عودة غوردون باشا إلى السودان
كان وصول غوردون يوم ٢٦ ربيع أول سنة ١٣٠١ﻫ، وسافر في الساعة التاسعة من مساء يوم ٢٨ ربيع أول «فبراير سنة ١٨٨٤» بقطار خاص استقله من محطة بولاق الدكرور، وقد ازدحمت المحطة بالمودِّعين، وعلى رأسهم نوبار باشا رئيس الوزارة والوزراء، وقنصل إنجلترا الجنرال، وقائد الجيش.
ويقال إن عبد القادر حلمي باشا حكمدار السودان السابق أبلغ غوردون سوء الحالة في السودان، واستفحال أمر المهدي، ووجوب إرسال جيش من ألف جندي؛ لأن غوردون لم يسافر معه جيش، وكانت خطته ترمي إلى ملاينة المهدي بالوعود والهدايا، وبالاعتراف به حاكمًا على كردفان، كما كانت تلك سياسته عند فتح جنوب السودان «انظر الفصل الخامس عشر من هذا الجزء.»
وقد رافق اللواء إبراهيم فوزي باشا — الذي ورد ذكره في الفصل الخامس عشر من هذا الجزء — غوردون باشا في سفره بناء على طلبه قبل وصوله إلى القاهرة؛ لأنه رأى فيه جنديًّا كفؤا ومساعدًا قديرًا؛ لسابق خدمته بالسودان والحكم فيه، وقد ردت الحكومة إلى فوزي باشا رتبه ونياشينه العسكرية بعد أن نُزِعت منه لانضمامه إلى عرابي باشا.
وفي الساعة العاشرة مساء غادر القطار محطة بولاق الدكرور قاصدًا إلى أسيوط بين هتاف المودِّعين، وفي صباح اليوم التالي وصل غوردون إلى أسيوط، واستقل منها باخرة نيلية إلى أسوان، حيث استقبل لفيفًا من المبشِّرين والقسس الكاثوليك الهاربين من السودان، وقد أبلغوا غوردون سوء الحال والخطر.
وفي كروسكو أرسل غوردون إلى المهدي كتابًا ومعه هدية من الملابس، وفحوى الكتاب أن غوردون يعترف بالمهدي سلطانًا على السودان الغربي كله، وملكًا مطلقًا على كردفان ودارفور، وأن حكومة جلالة الملكة فيكتوريا — ملكة إنجلترا يومئذ — قد عينت غوردون حكمدار للسودان، ووافقت الحكومة الخديوية على ذلك، وأنه يرغب في توثيق العلاقات بين سلطنة المهدي وبينه، وإعادة المواصلات، ووقف إراقة الدماء. وأرسل غوردون تلغرافًا إلى حكمدارية السودان بالخرطوم باستقبال رسل المهدي إذا وصلوا، بإطلاق المدافع وإقامة الزينات، وجعل التلغراف تحت تصرفهم لمخاطبة غوردون، وأرسل تلغرافًا آخر بإعفاء الأهالي من الضرائب المتأخرة، وبفصل حسين سري باشا من وكالة حكمدارية السودان، وتعيين الكولونيل دي كوتلجف بدلًا منه، وكان مقيمًا في الخرطوم منذ سنة بمهمة سرية، وبتعيين عوض الكريم أبي سن زعيم قبائل الشكرية مديرًا للخرطوم.
وبعد السفر على الإبل أربعة أيام وصل غوردون ومن معه إلى آبار المرات، وبعد أيام وصلوا إلى أبي حمد، وهي أول حدود مديرية بربر، وأول حدود دنقلة، وسكانها يسمون الرباطاب والمناصير من الجعليين، وألقى غوردون خطابًا في أبي حمد بحضور حسين خليفة باشا مدير بربر والأعيان، أبلغهم تجاوز الحكومة عن المتأخر من الضرائب، وعن ضرائب ثلاث سنوات في المستقبل، وإحراق الدفاتر القديمة، ووعدهم بتخفيض الضرائب بعد مضي ثلاث السنوات، وحذَّرهم من تصديق دعوة المهدي. فقالوا نحن مؤيِّدون للحكومة الخديوية إلى النهاية؛ كل ذلك لكفالة ولائهم له وللحكومة.
وأرسل غوردون تلغرافًا إلى اللورد كرومر يبشِّره بنجاح مهمته، وشهد لعبة الدللوكة، ثم سافر إلى بربر واستقبله القناصل والموظفون والأعيان، فوصفوا له حرج الموقف وضرورة وجود جيش لصد قوة المهدي الكبيرة، فطلب إليهم الاطمئنان والخلود إلى السكينة.
ووصلت الباخرة بعد أيام إلى أم درمان، حيث كان بها نقطة من الجنود، ثم وصلت الباخرة إلى الخرطوم، حيث رست في «المقرن»، وهي نقطة اجتماع النيلين الأبيض والأزرق، فأدت الجنود التحية العسكرية، وتفقَّد غوردون الحصون، وكان الجنود صفوفًا والأهالي واقفين.
يا أهالي السودان عمومًا، إن الجناب الخديوي يسلم عليكم؛ صغيرًا وكبيرًا، أحرارًا وعبيدًا، إناثًا وذكورًا، وكذلك جلالة الملكة فيكتوريا، ملكة بريطانيا العظمى وإمبراطورة الهند، وإنكم لا تجهلون شفقتي عليكم ومحبتي لكم، وقد ساءني ما سمعته عنكم، حيث نشبت الحرب بينكم وتعطلت تجارتكم، وسفكت دماؤكم، ومُنعتم من تأدية فريضة الحج التي هي من أركان الإسلام وزيارة قبر النبي (عليه السلام)، وقد أساء هذا الحال كلًّا من جلالة الملكة وسمو الخديوي المعظم، فانتُدبتُ من قِبل حكومة جلالة الملكة لأكون واليًا على السودان، ومرخصًا فوق العادة، وقد صار فصل السودان عن مصر فصلًا تامًّا، وفوِّض إليَّ الحكم المطلق، وقد خابرت حضرة السيد محمد أحمد المهدي بفحوى مأموريتي، واعترفت له بالسلطة المطلقة على السودان الغربي برمته، على شرط أن لا يمد يده لغيره. هذا وقد ألغيت جميع الأوامر الصادرة بمنع تجارة الرقيق، وتجاوزت عن جميع المتأخرات من الضرائب لغاية سنة ١٨٨٣، وقد تجاوزت أيضًا عن ضرائب ثلاث سنوات منذ أول سنة ١٨٨٤، وأمرت بإحراق دفاتر المتأخرات، وأمرت بإطلاق سراح جميع المسجونين على اختلاف جرائمهم وتنوع جناياتهم، وعزمت منذ الآن أن لا يكون أعضاء حكومتي إلا من الوطنيين، حيث إنني أود تشكيل حكومة وطنية ليحكم السودان نفسه بنفسه، وقد عيَّنت عوض الكريم أبا سن مديرًا للخرطوم، وأحسنت عليه برتبة الباشوية، ولي الأمل بأن العلائق ستُفتح بيني وبين سلطان الغرب «المهدي» وثيقة العرى، وقد أمرت منذ اليوم بفتح أبواب الحصون وإتلافها، وسحب الجنود؛ لتلتفتوا إلى عمران بلادكم وحرث أراضيكم وإنماء تجارتكم، ومني عليكم السلام.
وكان أهل الخرطوم يسمعون هذه الخطبة والدموع تنهمر من مآقيهم؛ لأنهم أيقنوا الهلاك؛ إذ إن المهدي، بعد أن أصبح قويًّا ظافرًا، لا يمكن أن يقبل ذلك، وأنه لا بد زاحف على الخرطوم.
ثم استقبل غوردون العلماء فأبلغوه أن إتلاف الحصون نكبة؛ لأن المهدي لن يلتفت إلى كلامك، فعدل غوردون عن تخريب الحصون.
وعلى أثر ذلك، هجر المدينة كثير من الناس إلى مصر، واستقال موظفون كثيرون؛ ومنهم الكولونيل دي كوتلجف، ويقول فوزي باشا في كتابه السودانيين بين يدي غوردون وكتشنر «انظر الفصل التاسع والعشرون من هذا الجزء»: «وقد تعجبت من إصرار غوردون على رأيه الأول بعد أن رأى الخطر الذي أحدق بحياته مرتين في الطريق وعلم إجماع الآراء على عدم نجاحه».
وقد زار عبد القادر ابن أم مريوم — وهو فقيه من القرى المحيطة بمدينة الخرطوم — «غوردون» فرحَّب به وأعطاه ٣٠٠ ريال، ثم عاد عبد القادر إلى قريته، وأرسل كتابًا إلى «غوردون» ينصحه بالتسليم هو ومن معه من الموظفين للمهدي.
(١) قبيلة الشكرية وزعيمها أبو سن
قبيلة الشكرية — أو قبائلها — قبائل رحالة تسكن شرقي النيل الأزرق في صحراء ريرة، بين عطبرة والنيل الأزرق، وماشيتها من الإبل والبقر كثيرة، وعددها — يومئذ — ٥٠٠ ألف نسمة، وكان أحمد أبو سن باشا مديرًا للخرطوم، وزعيمًا للشكرية، وقبل وفاته قدم إلى القاهرة وأهدى إلى الخديوي إسماعيل هدايا كثيرة وتوفي بها، وخلفه ابنه عوض الكريم أبو سن في زعامة الشكرية.
وقد ظلت الشكرية وزعيمها وآله على ولاءٍ صادقٍ وتفانٍ مدهشٍ للحكومة المصرية في أثناء الثورة المهدية، وقد حرَّض المهدي عليها قبيلة البطاحين القوية، والتي بها قطاع طريق، وقد اضطرت الشكرية عند حصار المهديين لكسلا أن تكتب للمهدي بالخضوع.
ولما وصل كتاب غوردون مع رسول خاص إلى عوض الكريم أبي سن باشا بتعيينه مديرًا للخرطوم، سأل الرسول: هل حضر مع غوردون جنود؟ فقال الرسول: لا، ولكنهم سيجيئون، فحثا عوض الكريم التراب على رأسه وقال: يا ضيعة الأمل! ثم كتب إلى غوردون بحرج موقف أبي سن واعتذاره عن قبول المنصب، وأن بقاءه في مكانه أنفع؛ لمنع مغادرة البطاحين إلى بربر.
(٢) كتاب المهدي إلى غوردون ردًّا على كتابه
الحمد لله الكريم، والصلاة على سيدنا محمد وآله مع التسليم، وبعد، فمِن العبد المفتقِر إلى الله المهدي بن عبد الله إلى عزيز بريطانيا والخديوية غوردون باشا، قد وصلنا جوابك، وفهمنا ما فيه، وإنك تزعم إرادة إصلاح المسلمين، وفتح الطرق لزيارة قبر النبي — عليه الصلاة والسلام — واتصال المودة فيما بيننا وبينكم، وحل المسيحية من النصارى والمسلمانيين، وأن تجعلني سلطانًا على كردفان، فأقول، والأمر لله، إني قد دعوت العباد إلى صلاحهم وما يقرِّبهم من ربهم، وأن يفرغوا من الدنيا الفانية إلى دار البقاء، ويعملوا ما يصلحهم في آخرتهم.
وقد كتبت إلى حكمدار الخرطوم وأنا «بآبا» بدعايته إلى الحق، وبأن مهديتي من الله ورسوله، ولست في ذلك بمتحيِّل ولا مريد مُلكًا ولا جاهًا ولا مالًا، وإنما أنا عبد أُحب المسكنة والمساكين، وأكره الفخر وتعزيز السلاطين، ونبوَّهم عن الحق المبين، لِمَا جُبلوا عليه من حب الجاه والمال والبنين، وهذا هو الذي صدَّهم عن صلاحهم وأخذ نصيبهم من ربهم، فأخذوا الفاني وتركوا الباقي، واشتغلوا بما لا يكون من الفانيات، ولم يسمعوا قول الله ولا رسوله، ولم يذكروا خبر القرون الذين لم يغنِ عنهم ذلك شيئًا، وندموا على قدر الذي تمتعوا به، فأيدني الله بالمهدية الكبرى لدلالتهم إلى الله تعالى، وليتركوا العز الفاني والنعيم الفاني إلى العز الدائم الأبدي في دار النعيم المقيم، ولأعرفهم غرور من يريد العاجلة، ويظن أنه ساعٍ في رضى الله، ويكون له نصيب في الآخرة.
وقد قال المسيح — عليه السلام: يا معشر الحواريين ابنوا على موج البحر دارًا، تلكم الدنيا، فلا تتخذوها قرارًا، ومن ظن أنه يخوض البحر من غير بلل فهو مغرور، فكذلك من ظن أنه يجمع الدنيا ويريد عزها وجاهها، ويكون له في الآخرة شأن، فأَنِبْ إلى الله الباقي، واخضع لجلاله، واطلب عز الآخرة، ولا تظن أن هذه الدنيا دار حتى تسعى لملكها وعزها، وكيف من يكون على خلاف طريق النبي ﷺ، يفتح باب زيارة قبره، ولم يكن النبي ﷺ ممن يرغب زيارة الكلاب، كما ورد أن الدنيا جيفة وطلَّابها كلاب، ولم يكن يرغب مَن عَبَدَ غير الله، ونسي الله، وأعرض عن كلامه، وطلب متاع الحياة الفانية.
فإن كنت شفيقًا على المسلمين فبالأولى أشفق على نفسك وخلِّصها من سخط خالقها، وقوِّمها على اتباع الدين الحق باتباع سيدنا محمد رسول الله ﷺ، الذي أحيا ما اندرس من ملل الأنبياء المرسلين، وأتى مصدقًا لِمَا بين يديه من الكتب؛ فجميع الأنبياء (عليهم السلام) لو حضروه لما سلكوا غير ملته، وكلهم يتمنون أن يكونوا من أمته، ومن حضر بعثته ومن بعدهم لا يُقبل منه دين غير دينه، فطهِّر نفسك أولًا بالدخول في ملته، ثم أشفق على أمته بسلوك سنته، فعند هذا تكون الشفيق، ومن غير هذا فما لك من المحقين رفيق، كيف وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ إلى أن قال: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ. وإننا قد امتثلنا أمر الله، فما نتخذ وليًّا إلا الله ورسوله والمؤمنين، وعلى ذلك قد وعد الله بالغلبة كما سمعته من قول الله هذا، حيث إن الله يقول هم الغالبون، فلا غلبة لغيرهم.
فإن رجعت عما أنت عليه من ملة غير الإسلام، وأنَبْتَ إلى الله ورسوله، واخترت الآخرة، نتخذك وليًّا وتكون من إخواننا، وتكون المودة المطلوبة عند الله ورسوله، وتكون ممن امتثل أمر الله بعد هذه الآيات، فاستحق الوعد والبشارة في قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ الآية، فبعد هذا تتصل المحبة والمودة فيما بيننا وبينك، وتكون ممن عمل بالقرآن والتوراة والإنجيل، وتكون قد اتبعت، باتباع نبينا محمد ﷺ، عيسى وجميع الرسل والنبيين، وحزت الخير الأبدي، وإلا حيث علمت أن حزب الله الذين وليهم الله ورسوله، والذين آمنوا هم الغالبون من كلام الله، فاعلم أن حزب الله واصل إليك، ومزيل لك عما شاركت به خالقك، فادعيت ملك عباده وأرضه، مع أن الأرض لله يورثها عباده الصالحين.
وقد أيدني الله تعالى بالأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين وجميع الأولياء والصالحين لإحياء دينه، وقد بشرني النبي ﷺ أن جميع من يلقاني بعداوة يخذله الله ويهزمه، ولو كان الثقلين الأنس والجن، فلا تغترَّ فتهلك كما هلك إخوانك، فافهم وسلِّم تسلم.
وبعد هذا البيان، فإن اهتديت وسلَّمت لي واتبعتني حزت شرف الدنيا والآخرة، وفزت بأجرك وبأجر جميع من اتبعك، وإلا هلكت، فكان عليك إثمك ومثل آثام جميع من اتبعك، وإن كان لك حسن نور في العقل تعلم أني خليفة رسول الله ﷺ، فلا تتهمني فيما أسوق به إلى الله والدار الآخرة، ولا تسمع عليَّ قول الظالمين الحساد، الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى إلا أن يتم نوره، وقد قال ﷺ: «من شك في نصرة المهدي، فليقرأ قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، وقوله تعالى: كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ، ولزيادة الشفقة عليكم لزمت التحشية بهذا، والهادي هو الله، وكثرة البيان لا تهدي. هدانا الله والعباد إلى الصواب، آمين.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الولي الكريم، والصلاة على سيدنا محمد وآله مع التسليم «وبعد»، فمِن عَبْد ربِّه الفقير إلى الله محمد المهدي بن عبد الله إلى غوردون باشا، باطلاعك على ما تدون بالجواب إليك تعلم باطنه، وبه كسوة الزهاد أهل السعادة الكبرى، الذين لا يبالون بما فات من المشتهيات طلبًا لعالي الدرجات، وهي جبة ورداء وسراويل وعمامة وطاقية وحزام وسبحة، فإن أنبتَ إلى الله وطلبت ما عنده فلا يصعب عليك أن تلبس ذلك، وتتوجه لدائم حظك، وها هو الرسول الذي أتى منك واصل إليك مع رسل من عندنا كما طلبت، والسلام.
صورة ما كتبه المهدي على ظهر المظروف الذي أرسل إلى غوردون: «سألتك بحق الله ونبيه عيسى — عليه السلام — أن تقف على أجوبتنا هذه بالحرف، وقد أبلغني محمد سعيد المسلماني، الذي يسمَّى جورجو إسلامبوليه، أن رجلًا يسمَّى السيد أفندي نعيم الأجزائي له معرفة بلغتكم وبالخط العربي، وما دام أنه يعرف الخطين واللغتين نرغب منكم الوقوف على ما في هذا الظرف جميعه حرفيًّا على يد المذكور، أو من هو مثله، وقد سألتك السؤال المذكور لما ذكرته والسلام ا.ﻫ.
وقدم على غوردون رسولان مع رسوله، يحملان الكتب والهدية التي هي جبة مرقعة وسراويل وعمامة، كلها من نوع قماش اسمه «الدمور» يصنع في السودان.
ولما وصل الرسولان إلى الخرطوم أشهرا سيفيهما، فأمرهما ضابط باب الحصن بإغمادهما فلم يطيعاه، فأمر غوردون بالمحافظة عليهما حتى يصلا إلى السراي، وهاج أهل الخرطوم عليهما — وهم الصبيان والرعاع — برجمهما بالحجارة فمنعوا، ولمَّا دخلا على غوردون قالا له: «السلام على من اتبع الهدى»، وسلماه الكتب والهدية، ولما رأى الهدية غضب وركلها برجليه، وقال: «غوديم»، ثم اطلع على الكتب وأبقى الرسولين عند حاجب السراي ريثما كتب للمهدي كتابًا قال فيه: «إنني أدعوك إلى السلم وأنت تدعوني إلى الحرب، وأدعوك إلى حقن الدماء وأنت لا تميل إلا إلى سفكها، فأقول لك الآن لا بد من قهرك وكبح جماح طغيانك، ومهما يكن عندك من الأتباع فلا بد أن ترضخ صاغرًا أو تهلك حيال قوتي الحكومة الخديوية والدولة الإنكليزية»، ومنذ ذلك تغيَّرت سياسة غوردون، فأصبح يرى وجوب إخضاع الثوار والمهدي.
وعاد الرسولان إلى المهدي واشتغل غوردون بمخابرة مصر ولوندرة بالتلغرافات.
سياسة المهدي من كتبه
- (١)
أن الدعوة المهدية دعوة دينية إسلامية عامة، للأمم كافة، من مسلمة ومسيحية وغيرها، وأنها ليست بدعوة لإقامة حكم واحتلال بلاد فقط.
- (٢)
أن المهدي قد «حاول» محاكاة كتب النبي ﷺ وخلفائه في الدعوة إلى الإسلام.
- (٣)
أن المهدي له نصيب من الذكاء السياسي في محاولته إقناع غوردون بالحجج ليؤمن بالمهدية، وأنه يجنح إلى التهديد مرة، وإلى الترغيب مرة أخرى.
(٣) رأي الخديوي توفيق في مهمة غوردون
لم يكن في استطاعتي أن أبدي دليلًا على حسن مقاصدي بأحسن من تعيين غوردون باشا حكمدار عامًّا للسودان، ومنحه كل السلطة في عمل ما يراه ضروريًّا لإصابة الغرض الذي ترمي إليه حكومتي وحكومة جلالة الملكة، حتى إني قلَّدته نفس السلطة المخولة لي، وتركت له الحكم على الحالة الراهنة، ولا ريب في أن ما يستطيع إتيانه من الأعمال أحسن ما يكون. وقد قبلت سلفًا ما يمكن أن يقترحه من الوسائل إلى ذلك؛ إذ ما يراه حسنًا من التصرفات يكون إلزاميًّا بالنسبة إلينا، ثم إني بعد أن جعلت عظيم ثقتي بهذه الكيفية في هذا الباشا لم أشترط عليه إلا شرطًا واحدًا، وهو أن يبذل عنايته فيما فيه طمأنينة العناصر المتمدنة من أوربيين ومصريين، وها قد أصبح الآن الرئيس المفوض، يرافقه حسن آمالي في هذه المأمورية التي هي من الخطارة والأهمية بمكان، فإن قلبي يذوب عندما أفكر في الألوف المؤلفة من رعاياي المخلصين الذين تكفي غلطة منه لهلاكهم. وإني لا أشك في أنه سيبذل كل ما في وسعه لحقن دماء أكثرهم على الأقل، فإن نجح — بعون الله — في إخلاء الخرطوم وأهم مواني السودان الشرقي، فله الشكر مدى الدهر على رعيَّتي التي ترتعد فرائصها من توقُّع ما يُخشى حصوله بعد حين. أما قولي لك إنه ينجح في مأموريته فهو من قبيل المجازفة مني في الكلام كثيرًا؛ فإن أمامه قوات أكثر منه عددًا وأهوالًا، غير أنَّا نرجو الخير، وأما هو فيمكنه أن يعتمد على أصدق مساعدة، وأسرع معونة مني أنا وحكومتي، بقدر ما تصل إليه يد الإمكان.
على أن غوردون لم يكن جاهلًا بكنه تلك النية، ولهذا كان يرسل التلغرافات تترى، ويدوِّن المذكرات ليقنع قومه بالعدول عن سياسة الإخلاء، وليجعل التاريخ حكمًا بينه وبين قومه؛ لاعتقاده أن تلغرافاته ومذكراته لا بد أن تُنشر على الجمهور، ويطلع عليها العالم أجمع، وهم لا بد أن يحكموا له لا عليه.
وقد تحققت أمنيته حيث نشرت الحكومة البريطانية تلك المذكرات والتلغرافات في كتبها الزرقاء، وكان لها من الأهمية فوق ما كان يتمناه صاحبها، وقد دارت مباحث كثيرة بشأنها في أندية إنجلترا وبرلمانها ومجلس لورداتها، وأهم هاته التصريحات ما فاه به مستر غلادستون في مجلس العموم حيث قال «إن حكومة جلالة الملكة تأخذ على عاتقها مسئولية المأمورية التي ألقيت مقاليدها إلى غوردون أدبيًّا وسياسيًّا وأنها ستعمل كل ما في وسعها للوصول إلى نتيجة مرضية».
ثم فاه غلادستون أيضًا بتصريح أوضح من هذا، حيث قال: «إن مهمة غوردون هي إخلاء السودان وإنقاذ موظفي الحكومة».
ثم قال: «إن ثقتنا به عظيمة، ولسنا مبالغين في شيء من روايتنا، وإننا عقدنا النية على أن لا نفاجئه بعمل دون استشارته وأخذ رأيه.»
لم أزل أعتقد كمال الاعتقاد أن إخلاء السودان ممكن، لكن أقول لك إنه من المستحيل إجلاء المستخدمين المصريين عن الخرطوم إذا لم تساعدني الحكومة في الطريق الذي أوضحته لها.
قد وصل إليَّ إحدى عشر الرسالة التلغرافية المرسلة إلي في أربعة الأيام الأخيرة بخصوص مسائل السياسة العامة، وإني شديد الرغبة في مساعدتك بكل طريقة، لكني لم أتمكن من معرفة ما ترغبه للآن، وأرى أن أحسن طريقة هي أن تلخص المسألة جيدًا وتخبرني تلغرافيًّا بما تستصوبه.
يجب على الحكومة مساعدتي، وأن إجابة مطالبي ضربة لازب.
إن الجنرال غوردون والسير استيوارت يلحَّان بوجوب فتح الطريق بين سواكن وبربر لنجاح مأموريتهما الحاضرة، أما أنا فلا يمكنني تعضيد ما جاء بتلغراف استيوارت من إرسال فرقة من الخيالة الإنكليزية أو الهندية إلى سواكن.
أتشرَّف بأن أخبر سعادتكم أن الجنرال غوردون كتب إلي تلغرافيًّا بأننا لو أرسلنا مائة جندي إلى أسوان ووادي حلفا يأمَن من كل خطر، ويكون في حالة اطمئنان؛ كالسواح المسافرين في النيل، وينتج منها تحويل صغير، أما أنا فلا أريد مطلقًا أن أخاطر بحياة فرقة صغيرة مؤلفة من مائة جندي فقط.
وكان قصد غوردون من هذه الرسائل مع السير بارنج أن يكون التاريخ حكمًا بينه وبين حكومته الإنجليزية كما قدمنا؛ ولذا بعث بتلغرافات قبل وصوله إلى الخرطوم فحواها أن الاضطرابات أقل مما كان يظن، وأنه يرى أن لا مندوحة له عن تمحيص حكومة جلالة الملكة النصح بتسكين الاضطراب في السودان الشرقي، وتقوية خطوط الاتصال بين بربر وشواطئ البحر الأحمر من جهة، وبين حدود مصر من جهة أخرى، وحاول إقناع السير بارنج بأن السودان مفتقر الافتقار كله إلى إشراف الحكومة الخديوية عليه، بما لها من حقوق السيادة، وسأله إبدال الفرمان الذي كان يحمله بآخر يحتِّم على السودان وجوب الخضوع إلى مصر، فذهبت مساعيه كلها أدراج الرياح. وكان غوردون يرى — بعد فشل سياسة الملاينة — أن وقوع السودان في قبضة المهدي سيكون خطرًا على مصر، وأن احتلال إنكلترا لوادي النيل يحتِّم عليها العمل عاجلًا لإبعاد الأخطار عن البلاد التي احتلوها؛ بحجة توطيد دعائم الأمن والراحة في أرجائها.
وجاء ضمن نصائحه أن حكومة جلالة الملكة ستضطر يومًا لمناجزة المهدي وكبح جماح طغيانه، وسوف تتكبد من الضحايا ما يبلغ عشرة أضعاف ما تتكبده الآن لو عملت بمشورته وقبلت نصيحته، فلم يلتفت السير بارنج إلى شيء من ذلك كله، بل أصر على إنفاذ ما رسمه ساسة قومه، غير مكترث لشيء من الضحايا التي يتكبدها سكان السودان عمومًا، وسكان الخرطوم خصوصًا، وأخيرًا لِمَا تعرض له غوردون نفسه من هلاك محقق.
(٤) اللواء إبراهيم فوزي باشا
ولد إبراهيم فوزي بالقاهرة، ودخل المدرسة الحربية في عهد إسماعيل، وبعد تخرُّجه أُلحِق بالخدمة في حكمدارية السودان، وكان حكمدارها إسماعيل باشا أيوب، ولما وصل غوردون إلى الخرطوم لأول مرة — وكان معيَّنًا مديرًا مستقلًّا للمقاطعات الاستوائية — طلب من الحكمدارية انتخاب بعض الضباط ليعاونوه في مهمته، فامتنع أكثرهم عن قبول الخدمة معه؛ لبعد الشُّقَّة، وعذاب السفر، ومكافحة الأقوام المتوحشة التي يقصد غوردون إخضاعها، ولكن الضابط إبراهيم فوزي أظهر رغبته في مصاحبة غوردون لخدمة بلاده، فشكر له غوردون هذه الرغبة، وفوَّض له أمر فرز الجنود وتدريبها.
ولما ندبت وزارة نوبار «غوردون» لإخلاء السودان أرسل برقية عند إبحاره إلى وود باشا، سردار الجيش المصري، بضرورة مرافقة الضابط إبراهيم فوزي له في هذه المهمة الخطيرة، ولمَّا وصل إلى القاهرة التمس من الخديوي توفيق العفو عنه، فرُدَّت إليه رتبه ونياشينه، وصحب غوردون إلى الخرطوم، وتولى قيادة حاميتها، وانتصر على الدراويش في وقائع كثيرة؛ أهمها واقعة الحلفاية، التي جرح فيها جرحًا بليغًا، وظل مع غوردون إلى أن سقطت المدينة في ٢٥ يناير سنة ١٨٨٥، فأسره الدراويش وعذبوه تعذيبًا، وتزوج وهو في الأسر، وبقي يقاسي آلام الأسر والسجن أربعة عشر عامًا، إلى أن أنقذه اللورد كتشنر في سبتمبر سنة ١٨٩٨.
ولإبراهيم فوزي باشا كتاب تاريخي في جزءين اسمه: «السودان بين يدي غوردون وكتشنر».