القاهرة قبل الواقعة
بين وصول مراد بك لإمبابة، بعد هزيمته في شبراخيت، وبين واقعة إمبابة الفاصلة نحو خمسة أيام، نريد أن نأتي على وصف القاهرة في خلالها، وعمدتنا في هذه النقطة، هو صاحبنا الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، فإن ما يرويه في هذه النقطة صحيح الرواية؛ لأنه شاهد عيان، وأقوال مثله في أوقات كهذه مما يحرص عليها المؤرخون، هذا فضلًا عن أن وصفه لحالة الشعب وحكامه في ذلك الحين، مما يعطينا صورة صادقة اللون للحالة الاجتماعية، والأخلاقية والنفسانية، للأمة المصرية، وسنجتهد بقدر الإمكان في اختصار عباراته المطولة، وفي الاقتصار منها على ما يساعدنا في تكوين وتلوين الصورة التي نريد إبرازها في هذه الصحائف.
قال الجبرتي: إنه لما وصلت الأخبار بانهزام مراد بك، اشتد انزعاج الناس، وكان العلماء يجتمعون بالأزهر كل يوم، ويقرءون البخاري وغيره من الدعوات، وكذلك مشايخ فقراء الأحمدية والرفاعية والبراهمة «لا يريد البراهمة الهنود، بل أتباع سيدي إبراهيم الدسوقي المعروف» والقادرية والسعدية، وغيرهم من الطوائف، وأرباب الأشاير، ويعملون لهم مجالس بالأزهر، وكذلك أطفال المكاتب ويذكرون الاسم اللطيف وغيره من الأسماء «يعني بهذا تلاوة أسماء الله الحسنى».
قال عن يوم الاثنين ١٦ يولي «٢ صفر»، وبعد ذكره خبر وصول مراد بك إلى إمبابة، وشروعه مع بقية الأمراء في إقامة المتاريس، وترتيب الجنود حتى سار البر الغربي والشرقي مملوءين بالمدافع والعساكر والمتاريس والخيالة والمشاة قال: «ومع ذلك فلم تكن قلوب الأمراء مطمئنة؛ إذ شرعوا في نقل أمتعتهم من البيوت الكبار المشهورة، إلى البيوت الصغيرة التي لا يعرفها أحد، واستمروا طول الليالي ينقلون الأمتعة ويوزعونها على معارفهم وثقاتهم، وأرسلوا البعض منها إلى بلاد الأرياف، وأخذوا في تشهيل الأحمال، واستحضار دواب الشيل وأدوات الارتحال.»
وهذا من الأدلة القاطعة على أن أمراء المماليك قد داخلهم الفزع والخوف، وأنهم لم يكونوا واثقين من أنفسهم، ولا من قادتهم، وأنهم ما كانوا يحرصون على ملك، ولا يشعرون بعاطفة قومية أو دينية أو وطنية، ولا فكروا في قبور أسلافهم، ولا في معابد دينهم، حتى ولا في أعراضهم، كما يشعر كل قوم يداهمهم عدو أجنبي عن جنسهم ودينهم وخلقهم، وكان كل همهم محصورًا في الحرص على مقتنياتهم وأموالهم التي سلبوها من المصريين المساكين!! وعندي أن مراد بك على الرغم من أنه أشجع الجميع، وأحقهم بشيء من الثناء لمدافعته ومقاومته، ما أسرع بالفرار إلى القاهرة بعد واقعة شبراخيت، إلا ليجمع ما لديه من مال وخيول، ليهرب إلى الصعيد!! فقد روى الجبرتي: أن مراد بك بعد واقعة إمبابة الأخيرة فر إلى الجيزة ولم يقض في قصره أكثر من ربع ساعة، وأنه قد أعد غليونه الكبير وجمع فيه كل ما يريد الحرص عليه، وأنه اضطر إلى حرق ذلك الغليون لما عجز عن سيره لقلة الماء في النيل! ورووا عن إبراهيم بك أنه أعد في السفن كثيرًا من خيراته ومقتنياته.
ومن الغريب في أمر أولئك المماليك أنهم في ذلك الظرف العصيب، حرموا على غيرهم ما أحلوه لأنفسهم، فقد روى «الجبرتي» أنه لما رأى الأهالي منهم ذلك الخوف، والسعي في تخبئة أموالهم ومقتنياتهم، أرادوا الاقتداء بهم، فمنعهم الأمراء «المماليك» وهددوهم بالقتل، ولولا ذلك لما بقي بمصر من أغنيائها أحد.
وإلى القارئ صفحة من صورة القوم في ذلك الحين، كما رسمها الجبرتي بريشة قلمه الساذج، قال: «وفي يوم الثلاثاء «١٧ يوليو» نادوا بالنفير العام لخروج الناس للمتاريس، فأغلق الناس الدكاكين والأسواق، وخرج الجميع لبر بولاق، فكانت كل طائفة من طوائف أهل الصناعات، يجمعون الدراهم من بعضهم، وينصبون لهم خيامًا ويجلسون في مكان خرب، أو مسجد، ويرتبون لهم قيمًا ليصرف عليهم ما يحتاجون له من الدراهم التي جمعوها من بعضهم، وبعض الناس كان يتطوع بالإنفاق على البعض الآخر، ومنهم من يجهز جماعة من المغاربة أو الشوام بالسلاح والأكل وغير ذلك بحيث أن جميع الناس بذلوا ما في وسعهم، وفعلوا ما في قوتهم وطاقتهم، وسمحت نفوسهم بإنفاق أموالهم، فلم يشح في ذلك الوقت أحد بشيء يملكه، ولكن لم يسعفهم الدهر» …
ولعمري إن هذا الدليل ناصع على وطنية كامنة في نفوس المصريين لا تحتاج إلا إلى التهذيب والإرشاد وحسن القيادة؛ إذ لم ينقصهم التضامن في تكوين فئات، وجمع شتات، وتسليح القادرين، وإنفاق المال عن طيب خاطر … ولكن ماذا تنفع هذه الفوضى والجهل، أمام النظام والعلم؟!
وإلى القارئ صورة أخرى … قال صاحبنا الجبرتي: «وخرجت الفقراء وأرباب الأشاير بالطبول والزمور، والأعلام والكاسات، وهم يضجون ويصيحون، ويذكرون بأذكار مختلفة، وصعد السيد عمر أفندي «مكرم» نقيب الأشراف إلى القلعة، فأنزل منها بيرقًا كبيرًا، سمته العامة «البيرق النبوي»، فنشره بين يديه من القلعة إلى بولاق، وحوله ألوف من العامة بالنبابيت والعصي يهللون ويكبرون، ويكثرون من الصياح … وجلس مشايخ العلماء بزاوية علي بك ببولاق يدعون ويبتهلون إلى الله بالنصر.»
قال: «وانقطعت الطرق، وتعدىالناس بعضهم على بعض، وأما بلاد الأرياف فإنها قامت على قدم وساق بقتل بعضهم بعضًا، وبنهب بعضهم بعضًا، وكذلك العرب غارت على الأطراف والنواحي، وصار قطر مصر، من أوله إلى آخره، في قتل ونهب، وإخافة طريق، وقيام شر، وإغارة على الأموال … وحاول العامة التعدي على النصارى واليهود فمنعهم الحكام، ولولا ذلك المنع لقتلهم العامة وقت الفتنة.»
ولم يغب عن الجبرتي أن ينتقد نظام المماليك الحربي، ويهزأ بهم، وبسوء تصرفهم، وعدم قيامهم بما يلزم لحماية البلاد، فقال: «في كل يوم تكثر الإشاعة بقرب الفرنسيس إلى مصر، فمنهم من يقول إنهم واصلون من البر الغربي، ومنهم من يقول بل يأتون من الشرقي، ومنهم من يقول بل يأتون من الجهتين، وهذا وليس لأحد من أمراء العساكر همة تحمله على أن يبعث جاسوسًا، أو طليعة تناوشهم القتال قبل دخولهم، وقربهم ووصولهم إلى فناء مصر، بل كل من إبراهيم بك ومراد بك جمع عسكره، ومكث مكانه لا ينتقل عنه، ينتظرون ما يُفعل بهم، وليس ثم قلعة ولا حصن، ولا معقل، وهذا من سوء التدبير، وإهمال أمر العدو»!! فالشيخ الجبرتي الأزهري، يقول في ذلك الزمن، بما يقول به كُتاب الإنكليز الخبيرون عن إهمال المماليك أمر مناوشة نابوليون وجيشه، خصوصًا في جهات الصحراء، وفي النقط التي ضاقت فيها صدور الجنود، وكرهوا مصر وفتحها!! ولو أن قوة هاجمت الفرنساويين من ورائهم عند «وردان» مثلًا — فإن مواصلاتهم مع شبراخيت والرحمانية لم تكن على ما يرام — لأضرت بهم ضررًا بليغًا، ولربما ألحقت بهم الفشل والانهزام.
قال المستر كامرون في كتابه: «ولقد أضاع المماليك الفرص الثمينة فإن نابوليون ترك حرًّا في تسيير جنوده، وهم منهوكو القوى في الصحراء حتى دمنهور، ثم كذلك في الوصول إلى النيل دون أن يضطر إلى مقاومة في الحصول على الماء، ولما انهزم مراد بك في شبراخيت عاد إلى القاهرة وجمع معظم قوته عند إمبابة، ولم يتخذ أقل الوسائل لمناوشة عدوه وحرمانه من النوم والراحة، ولا عمل شيئًا يؤدي إلى تجريد السكة التي سار فيها جيش العدو من الزرع، ثم لم يكن ثمت من داعٍ لمحاربة عدوه في الجهة الغربية من النيل، بل ما كان على مراد بك إلا أن يتحول بجيشه إلى الجهة الشرقية تحت أسوار العاصمة، وأن يجبر نابوليون على عبور نهر النيل في نقطة واسعة شديدة التيار بين إمبابة وبولاق، أو الجيزة ومصر، في ظروف غير ملائمة لمصلحة الفرنساويين، كل هذه الفرص أضاعها مراد بك كبرياء وجهلًا، وألقى نفسه غنيمة باردة في يد المغير على بلاده.»
وكذلك لم يخل الجبرتي المماليك أصحابه من قاذع اللفظ، ومر القول إذ وصفهم بعد ذلك فقال: «وفي يوم السبت ٢١ يوليو وصل الفرنسيس إلى أم دينار، فعندها اجتمع العالم العظيم من الجنود والرعايا والفلاحين المجاورة بلادهم لمصر، ولكن الأجناد متنافرة قلوبهم، منحلة عزائمهم، مختلفة آراؤهم، حريصون على حياتهم، وتنعمهم ورفاهيتهم، مختالون في ريشهم، مغترون بجمعهم، محتقرون شأن عدوهم، مرتبكون في رؤيتهم، مغمورون في غفلتهم، وهذا كله من أسباب ما وقع من خذلانهم وهزيمتهم.»
والذي يؤيد عندك صدق عبارة الجبرتي في قوله: «حريصون على تنعمهم ورفاهيتهم.» أن الجنود الفرنساويين وجدوا في خيام المماليك، وفي عامة معسكرهم الذي أقاموه في جهة إمبابة، بعد الفشل والهزيمة، من فاخر الرياش، وأصناف السجاجيد الفارسية، والأواني الغالية الفضية والصينية، ما دل على أن أولئك القوم ما فارقوا نعيمهم، ولا ملذاتهم، إلى اللحظة الأخيرة التي يدافعون فيها عن ذلك النعيم، والخير العميم، بل عن أرواحهم وأعراضهم، وسيأتي ذلك في مكانه بعد وصف الواقعة التي قضت على تلك العصبة فلم تقم لهم بعدها قائمة تذكر.
في ١٩ يوليو وصل الجيش إلى قرية أم دينار تجاه ملتقى فرعي الدلتا، وعلى بعد خمسة فراسخ من القاهرة، فشاهد الجيش لأول مرة الأهرامات وصوبت النظارات لرؤية هذه الآثار القديمة.
واستراح الجيش في اليوم العشرين من شهر يوليه ثم صدرت له الأوامر بالتأهب لخوض المعركة.
وكان العدو قد عسكر على الضفة اليسرى لنهر النيل تجاه القاهرة بين إمبابة والأهرامات يجيش عرمرم من المشاة والفرسان، تحرسه عمارة بحرية، وبين سفنها فرقاطة تحمي معسكره، أما العمارة البحرية الفرنسية فقد بقيت في المؤخرة؛ لأن النيل كان منخفضًا، ولا بد من الاستغناء عن الإمدادات التي يجب أن تنقل بواسطته.
اعتز المماليك والأغوات والبحارة بكثرة عددهم وحسن موقفهم، وملأت الحماسة قلوبهم، وشجعتهم نظرات أمهاتهم وأولادهم وزوجاتهم، فيات الرجاء يملأ أفئدتهم، وكانوا يقولون إن تحت الأهرامات التي بناها أجدادهم سيلقى الفرنسيون حتفهم، وسيحفرون قبورهم، ويحل القضاء بهم.