مسألة المهدي المنتظر
من الأخبار المتواترة في البلاد الإسلامية أنه يظهر في آخر الزمان رجل عظيم يسمى «المهدي»، ينقذ الأمة الإسلامية والعالم من الفوضى التي نشبت أظفارها، ومن المجاعات والظلم.
وأورد المعتقدون في ظهور المهدي أحاديث نبوية، وقال خصومهم إنها أحاديث موضوعة.
المهدي المنتظر والأحاديث النبوية الواردة بشأنه
أعلم أن المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممر الأعصار أنه لا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت، يؤيِّد الدين، ويُظهر العدل، ويتبعه المسلمون، ويستولي على الممالك الإسلامية، ويسمَّى بالمهدي، ويكون خروج الدجال وما بعده من أشراط الساعة الثابتة في الصحيح على أثره، وأن عيسى ينزل من بعده فيقتل الدجال، أو ينزل معه فيساعده على قتله، ويأتم بالمهدي في صلاته.
ويحتجون في هذا الباب بأحاديث خرَّجها الأئمة، وتكلَّم فيها المنكرون لذلك، وربما عارضوها ببعض الأخبار، وللمتصوفة المتأخرين في أمر هذا الفاطمي طريقة أخرى، ونوع من الاستدلال، وربما يعتمدون في ذلك على الكشف الذي هو أصل طرائقهم، ونحن الآن نذكر هنا الأحاديث الواردة في هذا الشأن، وما للمنكرين فيها من المطاعن، وما لهم في إنكارها من المستند، ثم نتبعه بذكر كلام المتصوفة ورأيهم؛ ليتبين لك الصحيح من ذلك إن شاء الله تعالى.
فنقول: إن جماعة من الأئمة خرَّجوا أحاديث المهدي، منهم: الترمذي وأبو داود والبزار وابن ماجه والحاكم والطبراني وأبو يعلى الموصلي، وأسندوها إلى جماعة من الصحابة مثل: علي وابن عباس وابن عمر وطلحة وابن مسعود وأبي هريرة وأنس وأبي سعيد الخدري وأم حبيبة وأم سلمة وثوبان وقرة بن إياس وعلي الهلالي وعبد الله بن الحرث بن جزء، بأسانيد ربما يعرض لها المنكرون كما نذكره، إلا أن المعروف عند أهل الحديث أن الجرح مقدَّم على التعديل، فإذا وجدنا طعنًا في بعض رجال الأسانيد بغفلة أو بسوء حفظ أو ضعف أو سوء رأي، تطرَّق ذلك إلى صحة الحديث، وأوهن منها، ولا تقولنَّ مثل ذلك ربما يتطرق إلى رجال الصحيحين؛ فإن الإجماع قد اتصل في الأمة على تلقيهما بالقبول والعمل بما فيهما، وفي الإجماع أعظم حماية وأحسن دفع، وليس غير الصحيحين بمثابتهما في ذلك، فقد تجد مجالًا للكلام في أسانيدها بما نقل عن أئمة الحديث في ذلك.
ولقد توغل أبو بكر بن أبي خيثمة على ما نقل السهيلي عنه في جمعه للأحاديث الواردة في المهدي، فقال مالك بن أنس، عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ: «من كذَّب بالمهدي فقد كفر، ومن كذَّب بالدجال فقد كفر»، وقال في طلوع الشمس من مغربها مثل ذلك فيما أحسب، وحسبُك هذا غلوًّا، والله أعلم بصحة طريقه إلى مالك بن أنس، على أن أبا بكر الإسكاف عندهم متهم وضَّاع.
أما الترمذي، فخرَّج هو وأبو داود بسنديهما إلى ابن عباس من طريق عاصم بن أبي النجود، أحد القراء السبعة، إلى زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود عن النبي ﷺ: «لو لم يبقَ من الدنيا إلا يوم لطوَّل الله ذلك اليوم حتى يبعث الله فيه رجلًا مني أو من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي»، هذا لفظ أبي داود، وسكت عليه، وقال في رسالته المشهورة إن ما سكتَ عليه في كتابه صالح، ولفظ الترمذي: «لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي»، وفي لفظ آخر: «حتى يلي رجل من أهل بيتي»، وكلاهما حديث حسن صحيح، ورواه أيضًا من طريق موقوفًا على أبي هريرة، وقال الحاكم: رواه الثوري وشعبة وزائدة وغيرهم من أئمة المسلمين عن عاصم قال: وطُرق عاصم عن زر عن عبد الله كلها صحيحة على ما أصَّلتُه من الاحتجاج بأخبار عاصم؛ إذ هو إمام من أئمة المسلمين. انتهى.
إلا أن عاصمًا قال فيه أحمد بن حنبل: كان رجلًا صالحًا قارئًا للقرآن، خيرًا ثقة، والأعمش أحفظ منه، وكان شعبة يختار الأعمش عليه في تثبيت الحديث، وقال العجلي: كان يختلف في زر وأبي وائل، يشير بذلك إلى ضعف روايته عنهما، وقال محمد بن سعد: كان ثقة، إلا أنه كثير الخطأ في حديثه، وقال يعقوب بن سفيان: في حديثه اضطراب، وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: قلت لأبي إن أبا زرعة يقول: عاصم ثقة، فقال: ليس محله هذا، وقد تكلم فيه ابن علية فقال: كل من اسمه عاصم سيئ الحفظ، وقال: أبو حاتم: محله عندي محل الصدق صالح الحديث، ولم يكن بذلك الحافظ، واختلف فيه قول النسائي، وقال ابن حراش: في حديثه نكرة، وقال أبو جعفر العقيلي: لم يكن فيه إلا سوء الحفظ، وقال الدارقطني: في حفظه شيء، وقال يحيى القطان: ما وجدت رجلًا اسمه عاصم إلا وجدته رديء الحفظ، وقال أيضًا: سمعت شعبة يقول: حدثنا عاصم بن أبي النجود وفي الناس ما فيها، وقال الذهبي: ثبتٌ في القراءة، وهو في الحديث دون التثبت صدوق فهم، وهو حسن الحديث، وإن احتج أحد بأن الشيخين أخرجا له فنقول: أخرجا له مقرونًا بغيره لا أصلًا، والله أعلم.
وخرَّج أبو داود في الباب عن علي — رضي الله عنه — من رواية قطن بن خليفة، وإن وثَّقه أحمد ويحيى القطان وابن معين والنسائي وغيرهم، إلا أن العجلي قال: حسن الحديث، وفيه تشيُّع قليل، وقال ابن معين مرة: ثقة شيعي، وقال أحمد بن عبد الله بن يونس: كنا نمرُّ على قطن وهو مطروح لا نكتب عنه، وقال مرة: كنت أمر به وأدعه مثل الكلب، وقال الدارقطني: لا يُحتج به، وقال أبو بكر بن عياش: ما تركت الرواية عنه إلا لسوء مذهبه، وقال الجارجاني: زائغ غير ثقة. انتهى.
وخرَّج أبو داود أيضًا بسنده إلى علي — رضي الله عنه — عن مروان بن المغيرة، عن عمر بن أبي قيس، عن شعيب بن أبي خالد، عن أبي إسحق النسفي قال: قال علي — ونظر إلى ابنه الحسن: إن ابني هذا سيدكما، سماه رسول الله ﷺ، سيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم، يشبهه في الخُلُق ولا يشبهه في الخَلْق، يملأ الأرض عدلًا. وقال هرون: حدثنا عمر بن أبي قيس، عن مطرف بن طريف، عن أبي الحسن، عن هلال بن عمر، سمعت عليًّا يقول: قال النبي ﷺ: «يخرج رجل من وراء النهر يقال له الحرث، على مقدمته رجل يقال له منصور، يوطئ — أو يمكِّن — لآل محمد كما مكَّنت قريش لرسول الله ﷺ، وجب على كل مؤمن نصره — أو قال إجابته»، سكت أبو داود عليه. وقال في موضع آخر في هرون: هو من ولد الشيعة، وقال السليماني: فيه نظر، وقال داود في عمر بن أبي قيس: لا بأس به، في حديثه خطأ، وقال الذهبي: صدوق له أوهام، وأما أبو إسحق الشيعي، وإن خرَّج عنه في الصحيحين فقد ثبت أنه اختلط آخر عمره، وروايته عن علي منقطعة، وكذلك رواية أبي داود عن هرون بن المغيرة. أما السند الثاني، فأبو الحسن فيه، وهلال بن عمر مجهولان، ولم يعرف أبو الحسن إلا من رواية مطرف بن طريف عنه. انتهى.
وخرَّج أبو داود أيضًا عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «المهدي من ولد فاطمة»، ولفظ الحاكم: سمعت رسول الله ﷺ يذكر المهدي فقال: «نعم، هو حق، ومن بني فاطمة»، ولم يتكلم عليه بتصحيح ولا غيره، وقد ضعفه أبو جعفر العقيلي وقال: لا يتابع علي بن نفيل عليه، ولا يعرف إلا به.
وخرَّج أبو داود أيضًا عن أم سلمة من رواية صالح أبي الخليل، عن صاحب له، عن أم سلمة، قال: «يكون اختلاف عند موت خليفة، فيخرج رجل من أهل المدينة هاربًا إلى مكة، فيأتيه ناس من أهل مكة فيُخرجونه وهو كارهٌ، فيبايعونه بين الركن والمقام، فيبعث إن بعث من الشام فيخسف بهم البيداء بين مكة والمدينة، فإذا رأى الناس ذلك أتاه أبدال أهل الشام وعصائب أهل العراق فيبايعونه، ثم ينشأ رجل من قريش أخواله كلب، فيبعث إليهم بعثًا فيظهرون عليهم، وذلك بعث كلب، والخيبة لمن لم يشهد غنيمة كلب، فيقسِّم المال، ويعمل في الناس بسنة نبيهم ﷺ، ويلقي الإسلام بجرانه على الأرض، فيلبث سبع سنين — وقال بعضهم تسع سنين».
ثم رواه أبو داود من رواية أبي الخليل عن عبد الله بن الحرث، عن أم سلمة، فتبيَّن بذلك المبهم في الإسناد الأول ورجاله رجال الصحيحين لا مطعن فيهم ولا مغمز، وقد يقال إنه من رواية قتادة عن أبي الخليل، وقتادة مدلس وقد عنعنه، والمدلس لا يُقبل من حديثه إلا ما صرح فيه بالسماع، مع أن الحديث ليس فيه تصريح بذكر المهدي، نعم ذكره أبو داود في أبوابه، وخرَّج أبو داود أيضًا، وتابعه الحاكم عن أبي سعيد الخدري، قال: قال: رسول الله ﷺ: «المهدي مني، أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما مُلئت ظلمًا وجورًا، يملك سبع سنين». هذا لفظ أبي داود وسكت عليه، ولفظ الحاكم المهدي: «منَّا أهل البيت، أشم الأنف، أقنى أجلى، يملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما ملئت جورًا وظلمًا، يعيش هكذا — وبسط يساره وأصبعين من يمينه، السبابة والإبهام، وعقد ثلاثة»، قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ا.ﻫ.
وعمران القطان مختلف في الاحتجاج به، إنما أخرج له البخاري استشهادًا لا أصلًا، وكان يحيى القطان لا يحدِّث عنه، وقال يحيى بن معين: ليس بالقوي، وقال مرة: ليس بشيء، وقال أحمد بن حنبل: أرجو أن يكون صالح الحديث، وقال يزيد بن زريع: كان حروريًّا، وكان يرى السيف على أهل القبلة، وقال النسائي: ضعيف، وقال أبو عبيد الأجري: سألت أبا داود عنه فقال من أصحاب الحسن، وما سمعت إلا خيرًا، وسمعته مرة أخرى ذكره فقال ضعيف، أفتى في أيام إبراهيم بن عبد الله بن حسن بفتوى شديدة فيها سفك الدماء.
وخرَّج الترمذي وابن ماجة والحاكم عن أبي سعيد الخدري، من طريق زيد العمي، عن أبي الصديق التاجي، عن أبي سعيد الخدري، قال: خشينا أن يكون بعض شيء حدث، فسألنا نبي الله ﷺ فقال: «إن في أمتي المهدي، يخرج ويعيش خمسًا أو سبعًا أو تسعًا — زيدٌ الشَّاك، قال: قلنا: وما ذاك؟ قال: «سنين»، قال: فيجيء إليه الرجل فيقول: يا مهدي، أعطني، قال: «فيحثو له في ثوبه ما استطاع أن يحمله»، هذا لفظ الترمذي، وقال: حديث حسن.
وقد روي من غير وجه عن أبي سعيد عن النبي ﷺ، ولفظ ابن ماجه والحاكم: «يكون في أمتي المهدي، إن قصر فسبع وإلا فتسع، فتنعم أمتي فيه نعمة لم ينعموا بمثلها قط؛ تؤتي الأرض أكلها ولا يدخر منه شيء، والمال يومئذ كدوس، فيقوم الرجل فيقول: يا مهدي، أعطني، فيقول: خذ.» انتهى.
وزيد العمي وإن قال فيه الدار قطني وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين إنه صالح، وزاد أحمد إنه وفوق يزيد الرقاشي وفضل بن عيسى، إلا أنه قال فيه أبو حاتم: ضعيف، يكتب حديثه وهو ضعيف، وقال الجرجاني: متماسك، وقال أبو زرعة، ليس بقوي، واهي الحديث ضعيف، وقال أبو حاتم: ليس بذلك، وقد حدث عنه شعبة، وقال النسائي: ضعيف، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه ومن يروي عنهم ضعفاء، على أن شعبة قد روى عنه، ولعل شعبة لم يروِ عن أضعف منه، وقد يقال إن حديث الترمذي وقع تفسيرًا لما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر، قال: قال رسول الله ﷺ: «يكون في آخر أمتي خليفة يحثو المال حثيًا، لا يعده عدًّا»، ومن حديث أبي سعيد قال: «من خلفائكم خليفة يحثو المال حثيًا»، ومن طريق أخرى عنهما قال: «يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعده.» انتهى.
وأحاديث لم يقع فيها ذكر المهدي، ولا دليل يقوم على أنه هو المراد منها، ورواه الحاكم أيضًا من طريق عوف الأعرابي، عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله ﷺ: «لا تقوم الساعة حتى تُملأ الأرض جورًا وظلمًا وعدوانًا، ثم يخرج من أهل بيتي رجل يملؤها قسطًا وعدلًا كما ملئت ظلمًا وعدوانًا»، وقال فيه الحاكم: هذا صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ورواه الحاكم أيضًا من طريق سليمان بن عبيد عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله ﷺ قال: «يخرج في آخر أمتي المهدي، يسقيه الله الغيث، وتخرج الأرض نباتها، ويعطى المال صحاحًا، وتكثر الماشية، وتعظم الأمة، يعيش سبعًا أو ثمانيًا — يعني حججًا»، وقال فيه: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، مع أن سليمان بن عبيد لم يخرج له أحد من السنة، لكن ذكره ابن حبان في الثقات، ولم يرد أن أحدًا تكلم فيه، ثم رواه الحاكم أيضًا من طريق أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن مطر الوراق وأبي هرون العبدي، عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد، أن رسول الله ﷺ قال: «تُملأ الأرض جورًا وظلمًا فيخرج رجل من عترتي فيملك سبعًا أو تسعًا، فيملأ الأرض عدلًا وقسطًا كما ملئت جورًا وظلمًا»، وقال الحاكم فيه: حديث صحيح على شرط مسلم، وإنما جعله على شرط مسلم لأنه أخرج عن حماد بن سلمة، وعن شيخه مطر الوراق، وأما شيخه الآخر وهو أبو هرون العبدي فلم يخرج له، وهو ضعيف جدًّا متهم بالكذب، ولا حاجة إلى بسط أقوال الأئمة في تضعيفه.
وأما الراوي له عن حماد بن سلمة فهو أسد بن موسى، ويلقَّب أسد السنة، وإن قال البخاري: مشهور الحديث، واستشهد به في صحيحه، واحتج به أبو داود والنسائي، إلا أنه قال مرة أخرى: ثقة لو لم يصنف كان خيرًا له، وقال فيه محمد بن حزم: منكر الحديث، ورواه الطبراني في معجمه الأوسط من رواية أبي الواصل عبد الحميد بن واصل عن أبي الصديق الناجي عن الحسن بن يزيد السعدي أحد بني بهدلة عن أبي سعيد الخدري، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «يخرج من أمتي يقول بسنتي، ينزِّل الله — عز وجل — له القطر من السماء، وتُخرج الأرض بركتها، وتُملأ الأرض منه قسطًا وعدلًا كما ملئت جورًا وظلمًا، يعمل على هذه الأمة سبع سنين، وينزل بيت المقدس»، وقال الطبراني فيه: رواه جماعة عن أبي الصديق، ولم يُدخل أحد منهم بينه وبين أبي سعيد أحدًا، إلا أبا الواصل فإنه رواه عن الحسن بن يزيد عن أبي سعيد. انتهى.
وهذا الحسن بن يزيد ذكره ابن أبي حاتم ولم يعرِّفه بأكثر مما في هذا الإسناد، من روايته عن أبي سعيد، ورواية أبي الصديق عنه، وقال الذهبي في الميزان: إنه مجهول، لكن ذكره ابن حبان في الثقات، وأما أبو الواصل الذي رواه عن أبي الصديق فلم يخرج له أحد من الستة، وذكره ابن حبان في الثقات في الطبقة الثانية، وقال فيه: يروي عن أنس، وروى عنه شعبة وعتاب بن بشر.
وخرَّج ابن ماجه في كتاب السنن عن عبد الله بن مسعود، من طريق يزيد بن أبي زياد، عن إبراهيم عن علقمة، عن عبد الله قال: بينما نحن عند رسول الله ﷺ إذ أقبل فتية من بني هاشم، فلما رآهم رسول الله ﷺ ذرفت عيناه وتغيَّر لونه، قال: فقلت: ما نزال نرى في وجهك شيئًا نكرهه، فقال: «إنا أهل البيت اختار لنا الله الآخرة على الدنيا، وإن أهل بيتي سيلقون بعدي بلاء وتشريدًا وتطريدًا، حتى يأتي قوم من قِبَل المشرق، معهم رايات سود، فيسألون الخير فلا يعطونه، فيقاتلون وينصرون فيعطون ما سألوا فلا يقبلونه، حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي فيملؤها قسطًا كما ملؤها جورًا، فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حبوا على الثلج.» انتهى.
وهذا الحديث يُعرف عند المحدثين بحديث الرايات، ويزيد بن أبي زياد راويه قال: فيه شعبة كان رفَّاعًا — يعني يرفع الأحاديث التي لا تُعرف مرفوعة، وقال محمد بن الفضيل: كان من كبار أئمة الشيعة، وقال أحمد بن حنبل: لم يكن بالحافظ، وقال مرة: حديثه ليس بذلك، وقال يحيى بن معين: ضعيف، وقال العجلي: جائز الحديث، وكان بآخره يلقن، وقال أبو زرعة: لين يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، وقال الجرجاني: سمعتهم يضعفون حديثه، وقال أبو داود: لا أعلم أحدًا ترك حديثه، وغيره أحب إليَّ منه، وقال ابن عدي: هو من شيعة أهل الكوفة، ومع ضعفه يكتب حديثه، وروى له مسلم لكن مقرونًا بغيره.
وبالجملة، فالأكثرون على ضعفه، وقد صرح الأئمة بتضعيف هذا الحديث الذي رواه عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله، وهو حديث الرايات، وقال وكيع بن الجراح فيه: ليس بشيء، وكذلك قال أحمد بن حنبل، وقال أبو قدامة: سمعت أبا أسامة يقول في حديث يزيد عن إبراهيم في الرايات: لو حلف عندي خمسين يمينًا قسامة ما صدقته، أهذا مذهب إبراهيم؟ أهذا مذهب علقمة؟ أهذا مذهب عبد الله؟ وأورد العقيلي هذا الحديث في الضعفاء، وقال الذهبي: ليس بصحيح.
وخرَّج ابن ماجه عن علي — رضي الله عنه — من رواية يس العجلي، عن إبراهيم بن محمد ابن الحنفية، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله ﷺ: «المهدي منَّا أهل البيت، يُصلح الله به في ليلة.» ويس العجلي وإن قال فيه ابن معين: ليس به بأس، فقد قال البخاري: فيه نظر، وهذه اللفظة من اصطلاحه قوية في التضعيف جدًّا، وأورد له ابن عدي في الكامل والذهبي في الميزان هذا الحديث على وجه الاستنكار له، وقال: هو معروف به.
وخرَّج الطبراني في معجمه الأوسط عن علي — رضي الله عنه — أنه قال للنبي ﷺ أَمِنَّا المهدي أم من غيرنا يا رسول الله؟ فقال: «بل منَّا، بِنا يختم الله كما بِنا فتح، وبنا يستنقذون من الشرك، وبنا يؤلف الله بين قلوبهم بعد عداوة بيِّنة، كما بنا ألَّف بين قلوبهم بعد عداوة الشرك»، قال علي: أمؤمنون أم كافرون؟ قال: «مفتون وكافر». انتهى.
وفيه عبد الله بن لهيعة، وهو ضعيف معروف الحال، وفيه عمر بن جابر الحضرمي، وهو أضعف منه، قال أحمد بن حنبل: روى عن جابر مناكير، وبلغني أنه كان يكذب، وقال النسائي ليس بثقة، وقال: كان ابن لهيعة شيخًا أحمق ضعيف العقل، وكان يقول عليٌّ في السحاب، وكان يجلس معنا فيبصر سحابة فيقول هذا عليٌّ قد مر في السحاب.
وأخرج الطبراني عن علي — رضي الله تعالى عنه — أن رسول الله ﷺ قال: «يكون في آخر الزمان فتنة يحصل الناس فيها كما يحصل الذهب في المعدن، فلا تسبُّوا أهل الشام، ولكن سبُّوا أشرارهم؛ فإن فيهم الأبدال، يوشك أن يرسل على أهل الشام صيب من السماء فيفرق جماعتهم، حتى لو قاتلتهم الثعالب غلبتهم، فعند ذلك يخرج خارج من أهل بيتي في ثلاث رايات، المكثر يقول هم خمسة عشر ألفًا، والمقلل يقول هم اثنا عشر ألفًا، وأمارتهم أمت أمت، يلقون سبع رايات تحت كل راية منها رجل يطلب الملك، فيقتلهم الله جميعًا، ويرد الله إلى المسلمين ألفتهم ونعمتهم وقاصيتهم ودانيتهم» ا.ﻫ.
وفيه عبد الله بن لهيعة، وهو ضعيف معروف الحال، ورواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، في روايته: «ثم يظهر الهاشمي فيرد الله الناس إلى ألفتهم … إلخ»، وليس في طريقة ابن لهيعة، وهو إسناد صحيح كما ذكر.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. انتهى. وإنما هو على شرط مسلم فقط، فإن فيه عمارًا الذهبي ويونس بن أبي إسحق، ولم يخرج لهما البخاري، وفيه عمرو بن علي العبقري ولم يخرج له البخاري احتجاجًا بل استشهادًا، مع ما ينضم إلى ذلك من تشيُّع عمار الذهبي، وهو وإن وثَّقه أحمد وابن معين وأبو حاتم النسائي وغيرهم فقد قال علي بن المديني عن سفيان: إن بشر بن مروان قطع عرقوبيه، قلت: في أي شيء؟ قال: في التشيع.
وأخرج ابن ماجه عن أنس بن مالك — رضي الله عنه — في رواية سعد بن عبد الحميد بن جعفر، عن علي بن زياد اليمامي، عن عكرمة بن عمار، عن إسحق بن عبد الله، عن أنس قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «نحن ولد عبد المطلب، سادات أهل الجنة، أنا وحمزة وعلي وجعفر والحسن والحسين والمهدي» انتهى.
وعكرمة بن عمار وإن أخرج له مسلم فإنما أخرج له متابعة، وقد ضعَّفه بعض ووثقه آخرون، وقال أبو الحاتم الرازي: هو مدلس فلا يقبل إلا أن يصرع بالسماع، وعلي بن زياد قال الذهبي في الميزان: لا ندري من هو، ثم قال: الصواب فيه عبد الله بن زياد؛ وسعد بن عبد الحميد وإن وثَّقه يعقوب بن أبي شيبة وقال فيه يحيى بن معين: ليس به بأس، فقد تكلم فيه الثوري، قالوا: لأنه رآه يفتي في مسائل ويخطئ فيها، وقال ابن حبان: كان ممن فحش عطاؤه فلا يحتج به، وقال أحمد بن حنبل: سعد بن عبد الحميد يدعي أنه سمع عرض كتب مالك، والناس ينكرون عليه ذلك، وهو ها هنا ببغداد ولم يحتج فكيف سمعها؟ وجعله الذهبي ممن لم يَقدح فيه كلامُ من تكلم فيه.
وخرَّج الحاكم في مستدركه من رواية مجاهد عن ابن عباس موقوفًا عليه، قال مجاهد: قال لي ابن عباس: لو لم أسمع أنك من أهل البحث ما حدَّثتك بهذا الحديث، قال: فقال مجاهد: فإنه في سترك أذكره لمن يكره، قال: فقال ابن عباس: منَّا أهل البحث أربعة: منَّا السفاح، ومنَّا المنذر، ومنَّا المنصور، ومنَّا المهدي، قال: فقال مجاهد: بيِّن لي هؤلاء الأربعة، فقال ابن عباس: أما السفاح فربما قتل أنصاره وعفا عن عدوه، وأما المنذر أراه قال فإنه يعطي المال الكثير ولا يتعاظم في نفسه، ويمسك القليل من حقه، وأما المنصور فإنه يعطي النصر على عدوه الشطر مما كان يعطي رسول الله ﷺ، ويرهب منه عدوه على مسيرة شهرين، والمنصور يرهب منه عدوه على مسيرة شهر، وأما المهدي فإنه الذي يملأ الأرض عدلًا كما ملئت جورًا، وتأمن البهائم السباع، وتلقي الأرض أفلاذ كبدها، قال: قلت: وما أفلاذ كبدها؟ قال: أمثال الأسطوانة من الذهب والفضة. ا.ﻫ. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وهو من رواية إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن أبيه، وإسماعيل ضعيف، وإبراهيم أبوه وإن خرَّج له مسلم فالأكثرون على تضعيفه. ا.ﻫ.
وأخرج ابن ماجه عن ثوبان قال: قال رسول الله ﷺ: «يقتتل عند كبركم ثلاثة كلهم ابن خليفة، ثم لا يصير إلى واحد منهم، ثم تطلع الرايات السود من قبل المشرق»، ثم قال: لا تقوم نزعة من الدعاء إلى الحق والقيام بالسنة، لا ينتحلون فيها دعوة فاطمي ولا غيره، وإنما ينزع منهم في بعض الأحيان الواحد فالواحد إلى إقامة السنة وتغيير المنكر، ويعتني بذلك ويكثر تابعه، وأكثر ما يعنون بإصلاح السابلة لمَّا أن كثر فساد الأعراب فيها؛ لما قدمناه من طبيعة معاشهم، فيأخذون في تغيير المنكر بما استطاعوا، إلا أن الصبغة الدينية فيهم لم تستحكم؛ لما أن توبة العرب ورجوعهم إلى الدين إنما يقصدون بها الاقتصار عن الغارة والنهب، لا يعقلون في توبتهم، وإقبالهم إلى مناحي الديانة غير ذلك؛ لأنها المعصية التي كانوا عليها قبل المقربة، ومنها توبتهم، فتجد ذلك المنتحل للدعوة والقائم بزعمه بالسنة غير متعمقين في فروع الاقتداء والاتباع، إنما الإعراض عن النهب والبغي وإفساد السابلة، ثم الإقبال على طلب الدنيا والمعاش بأقصى جهدهم، وشتان بين هذا الآخر في إصلاح الخلق ومن طلب الدنيا، فاتفاقهم ممتنع، لا تستحكم له صبغة في الدين، ولا يكون له نزوع عن الباطل على الجملة، ولا يكثرون، ويختلف حال صاحب الدعوة معهم في استحكام دينه وولايته في نفسه دون تابعه، فإذا هلك انحلَّ أمرهم، وتلاشت عصبيتهم، وقد وقع ذلك بإفريقيا لرجل من كعب من سليم، يسمى قاسم بن مرة بن أحمد في المائة السابعة، ثم من بعده لرجل آخر من بادية رياح، من بطن منهم يعرفون بمسلم، وكان يسمى سعادة، وكان أشد دينًا من الأول وأقوم طريقة في نفسه، ومع ذلك فلم يستتبَّ أمر تابعه كما ذكرناه، حسبما يأتي ذكر ذلك في موضعه عند ذكر قبائل سليم ورياح، وبعد ذلك ناس بهذه الدعوة يتشبهون بمثل ذلك، ويلبسون فيها، وينتحلون اسم السفة وليسوا عليها إلا الأقل، فلا يتم لهم ولا لمن بعدهم شيء من أمرهم ا.ﻫ.
أخبرني شيخنا محمد بن إبراهيم الآبلي قال: خرج برباط ماسة لأول المائة الثامنة، وعصر السلطان يوسف بن يعقوب، رجلٌ من منتحلي التصوف يُعرف بالتويزري؛ نسبة إلى توزر مصغَّرًا، وادَّعى أنه الفاطمي المنتظر، واتبعه الكثير من أهل السوس من ضالة وكزولة، وأعظم أمره وخافه رؤساء المصامد على أمرهم، فدسَّ عليه السكسوي من قتله بياتًا وانحلَّ أمره، وكذلك ظهر في غمارة في آخر المائة السابعة وعشر التسعين منهم رجلٌ يُعرف بالعباس، وادَّعى أنه الفاطمي، اتبعه الدهماء من غمارة، ودخل مدينة عنوة وحرق أسواقها، وارتحل إلى بلد المزمة فقُتل بها غيلة ولم يتم أمره، وكثير من هذا النمط.
وأخبرني شيخنا المذكور بغريبة في مثل هذا، وهو أنه صحب في حجه في رباط العباد — وهو مدفن الشيخ أبي مدين في جبل تلمسان المطل عليها — رجلًا من أهل البيت من سكان كربلاء، كان متبوعًا معظَّمًا كثير التلميذ والخادم، قال: وكان الرجال من موطنه يتلقونه بالنفقات في أكثر البلدان، قال: وتأكدت الصحبة بيننا في ذلك الطريق، فانكشف لي أمره، وأنهم إنما جاءوا من موطنهم بكربلاء لطلب هذا الأمر، وانتحال دعوى الفاطمي بالمغرب، فلمَّا عاين دولة بني مرين ويوسف بن يعقوب حينئذ منازل ترمسان قال لأصحابه: ارجعوا فقد أزرى بنا الغلط، وليس هذا الوقت وقتنا. ويدل هذا القول من هذا الرجل على أنه مستبصر في أن الأمر لا يتم إلا بالعصبية المكافأة لأهل الوقت، فلما علم أنه غريب في ذلك الوطن، ولا شوكة له، وأن عصبية بني مرين لذلك العهد لا يقاومها أحد من أهل المغرب، استكان ورجع إلى الحق، وأقصر على مطامعه، وبقي عليه أن يستيقن أن عصبية الفواطم وقريش أجمع قد ذهبت، لا سيما في المغرب، إلا أن التعصب لشأنه لم يتركه لهذا القول، والله يعلم وأنتم لا تعلمون ا.ﻫ.
مفندو المهدية
مدعو المهدية
ادعى المهدية كثيرون، ظهروا في بلاد العرب ومراكش والهند وأمريكا وغيرها، ومثالهم: محمد بن عبد الله، الملقب بالنفس الزكية سنة ١٤٥ﻫ، في عهد الخليفة المنصور ثاني الخلفاء العباسيين، الذي قتله بعد أن استفحل أمره، وعبد الله المهدي بن محمد الحبيب بن جعفر الصادق مؤسس الدولة الفاطمية، ومحمد بن عبد الله بن تومرت، المعروف بالمهدي الهرعي، ويكنَّى أبا عبد الله من مراكش، وقد أسس دولة بني عبد المؤمن، والعباس الفاطمي في فاس، والسيد أحمد، على حدود بنجاب بالهند، ومهدي الصومال «الملا» الذي ظهر في بلاد الصومال في آخر القرن الماضي، ومحمد المهدي السنوسي، ومهدي تامة الأول، وهو فقيه من قرية الجميزة ادعى أنه المهدي المنتظر ولكنه قُتل. وظهر دعي آخر اسمه أحمد بن عبد الله من الجميزة وقد قتل، وادعى محمد الأمين في سنة ١٩٠٣ أنه المهدي، وظهر في جبال تقلى، وقد قبض عليه في ٢٧ سبتمبر سنة ١٩٠٣ وشُنق، وقد تبين أنه رحالة من الأفاقين.
فأبى الفقي التسليم، ودار القتال بين الفريقين، وأسفر عن قتل عكاشة أحمد و١١ من أتباعه، وجرح ضابطين مصريين وصف ضابط.