في القاهرة
ولما وردت هذه الأخبار إلى مصر، حصل للناس انزعاج، وعول أكثرهم على الفرار والهياج …
وكذلك لم يعتن المؤرخون الحديثون بضبط اليوم الذي وصلت فيه الأنباء إلى القاهرة؛ لأننا نعرف أن السيد محمد كريم بعث لمراد بيك بنبأ ظهور العمارة الفرنسية بمجرد ظهورها، أو بعد رسو القارب، الذي يقل القنصل الفرنسي للبارجة «أورويان»، ويقع ذلك في يوم الأحد ١٧ محرم سنة ١٢١٣، وأول يوليو سنة ١٧٩٨، فكم كان يلزم من الأيام لوصول الأخبار إلى القاهرة بأسرع ما يمكن؟ كان لا بد من أربعة أيام على الأقل للفارس المجد، فتكون الأخبار قد وصلت إلى القاهرة ظهر يوم الخميس ٥ يوليو، والظاهر أن هذا هو الصواب؛ لأن الجبرتي يقول: «وأخذوا في الاستعداد وقضاء اللوازم والمهمات، وارتحل مراد بك بعد صلاة الجمعة.» وهو اليوم التالي لعقد المجلس وقرار ما اتفق عليه.
وكان السيد محمد كريم حين أبصر تلك العمارة الفرنسية، وهاله أمرها، كتب إلى مراد بك يقول: إن العمارة التي حضرت إلى ميناء الإسكندرية تتألف من سفن كثيرة لا أول لها يُعرف، ولا آخر لها يُوصف، فبالله ورسوله أدركونا بالرجال، وتوالت رسائله بالأخبار المنقطعة، حتى قيل — كما روى أحد المؤرخين — إنه بلغ عدد الرسل الذين بعث بها السيد محمد كريم، ثلاثة عشر رسولًا في يوم واحد، وهو يوم الأحد أول يوليو.
ولما قرأ مراد بك التحرير الذي بعث به السيد محمد كريم غضب غضبًا شديدًا ورمى به إلى الأرض، وهاج وماج، وسار إلى منزل إبراهيم بك (كان مراد بك بقصره في الجيزة، وإبراهيم بك في سراية بقصر العيني) واجتمع به مدة وشاع الخبر في كل القاهرة فهاج الأهلون وخافوا، واجتمع الأمراء والأعيان في قصر إبراهيم بك، وحضر أبو بكر باشا والي الدولة العليا من القلعة السلطانية، واجتمع كل قواد المماليك والأعيان، وهم إبراهيم بك الكبير، ومصطفى بك الكبير، وأيوب بك الكبير، وإبراهيم بك الصغير، ومراد بك الصغير، وسليمان بك أبو دياب وعثمان بك الشرقاوي، ومحمد بك الألفي، ومحمد بك المنوفي، وعثمان بك البرديسي، وعثمان بك الطوبجي، وقاسم بك أبو شنب، وقاسم بك أبو البحر، والأمير مرزوق بن إبراهيم بك الكبير، وعثمان بك الطويل، ومن العلماء الشيخ السادات، والشيخ عبد الله الشرقاوي، والشيخ سليمان الفيومي، والشيخ مصطفى الصاوي، والشيخ محمد المهدي، والشيخ خليل البكري، والسيد عمر مكرم نقيب الأشراف، والشيخ العربي، والشيخ محمد الجوهري، وكثيرون غيرهم وأخذوا يبحثون في مجيء الفرنساويين وفتحهم الإسكندرية ويستغربون ذلك الأمر جدًّا، أما مراد بك فكان يعلم أن الدولة العلية مغتاظة منه؛ ولذلك قال لوزيرها «أي: للوالي»: «إن الفرنساويين لم يدخلوا هذه الديار إلا بإذنها.»
«ولا ريب أن حضرة الوزير يقدر أن يخبرنا بشيء عن ذلك غير أنه لا بد أن تسعفنا العناية على الاثنين.» «يعني الفرنسيس والترك» فأجابه الوزير قائلًا: أيها الأمير، أنه لا يليق بك أن تتكلم بمثل هذا الكلام؛ لأنه لا يمكن أن تسلم الدولة العثمانية لدولة نصرانية أن تستولي على بلاد إسلامية، فدعوا عنكم هذا المقال، وانهضوا جميعًا كالأبطال، وصادموا الذين أتوا ليفتحوا بلادكم، وبعد ذلك أجمعوا رأيهم على أن يسجنوا قنصل فرنسا وجميع التجار الفرنساويين المقيمين بالقاهرة، خوفًا من الخيانة فسجنوهم في قلعة الجبل.
نقلنا هذه العبارة من كتاب الشيخ الدحداح، بنصها حرفيًّا؛ لأن الجبرتي لم يأت على شيء من هذا التفصيل، وهو إذ ذاك يقيم بالقاهرة، وله اتصال تام بكثير من الأمراء والشيوخ الذين حضروا ذلك المجلس، وكل ما قاله في ذلك الصدد «إنه اجتمع بإبراهيم بك ومراد بك باقي الأمراء والعلماء والقاضي، وتكلموا في شأن هذا الأمر الحادث، فاتفق رأيهم على إرسال مكاتبة بخبر هذا الحادث إلى إستامبول، وأن مراد بك يجهز العساكر لملاقاتهم وحربهم، وانقضى المجلس على ذلك، وكتبوا المكاتبة وأرسلها بكر باشا مع رسوله عن طريق البر ليأتيه بالترياق من العراق.» ا.ﻫ. والعبارة الأخيرة مثل معروف في مصر، والمراد به استحالة وصول المعونة من جانب تركيا، ويروى عادة بالتعبير الآتي: «على ما يأتوا بالترياق من العراق يكون العليل مات!»، وذلك يدلنا على أن الجبرتي وأمثاله من المشايخ والمصريين لم يكونوا مخدوعين في قوة الدولة وإمكانها إسعاف مصر!!!
وفي رواية عن كتب الفرنسيين أنه لما وصلت الأخبار إلى القاهرة، بأن جيشًا من الكفار «كذا» هبط أرض مصر، وأن عدده كثير، وكل جنوده من المشاة وليس فيهم خيالة، طرب المماليك وكشافهم، وأنيرت القاهرة زينة، وقال المماليك: ما هؤلاء الجنود الكفار إلا كحب «الفستق» للكسر والأكل «ولو كانوا مائة ألف لأفنيناهم عن آخرهم» وأخذ كل واحد منهم يعد بقط مائة رأس من رءوسهم!!! ا.ﻫ.
فأما دعاوى المماليك، وغرورهم بأنفسهم فقد يكون صحيحًا، وأما إن القاهرة أنيرت للزينة فغير صحيح، إلا أن تكون الإنارة من الخوف والفزع!!
ورواية الجبرتي في هذه النقطة أصدق الروايات، وهو القائل: «وفي أثناء خروج مراد بك والحركة، حركة الاستعداد، بدأت الوحشة في الأسواق، وكثر الهرج بين الناس والإرجاف، وانقطعت الطرق، وأخذت «الحرامية» في كل ليلة تطرق أطراف البلد، وانقطع مشي الناس والمرور في الطرق والأسواق، من المغرب، فنادى الأغا والوالي بفتح الأسواق والقهاوي ليلًا، تعليق القناديل على البيوت والدكاكين.»
وأخذ مراد بك في الاستعداد للسفر لمقاومة الفرنساويين، قال الجبرتي وهو شاهد عيان: «وأخذوا في الاستعداد للثغر (ربما كان الأصل للسفر) وقضاء اللوازم والمهمات في مدة خمسة أيام، فصاروا يصادرون الناس، ويأخذون أغلب ما يحتاجون إليه بدون ثمن، ثم ارتحل مراد بك بعد صلاة الجمعة وبرز خيامه ووطاقه إلى الجسر الأسود، فمكث به يومين حتى تكامل العسكر وصناجقته، وعلي باشا الطربلسي وناصف باشا، وأخذ معه عدة كثيرة من المدافع والباردو وسار من البر مع العساكر والخيالة، وأما الرجالة «الراجلون؛ أي: المشاة وهم الالداشات القلينجية والأروام والمغاربة»، فإنهم ساروا في البحر مع الغلايين الصغار التي أنشأها الأمير المذكور.»
فيؤخذ من رواية الجبرتي أن مراد بك تحرك بالجيش الذي جمعه من الخيالة برًّا، والمشاة بحرًا في النيل، في يوم الأحد ١٤ محرم، ٨ يوليو، بدليل قوله بعد ذلك «وفي يوم الاثنين وردت الأخبار بأن الفرنسيس وصلوا إلى دمنهور، وفعلًا كان وصول نابوليون لدمنهور في الساعة الثانية من صباح يوم ٩ يوليو، وكانت مقابلة الجيش الفرنسي لمراد بك وجنده وقواربه، عند شبراخيت في يوم الجمعة ١٣ يوليو فكأن مراد بك قضى أربعة أيام في السير من الجيزة إلى شبراخيت.
فمجموع هذه القوة لا يزيد على ثمانية آلاف، كما اعترف بذلك نابوليون في مذكراته التي أملاها في سانت هيلانة، فعبارة الشيخ الدحداح مبالغ فيها بلا نزاع.
ويقدر المستر كامرون في كتابه الذي سبقت الإشارة إليه، في مقدمة هذا الكتاب، قوة المماليك في ذلك الحين بعشرة آلاف خيال وثلاثين ألف باشبوزق «جندي غير نظامي»، وهذا التقدير غير مضمون الخطأ، خصوصًا والمستر كامرون ليس من الموفقين في صحة الأرقام، إلا ما كان خاصًّا بالقوى الإنكليزية لوقوفه عليها في المصادر الرسمية، فقد قدر قوة الحملة الفرنسية بأربعين ألفًا من خيرة الجنود، وهو كما عرف القراء مبالغ في نحو الربع، وأن صعب تحقيقه للقوة الفرنسية، فتحقيقه لقوة المماليك أصعب! وثابت في أقوال كتاب الفرنسيين، وهم أحق بالمبالغة في قوة المماليك، ليباهوا بما حازوه من فخار وانتصار، أن قوة المماليك لا تزيد على ثمانية آلاف وخمسمائة خيال من المماليك أخذ منها مراد بك نحو خمسة آلاف، وبقي الباقون في القاهرة، وأما الباشبوزق، وهم الجنود غير النظاميين، من خدم المماليك وأتباعهم «الالداشات»، فلا يسهل تعدادهم، ولا نظنهم يزيدون عن العشرين ألفًا، وهم لا يساوون ألفًا من الجنود المنظمة.
نترك مراد وجيشه، سائرًا لملاقاة نابوليون وجنوده عن طريق الفرع الغربي من النيل، ونعود إلى متابعة الحملة الفرنسية في سيرها، بعد أن تركناها تستعد للحركة من الإسكندرية لدمنهور.
من الإسكندرية إلى الرحمانية
وفي الساعة الخامسة تمامًا من مساء يوم الاثنين ٩ يوليو الموافق ٢٥ محرم برح نابوليون بونابرت وهيئة أركان حربه، مدينة الإسكندرية عن طريق الصحراء إلى دمنهور.
وكانت مقدمة الجيش تحت قيادة الجنرال «ديزيه»، أول من برح الإسكندرية كما قلنا، مع قوة مؤلفة من أربعة آلاف وستمائة مقاتل، وقد قاسى هذا القائد وجنوده، من شدة الحر وقلة الماء وصعوبة السير في الرمال، مر العذاب، وكان العربان قد ردموا الآبار، وألقوا فيها النطرون المالح حتى سار ماؤها مرًّا وحامضًا، ولم تكن المنطقة الخصبة الواقعة الآن بين دمنهور وإسكندرية، كما هي اليوم بعد مد السكة الحديدية، وتطهير المصارف، وحفر الترع والمساقي، بل كانت خرابًا ينعق على أطلالها البوم، ليس فيها إلا بضعة أكواخ وعشش للعربان وقطاع الطريق، فداخل قلوب الجنود الفرنسيين الكدر، وشملتهم الكآبة، ولم يجدوا في تلك المهامة القفر ما كان يمنيهم به رؤساؤهم، من أرض مثمرة، وأنهار جارية وأشجار معشوشية، حتى اضطر «ديزيه» وهو القائد البطل الصبور، كما يدل على ذلك تاريخه، أن يكتب لنابوليون قائلًا: «إذا لم يجتز الجيش الصحراء بأسرع ما يمكن فقد قضي عليه بالفناء.» وعلى رواية بوريين، سكرتير نابوليون أنه؛ أي: «ديزيه» كتب يقول: «إما أن تأمرنا بالعودة إلى الوراء أو المسارعة في السير، فإن البقاء في هذه الصحاري مستحيل، وقد بدأ الجنود يتذمرون ويتململون» … وشتان بين هذه الأرض الجرداء المحرقة، خصوصًا في شهر يوليو، وبين سهول لومبادريا في شمال إيطاليا، أو مناظر التيرول في جنوب النمسا!! «تلك المناطق التي كانت تحارب فيها هذه الجنود»، ولهذا يطعن كتاب الإنجليز «الذين ما كانوا يريدون لنابوليون نجاحًا» على المماليك لعدم إسراعهم لمعاكسة الحملة الفرنسية في سيرها بين دمنهور والإسكندرية، أما نابوليون فإنه بعد أن برح الإسكندرية في الساعة الخامسة مساء استمر مع هيئة أركان حربه سائرًا طول ليلة في جو مقمر، إلى أن اختفى القمر في الساعة الثالثة صباحًا فسار في الظلام، وكاد يروح ومن معه ضحية لرصاص جنوده فرقة من الفرق المعسكرة في النقط الأمامية؛ إذ خيل للحراس أنهم هوجموا فنادوا بالتأهب، وأطلقت البنادق من الفريقين مدة ما حتى سمعت الأصوات، وتبودلت العبارات والإشارات، وسار نابوليون في طريقه إلى أن لاحت لأنظاره بلدة دمنهور في الساعة الثامنة صباحًا، فيكون قد قضى راكبًا حوالي ستة عشر ساعة، دون راحة!! وكانت دمنهور في ذلك الزمن بلدة حقيرة تحيط بها أشجار نخيل وسنط كثيرة، وفيها بعض المساجد، وحولها بعض تلول عليها قبور وأضرحة للأولياء، وكان «ديزيه» قد احتل البلدة بلا مقاومة، وهناك استقبل نابوليون في دار، قال عنها المؤرخون الفرنسيون، إنها أشبه بزريبة لا نوافذ ولا أبواب لها، وهناك اجتمع شيخ البلد والكشاف والمشايخ وبعض أعيان البلدة فقدموا له جرعة من اللبن، ولقمة من الفطير الذي يسميه الفلاحون «الدماسي»؛ أي: المسوى تحت رماد النار!!! فما كان أوسع الفرق بين تلك الدار الحقيرة، وقصور إيطاليا وزخارفها!!
وحكى بوريين فقال: «لما وصلنا دمنهور اتخذت هيئة أركان الحرب دارًا كانت لأحد أعيان البلد مقرًّا لها، وكان ظاهر هذه الدار حسنًا؛ لأنها مبيضة بالجير، ولكن داخلها كان متهدمًا، ينم على فقر ومسكنة، وكان نابوليون قد علم أن صاحب الدار ذو ثروة، فلذلك سأله، بعد أن طمأن خاطره بواسطة المترجم: لماذا يحرم نفسه من التمتع برفاهية العيش ما دام غنيًّا وقادرًا على ذلك؟ وأكد له المترجم أن صدقه يفيده ولا يضره، فلما اطمأن خاطر الرجل قال: انظر إلى قدمي! منذ بضع سنوات أصلحت داري، وابتعت بعض الأثاث، فوصل خبر ذلك إلى مسمع الحكام في القاهرة، فطلبوني وطالبوني بالمال؛ لأنهم اعتقدوا أنني ذو ثروة ويسار، فلم أعطهم ما أرادوا فعاقبوني بالضرب إلى أن أعطيتهم ما طلبوا، ولكن بعد أن انكسرت رجلي كما ترون، ومن ذلك الحين هممت أن لا تكون لي دار غير هذه الدار الخربة، والويل ثم الويل لمن يعرف أنه غني في هذه البلاد!! وأضمن الأحوال للسلامة هو الفقر أو ادعاء الفقر.»
واستمر الجيش في طريقه قاصدًا الرحمانية، حتى وصلها في نفس ذلك اليوم ١٠ يوليو، ولما وقعت عيون الجنود على نهر النيل فرحوا وطربوا، وخلع الكثيرون من الضباط والجنود ملابسهم، ونزلوا للاستحمام بماء النيل، ووصل بونابرت وهيئة أركان حربه، واستقر معظم الجيش في جوار الرحمانية وعلى شاطئ النيل طلبًا للراحة، حتى تصل العمارة البحرية التي قامت من رشيد كما سبق لنا القول.
وكان المماليك قد سارعوا بإرسال نحو خمسمائة خيال على جناح السرعة لتعويق نابوليون عند دمنهور، فوصلت هذه القوة بعد أن ارتحل معظم الجيش الفرنساوي ووصلت مقدمته إلى الرحمانية، ولم يبق إلا فرقة الجنرال ديزيه، التي تركت في المؤخرة، فالتقى المماليك بالفرنسيين، ودارت معركة غير مهمة بين دمنهور والرحمانية خسر فيها الفرنسيون أربعة من الجنود، وخسرت تلك الفصيلة من المماليك نحو خمسين.
وقد خلط الشيخ الدحداح، فيما ترجمه في كتابه تاريخ فرنسا الحديث، فروى حكاية التمرد الذي وقع بين الجنود الفرنساوية، وكاد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، كأنها وقعت في المنطقة بين الإسكندرية ودمنهور، وهذا غير صحيح، ورواية هذا التمرد ستأتي في مكانها بعد انهزام المماليك في واقعة شبراخيت، وقبل وصول الجيش الفرنساوي لإمبابة، بنحو يومين، كما رواه نابوليون نفسه تفصيلًا، في مذكراته التي أملاها وهو أسير في سانت هيلانة.
موقعة شبراخيت
قال صاحبنا الجبرتي متهكمًا على مراد بك «وما كان أكثر تهكمه عليه»: «لما ارتحل من الجسر الأسود أرسل إلى مصر يأمر بعمل سلسلة من الحديد في غاية التخن «كذا» والمتانة، طولها مائة ذراع وثلاثون ذراعًا، لتنصب على البوغاز عند برج مغيزل من البر إلى البر، لتمنع مراكب الفرنسيس من العبور لبحر النيل، وذلك بإشارة علي باشا، وأن يعمل عندها جسر من المراكب وينصب عليها متاريس ومدافع ظنًّا منهم أن الإفرنج لا يقدرون على محاربتهم في البر، وأنهم يعبرون في المراكب، ويقاتلونهم وهم في المراكب، وأنهم يصايرونهم ويطاولونهم حتى تأتيهم النجدة.»
وكيفما كان غرض الجبرتي من هذه العبارة فإن مراد بك، بعد أن ألقى تلك الأوامر، سار بجيشه المؤلف من نحو ثلاثة آلاف فارس من المماليك، وألفين من الإنكشارية، ونحو ألف وخمسمائة أو ألفين من البحارة، في القوارب التي سبقت الإشارة إليها، وتابع سيره ملازمًا ضفة النيل حتى وصل إلى قرية الطرانة، وهناك وصلت إليه الأخبار بما تم للفرنسيين في أرض مصر، وعلم لأول مرة أن الجيش الفرنسي احتل رشيد، وأن فرقة المماليك التي بعث بها إلى دمنهور تفرقت شذر مذر، بين تلك البلدة وبلدة الرحمانية، وأن كتلة الجيش الفرنسي زاحفة على مصر.
فسار إلى شبراخيت وأخذ في الاستعداد الحربي على قدر معرفته وكفاءته، لملاقاة القوة الفرنسية، فبدأ بإقامة طابيتين في بلدة شبراخيت، ووضع في كل طابية ٩ مدافع، وأخذ كذلك في حفر الخنادق حول تلك البلدة حيث وضع للدفاع عنها مشاته من الإنكشارية، ووقفت عمارته في النيل منتظرة قدوم السفن الفرنسية.
والآن نترك الكلام في وصف هذه الواقعة المهمة، التي ذكرها الجبرتي في بضعة سطور، وتابعه المؤرخون الحديثون لنابوليون نفسه، فيما أملاه من مذكراته وهو في منفاه قال ما خلاصته:
«كان الجيش في يوم ١٢ يوليو عند الساعة السابعة مساء معسكرًا عند قرية منية سلامة، على بعد فرسخ من الرحمانية، وصدرت إليه الأوامر بأن يسير عند الساعة الواحدة صباحًا؛ لأنه كان من المهم كثيرًا أن لا نعطي مراد بك الوقت الكافي للتحصن والتترس، وجمع شتات جيشه، فما كاد يظهر ضوء القمر حتى تحرك الجيش، ثم لم تأت الساعة الثامنة صباحًا حتى كان وجهًا لوجه مع جيش مراد بك المرتكز جناحه الأيمن، المؤلف من المماليك، على بلدة شبراخيت، وجناحه الأيسر يتألف من نحو ألفين من العربان، ممتدين إلى داخل الصحراء، وكان مع كل مملوك ثلاثة أو أربعة من الجرال لخدمته وكذلك كان العربان في حركة مستمرة متنقلين من مكان لآخر، بحيث يخيل للنظار أن هذا الخط مؤلف من خمسة عشر ألفًا إلى ثمانية عشر ألفًا.»
ولما التقى الجيشان أخذ كل فريق يرقب الآخر، وكان الفرنساويون ينتظرون قدوم عمارتهم التي كانت لم تزل راسية بجوار الرحمانية، ولا تستطيع السير قبل أن تهب رياح الشمال، وهي لا تهب قبل الثامنة صباحًا، وأخيرًا سطعت الشمس بأشعتها الذهبية على خوذ المماليك وملابسهم، فأظهرت تلك الجنود البديعة في أجلى مظاهرها، ودارت مناوشات بين الفرسان وبعضهم على الطريقة الشرقية أظهر فيها المماليك من البسالة والرشاقة، وخفة الحركات، ما ملأ صدورنا بالإعجاب والإجلال، فكان الفارس منهم، هو وجواده كأنه قط عة واحدة متماسكة، وكأنما كان جواده يشاركه في جميع عواطفه ومؤثراته وحركاته، التي كان يقوم بها من إطلاق غدارته وسل سيفه، وإدارة جواده، بمهارة ورشاقة تفوق الوصف.
وأما الدور الثالث فهو أن نابوليون لما أدرك الخطر المحدق بعمارته في النيل أصدر أمره، بتلك السرعة التي طالما أنقذته من مهالك شتى، للبيادة بالهجوم على شبراخيت وقطع مواصلات الإنكشارية الذين فيها عن المماليك، فشعر أولئك بالخطر فولوا الأدبار بعد مقاومة قليلة، واستمرت المعركة دائرة حتى الساعة السادسة مساء حيث انتهت بوصول الفرنسيين إلى بلدة «شابور»، وتقهقر مراد بك ومن معه إلى القاهرة.
وكانت خسارة الفرنسيين في هذه الواقعة من ثلاثمائة إلى أربعمائة بين قتيل وجريح، وخسر المماليك مثل هذا القدر من الخيالة، بين قتيل وجريح وأسير، ونحو أربعمائة إلى خمسمائة من المشاة، ولقد كانت هذه الواقعة أول درس تلقاه المماليك عن الحرب مع الجيوش النظامية الأوروبية، بعد أن كان يخيل لهم أنهم لا يغلبون، وأن الحرب هي عبارة عن امتطاء صهوة الجواد، وإطلاق القرابينه، وإشهار السيف … عرفوا عند ذلك أن العدو القادم عليهم لا يُستخف به، وأن شمس أيامهم قاربت الأفول.
إنني أبعث إليك يا مواطني الجنرال بسيف عوضًا عن سيفك الذي فقدته في واقعة شبراخيت، فأرجوك أن تقبله مني برهانًا على اعترافي لك بفضل الخدم التي قمت بها للجيش في فتحه مصر.
ولا شك أن خطابًا كهذا يفوح عبيره في الجيش فيملأ قلوب القواد والضباط والجنود حبًّا لقائدهم، ورغبة عظيمة في التفاني في خدمته وخدمة وطنهم.
وغريب أن صاحب كتاب «حقائق الأخبار» يُسمي هذه الموقعة الكبيرة واقعة الرحمانية، ولم يقع في الرحمانية منها شيء، وزيدان يخلط بين شبريس وشبراخيت، والجبرتي لا يذكر أين مكانها، بل يقول كعادته وردت الأخبار بحصول معركة!
من شبراخيت إلى إمبابة
كان من السهل علينا أن ننتقل بالقارئ من واقعة شبراخيت إلى الواقعة التي يسمونها واقعة إمبابة، ويسميها آخرون واقعة الأهرام، وغيرهم واقعة القاهرة، وهي جديرة بأن تُطلق عليها هذه الأسماء الثلاثة لولا أن لنابوليون نفسه في مذكراته، عبارات في غاية الأهمية عن الجيش الفرنساوي في تلك المنطقة، الواقعة بين شابور وإمبابة … تلك المنطقة التي قطعها الجيش المذكور في ستة أيام؛ أي: من صباح ١٤ إلى صبيحة ٢٠ يوليو «من السبت ٣٠ محرم إلى الجمعة ٦ صفر»، وليس لهذه المدة أثر في الكتب العربية؛ لأن صاحبنا «الجبرتي» لا علم له بها، وكفاه ما كان فيه من هم وغم، بعد وصول أخبار خذلان مراد بك في واقعة شبراخيت؛ إذ لم تعد تخفى الحقيقة عن سكان القاهرة، على الرغم من دعوى المماليك عن تلك الواقعة الكبير «بأنه لم يقع فيها قتال صحيح، وإنما هي مناوشة بين طلائع العسكرين بحيث لم يقتل إلا القليل من الفريقين.» كما روى الجبرتي، وذلك عن ألسنتهم، وسجله في كتابه ليكون للأعقاب مثلًا على مقدار ما في البلاغات الرسمية في أيام الحروب من الصدق والكذب!!
بعد أن استراح الجيش الفرنسي في شبراخيت وما جاورها على ضفة النيل يوم الجمعة ١٣ يوليو صدرت إليه الأوامر بالسير صباح اليوم التالي فوصلت مقدمته مساء ذلك اليوم إلى بلدة «كوم شريك» وفي تلك الجهة يكثر البطيخ في هذا الفصل من العام، وأكثره منزرع في الأرض الرملية التي تقارب النيل في تلك البقعة فأكل منه الجنود كميات كبيرة وطابت نفوسهم نوعًا ما.
وفي الخامس عشر عسكر الجيش على النيل ثم سار نحو أربعة فراسخ ونصف حتى أدرك بلدة أبو نشابة وفي السابع عشر كان عند بلدة وردان، وكان الجيش يسير ببطء زائد لأسباب كثيرة منها شدة الحر، وصعوبة الحصول على المئونة الكافية للجيش، في بلاد لحق أهلها الفقر المدقع، وهاجر الكثيرون من سكانها ولم تبق فيها إلا بقية لا تسمن ولا تغني من جوع.
وكان يتابع الجيش من بعيد بعض العربان الذين كانوا يتصيدون من الجنود الفرنسية ليقتلوه، وليأخذوا سلاحه وما معه من قليل أو كثير، فكانت كل هذه الأمور وغيرها مما ينغص على الجنود حياتهم، ويزيد في ضيق أنفاسهم وكدرهم، وكما كان بنو إسرائيل حين جاوز بهم موسى البحر، وأنقذهم من مظالم الفراعنة، وأنزل عليهم المن والسلوى، يتشوقون إلى مصر، ويحنون إلى فولها وعدسها وقثائها وبصلها، كذلك كانت الجنود الفرنسية، كلما رأت الصحراء المحرقة والبلاد القاحلة، حنت إلى فرنسا، وتذكرت إيطاليا، وسهولها وجمالها.
ولقد غشت الكآبة نفوس الجنود فأخذوا يقارنون بين هذا الشعب البربري الذي لا يحسنون التفاهم معه، مساكن أولئك الفلاحين البؤساء الذين يشابهون ثيرانهم في البلاهة والغباوة، وهذه البلاد القاحلة العارية عن الظل والثمر، وهذا النيل، بل المجراة الحقيرة التي تحمل قليلًا من الماء القذر الملوث بالطين، وضموا إلى كل هذا أولئك العربان، سكان الصحاري ذوي الأجسام الناحلة، والقسوة المتناهية، ونساءهم اللائي هن أكثر قبحًا وقذارة … أخذ الجنود يقارنون بين كل هذا، وبين سهول «لومبارديا» المزهرة المثمرة، وأهالي فينيسيا الأرقاء الظرفاء وتزايدت شكوى الجنود من أنه جيء بهم إلى بلاد لا خبز فيها ولا نبيذ، ولم يستمعوا إلى ما يقال لهم من أن هذه البلاد، التي ترونها فقيرة، قد كانت أغنى بلاد الدنيا، وكانت خزانة الحبوب لروما والقسطنطينية، وأنهم متى وصلوا إلى القاهرة وجدوا فيها ما يطلبون من مآكل وشراب … فكان جوابهم على هذا: «هكذا قلتم لنا في الصحراء قبل دمنهور، فغاية الأمر أن تكون القاهرة أكبر من دمنهور ثلاث مرات أو أربعًا، أو مجموعة من العشش الحقيرة، الفقيرة من كل ما يجعل الحياة مقبولة ومحتملة.»
إن النيل الآن في آخر انخفاضه، وإنه بعد قليل من الزمن يفيض بالماء الكثير وسيدركون كل ما سمعوا عنه، وبعد أيام قليلة ستكون لدى الجيش الطواحين والأفران لصنع الخبز، وأن هذه الأرض التي يرونها اليوم جرداء، والتي يسيرون فوقها بصعوبة سيرونها عما قليل خضراء زاهية بالمزارع مما يذكرهم بخصوبة وادي النيل، وكانوا كلما استقر بهم المقام في نقطة على النيل خلعوا ملابسهم ونزلوا للاستحمام، ثم يأخذون بعد ذلك في الجدل والسياسة والمناقشة وإظهار الغيظ من تلك الحال فكانوا يقولون: «لأي شيء جئنا إلى هذه البلاد؟» لا شك أن حكومة «الدير كتوار» قد أبعدتنا ونفتنا من بلادنا، وفي بعض الأحيان يلتفتون إلى الجهة التي فيها قائدها «نابوليون»، وكان دائمًا يعسكر على ضفة النيل، ولا يتناول من الطعام أكثر مما يتناول أحقر جندي، ويظهرون نحوه علائم الانعطاف والشفقة، قائلين: لا شك أن رجال الحكومة أرادوا إبعاد قائدنا والتخلص منه، ولكن كان يلزمه بدلًا من أن يقودنا إلى هنا أن يأمرنا ونحن بأقل إشارة منه، كنا نطرد أعداءه من تلك القصور التي يحكمون فيها كما سبق لنا طرد أعداء الجمهورية من مساكنهم.
وكان الجنود كلما رأوا العلماء قد ذهبوا إلى مكان أو جهة من الجهات للوقوف على بعض الآثار في الطريق، خيل لهم أن أولئك العلماء هم الذين حرضوا الحكومة على إرسال هذه الحملة، فكانوا موضع سخطهم، واحتقارهم، وكانوا يلقبونهم «حمير العلماء».
وكان الجنرال كافاريللي رئيس فرقة المهندسين، له رجل مبتورة وضع مكانها رجلا من خشب، يكثر من التنقل بين الجنود لتطمئن خواطرهم، وليذكر لهم محاسن مصر وخيراتها فالتفت إليه أحد الجنود وقال له منكتًا متهمكمًا: أنت تقول كل هذا لتهزأ بنا، وأنت لك رجل في فرنسا، قبل أن تكون لك رجل هنا، قال الراوي فانتقلت هذه النكتة من فرقة إلى فرقة حتى امتلأت بها أفواه الجنود ضحكًا وسخرية. ا.ﻫ.
ولقد أطلنا في نقل هذه العبارات من المصادر الفرنساوية لأهميتها من حيث هي من مذكرات ذلك القائد العظيم، ولأنها توصف حالة كان عليها الجيش الفرنسي، بحيث لو أتيح لقوة منظمة، ولو صغيرة، من المماليك أو غيرهم، أن تلتقي بذلك الجيش، وهو على ذلك الحال، وفي تلك البقعة، لكان من الممكن أن تتغير صفحة مهمة من صفحات التاريخ:
وفي التاسع عشر من شهر يوليو «الخميس ٥ صفر» وصل الجيش الفرنساوي إلى أم دينار، على بعد خمسة فراسخ من القاهرة، وهنا لاحت له لأول مرة مناظر الأهرامات وبعض المآذن العالية من مساجد القاهرة.
وفي اليوم التالي اصطف الجيش وصدرت له الأوامر بالاستعداد للمحاربة في الواقعة الفاصلة، التي سنفرد لها فصلًا خاصًّا.