الثورة المهدية
تمهيد
قبل أن ندخل في تفاصيل الثورة المهدية وأسبابها، نرى لزامًا علينا أن نقول كلمة في الثورات عامة: فالثورة هي الغضبة على حالة كريهة، وهو العصيان على الأمر الواقع، والتمرد على القيود القائمة.
ويثور الإنسان كما تثور فئة قليلة، وقد يثور شعب بأسره، ولكن ثورة المرء الفرد قد تجيء وليدة الساعة، يفزع من شيء ويكرهه ويغضب عليه، فيحاول أن يزيله من سبيله وأن يتخطاه، فإذا اشتد الغضب، وغلا المرجل، وأصبحت الحالة القائمة لا تطاق، خرج الإنسان عن إرادته وهدوئه، وهاج وماج كما يهيج البحر، وكما يفور الماء المغلي ويحطم الغطاء.
والعادة أن ثورة الجماعات وغضبة الأمم تكون وليدة السنين والحوادث، وأن لها أسباب قديمة وغير مباشرة، فلا يمكن أن تقع ثورة جماعة أو أمة في حدِّ الزمن الذي تقع فيه ثورة الفرد الأحد، ومن ثمَّ كان للثورات أسباب بعيدة وكثيرة ومتجمعة. والثورات في حاجة إلى القادة والزعماء، وإلا كانت ضعيفة أو امتنع ظهورها. فليس هناك ثورة عامة في العالم إلا ولها زعماء وقادة، كما لها دعاة منفِّرون ومبشِّرون: منفِّرون من الحالة القائمة، ومبشِّرون بالحالة المنشودة الحسنة التي تحل محلها، وتتعدد الثورات؛ فهناك ثورات دينية يطلب فيها دفع الاعتداء على الدين أو مذهب فيه أو للدعاية له، وثورات سياسية داخلية من المحكومين ضد الحاكمين، أو من الحاكمين ضد المحكومين، وثورات خارجية، وهي الحروب التي تقع بين الأمم والحكومات.
وتؤثر في الثورات عوامل كثيرة: التجانس، واللغة، والدين، والوطنية، والعلم، والعدل، والاستعداد الحربي، وحالة العدو من قوة أو ضعف، وحالة الجيران، والحالة الاقتصادية من رخاء أو فقر، والحالة العالمية، فإذا توافرت لشعب ثائر وحدة وطنية وجنسية ودينية، وظفر بقسط وافٍ من التعليم والتهذيب، وكان استعداده الحربي المعنوي والمادي كاملًا، وكان عدوه أضعف منه، وكانت له قيادة محترمة مخلصة، كان النجاح حليف هذا الشعب الثائر، وإذا حُرم هذه العوامل، كان النصر بعيدًا أو محالًا؛ فنجاح الثورات رهين بتوافر هذه العوامل؛ قليلًا أو كثيرًا.
وقد نظرنا في تاريخ الثورات العامة فألفينا لها سببًا جامعًا — أوليًّا في كل منها — وهو الشعور بالظلم والاستعداد لمقاومته، لا يكفي أن يوجد ظلم، بل يجب أن يوجد مظلومون يشعرون بأنهم مظلومون، ولا يكفي أن يشعروا بأنهم مظلومون، فقد يكونون متواكلين يقولون «هذا أمر الله»، أو «لا حول ولا قوة إلا بالله»، أو «نحن ضعفاء وعدونا قوي»، بل يجب أن يكونوا مستعدين لمكافحة الظلم ومنافحة الظالمين بافتداء النفس وبذل النفيس.
وقد استُعير لفظ «الثورة» للحركات الإنشائية والنهضات الأدبية والعلمية والنسوية، على أساس أن طلاب الإصلاح والتجديد والانقلاب ينهضون لهدم القائم من أساليب الأدب وقواعد العلم وحياة المرأة؛ لإقامة أدب جديد له مناحيه وأساليبه وألوانه وفلسفته، أو قواعد علمية جديدة، أو الاعتراف للمرأة بحقوق وإنكار حالتها من العبودية للرجل.
وفي هذه الثورات المستعارة يوجد أيضًا شعور بالظلم؛ شعور بأن من الظلم أن يظل كل من الأدب والعلم والمرأة راسفًا في قيود التقليد والأساليب العاجزة.
أسباب الثورة المهدية
-
(١)
الظلم: ظلم الكثيرين من الحكام للأهالي؛ بفرض الضرائب التي لم يحتملوها، والرشوة، وبألوان التعذيب.
-
(٢)
الشعور بالظلم والتمرد على الظالمين: قيام الأعيان والفقهاء وأحاديث المجتمعات بالأنحاء على هذا الظلم، والتشاور في كيفية مكافحته.
-
(٣)
منع تجارة الرقيق: كان الاتجار بالرقيق في يد الأقوياء، وكان الملوك والحكام والأعيان وأرباب الأمر والعمد ورؤساء العشائر، يستخدمون الأرقاء في منازلهم وكجند لهم، فحرمان التجار من مكاسبهم والكبراء من شيء يعدونه من ضروريات حياتهم، أدَّى إلى الغضب والانتقاض على الذين منعوا بيع الرقيق، وعدَّ هذا المنع ظلمًا؛ لأنهم شعروا بأنهم فقدوا ركنًا أساسيًّا في بناء حياتهم.
-
(٤)
احتكار الحكومة العاج: وهو مادة تجارية أساسية في السودان، وقد حصل هذا الاحتكار في عهد غوردون.
-
(٥)
تعدد القبائل والعشائر في السودان ومنازعاتها: وهي حالة توجب ثورات مستمرة، وتجعل الحاكم يستعين ببعض القبائل ضد البعض الآخر، فتثور القبائل المحرومة من تأييد الحكومة على الحكومة التي تؤازر القبائل الخصيمة.
-
(٦)
حب الاستقلال: لقد كانت هناك قبائل وبلاد متمتعة بالاستقلال، فحرمها الحكم المصري منه، كما حدث في سلطنة دارفور، ومملكة شندى على عهد الملك نمر ومملكة أمتيسة. وإذعان هؤلاء الملوك وممالكهم للحكومة كان رضوخًا للقوة العسكرية المنظمة.
-
(٧)
العقيدة الدينية الفطرية: لم يكن يجمع قبائل السودان المتنازعة إلا جامعة الدين الإسلامي، وكان المظلومون يعتقدون أن الله — سبحانه وتعالى — لا يرضى عن استمرار الظلم، ولا يرضى عن الظالمين، وأنه لا بد مرسِل إلى المظلومين رجلًا تقيًّا مهيبًا لينقذهم من الظالمين، وقد تواترت الأخبار المنقولة من بعض الكتب الدينية والمتداولة من أحاديث العامة أن هناك رجلًا عظيمًا يُدعى «المهدي المنتظر» يرسله الله — سبحانه وتعالى — في آخر الزمان لإنقاذ الأمة المحمدية والبشر كافة من الظلم؛ ولذلك كان زعماء الثورات السودانية قبل «محمد أحمد المهدي» أو بعده في حاجة إلى ادِّعاء المهدية؛ حتى يتفق ذلك مع المتواتر والمعتقد والمنتظر.
لقد رأيت الذين عالجوا الثورة المهدية من الأجانب والمصريين قد تحاملوا عليها، وجسَّموا فظائعها، وأنكروا على الثورة قيامها.
وفي رأيى أن هؤلاء المؤرخين جميعًا قد أخطأوا التوفيق، وأفسد تفكيرهم ما وقع عليهم من مظالم، أو لأن الثورات كانت قريبة العهد منهم.
في جميع الثورات تحدث فظائع، وتنهك حرمات، ويحصل خراب وظلم أو حرمان لبعض الأفراد أو الطوائف.
لقد كان قيام الثورة المهدية معاصرًا لقيام الثورة العرابية، وقد قامت الثورة العرابية ضد ظلم فريق من الحكام الأتراك «الجراكسة» للمصريين، وقامت الثورة المهدية لتدفع ظلم هؤلاء الحكام في السودان. فمن هذه الناحية تشبه الثورة المهدية الثورة العرابية.
وتشبه الثورة المهدية الثورة الوهابية في نجد؛ لأن كلًّا من الثورتين قد اصطبغ بالصبغة الدينية، وهو الرجوع بالإسلام إلى الفطرة وتجريده من البدع، ولو أن الثورة المهدية وجدت رجالًا أكفاء بعيدي النظر عملوا على توطيد الحكم بعد نجاحها، لظل السودان مستقلًّا، بل لأمكن للثورة المهدية أن تجتاح مصر؛ حيث كانت ضعيفة معسرة ومحتلة بالجيش الإنجليزي، وأن تضم مصر إلى السودان، وأن تنجح غزوة ابن النجوي لمصر، كما نجح ابن السعود في ضم الحجاز إلى نجد، وقد أشبهت الثورة المهدية ما حدث في الجزيرة العربية عقب الرسالة المحمدية والدعوة الإسلامية، من توحيد كلمة القبائل المتنافرة تحت شعار واحد، ففي الثورة المهدية شعار المهدية، وفي الدعوة الإسلامية الرسالة النبوية.
على هذه الصورة يجب أن تفهم الثورة المهدية، أما التحامل عليها والنيل من زعيمها السيد محمد أحمد المهدي، والاكتفاء بتضخيم الفظائع وتعداد المظالم، فليس من الإنصاف التاريخي في شيء. يجب علينا أن نعالج الثورة المهدية كما نعالج الثورة العرابية والثورات العامة الأخرى.
أسباب نجاح الثورة المهدية
- (١)
لشخصية زعيمها السيد محمد أحمد المهدي، فقد كان فقيهًا تقيًّا نزيهًا، وصاحب عقيدة تتحول الجبال ولا يتحول عنها، وكان لها أنصار كثيرون من ذوي العقيدة والتفاني.
- (٢)
لأن المهدي أعلن أنه «المهدي المنتظر»، وكان السودانيون ينتظرون من قديم ظهور هذا المهدي المنقذ.
- (٣)
ظلم الحكام وضعفهم: ما اقترفه بعض الحكام والموظفين من مظالم، مع ضعفهم.
- (٤)
ضعف الحاميات المصرية بالنسبة لاتساع السودان، وبسبب الثورة العرابية وضعف الحكومة المصرية أمام رعاياها وأمام الأجانب.
- (٥)
اضطراب حالة الحكم في مصر ونظمه، فكلما ضعفت آلة الحكم في مصر ظهر ذلك في السودان، ونفوذ مصر ضعيف الآن في السودان؛ لأن النفوذ الوطني ضعيف في توجيه الحكم الآن في مصر نفسها، وليس معقولًا أن تكون الحكومة المصرية ضعيفة أمام الاحتلال ثم يكون نفوذها غير ضعيف في السودان، وهذا الضعف حالة ظهرت منذ الاحتلال.
- (٦)
عسر الحكومة المصرية وتقليلها — أخيرًا — الأموال التي كانت تغدقها في بناء مدنية السودان، تلك المدنية التي لا تقوم إلا بأموال خارجية تنفق على السودان، وإلا عاد إلى بداوته.
- (٧)
تردد الحكومة المصرية في مكافحة الثورة.
- (٨)
دسائس فريق من الأجانب والنفعيين لتأليب السودانيين على المصريين.
- (٩)
اتجاه الإنجليز إلى إخلاء السودان من الجيش المصري؛ لا سيما بعد احتلالهم مصر وضعف الجيش المصري.
أسباب فشل الثورة المهدية بعد نجاحها
-
(١)
وفاة المهدي في السنة الثانية بعد سقوط الخرطوم.
-
(٢)
الخلاف بين الخليفة عبد الله التعايشي والخليفتين شريف وابن الحلو.
-
(٣)
سعي التعايشي لإقامة ملك ومملكة، وتقريب التعايشيين ومحاباتهم على غيرهم.
-
(٤)
وقوف حركة التجارة وانتشار الأوبئة والمجاعات.
-
(٥)
اختلاف القبائل مع ضعف القيادة وجهلها.
-
(٦)
المظالم والفظائع التي ارتُكبت من بعض أنصار المهدية.
-
(٧)
موت الملايين بسبب الأوبئة والأمراض.
-
(٨)
عدم رضا العالم الإسلامي وخليفة المسلمين عن الحركة المهدية وتعاليمها، وإنكارهم على صاحبها أنه «المهدي المنتظر».
-
(٩)
إعادة تنظيم الجيش المصري وأسلحته، وحسن قيادته ونشاط قلم مخابراته.