رأوا احتفاء أهالي برمبال ومطوبس وفوه بهم.
وأراد الجنرالان أن يعبرا إلى الضفة اليمنى، ولكن فيضان النيل حال بينهما وبين أمنيتهما؛ إذ كان لا بد لهما من اجتياز جسور لا يزيد عرضها عن قدمين، وهي مهددة بالسقوط من وقت لآخر.
ولما وصلت البعثة إلى كفر شياس عامر في اليوم الخامس عشر من شهر سبتمبر ووثقت بإخلاص الأهالي لم يأخذ الجنرالان معهما للحراسة غير ستة أو ثمانية من الفرسان، ولكن لم تكد البعثة تدخل هذه القرية حتى أحاط برجالها عدد كبير من الأهالي بأيديهم البنادق والحراب، فلما رأى العلماء ذلك فروا هاربين وتقدمت جموع المصريين واستولوا على الجسر ليمنعوا الفرنسيين من اجتيازه، ولما رأى الجنرالان أنهما وقعا في الفخ تبعا الهاربين، ووقع مصور اسمه «جولي» من فوق جواده خوفًا ورعبًا، وأراد الجنرال مارمون أن يعيده على الجواد، ولكن الرجل ملكه الهلع فلم يستطع أن يحرك قدميه أو يعتدل على جواده، وسقط ثانية فاضطر الفرنسيون لتركه وذبحه الأهالي أمام أبناء جلدته الذين لم يستطيعوا إنقاذه.
وكان الجنرالان قد تركا كتيبة من الجند لحفظ الأمتعة فوصلا إليها وعادا مستصحبين مائة وأربعين رجلًا، ولكنهما وجدا أن الجسر قد قطع في عدة مواضع واضطرا أن يخوضا الماء برجالهما، ولم تستطع هذه القوة الصغيرة أن تحاصر القرية إلا بمشقة كبيرة.
ولم يثبت الأهالي إلا قليلًا وانسحبوا إلى المنازل والأبراج في كفر شياس عامر، وقاد الجنرال مارمون فصيلة من حملة القرابينات وزحف حتى وصل إلى باب البرج الكبير، ولكن علو ذلك البرج ومتانة بابه لم تمكنه من اقتحامه إذ كان من فيه يطلقون عليه نيران البنادق ويرمون رجاله بالأحجار الثقيلة بحيث لم يستطع الجنود القرب منه.
وبعد قليل دخل الجنرال مينو إلى القرية فقتل جواده برصاصة ووقع الجنرال في حفرة عمقها ثلاثة أقدام، ولما رأى الجنرال مارمون حرج الموقف أراد أن لا يعرض رجاله للقتل وصمم على احتلال البلدة، فأمر رجاله أن يشعلوا النار في المنازل وأن يدمروا جزءًا من البرج، وفي الساعة الحادية عشر مساء حينما اندلعت السنة النيران في البيوت هرع عدد عظيم من أهالي القرى المجاورة لإغاثة القرية التي تأججت فيها النار، ولكن تمكن ثلاثون من الجنود الفرنسيين كانوا على الجسر من أن يصدوا هؤلاء القادمين ويمزقوا شملهم ثم أكرهوهم على الفرار، واستطاع الفرنسيون أن يدمروا القرية ويهدموا البرج، ولم يفقد منهم غير ثلاثة من القتلى وتسعة عشر من الجرحى.
ولما رأى الجنرالان مينو ومارمون أن الفرصة غير ملائمة لاستئناف الطواف في الدلتا أرجأ هذه المهمة حتى ينتهي وقت الفيضان وعادا إلى رشيد برجالهما.
وفي ١٦ سبتمبر ثارت قرية الشعراء الكائنة على رمية قوس من دمياط واجتمع فيها العرب واتخذوها محلًّا لقيادتهم العامة، وفي ١٧ و١٨ وصلهم إمداد كبير وكذلك وصلت لحامية دمياط إمدادات أيضًا.
وفي ٢٨ سبتمبر صمم الجنرال «فيال» أن يهاجم قرية الشعراء وتولى الجنرال أندريوسي قيادة العمارة البحرية التي ألقت مراسيها بقرب القرية، وصف العدو «أي: المصريين» رجاله صفًّا واحدًا واحتل المنطقة الواقعة بين النيل وبحيرة المنزلة، وكان عدد رجاله نحو ١٠ آلاف «كذا»، فأرسل الجنرال «فيال كتيبة من الفرقة الخامسة والعشرين لتهجم على ميمنة العدو وتقطع عليه الطريق إلى بحرية المنزلة، وفي الوقت ذاته هجم على المقدمة ففرق شمل العدو الذي غرق كثير من رجاله في النيل وبحيرة المنزلة، وأشعل النار في قرية الشعراء فمات نحو ١٥٠٠ من العرب بين غريق وقتيل وغنم منهم مدفعين جميلين من البرونز وثلاثة أعلام، أما الفرنسيون فلم يفقدوا إلا قتيلًا واحدًا وأربعة من الجرحى، وهكذا استطاع جيش صغير من الفرنسيين قوامه ٥٠٠ رجل أن يقهر عرمرمًا للعدو عدده ١٠ آلاف!! وامتاز في هذه الموقعة بالبسالة الكابتين سابانية وأرسل القائد العام إلى الجنرال فيال رسالة يهنئه فيها بالفوز جاء فيها «إن الموقعة التي قمت بها أيها الجنرال المواطن في قرية الشعراء رفعت مكانتك ومكانة جنودك.»
وكلف الجنرال فيرديه بالزحف على قرية سنباط بمديرية المنصورة فسار ومعه قوة مؤلفة من ٦٠٠ رجل، وقام بمهمته خير قيام رغم ما لاقاه من ثبات العرب الذين قتل منهم نحو خمسين رجلًا دون أن يفقد الفرنسيون غير جندي واحد!!
وأرسلت عدة حملات صغيرة قليلة الأهمية إلى بلاد الوجه البحري وظلت الثورات من أواخر أغسطس حتى نهاية سبتمبر، ولكن قُضي عليها ووزعت الفرق الفرنسية في أقاليم الدلتا.
وبقي عرب «درنه» محتلين قرية «دنديط» فأرسل نابوليون أمرًا إلى الجنرال «مورات» قائد القوة بإقليم القليوبية والجنرال «لانوس» بالزحف واستخلاص هذه القرية فوصلا إليها في ٢٨ سبتمبر وفرقا شمل الثائرين بعد أن هلك منهم نحو مائتي رجل بين غريق وقتيل، وتركوا قطعانهم وجمالهم وحميرهم، ولم يصب من الفرنسيين غير بعض الجرحى.
وقدم الجنرال مورات تقريرًا اثنى فيه ثناء عاطرًا على الجنود واختص بالمديح الضابط نيثرودو، وكان هذاالضابط سويدي الأصل امتاز بالبسالة والإقدام ورقي إلى رتبة قائد فرقة، وجرح بعد ذلك جرحًا مميتًا في سنة ١٨٠٣ إذ اعتدي عليه في مدينة «بني جواف».
يا مواطني الجنرال علمت مسرورًا خبر وصولك إلى دمياط، ويظهر لي أنك وصلتها في الوقت الملائم لتساعد الجنرال «فيال» وتمده بنصائحك وآرائك الثاقبة ولتقدم للجيش مرة أخرى خدمة كبيرة.
- (١)
أن تسيطر على بحيرة المنزلة.
- (٢) ولكي تستطيع الوصول إلى «يباوس»١٣ يجب أن تذكر كلماتي وتعمل بها وهي: اجتهد أن تدخل في البحيرة كل الفرقة التي معك، ويجب أن يصل الجنرال اندريوسي إلى بياوس.
- (١)
كم عدد المراكب الموجودة في بحيرة المنزلة؟
- (٢)
وكم تستطيع كل منها أن تحمل من الناس؟
- (٣)
وما هو عمق البحيرة؟
- (٤)
وهل يمكن لكل قارب أو مركب أو سفينة أن تمخر في البحيرة؟
- (٥)
وما هو عمق كل من المصبات الثلاثة؟
- (٦)
وهل يمكن لسفينة مدفعية أن تمخر فيها؟
- (٧)
وكم عدد سكان الجزائر الموجودة في البحيرة؟
- (٨)
وما السبيل إلى اتصال دمياط بالحيرة؟
- (٩)
وهل ماء البحيرة حلو أو مالح؟
- (١٠)
وكيف يستطيع الجنود الذين يعسكرون بين البحيرة والبحر أن يتصلوا ببعضهم؟
لا تذهب إلى «يباوس إلا بقوات كبيرة وليكن معك على الأقل ست كتيبات مسلحة كل منها بمدفع، ولا تغادر دمياط إذا لم يكن معك على الأقل ٥٠٠ رجل وستة مراكب مسلحة بالمدافع وخذ معك من الماء ما يكفيك للإقامة في بياوس خمسة أو ستة أيام لا بل عشرة أيام.
وأرسل لي مذكرات عن كل ما تجده في دمياط والمنزلة والصالحية: وكل ما يتعلق بدمياط والنيل والدفاع عن المرسى.
وبعد أن عاد الجنرال اندريوسي إلى دمياط عقب واقعة الشعراء قام بالمهمة التي عهدت إليه خبر قيام وكانت عمارته البحرية مؤلفة من ستة عشر مركبًا منها ثلاثة مسلحة، وسافر من دمياط في ٣ أكتوبر ونزل إلى النيل واجتاز البوغاز، وصار معه ١٠٠ رجل في الطريق الفاصلة بين بحيرة المنزل والبحر، وترك بقية الجيش في السفن، وفي اليوم الرابع من أكتوبر سبر عمق البوغاز في «ديبه» وخرج من البوغاز قاصدًا المطرية، فرأى عمارة العدو البحرية تمخر مخفية وراء الجزر قد ظهرت أشر عنها فأطلق عليها نارًا حامية مدة ساعتين لكي يدمرها من جهة وليعلن الجنرال «فيال» من جهة أخرى أن المعركة قد بدأت، وكان هذا الجنرال متأهبًا فلما احتل الجنرال اندرويسي منطقة قرية المنية «غرب دمياط» أرسل له الجنرال «فيال» بعض الجنود لتعزيز قوته: ولما جاءه أمرهم أن يطفئوا عطشهم قبل الدخول في المعركة فأجابوه لسنا عطاشى ولا حاجة لنا بالطعام، بل نريد الحرب، وهبوا للقتال ونشبت معركة شديدة قتل فيها من العرب والفلاحين خلق كثير ولم يقتل ولم يجرح جندي فرنسي واحد، وكان قائد قوة العدو حسن طوبار فأرسل إليه الجنرال «دوجوا» كتابًا يدعوه إلى الاتفاق مع الفرنسيين، فرد عليه الشيخ حسن طوبار بما يلي: «إنني لا أريد أن أرى الفرنسيين لا عن قرب ولا عن بعد، وإذا أكدوا لي أنهم يبقون مسالمين هادئين في ضواحي المنزلة، فإنني أدفع لهم الضرائب التي كنت أدفعها للمماليك، ولكنني لا أريد أن يكون بيني وبين الكافرين أقل اتصال.»
وبعد ثلاثة أيام أرسل الجنرال اندريوسي الضابط «تيرليه» رئيس فرقة عمال الجسور، والكابتن ساباتيه من فرقة المهندسين للقيام بالأعمال المتعلقة بسير غور البحيرة ومعرفة ما أراده بونابرت.
وقد أكرهت هذه الموقعة مراكب العدو على الابتعاد حتى المصب القديم في «بياوس» ومكنت الفرنسيين من إقامة حاميات عسكرية في المطرية والمنزلة لحماية العمارة البحرية الفرنسية التي خصصت للجولان في البحيرة.
وإلى هنا ينتهي التلخيص من الفرنسية عن بحيرة المنزلة وما جرى من المناوشات الفرعية في شمال الدلتا.
(٧) مخابرات سياسية
المعسكر العام بالقاهرة في ٢٢ أغسطس ١٧٩٨ (يوافق ١٠ ربيع أول سنة ١٢١٣)
على الستوين بوفوازين أن يذهب إلى دمياط ومنها يبحر على سفينة تركية أو يونانية قاصدًا يافا ليحمل إليها الخطاب المرفق بهذا إلى أحمد باشا الجزار، وليطلب مقابلته لكي يصرح له بصوت عالٍ أن المسلمين ليس لهم أصدقاء صادقون في أوروبا مثلنا، وإنني قد علمت مع الأسف أنهم يعتقدون في سوريا أنني أنوي الاستيلاء على أورشليم «بيت المقدس» والقضاء على الدين الإسلامي، ليقل له إن مثل هذا الظن بعيد عن رغبتي وميولي، فليكن مطمئن الخاطر مستريح البال، وإنني أعرفه بالسماع لما اتصل بي من أنه رجل ذو فضل وكفاءة، وليؤكد له أنه إذا أحسن التصرف معنا ولم يتعرض لمن لا تعرض له فإننا نصادقه، وبدلًا من أن يكون وجودنا في أرض مصر منقصًا لسطوته، فإنه يزيدها قوة وتمكينًا، وأنني أعلم أن المماليك الذين بددت شملهم قد كانوا أعداءه، ويجب عليه أن لا يخلط بيننا وبين عامة الأوروبيين؛ ذلك لأننا بدلًا من أن نستعبد المسلمين، فإننا بالعكس نفسح لهم طريق الحرية، والخلاصة أن على رسولنا أن يشرح لأحمد باشا ما وقع في مصر، ويحسن أيضًا أن يزيل من رأسه فكرة الاستعداد للحرب، ويبعده عن التدخل في المشاغبات، وإذا لم يكن أحمد باشا في يافا فعلى الستوين «بوفوازين» التوجه إلى عكة، ولكن يحسن به أن ينتهز فرصة وجوده في يافا لزيارة الأسر الأوروبية، وخصوصًا ليقابل وكيل القنصل الفنرساوي، ولكي يقف على أخبار الآستانة وما يجري من الأمور في سورية.
إلى أحمد باشا حاكم صيدا وعكا
معسكر القاهرة (في ٢٢ أغسطس ١٧٩٨)
إنني لم آت مصر محاربًا للمسلمين بل جئتها لمحاربة البكوات، واعتقد أني بالقضاء عليهم قد عملت عملًا عادلًا وموافقًا لصالحك؛ لأنهم كانوا أعداءك ولا بد أنك تعلم أنني لما وضعت قدمي في مالطة كان أول عمل عملته أن أطلقت سراح ألفين من أسرى الأتراك الذين قصوا عدة سنين في ذل الأسر والعبودية، وما وصلت إلى مصر حتى طمأنت خواطر الأهالي وبالغت في احترام العلماء ورجال الدين ومساجد المسلمين، ولم يلق حجاج بيت الله مثل ما لاقوا من العناية والرعاية معي، ولم يحتفل بمولد النبي بمثل ما احتفلت به بالأبهة الكاملة والاحترام العظيم.
وقد بعثت إليك بهذا الخطاب مع ضابط يستطيع أن يوقفك على ميولي ورغبتي في أن أكون معك على صفاء وسلام لتساعد معنا على ترقية الوسائل التي تؤدي لنمو التجارة وخير البلدين، وأؤكد أنه لا يوجد للمسلمين أخلص أصدقاء من الفرنساويين. ا.ﻫ.
لا أريد أن أدخل معك في حرب، نعم أنك لست عدوًّا، لي ولكن حان الوقت لتعلم أنك إذا بقيت جاعلًا حدود مصر ملجأ لإبراهيم بك، فإنني أعد ذلك علامة للعداء وأذهب إلى عكا.
وإذا كنت تريد أن تبقى في سلام معي فابعد إبراهيم بك على مسافة أربعين فرسخًا من حدود مصر، ودع التجارة حرة بين دمياط وسوريا.
وحينئذ أعدك باحترام البلاد التي تحت إمارتك وأترك للتجارة الحرية التامة بين مصر وسوريا في البر وفي البحر.
•••
وقد أكدت المصادر الموثوق بها أن الجزار كان قد عقد مع الإنكليز اتفاقًا على أنهم يحمون عكا بمدافع أساطيلهم، ولولا ذلك لما عجز نابوليون، في حملته على الشام عن فتح عكا وعن إدراك ما أراده وكانت تطمح إليه آماله في الشرق.
ونرى من الواجب هنا ذكر شيء عن تاريخ أحمد باشا الجزار ليكون لدى القارئ صورة في ذهنه عن هذا الرجل الغريب، ويوفق بينها وبين حكمنا السابق عليه.
ذكر الشيخ الجبرتي أحمد باشا الجزار في وفيات سنة ١٢١٩ هجرية ووصفه «بالجناب المكرم، والمشير المفخم، والوزير الكبير، والدستور الشهير» وأثنى عليه على الرغم مما ذكره من مظالمه التي قال فيها: «وأخاف النواحي وعاقب على الذنب الصغير بالقتل والحبس والتمثيل، وقطع الآناف، والآذان والأطراف، ولم يغفر ذلة عالم لعلمه، أو ذي جاه لوجاهته، وسلب النعم عن كثير جدًّا من ذوي النعم واستأصل أموالهم، ومات في محبسه ما لا يُحصى من الأعيان والعلماء وغيرهم، إلى غير ذلك من الفظائع.» ثم قال: «ولقب بالجزار لما قتل من شيوخ عربان البحيرة نيفًا وسبعين كبيرًا وجاء برءوسهم للقاهرة.» وهنا يسأل القارئ وما كان شأن أحمد باشا الجزار والي عكا بالبحيرة والقاهرة؟ فنقول: إن أصل هذا الرجل من بلاد البوسنة، قال عنه المرحوم جودت باشا في تاريخه: «إن الجزار لم يكن من المماليك، بل هو بوسنوي الأصل من طائفة البوشناق الذين هم أشجع وأقوى طوائف الروم أيلي.» وقال عنه: «إنه قدم إلى دار السعادة وعمره ثمان عشرة سنة واشتغل حلاقًا ثم سار يتردد إلى دائرة علي باشا حكيم أوغلي، الذي عين واليًا على مصر سنة ١١٦٩ هجرية «١٧٥٥م»، فسافر معه إلى مصر كواحد من الأتباع ثم أخذ يلتصق بالبكوات المماليك، وقلده علي بك الكبير كشوفية البحيرة وقتل من الأعراب من قتل أخذًا بثأر سيده عبد الله، أحد أتباع علي بك، ثم فر من مصر في حوادث يطول شرحها فسافر إلى الآستانة، ثم عاد لمصر متنكرًا وآوه عربان البحيرة الذين فتك من قبل برجالهم»!! ومما قاله الجبرتي: «وأقام بعرب الهنادي وتزوج هناك فلما أرسل علي بك «الكبير» التجاريد إلى ابن حبيب والهنادي حارب الجزار معهم ثم سافر إلى بلاد الشام.» وتقلبت به الأحوال من بؤس ورخاء، ولم يذكر الجبرتي أنه عاد لمصر مرة ثالثة ولكن جودت باشا يقول: «إنه بعد إقامته بدمشق خاوي الوفاض مرتبكًا لأنواع السفالة والدناءة، توجه إلى مصر في زي أرمني، وبعد أن بات في بيته ثلاث ليال أخذ المال الذي في داره وجاء مرة أخرى إلى الشام.»
وكانت في سوريا «سنة ١١٨٥» منافسة: بين أولاد الظاهر عمر والدروز فدخل بينهم وصدرت إرادة الدولة باستخلاص صيداء من أولاد الظاهر وعين خليل باشا متصرف القدس قائدًا للجند فكان الجزار معه، وأخيرًا توصل الجزار إلى أن سار محافظًا على قلعة بيروت ثم واليًا لعكا.
القيادة العامة الفرنسية بالقاهرة في ٥ فركتدور العام الرابع
للثورة، الموافق ٢٢ أغسطس ١٧٩٨
إلى الصدر الأعظم
يا دولة السيد العظيم: إن الجيش الفرنسي الذي أتشرف بقيادته قد دخل مصر ليعاقب البكوات المماليك على الإهانات التي لم يكفوا عن توجيهها للتجار الفرنسيين.
وقد عين المواطن «تاليران بيريجور» وزير الشئون الخارجية في باريس سفيرًا من قبل فرنسا في الآستانة بدلًا من المواطن «ادبرت دوبايبت» وزود بالسلطة والتعليمات اللازمة من لدن «الديركتوار» المفاوضة، وعقد معاهدة وتذليل ما عساه يقف من الصعوبات بشأن احتلال الجيش الفرنسي لمصر، ولتوطيد دعائم المحبة القديمة التي لا بد من بقائها بين الدولتين.
ولما كان يحتمل أن السفير لم يصل حتى الآن إلى الآستانة، فقد بادرت لإطلاع دولتكم على نية الجمهورية الفرنسية فهي لا تريد فقط إعادة العلاقات الحسنة القديمة، بل تروم أيضًا الحصول على تأييد الباب العالي، وهي في حاجة شديدة إلى تأييده للقضاء على أعدائها الطبيعيين الذين يعملون ضدها.
ولا بد أن يكون السفير «تاليران بريجور» قد وصل الآن، وإذا كان قد تأخر بسبب بعض الطوارئ فأرجوكم أن ترسلوا إلى القاهرة من يكون موضع ثقتكم، وتزودوه بالتعليمات والسلطة اللازمة، أو أن ترسلوا إليَّ فرمانًا حتى أستطيع أن أرسل لكم وكيلًا، ليحدد معكم مصير هذه البلاد، ويدبر الأمور التي تكون في مصلحة عظمة السلطان والجمهورية الفرنسية حليفته الأكثر أمانة، وتوقع في الارتباك والحيرة البكوات والمماليك أعداءنا المشتركين.
وأرجو دولتكم قبول الاحترامات.
ولم يصل هذا الخطاب لحكومة جلالة السلطان حتى كانت الدولة العثمانية قد أعلنت الحرب رسميًّا على فرنسا في ٢١ ربيع الأول الموافق ٢ سبتمبر من تلك السنة، وأخذت في جمع الجيوش بمدينة دمشق وبجزيرة رودس لإرسالها لمصر وأتت الدونائمة الروسية من البحر الأسود إلى بوغاز الآستانة، ثم خرجت إلى البحر الأبيض مع الدونانمة العثمانية، وذلك بمقتضى معاهدة أبرمت بين إنكلترا والدولة العثمانية والروسيا لمحاربة فرنسا، وإخراج جيوشها من أرض مصر، فكان ذلك من أعظم الأسباب التي حملت نابوليون على حرب الشام ومفاجأة الدولة قبل استعدادها كما سيأتي ذلك في مكانه.
وحاول نابوليون التأثير على العالم الإسلامي ورجال الدولة العثمانية بواسطة علماء مصر فاستكتبهم رسالة مطولة للتنويه بذكر الفرنساويين وحسن معاملتهم واحترامهم للدين الإسلامي، ولم نقف على نص هذه الرسالة؛ لأن الشيخ الجبرتي ضن بنشرها بالنص كأن نفسه لم تكن راضية عما فيها، مع أنهم طبعوها ونشروها في القاهرة، ومع ذلك فهو نفسه عمدتنا الوحيد فيما كتبه عنها قال: وفي السبت ثامن عشر ربيع الثاني كتبوا من المشايخ «تأمل هذا التركيب» كتابًا يرسلوه إلى السلطان وآخر إلى شريف مكة، ثم إنهم بصموا منه عدة نسخ وألصقوها بالطرق والمفارق وصورته بعد الصدور، ذكر ورودهم «الفرنسيس» وقتالهم مع المماليك وهروبهم، وأن جماعة من العلماء ذهبت إليهم بالبر الغربي فأمنوهم، وكذلك الرعية دون المماليك، وذكروا فيه أنهم من أخصاء السلطان العثماني وأعداء أعدائه، وأن السكة «النقود» والخطبة باسمه، وشعائر الإسلام مقامة على ما هي عليه، وباقي المنشور بمعنى الكلام السابق من قولهم إنهم مسلمون وإنهم محترمون للقرآن والنبي، وإنهم أوصلوا الحجاج المتشتتين وأكرموهم، وأركبوا الماشي وأطعموا الجيعان وسقوا العطشان، واعتنوا بيوم الزينة يوم جبر البحر، وعملوا له شأنًا ودونقًا استجلابًا لسرور المؤمنين، وأنفقوا أموالًا برسم الصدقة على الفقراء، وكذلك اعتنوا بالمولد النبوي وأنفقوا أموالًا في شأن انتظامه واتفق رأينا ورأيهم على بس حضرة الجناب المحترم مصطفى أغا كتخدا بكر باشا والي مصر جالا فاستحسنا ذلك لبقاء علاقة الدولة العلية، وهم أيضًا مجتهدون في إتمام مهمات الحرمين وأمرونا أن نعلمكم بذلك والسلام. ا.ﻫ.
وغريب أن يطلب نابوليون من المشايخ كتابة هذا المنشور في ١٨ ربيع الثاني بعد أن كانت الدولة العلية قد أعلنت الحرب على فرنسا وجمعت جيوشها لإخراج الفرنساويين من مصر منذ شهر تقريبًا، ويبعد أن لا يكون نابوليون ورسله وجواسيسه منتشرة في مصر وسوريا على بينة من ذلك، ومن الغريب أيضًا أن يذكر في هذا المنشور أن أبا بكر باشا لا يزال واليًا على مصر!!
(٨) تلبد الجو بالغيوم
لا نزاع في أن نابوليون قد تأكد في ذلك الوقت أن مركزه قد أصبح محفوفًا بالمخاطر، فالطريق إلى فرنسا قد سدت في وجهه ولم يعد له أدنى أمل في العودة إلى بلاده، وكيف يكون ذلك وإنجلترا مسيطرة على البحر الأبيض المتوسط، ولم يبق من سفن فرنسا ما يصلح لنقل شرذمة من الجنود من موانئ فرنسا إلى مصر، وحكومة «الديركتوار» في باريز قد اختلت واعتلت وناوأها الخصوم والأعداء من كل جانب، والكثير من أعضائها يخشى سطوة نابوليون وشهرته!! كل هذه أمور لم تكن لتخفى على ثاقب فكر ذلك الرجل العظيم الذي برهن في حياته على ذكاء نادر المثال، ولقد ذكر «بوريين» في مذكراته أنه كان يجد نابوليون في القاهرة أثناء هذه الفترة شديد التفكر، كثير الصمت، بادي القلق والاضطراب … ولا غرابة في ذلك فهذه حاله من جهة وطنه، فهو لا شك قد علم أن ثلاث دول كبار، تركيا وروسيا وإنكلترا، قد أشهرت الحرب عليه وصممت على الفتك به ومن معه في أرض مصر، فلا بد له من مقاومتها بكل الوسائل التي يستطيعها، والوسيلة الوحيدة أمامه هي مهاجمة تركيا في سوريا، والاستيلاء على تلك الديار؛ إذ كان يعلم أن جيشه أحسن نظامًا وأكمل عدة من جيش الأتراك في ذلك الزمن، ولكن يلزمه للقيام بهذه المهمة المال الوفير، فمن أين يأتي به؟ لم يكن لديه مصدر غير مصر! وما أتعس حظ مصر!
ولقد سبق لنا أن شرحنا في هذا الكتاب أن موارد مصر قد نضبت وزد على ذلك أن تجارتها القليلة من طريق البحر الأبيض أو من البحر الأحمر قد عطلت بمحاصرة الإنكليز لشواطئها، ولم يكن من مصلحة نابوليون وسياسته القاضية باستجلاب محبة المصريين ومودتهم، أن يلجأ إلى ما كان يلجأ إليه المماليك، من مصادرة أموال الناس وامتصاص دمائهم، نعم إن الفرنساويين فعلوا شيئًا من هذا على طرق شتى، ودعاوى مختلفة، ولكنهم فعلوه على شكل معقول، كدعوى مصادرة أملاك المماليك وتفتيش بيوتهم، ومطالبة الذين ينتسبون إليهم أو يخابرونهم بشيء من المال على قدر طاقتهم، ولو زاد الأمر عن ذلك الحد لما اتفق مع دعوى الفرنساويين بأنهم قدموا لينقذوا البلاد من ظلم المماليك، وليحافظوا على الحقوق، وليحترموا الواجبات!
قال الشيخ الجبرتي في هذا الصدد: «إن الغرض من ذلك التحيل على أخذ الأموال إذ طلبوا من الناس إثبات ملكيتهم، فإذا أحضروا حججهم وأثبتوا وجه تملكهم لها، إما بالبيع أو بالانتقال لهم بالإرث، لا يكتفى بذلك يأمر بالكشف عليها في السجلات، ويدفع على ذلك دراهم بقدر عينوه، فإن وجدوا تمسكه مقيدًا بالسجل طلب منه بعد ذلك الثبوت، ويدفع على ذلك الإشهاد وثبوته قدرًا آخر، ثم ينظر بعد ذلك في قيمة العقار ويدفع على كل مائة اثنين فإن لم تكن له حجة، أو كانت ولم تكن مقيدة بالسجل، أو مقيدة ولم يثبت ذلك التقييد، فإنها تضبط لديوان الجمهور وتصير من حقوقهم.»
ووضع له بوسيلج مشروعًا آخر للضرائب يقضي بتحصيل أموال عن المواريث والتركات، وفي هذا يقول الجبرتي، وهو أدرى بشعور قومه: «ومن جملة الشروط مقررات على المواريث والموتى ومقاديرها متنوعة في القلة والكثرة كقولهم: إذا مات الميت يشاورون عليه ويدفعون معلومًا لذلك ويفتحون تركته بعد أربع وعشرين ساعة، فإذا بقيت أكثر من ذلك ضبطت للديوان أيضًا ولا حق فيها للورثة، وإن فتحت على الرسم بإذن الديوان يدفع على ذلك الإذن مقررًا وكذلك على ثبوت الورثة، ثم عليهم بعد قبض ما يخصهم مقرر، وكذلك من يدعي دينًا على الميت يثبته بديوان الحشريات ويدفع على إثبات مقررًا ويأخذ له ورقة يستلم بها دينه فإذا استلمه دفع مقررًا أيضًا! ومثل ذلك في الرزق جمع «رزقة» والأطيان بشروط وأنواع وكيفية أخرى غير ذلك والهبات والمبايعات والدعاوى والمنازعات والمشاجرات والإشهادات الجزئيات والكليات، والمسافر كذلك لا يسافر إلا بورقة ويدفع عليها قدرًا، وكذلك المولود إذا ولد ويقال له إثبات الحياة، وكذلك المؤاجرات وقبض أجر الأملاك وغير ذلك.» ا.ﻫ.
خلص المصريون من ظلم فوضى، فوقعوا في ظلم منظم! ولكي يعطيه صفة النظام، ويلبسه ثوب العدل، أصدر نابوليون أمره بعقد مجلس عام مؤلف من كبار الأمة وأعيانها من جميع أطراف القطر المصري، للموافقة والتصديق على هذا المشروع المالي «كتصديق الجمعية العمومية على الضرائب» فحضر من الإسكندرية ورشيد ودمياط وبقية بنادر القطر المصري بعض علمائها وأعيانها، واجتمع هذا الجمع في بيت قائد أغا بالأزبكية، قال الجبرتي: «فتوجه المشايخ المصرية والذين حضروا من الثغور والبلاد وكذلك أعيان التجار ونصارى القبط والشوام ومديرو الديوان من الفرنسيس وغيرهم جمعًا موفورًا.»
ثم افتتحت الجلسة بخطاب مطول عن مصر وتاريخها وكونها بلادًا خصبة أضر بها الظلم وسوء الإدارة، وأن الفرنساويين بعثهم الله لينقذوها من الخراب والدمار، وأنهم يريدون إصلاحها وتنظيم أمورها، وأنهم استدعوا كبار المصريين في هذه الجمعية للاستفادة من خبرتهم … إلى غير ذلك، وبعد أن أتم المترجم قراءة هذا الخطاب الذي يظهر من لهجته أنه من إنشاء نابوليون نفسه، طلب من الحاضرين انتخاب رئيس لهم.
وكان نابوليون قد حنق على الشيخ الشرقاوي؛ لأنه أبى أن يضع على كتفه طيلسان الجمهورية الفرنساوية ذا الثلاثة ألوان، وزجر نابوليون وخرج مغضبًا من عنده، وعبارة الشيخ الجبرتي في هذه النقطة ظريفة قال: «ثم قال الترجمان نريد منكم يا مشايخ أن تختاروا شخصًا منكم يكون رئيسًا عليكم، فقال بعض الحاضرين: الشيخ الشرقاوي: فقال «نو نو»: وإنما يكون ذلك بالقرعة بأوراق فطلع الأكثر على الشيخ الشرقاوي، فقال حينئذ: يكون الشيخ الشرقاوي هو الرئيس.» وانقضى الاجتماع الأول وكان ذلك يوم السبت ٢٥ ربيع الثاني، وفي يوم الاثنين اجتمع المجلس وكلف المعلم ملطي القبطي الذي شارك «بوسيلج» في وضع مشروع الضرائب، بتلاوته ولم يقرروا في ذلك اليوم شيئًا، وفي يوم الخميس اجتمعوا ثانية وأظهر المشايخ معارضة شديدة في تسجيل حجج الممتلكات، وقالوا: الأولى أن تقرض على العقارات ضرائب ليسهل تحصيلها ويكون ترتيبها بنسبة قيم الممتلكات، كعوائد الأملاك في الزمن الحاضر، ثم اجتمعوا مرة ثالثة وقرر المشايخ كيفية قسمة الورثة في الشريعة الإسلامية، فلم يرض بها الفرنساويون، وكانوا يريدون أن يورثوا الابن كالبنت بدعوى أن الولد أقدر على الكسب من البنت! فاحتدم الجدال بين الطرفين، ولكن يظهر من الأخبار القليلة التي وصلت إلينا عن هذا الاجتماع أن الأقباط والسوريين «ذكر منهم الجبرتي الخواجه ميخائيل كحيل من أعضاء هذه الجمعية» قالوا: إننا أعتدنا أن نقسم مواريثنا على شريعة الإسلام وقر القرار على أن يضع المشايخ بيانًا بكيفية المواريث في الشريعة المحمدية، وكان آخر اجتماع لهذا المجلس الغريب يوم السبت ١٠ جمادى الأول إذ تقررت فيه عوائد الأملاك والعقار، فجعلوها ثلاث درجات يدفع الأعلى ثمانية ريالات فرنسية، والأوسط ستة والأولى ثلاثة، وما كانت أجرته أقل من ريال في الشهر فلا يدفع عنه شيء، قال الجبرتي: «وأما الوكائل والحمامات والمعاصر والسيارج والحوانيت فمنها ما جعلوا عليه ثلاثين وأربعين بحسب الخسة والرواج والاتساع، وكتبوا بذلك مناشير على عادتهم والصقوها بالمفارق والطرقات، وأرسلوا منها نسخًا للأعيان وعينوا المهندسين ومعهم أشخاص لتمييز الأعلى من الأدنى وشرعوا في الضبط والإحصاء وطافوا في الجهات لتحرير للقوائم وضبط الأسماء وأربابها … إلخ.»
ولا شك في أن هذه الاجتماعات، وما نشر من قبل من مشروع الضرائب الجديدة قد شغل بال أهالي القاهرة، فكان ذلك حديثهم في مجتمعاتهم وكثر لغطهم، وتضاربت آراؤهم، وغير خاف أن ثروة مصر في ذلك الزمن تجمعت في مدينة القاهرة، وتنوعت طبقات أهلها، من الملاك وأصحاب الدور الكبيرة والوكائل العديدة والحوانيت الكثيرة، إلى أرباب الحرف الصغيرة، وهذه الضريبة تمسهم جميعًا من الكبير إلى الصغير، وكانوا قد ألفوا عدم دفع ضريبة ما اكتفاء بما كان المماليك يتحصلون عليه من أثمان محصولات البلاد، وما كانوا يفرضونه من الضرائب والمغارم على الأغنياء من التجار المصريين والأجانب على حد سواء.
فلا غرابة إن أظهر أهل القاهرة التململ من هذه الضرائب الجديدة الفادحة التي لم تخل منهم كبيرًا ولا صغيرًا، ولا غنيًا ولا فقيرًا، فكان ذلك سببًا لثورتهم وهياجهم، تلك الثورة التي عادت عليهم بالوبال والنكال كما سنفصل ذلك في مكانه.
ومن رأي «لاكروا» عن أسباب الثورة، أن الأغنياء وأصحاب المصالح من المصريين مالئوا الفرنساويين وامتنعوا عن مقاومتهم؛ لأن صوالحهم تقضي عليهم بتجنب أسباب القلاقل، ولكن فرض هاتيك الضرائب على دورهم وعقارهم، وتركاتهم وديونهم ومؤاجراتهم، ودخلهم وخرجهم، قد نفر قلوبهم من الفرنساويين فساعدوا على تحريض العامة والغوغاء.
ومن رأي «بيريه» أن بعض علماء الأزهر وغيرهم من المشايخ الذين لم ينتخبوا لعضوية الديوان، ولم يشاركوا الفرنساويين في الأحكام وإدارة الأمور، حقدوا على الآخرين الذين خصوا بذلك وصارت لهم كلمة مسموعة في شئون البلاد، فانتهز أولئك الحاسدون فرصة تذمر الناس من الضرائب الجديدة، فحرضوهم على الهياج والثورة تحت ستار الدين.
ومن المؤرخين من ينسب ثورة أهالي القاهرة لتحريضات المماليك وما ورد من إبراهيم بك من المنشورات، ومن رجال الدولة العثمانية من المراسلات والمكاتبات، ومن هؤلاء المعلم نقولا الترك، وهاك ما يقوله في هذا الصدد ننقله بحرفه لما فيه من الفائدة التاريخية، وليقف القراء على أسلوبه ونظريته: قال: «إنه من بعد أن مكثت الفرنساوية، في المملكة المصرية مقدار ثلاثة أشهر فكان المسلمون يظنون أن سترد لهم الأوامر من الدولة العثمانية بتقريرهم على المملكة حسبما كانوا يشيعون، أنهم حضروا إلى مصر بإدارة السلطان سليم، وكان يخبر أمير الجيوش بقدوم عبد الله باشا العظم من الشام إلى مصر وأعد له منزلًا ينزل فيه وأمر بتدبيره وفرشه ومضت المدة المعينة ولم يحضر أحد فتسبب من قبل ذلك أسباب كثيرة للنفور، وإيداع الفتن والشرور، من قتل السيد محمد كريم؛ لأنه كان أحد الأشراف، ومن ورود المكاتيب من الأمراء المصريين، وكتابات أحمد باشا الجزار إلى البلاد المصرية، واستنهاضهم على الفرنساوية، وإنه قادم عليهم بالعساكر العثمانية، وقد كان الفرنساوية يخرجون البنات والنساء المسلمات، مكشوفات الوجوه في الطرقات، ثم اشتهار شرب الخمر وبيعه إلى العسكر، ثم هدم جامع ومنارات في بركة الأزبكية لأجل توسيع الطرقات، لمشي العربات، وكان المسلمون يتنفسون الصعداء من صميم القلوب، ويستعظمون في هذه الخطوب وصاحوا لقد آن أوان القيام، على هؤلاء اللئام، فهذا وقت الانتصار إلى الإسلام.»
ونحن لا نجادل في أن الأمور التي عددها المعلم نقولا قد آلمت المسلمين وقرحتهم في مشاعرهم، ولكنها لم تكن هي السبب الأصلي في الثورة؛ لأن منشور الجزار ومكاتيب المماليك لم تصل القاهرة إلا بعد الثورة بنحو أسبوعين، كما هو وارد في الجبرتي، وما نظن الجزار في عكا قد طبع منه المئات والألوف، بل غاية ما كتب منه بضع نسخ وقعت في أيدي الفرنساويين فأبادوها، حتى إن الجبرتي نفسه لم يحصل على نسخة منها، وكذلك المعلم نقولا نفسه بدليل خلو كتابيهما منه، ثم إن المصريين كانوا قد ألفوا خروج النسوة العاهرات مكشوفات الوجوه مع الفرنساويين، والكثير من أولئك النسوة كن من السراري والجواري البيض والحبشان اللاتي وجدهن الفرنساويون في دور المماليك، وأولئك النسوة لا دين لهن ولا عرض وليسوا مصريات، وما كان المصريون يعدونهن من الحرائر إلا إذا اعتقن وتزوجن بعقد نكاح، وهذا الجبرتي، وهو من أقدم البيوتات العريقة في الحسب والنسب، ومن أهل التقوى والشدة في الدين، يذكر خروج أولئك النسوة مع الفرنساويين بغير تغيظ ولا انتقاد، كقوله عند سفر الفرنساويين للشام «وكان معهم عدة مواهي ومحفات للنسوة الجواري البيض والسود والحبوش اللاتي أخذوها من بيوت الأمراء وتزيا أكثرهن بزي نسائهم الإفرنجيات.» وكتب الجبرتي عن حضور القومندان الفرنسي لخط الشهد الحسيني وجلوسه في القهاوي مع الأهالي فقال: «ويحضر معهم ذلك الضابط ومعه زوجته وهي من أولاد البلد المخلوعين.» «كذا»، وغير خاف أن أولئك النسوة الرقيقات، من الأرمنيات والروميات والجركسيات، كن حلًّا لمن يبتاعهن من النصارى واليهود، وكان أغنياء الأقباط يتخذون منهن السراري كعادة المسلمين في ذلك الزمن، فما كان خروجهن مع الفرنساويين داعيًا للثورة، وإن كان فيه من تغيير القلوب، واستنكار كشف وجوههن، بعد أن كن نسوة للمماليك وغيرهم، ما فيه ثم إن شرب الجنود الفرنسية للخمر وبيعه لهم بواسطة نصارى الشوام أو الأورام لا ينغص عيش المسلمين ويدفعهم إلى الثورة، ومن الغريب أن المعلم نقولا الترك يعدد كل هاتيك الأسباب وينسى السبب المباشرة للثورة كما اعترف به الفرنساويون وشهد به المعاصرون.
وقد كتب الشيخ عبد الله الشرقاوي في رسالته «تحفة الناظرين» قال: «فلما قامت عليهم أهل مصر بسبب طلبهم تقريد غرامة «كذا» على البيوت، قتلوا منهم ما يقرب من الألف، وهتكوا بعض الأعراض في مصر وقتلوا من علماء مصر نحو ثلاثة عشر عالمًا، ودخلوا بخيولهم الجامع الأزهر.» فالشيخ الشرقاوى، كبير علماء المسلمين في ذلك الزمن، قد كان أولى من المعلم نقولا الترك بأن يذكر أن خروج النساء حاسرات الوجوه، وبيع الخمور، وهدم المآزن والمساجد، كل ذلك كان سببًا للثورة، بدلًا من تخصيصه السبب بذكر الضرائب على البيوت.
والخلاصة أن الباحث المدقق والمؤرخ المنصف يحكم لأول وهلة أن السبب الأصلي في تلك الثورة هو مشروع هاتيك الضرائب الفادحة، ولا نزاع مطلقًا في أنه متى وجد السبب، ودبت عقارب العدوان، وغلت مراجل القلوب، تكونت الأسباب الأخرى المرشحة للسبب الأول فتعطيه صفة تطير حولها قلوب العامة والغوغاء، ومن قبل فيعرض منهم حياته للموت الزؤام تحت مخدر المؤثرات الدينية، والعوامل الملية، والنعرات والقومية … فالتعصب الديني الذي ينسبه الكتاب المسيحيون من أمثال نقولا الترك ومن جاراه من المؤلفين الحديثين، كالشيخ الدحداح ومن على شاكلته، لم يكن هو سبب الثورة بحال من الأحوال، وإن تكن الثورة قد لبست ثوب الدين في شكل من أشكالها، فما ذلك إلا لمقتضيات الظروف التي لا بد منها، والتي تصحب هياج العامة في كل زمان ومكان.
هوامش
«فيلتوف» إميرال فرنسي ولد في سنة ١٧٦٣ ورقي في سنة ١٨٠٤ إلى الأميرالية، وكان فيلتوف سيئ الطالع وشؤمًا على الأسطول الفرنسي، ففي موقعة الطرف الأغر اضطر لنسف سفينته حتى لا تقع في يد الإنكليز، وهلك في هذه الموقعة سبعة آلاف فرنسي، وغرقت ١٧ سفينة وأسر الإنكليز فيلتوف، ولما عاد إلى فرنسا سنة ١٨٠٦ انتحر في غرفة بأحد الفنادق لأسباب لم تنشر إلا بعد اثنين وعشرين سنة من وفاته.
وقد ظهرت خبرته في كل المسائل ووقوفه على دقائقها في المخابرات التي كانت تدور بينه وبين القائد العام، وكان له نفوذ كبير على مشايخ القرى بفضل جدارته وهيبة منظره.
ونال بوسيلج ذلك النفوذ العظيم بسبب اتصاله بكبار المصريين واختلاطه بهم؛ لأنه تعلم لغة البلاد بسرعة مدهشة ولم يترفع عن مجالسة الأهالي الذين كانوا يحيطون به ويلقبونه «بالوزير» بل كان بالعكس يعمل للتقرب من قلوبهم ويهتم بعاداتهم، ويسأل المشايخ والموظفين عن شرائعهم ويظهر السرور للاختلاط بهم والاجتماع معهم، ويقبل دعوة كل من يدعوه لزيارته.
وكان لا يأنف من الجلوس معهم على الحصير يدخن التبغ الذي يقدمونه إليه ويشرب من قهوتهم، ويسمع أحاديثهم ويسأل ما يريده من الأسئلة، ولا ينفك عن النظر حول الملتفين حوله ليسبر ما يضمونه في قلوبهم حتى عده الناس قوة عظيمة ورضوا به حكمًا في كثير من أمورهم — عن كتاب «بونابرت ومصر» تأليف «جيهان ديفري» وهي سيدة فرنسية أقامت في مصر زمنًا طويلًا، Bonaparte et ĽEgypte Par Jehan D’lvray.