الحملة الفرنسية في الإسكندرية
كان ظهور السفن الفرنسية، بمن نقل من جنود وضباط وقواد علماء وذخائر وبنادق ومدافع، فاتحة عصر جديد لمصر، بدأ بالاحتلال الفرنسي، تحت قيادة أعظم القواد الحربيين الذين أظهرهم هذا الوجود، ثم عقب بالنزاع بين أوروبا، حول هذه البقعة المسماة وادي النيل … ذلك النزاع الذي ما برح يظهر على جميع الأشكال، وغريب الأحوال، من مطاردة الفرنسيين وإخراجهم، إلى معاضدة المماليك بإنزال قوة إنكليزية على الشواطئ المصرية، ثم بمقاومة محمد علي، وإيقافه عند حد لا يتعداه في مشروعاته ومطامعه، ثم بالمعارضة في فتح قنال السويس، إلى التداخل في أمور مصر المالية، حتى كانت الثورة العرابية، والاحتلال الإنكليزي، والحماية الظاهرة والمقنعة … كل هذه الحوادث والمشاكل خلفها وضع فرنسا قدمها في مصر، فإنه من ذلك الحين، أوجست إنكلترا خيفة من تعاظم نفوذ أية دولة أوروبية في وادي النيل، أو تقوية أي سلطة محلية، مما قد يكون عائقًا في تنفيذ سياستها القاضية بأن يكون طريقها إلى الهند في يدها، فكان لها القدح المعلى في كل هاتيك الحوادث والمشاكل، إلى أن استقر قدمها في مصر، عقب الثورة العرابية … ومع ذلك فستبقى مصر سببًا لمشاكل أوروبا ومنازعاتها وحروبها، حتى تنال استقلالها التام بطريقة تجعل الباب مفتوحًا، والثقة في التساوي كاملة، أو يحكم الله بأمر من عنده وهو خير الحاكمين.
والآن وجب علينا أن ندخل في تاريخ الحملة الفرنسية وحروبها وأعمالها في مصر مدة الثلاث سنوات التي حكم فيها الفرنسيون هذه الديار، وعاملوا أهلها بما عاملوهم به من عدل وظلم، وإكبار واحتقار، وتعمير وتدمير؛ إذ قد جمع في تلك المدة من المتناقضات ما سيظهر للقارئ على صفحات هذا الجزء الخاص بهذه الفترة.
وهلت سنة ١٢١٣ هجرية وهي أول سني الملاحم العظيمة، والحوادث الجسيمة، والوقائع النازلة، والنوازل الهائلة، وتضاعف الشرور، وترادف الأمور، وتوالي المحن، واختلال الأحوال، وفساد التدبير وحصول التدمير، وعموم الخراب وتواتر الأسباب، وما كان ربك مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون.
ولو وضعت حوادث الحملة الفرنسية في مصر، ونتائجها ومعاركها، في هيكل أو تابوت، وأريد أن ننقش لها كلمة تذكار، لما وجد الباحثون أفضل من عبارة هذا الشيخ الأزهري، عبد الرحمن بن حسن الجبرتي!!
كان الثغر الإسكندري في ذلك الوقت بلدة حقيرة لا يزيد عدد سكانه عن عشرة آلاف نسمة تقريبًا، وكانت تجارته قد اضمحلت وثروته قد نزفت وقلت، وكان الرئيس إذ ذاك فيها «والمشار إليه بالإبرام والنقض» هو السيد محمد كريم السكندري، وهو رجل لم أقف على حقيقة جنسيته، والغالب على الظن أنه مغربي الأصل استوطنت أسرته الإسكندرية، وكان كما رواه الجبرتي في ترجمته حياته، في أول أمره قبانيا يزن البضائع في حانوت الثغر، وعنده خفة في الحركة وتودد في المعاشرة، فلم يزل يتقرب إلى الناس، بحسن التودد، ويستجلب خواطر حواشي الدولة، وغيرهم من تجار المسلمين والنصارى، ومن له وجاهة وشهرة في أبناء جنسه، حتى أحبه الناس، واشتهر ذكره في الإسكندرية ورشيد ومصر، واتصل بصالح بك حين كان وكيلًا لدار السعادة، وله الكلمة النافذة في ثغر رشيد، ثم اتصل بواسطته إلى مراد بك فتقرب إليه، ووافق الغرض منه، وقلده أمر الديوان والجمارك بالثغر فعلت كلمته، ونفذت أحكامه، وكان قبودان الميناء التركي إدريس بك.
وقد سبق أن قلنا في ختام الفصل السابق إن الأميرال نلسون الإنكليزي جاوز بأسطوله العمارة الفرنسية جنوبي كريد ولم يرها، فقصد الإسكندرية لكي يدركها على ظنه، فوصلها قبل العمارة الفرنسية بثلاثة أيام فقط، لا بعشرة كما رواه الجبرتي، وتابعه المؤرخون الحديثون، بغير تمحيص ولا تحقيق، وللجبرتي العذر في أغلاطه التاريخية، فإنه إنما كان يكتب في القاهرة ويقول وردت مكاتبات على يد السعاة من الإسكندرية، ومضمونها أن في ثامن «محرم» وصلت عمارة إنكليزية فلا معني إذن لمتابعته، والنقل عنه، بغير تروٍ، وأوقات وصول هاتيك الأساطيل، وأولئك القواد العظام مضبوطة بالساعات، إن لم يكن بالدقائق في كتب القوم ومذكراتهم، ومع ذلك فلو أنهم قرءوا الجبرتي حق قراءته؛ أي: أنهم درسوا كل كتابه، ولم يكتفوا بالنقل، لوجدوا إن الجبرتي في وفيات سنة ١٢١٥ عند ترجمة حياة مراد بك، يقول بعد ذكره وصول العمارة الإنكليزية ومغادرتها المياه المصرية ما نصه: «فما هو إلا أن غابوا في البحر نحو الأربعة أيام إلا والفرنسيس قد حضروا وكان ما كان.» وهو قريب من الصواب أو هو الصواب بعينه، ومن أغلاطهم التي لا تغتفر تقريرهم أن القوة التي قدم بها نابوليون كانت تبلغ أربعين ألفًا، وأن عدد البوارج كان أربعمائة سفينة، مع أن البيان الرسمي موجود في كتب القوم، ومنها يظهر في الحال أن القوة التي برح بها أوروبا كانت ٣٢ ألفًا فقط، وأنه ترك منها في مالطة ثلاثة آلاف اعتاض عنها بألفين من المالطيين، وأن عدد السفن لم يزد عن ٣٢٠ سفينة.
فلما ألقى الأميرال نلسون مراسيه في الإسكندرية، ولم يجد العمارة الفرنسية بعث بقارب وفيه «على رواية الجبرتي» عشرة أنفار، فوصلوا إلى البر، واجتمعوا بالسيد محمد كريم، ومن معه من أعيان البلدة فكلموهم واستخبروهم عن غرضهم، فأخبروا أنهم إنكليز حضروا للتفتيش على الفرنسيس؛ لأنهم خرجوا بعمارة عظيمة يريدون جهة من الجهات، ولا ندري أين قصدهم، فربما دهموكم فلا تقدرون على دفعهم، ولا تتمكنون من منعهم، فلم يقبل السيد محمد كريم منهم هذا القول وظن أنها مكيدة منهم، وجاوبهم بكلام خشن، فقالت رسل الإنكليز: «نحن نقف بمراكبنا في البحر محافظين على الثغر، لا نحتاج منكم إلا الإمداد بالماء والزاد بثمنه.» فلم يجيبوهم لذلك، وقالوا هذه بلاد السلطان وليس للفرنسيس، ولا لغيرهم عليها سبيل، فعادت رسل الإنكليز وأقلعوا في البحر ليمتاروا من غير الإسكندرية، وليقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
ولو كان السيد محمد كريم أو غيره في الإسكندرية واقفًا على شيء من حوادث أوروبا، ومنازعات الإنكليز مع الفرنسيس لأمد أسطول نلسون بما أراد من ماء ومئونة، لا سيما وقد طلبوا شراء ذلك بالمال، ولترك لهم حريتهم حتى يتخابر مع حكام البلدة البكوات، ونائب السلطان، ولو تم ذلك، وبقيت العمارة الإنكليزية ثلاثة أيام أخرى، لكان لها، مع نابوليون وحملته، حال الله بها أعلم.
ويظهر أن رواية الجبرتي هي أصح الروايات؛ لأن الذي حمل نلسون على الإقلاع من مياه الإسكندرية، هو حاجته الشديدة للزاد والماء، بدليل أنه أقلع في الحال إلى شواطئ آسيا الصغرى فجزيرة سراقوزه، حيث امتار وعاد إلى الإسكندرية ثانية، فوصلها في أول أغسطس؛ أي: بعد نزول الفرنسيس أرض مصر بشهر كامل.
قال بوريين في مذكراته عن ذلك اليوم — وكان بوريين مرافقًا لنابوليون في باخرته — «فلما قال الأميرال إن نلسون لا يعود قبل بضعة أيام، عارض نابوليون واحتد قائلًا: يلزمنا أن لا نضيع دقيقة واحدة، فقد أعطاني الحظ ثلاثة أيام فإذا لم انتهزها خسرنا كل شيء.»
كانت الساعة الثانية من صبيحة يوم ٢ يوليو حين وضعنا أقدامنا في أرض مصر عند نقطة تبعد نحو ثلاثة فراسخ من الإسكندرية «جهة المكس»، وفي الساعة الثالثة بدأ بالزحف على الإسكندرية ثلاث آلايات تحت قيادة كليبر وبون ومورات تحت رياسة القائد العام.
ونقطة الخلاف هي هل كان دخول نابوليون مدينة الإسكندرية يوم الاثنين «٢ يوليو ١٨ محرم على رواية بوريين وهو شاهد عيان، وعليه أكثر اعتماد كُتاب الإفرنج»، أو في يوم الثلاثاء «٣ يوليو و١٩ محرم».
ومما جاء في مذكرات «بوريين» عند نزوله من السفينة أنه لما مد الأميرال يده لمساعدة نابوليون على النزول إلى القارب، رأى القارب قد ابتعد عن مكانه فصرخ قائلًا: «إن حظي بدأ يخونني»! ولكنه بعد صعوبة ومخاطرة وضع قدمه في أرض مصر الساعة الأولى بعد منتصف الليل!
وتكون الجيش الزاحف على الإسكندرية في الساعة الثالثة من صباح يوم الأحد ٢ يوليو «١٨ محرم سنة ١٢٢٣» من ثلاث فرق فقط «منو» على الجناح الأيسر و«كليبر» في القلب، «وبون» في الجناح الأيمن، وكان نابوليون بونابرت القائد العام، يسير على قدميه؛ لأنه لم يكن قد أنزل من الخيول القادمة مع الحملة جوادًا واحدًا، ولم يكن ذلك بالشيء الكثير على قائد طبقت شهرته الخافقين، وهو لا يزال في التاسعة والعشرين من عمره يوم وطئت قدمه أرض مصر!
أما أهل الإسكندرية فقد أزعجهم ظهور الأسطول في النهار، ولكنهم لم يكونوا ينتظرون أن يداهمهم العدو ليلًا؛ إذ المألوف عندهم أن الجيوش التي تنزل أرض مصر تأتي من جهة أبي قير، وأنه يلزمها عدة أيام لإفراغ شحن هذه السفن، وتنظيم قوة لمهاجمة المدينة، ولكنهم لم يعرفوا نابوليون وسر نجاحه، وهو الإقدام وعدم ضياع الوقت.
إلا أنه لما أنزلت الجنود الفرنسية في البر ليلًا في تلك الليلة المقمرة أسرع بدوي على فرسه بالسير إلى الإسكندرية، وأبلغ الخبر للسيد محمد كريم … ومن يدري كيف كان، وأين كان في تلك الساعة مع سراريه وأخدانه، على نحو ما ألف أهل ذلك الزمن، من الترف والنعيم واللهو، فأخذ معه نحو عشرين من المماليك الإنكشارية «على رواية الفرنسيين؛ إذ ليست لدينا رواية من مصادر أخرى» فالتقت هذه القوة الصغيرة عند مطلع الفجر بطليعة من الجيش الفرنسي فظنوها كل القوة القادمة، فهاجمها الإنكشارية وقتلوا ضابطها وقطعوا رأسه وعادوا بها ظافرين إلى شوارع الإسكندرية.
وما زال بونابرت سائرًا برجاله حتى أشرفوا على مدينة الإسكندرية، فكان أول ما لاح لهم في نور الفجر عمود السواري ثم المنائر والمباني، وصعد نابوليون في الساعة الثامنة صباحًا، على قاعدة عمود السواري لاستطلاع المدينة، وإعداد الحملة عليها.
وليس من غرضنا، ولا من خطتنا في كتابة هذا التاريخ، أن نتوسع في دقائق الحركات العسكرية ومواقع القتال؛ لأن وجهتنا سياسية محضة، وغايتنا هي بيان حالة البلاد والأمة، وما نقلب عليها من الحوادث والأحوال، وأما الحركات الحربية وذكر أسماء القواد والضباط، وتنقلات الأورط والألايات، وإيضاح نقل الذخائر والمهمات، فهو من خصائص التاريخ الحربي، وقلَّ أن يدعو إلى اهتمام القراء الذين وضع لهم هذا الكتاب.
ويكفينا أن نقول: إن الإسكندرية لم تكن محصنة، ولم يكن لها جيش كافٍ للدفاع، لا من جانب الدولة، ولا من جانب المماليك، فلم يأتِ ظهر ذلك اليوم، حتى كان نابوليون قد دخل المدينة ونزل في دار القنصل الفرنسي، والتجأ السيد محمد كريم، ومن بقي حوله من الملتفِّين به إلى حصن فرعون، وأما الأهالي فسلموا، ودارت المخابرات مع السيد محمد كريم طول ليلة الإثنين، وانتهى الأمر بأن جاء هو ومن معه مستسلمين، وهكذا سقطت الإسكندرية، التي أسسها القائد اليوناني الكبير، أعظم قواد العصور الأولى في يد نابوليون بونابرت، أعظم قواد العصور الحديثة!! هكذا الدهر بالناس قلب.
قال الجبرتي: «فنادى الفرنسيس بالأمان في البلد، ورفع بنديراته عليها وطلب أعيان الثغر فحضروا لديه فأمرهم بجمع السلاح وإحضاره إليه، وأن يضعوا «الجوكاد» في صدورهم فوق ملبوسهم، والجوكاد ثلاث قطع من جوخ أو حرير أو غير ذلك، مستديرة في قدر الريال، سوداء وحمراء وبيضاء، توضع بعضها فوق بعض بحيث تكون كل دائرة أقل من التي تحتها حتى تظن أن الألوان الثلاثة كالدوائر المحيط بعضها ببعض.»
قال كُتاب الفرنسيس: أما السيد محمد كريم فإنه قبل أعتاب نابوليون، وقال له: إنه أصبح عبده ومولاه، وخطب بين يديه، فرضي عنه نابوليون وطلب منه أن يكون خادمًا للجمهورية الفرنساوية، مساعدًا لها على إبادة المماليك، وتأييد سلطة خليفة المسلمين، سلطان آل عثمان!!!! فأجابه السيد كريم إلى ما طلب، فعين قومندانًا للبوليس في الثغر فقام بواجبه خير قيام؛ إذ أعاد النظام في المدينة وجمع السلاح وقدم للجيش الفاتح كل ما يحتاجه.
ويظهر من قول نابوليون للسيد كريم «إنه يريد إبادة المماليك» وتأييد سلطة خليفة المسلمين سلطان آل عثمان» أنه كان في أول الأمر مصممًا على اتباع السياسة التي اتبعها الإنكليز فيما بعد في مصر، وهي حفظ سيادة آل عثمان، ودعوى المحافظة على حقوق الدولة، وأن الغرض الذي جاء من أجله بالحملة الفرنسية هو لإبادة المماليك، كما كانت دعوى الإنكليز، إخضاع الثورة العرابية …
إن نابوليون الذي جمع بين كفاءة القائد العسكري، ودربة الإداري، ومهارة السياسي، أدرك بثاقب فكره الخطة السياسية التي يجب اتباعها في مصر بمجرد وضع قدمه فيها، فكان عليه أن ينظف البلاد من الذين يحكمونها فعلًا، وهم المماليك الذين وجبت محاربتهم سواء بالسيف أو بالسياسة، وكان ذلك من حقنا؛ لأنهم طالما أساءوا إلى الفرنسيين، وطالما عاملوهم بالظلم والاستبداد، وأما فيما يختص بالباب العالي فكان من الواجب التظاهر بعدم الرغبة في التعدي على حقوق سيادته، وإظهار احترام تلك الحقوق ورعايتها، وكيفما كانت صفة تلك السيادة فإنها لم تكن ذات تأثير مهم، وفي الإمكان الاتفاق مع الباب العالي إما على أن يتنازل عن مصر بإعطائه تعويضات عنها في مكان آخر، وإما بتوزيع السلطة فيها توزيعًا لا يسوءنا؛ لأن سماحنا بإقامة الباشا في القاهرة، كما كان من قبل مقيمًا، مع تولينا السلطة التي كانت في يد المماليك، هو غاية مطلبنا، أما فيما يختص بالأهالي فكان أول واجب علينا لتأليف قلوبهم معنا هو أن نكسب الأغلبية، وهم المصريون المسلمون، وذلك يكون باحترام المشايخ وتمليق كبريائهم، وتوسيع دائرة نفوذهم، وبالضرب على أوتار قلوبهم الحساسة، بنغمة كالنغمة التي ضربنا عليها في إيطاليا، والتي توجد دائمًا في كل زمان ومكان، تلك هي نغمة إعادة مجد الوطن القديم، وذكرى الدول العربية الإسلامية، وبذلك نتأكد من التسلط على البلاد وحكمها تمامًا، وزيادة على ذلك، فإننا باحترامنا للحق في معاملة الناس وممتلكاتهم — عند شعب اعتاد أن يعتقد أن فتح البلاد يعطي للفاتحين الحق في القتل والسلب والنهب — مما يبعث فيهم الدهشة، ويرفع مكانة الجيش الفرنسي في عيونهم، وفوق كل هذا وذاك، فإننا بمحافظتنا على الأعراض، واحترامنا لاسم النبي ﷺ، نستطيع أن نستولي على القلوب، كما استولينا على البلاد.
ومما يؤيد أن نابوليون وضع نصب عينيه اتباع سياسة «دعوى المحافظة على السيادة العثمانية» قوله في المنشور الذي سبقت الإشارة إليه آنفًا، وسنأتي على نصه بعد في مكانه «ومع ذلك فإن الفرنساويين في كل وقت من الأوقات صاروا محبين مخلصين لحضرة السلطان العثماني، وأعداء أعدائه أدام الله ملكه.» وقوله أيضًا في ختام ذلك المنشور: «أدام الله إجلال السلطاني العثماني.»
ولم تقف رغبة الفرنسيين في التقرب من المسلمين، ودعوى إبقاء السيادة العثمانية على مصر عند هذا الحد، بل اتخذ أيضًا من الوسائل السياسية ما يلزم لذلك، فكلف «ليران» وزير الخارجية، سفير الجمهورية الفرنسية في الآستانة أن يؤكد للباب العالي، أن فرنسا لا تريد إلا أن تحل في مصر محل المماليك الذين استبدوا بالأمر وخلعوا سلطة جلالة السلطان، وأساءوا إلى الجمهورية الفرنسية، بسوء معاملتهم لأبنائها الذين قضت عليهم أشغالهم بالوجود في الإسكندرية، «من نص تعليمات وزير الخارجية» وسيظهر للقارئ أن كل هذه المجهودات والمساعي، لم تفد أمام مساعي إنكلترا وسياستها، أو تحريضها الدولة على استرداد مصر.
•••
يريد القائد العام أن يترك للأتراك «بريد الأهالي» الحرية التامة في تأدية واجباتهم الدينية في المساجد كما كانوا يفعلون من قبل، ويشدد كذلك في أن لا يدخل أي فرنسي، جندي كان أو غير جندي في المساجد، ولا أن يحتشدوا على أبوابها، وعليكم أيها القواد أن تصدروا الأوامر لكل ضابط فرقة بتلاوة هذه الأوامر على الجنود، وأن يقرأ عليهم أيضًا الأمر الخاص بتجنب النهب والتعدي، ولكم أن تعاقبوا كل مخالف لهذه الأوامر بالقتل رميًا بالرصاص، ومن المهم جدًّا أن يدفع الجنود ثمنًا لكل ما يبتاعونه في المدينة، وأن لا يسب الترك ولا يتعرض لهم؛ إذ يجب علينا أن نكون معهم على صفاء وأن لا نحارب إلا المماليك.
-
أمر بتشكيل قومسيون لتحديد قيمة النقود المختلفة.
-
أمر بإبدال سبائك الذهب والفضة التي مع الحملة وصكها نقودًا من نقود البلاد.
-
أمر بجمع الضرائب التي كانت مفروضة من قبل وجباية مبلغ قدره مائة وخمسون ألف فرنك «ستة آلاف جنيه» كغرامة حربية.
-
أمر بإنشاء كورنتينة.
-
أمر بإنشاء مطابع مختلفة للغات الفرنسية والعربية والتركية واليونانية.
لا شك أن نابوليون قد أثبت بهذه النظامات والأوامر، شديد رغبته في إرضاء المصريين والتقرب إليهم بكل الوسائل، ولكن ضريبة مبلغ مائة وخمسون ألف فرنك على مدينة الإسكندرية، في حالها التي كانت عليها، تعد من باهظ المغارم التي تنوء تحت حملها البلاد وقت فتحها، وقد يقال: وما هو مبلغ ستة آلاف جنيه على ثغر كالثغر الإسكندري، يتبرع أهله للصليب الأحمر في زمن الحرب الكبرى «عن طيب خاطر كما يقولون!!» بمبلغ اثني عشر ألف جنيه؟؟ ولكن يجب أن تقارن بين ثروة الإسكندرية وتعداد سكانها في ذلك الحين، وثروتها وتعداد أهلها في الوقت الحاضر، فقد كان سكان الإسكندرية ثمانية آلاف فقط على رواية الفرنسيين أنفسهم، فمعنى ضريبة ستة آلاف جنيه في ذلك الزمن هي كضريبة سبعمائة وخمسون ألف جنيه على مدينة الإسكندرية في الوقت الحاضر، هذا إذا كانت المقارنة بنسبة السكان فقط فكيف بالمقارنة مع الثروة؟؟
ولم يخسر الفرنسيون في فتح الإسكندرية أكثر من نحو أربعين قتيلًا مع ثمانين إلى مائة من الجرحى، ولكي يبعث نابوليون الحماسة في قلب الجيش أمر أن يدفن جميع الذين قتلوا في الاستيلاء على الإسكندرية بجانب عمود السواري، وأن تحفر أسماؤهم عليه! وذكر المؤرخون أنه قتل من عساكر الإنكشارية والأهالي نحو مائة نسمة.
بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله، لا ولد له ولا شريك له في ملكه
من طرف الفرنساوية المبني على أساس الحرية والتسوية والسر عسكر الكبير أمير الجيوش الفرنساوية بونابرته … يعرف أهالي مصر جميعهم أن من زمن مديد، الصناجق الذين يتسلطون في البلاد المصرية يتعاملون بالذل والاحتقار في حق الملة الفرنساوية، ويظلمون تجارها بأنواع الإيذاء والتعدي فحضر الآن ساعة عقوبتهم، وأخرنا من مدة طويلة هذه الزمرة المماليك المجاوبين من بلاد الإبازة والجراكسة يفسدون في الإقليم الحسن الأحسن الذي لا يوجد في كره الأرض كلها، فأما رب العالمين القادر على كل شيء، فإنه قد حكم على انقضاء دولتهم، يا أيها المصريون قد قيل لكم إنني ما نزلت بهذا القطر إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح فلا تصدقوه وقولوا للمفترين إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى، واحترم نبيه والقرآن العظيم، وقولوا أيضًا لهم إن جميع الناس متساوون عند الله، وإن الشيء الذي يفرقهم عن بعضهم هو العقل والفضائل والعلوم فقط، وبين المماليك والعقل والفضائل تضارب، فماذا يميزهم عن غيرهم حتى يستوجبوا أن يتملكوا مصر وحدهم ويختصوا بكل شيء أحسن فيها من الجواري الحسان، والخيل العتاق، والمساكن المفرحة! فإن كانت الأرض المصرية التزامًا للمماليك فليرونا الحجة التي كتبها الله لهم، ولكن رب العالمين رءوف وعادل حكيم، ولكن بعونه تعالى من الآن فصاعدًا لا ييأس أحد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية، وعن اكتساب المراتب العالية، فالعلماء والفضلاء منهم سيديرون الأمور وبذلك يصلح حال الأمة كلها، وسابقًا كان في الأراضي المصرية المدن العظيمة، والخلجان الواسعة والمتجر المتكاثر، وما أزال ذلك كله إلا الظلم والطمع من المماليك.
طوبى ثم طوبى لأهالي مصر الذين يتفقون معنا بلا تأخير فيصلح حالهم، وتعلى مراتبهم! طوبى أيضًا للذين يقعدون في مساكنهم غير مائلين لأحد من الفريقين المتحاربين، فإذا عرفونا بالأكثر تسارعوا إلينا بكل قلب، لكن الويل ثم الويل للذين يعتمدون على المماليك في محاربتنا، فلا يجدون بعد ذلك طريقًا إلى الخلاص ولا يبقي منهم أثر.
- المادة الأولى: جميع القرى الواقعة في دائرة قريبة بثلاث ساعات عن المواضع التي يمر بها عسكر الفرنساوية فواجب عليها أن تبعث للسر عسكر من عندها وكلاء لكيما يعرف المشار إليه أنهم أطاعوا، وأنهم نصبوا علم الفرنساوية الذي هو أبيض وكحلي وأحمر.
- المادة الثانية: كل قرية تقوم على العسكر الفرنساوية تحرق بالنار.
- المادة الثالثة: كل قرية تطيع العسكر الفرنساوي أيضًا تنصب صناجق السلطان العثماني محبنا دام بقاؤه.
- المادة الرابعة: المشايخ في كل بلد يختمون حالًا جميع الأرزاق والبيوت والأملاك التي تتبع المماليك، وعليهم الاجتهاد التام لئلا يضيع أدنى شيء منها.
- المادة الخامسة: الواجب على المشايخ والعلماء والقضاة والأئمة أنهم يلازمون وظائفهم، وعلى
كل أحد من أهالي البلدان أن يبقى في مسكنه مطمئنًا، وكذلك تكون الصلاة
قائمة في الجوامع على العادة، والمصريون بأجمعهم ينبغي أن يشكروا الله
سبحانه وتعالى لانقضاء دولة المماليك قائلين بصوت عال:
أدام الله إجلال السلطان العثماني!أدام الله إجلال العسكر الفرنساوي!لعن الله المماليك!وأصلح حال الأمة المصرية.
نقل هذا المنشور المرحومان جورجي بك زيدان وشارويم بك في كتابيهما عن تاريخ مصر الحديث، وغير فيه الأول بضع كلمات بما يقابلها فكلمة «شرع» بدل «متساوون» في قوله: «متساوون عند الله» و«الكرج» بدل «الجركس»، ونسي الثاني كلمة «دينكم» في قوله: «إنني جئت لإزالة دينكم» فكتبها «لإزالتكم» «وما أظن ذلك عن قصد» وكان الأولى بهما مقارنة الأصل بالترجمة، ونحن قبل أن نأتي على ما بين الأصل والتعريب من الفوارق، نقول: إن نابوليون قد أتعب نفسه وتراجمته ومطبعته، بغير فائدة؛ لأن هذا المنشور بما فيه من حقائق من حيث صفة المماليك وتخريبهم أرض مصر، وتمويهات كدعوى الإسلام وعبادة الله، واحترام النبي والقرآن، وبما فيه من ترغيب، وترهيب «لا يساوي عند المصريين بصلة» كما يقول العوام في تعبيراتهم، وذلك لأسباب كثيرة، منها أن المصريين مغلوبون على أمرهم، ولا حول لهم ولا قوة، فقد كانوا إذ ذاك كالأغنام والحمير، لمن غلب وركب، ومنها أنهم مع ما أصيبوا به من الذل والهوان، تحت نير المماليك والأتراك، لا يميلون لقبول سلطة مسيحية، ولا يرضون بغير الأتراك المسلمين بديلًا، والدليل على ذلك اضطرابهم عند قرب الفرنسيس وقيام الكثيرين منهم بمهاجرة الديار، وما أظهروه من الجزع ليلة قدوم الفرنسيس في الجهة الشرقية من النيل، واستعدادهم جميعًا لمقاتلة القادمين، ولو بالعصي والنبابيت، ومن أكبر الأدلة أنهم على الرغم من حسن معاملة الفرنساويين لهم، وترتيب نظام إداري عادل لأحوالهم، ثاروا ضد نابوليون وجنوده ورجاله وعلمائه مرتين في مدة أقل من سنتين كما سيجيء تفصيل ذلك، وهم لم يثوروا ضد مظالم الأتراك والمماليك طول هاتيك القرون مرة واحدة، اللﻫم إلا أن تكون تلك «الهيصة» التي قام بها الشيخ الشرقاوي، لتعدي الألفي بك على ممتلكاته، حيث جمع فيها بعض المشايخ، وانتهت كأنها لم تكن، ولكن نابوليون معذور في تصوره أن في مصر، كما في غيرها من البلاد، أمة تحكم العقل، وتفهم قيمة صوالحها، وأن لها شيئًا من المقدرة على رد مكروه، وأنها تعزز، أو تضعف، إن مالت إلى جهة، أو انحرفت عن أخرى، فلذلك كتب ذلك المنشور البديع في بابه معنى وسياسة، من الوجهة السياسية الفرنسية، ولا غضاضة عليه في ذلك.
إن الإرادة التنفيذية للجمهور الفرنساوي طالما طلبت من الباب العالي معاقبة البكوات المماليك لسوء معاملتهم للتجار الفرنسيين، فكان جواب الباب العالي دائمًا أن أولئك المماليك أشخاص أدنياء طماعين، ولا يحترمون مبادئ العدل وأن الباب العالي لا يكتفي فقط لعدم السماح لأولئك المماليك بإساءة أصدقائه الصادقين من الفرنسيس، بل يشملهم برعايته وعنايته كلما تيسر له ذلك.
والظاهر أن هذا الخطاب لم يصل إلى يد بكير باشا أو أن وصل إليه ولم يجب عليه.
بعد هذه المنشورات التي وزعها، والكتب التي بعث بها إلى الباشا الوالي وقومندان السفينة التركي، شرع نابوليون — كما سيراه القارئ مفصلًا بعد — في تفهم النفسية المصرية، فأخذ يكثر من الاجتماع بالشيخ المسيري، ومحمد كريم، ويدعو العربان إلى المآدب، ويشتري منهم الخيول، ويعد العدة للسير بالحملة إلى القاهرة، وامتلاك ما في القطر المصري من قرى وبنادر … فلنسر معه حتى نرى!
هوامش
«كان الشيخ محمد المسيري عالمًا وشريفًا ومن كبار رجال الدين في المدينة، وكان رجلًا حكيمًا واسع المعرفة متعمقًا في أصول الدين معروفًا بالطهارة والذمة.
ولما كان أوسع معرفة وأكثر خبرة من مواطنيه فقد كانت آراءه صائبة عادلة، وإدارته حسنة، بخلاف الذين كانوا يحيطون به، وهكذا كان لكريم نفوذه بفضل جرأته وشجاعته وقوة أعوانه وعبيده وسعة ثروته، أما الشيخ المسيري فكان نفوذه مستمدة من علو نفسه وشفقته ورقة قلبه وفضائله وعدله الذي كان ظاهرًا في كل أعماله.» ا.ﻫ، عن مذكرات نابوليون في سانت هيلان.