الخليفة عبد الله التعايشي
منذ وفاة المهدي في يوم الإثنين ٩ رمضان سنة ١٣٠٢ و٢٢ يونية سنة ١٨٨٥، بايع أهل السودان الخليفة عبد الله التعايشي، وأذاع منشورًا بأن المهدي قد مات.
وكانت سياسة التعايشي المحافظة على شعائر المهدية، وجعل أخاه يعقوب وزيره وقائد جيشه ومدبر أشغاله، وولى أقاربه التعايشة كبار المناصب.
(١) التعايشي وفتح كسلا
وفي يوم الأربعاء ١٦ شوال سنة ١٣٠٢ﻫ المقابلة ٢٩ يولية سنة ١٨٨٥م سلَّمت حامية كسلا بعدما اشتد عليها الحصار، ومات فيها الكثيرون جوعًا، وكان سقوطها على يد أمناء المهدي الحسين الزهرة، وإدريس عبد الرحيم، وعبد الله حمزة، ومحمد حمزة.
وحضر عثمان دقنة إلى كسلا، وكان المهدي قد مات فأعلن عثمان البيعة للخليفة عبد الله على سطح ديوان مديرية كسلا، قائلًا: إن كنتم تعبدون المهدي فإن المهدي قد مات، وإن كنتم تعبدون الله فالله حي لا يموت. والخليفة عبد الله هو خليفة المهدي القائم بالأمر بعده، فهل أنتم طائعون له متبعون لأمره؟ قالوا جميعًا: نعم، ثم بايعوه باسم الخليفة.
ثم قتل المدير أحمد بك عفت وبعض الموظفين والتجار.
وقد عزل التعايشي بعض القواد، وأخذ يجرد الخليفة شريف، والخليفة ود الحلو من سلطتهما.
وقد وجَّه التعايشي كتبًا إلى خارج السودان؛ من ذلك أنه قد وجَّه كتابًا إلى السلطان عبد الحميد، وإلى سمو الخديوي توفيق باشا، وإلى الملكة فيكتوريا؛ لدعوتهم إلى المهدية، ثم إلى قبائل نجد والحجاز، وإلى منليك ملك الحبشة، وإلى محمد السنوسي في غرب السودان الأقصى، وإلى سلطان واداي ورابح الزبير.
وقد انتقض بعض الولاة والأمراء على عبد الله التعايشي كما حدث في الأبيض؛ إذ عزل محمود عبد القادر وولى عثمان آدم مكانه.
(٢) في القلابات
احتل محمد ود أرباب القلابات في ٥ مارس سنة ١٨٨٥م.
(٣) على حدود الحبشة
طلبت الحبشة القبض على الحاج علي من قطاع الطريق اللاجئين إلى القلابات، وزحف الرأس عدار على القلابات، وقتل محمد أرباب وجيشه، وأحرق القلابات وعاد بالغنائم إلى الحبشة في أوائل يناير سنة ١٨٨٧م.
وعين الخليفة عبد الله يونسَ الدكيم عاملًا على القلابات، ودعا التعايشي الملك يوحنا ملك الحبشة للإذعان للمهدية، وبعث يونس حملات على الحبشة.
وقد ظهر في القلابات في ديسمبر سنة ١٨٨٧م رجل تكروري يدعى آدم محمد البرقاوي، ادعى أنه نبي الله عيسى، وصدَّق به عشرة من الأمراء، وخمسة من جيش يونس، وكان التعايشي قد عين حمدان أبو عنجة ومعه جيش إلى القلابات، ومنها حاول غزو الحبشة في ٩ يناير سنة ١٨٨٨م، ودخل بلاد دمبيا الحبشية، وعاد إلى القلابات ومعه الغنائم، ثم عاد ثانية لغزو الحبشة في يونية سنة ١٨٨٨م.
وطلب الملك يوحنا إلى حمدان أبي عنجة الصلح؛ لأن الملك كان مشتغلًا بحرب الإيطاليين، ولكنه رفض الصلح وأغلظ في القول، فحشد الملك يوحنا جيشًا من نحو ٢٥٠ ألف مقاتل، ومات في تلك الأثناء أبو عنجة، وخلفه الزاكي طمل، وفي ٩ مارس سنة ١٨٨٩م وصل الملك يوحنا القلابات، وحدثت موقعة انتصر فيها جنود الحبشة في أول الأمر، ثم جُرح الملك يوحنا جرحا مميتًا، وأوقع موته الفشل وانهزم جيشه.
(٤) في سواكن
وجَّه كتشنر باشا محافظ سواكن في ١٧ يناير سنة ١٨٨٨م حملة إلى هندوب، وهزم قوة عثمان دقنة، وقد جرح كتشنر وعاد إلى سواكن، ومنها إلى مصر، وناب عنه الميجر شكسبير.
ووقعت واقعة الجميزة في ٢٠ ديسمبر ١٨٨٨م، وهزمت قوة برياسة السردار غرانفيل باشا، ومعها أورطة إنجليزية، واللواء الثاني بقيادة اللواء هولد سميث باشا، جيشَ عثمان دقنة عند طابيتي الشاطة والجميزة اللتين تحميان آبار الماء لحامية سواكن.
(٥) عند خط الاستواء
ذكر الدكتور محجوب ثابت الخطاب المرسل إلى أمين باشا مدير خط الاستواء من قائد قوة الجيش المصري «سليم بك مطر».
مدير عموم خط الاستواء سعادتلو محمد أمين باشا حضرتلري
أفندم بتاريخ ١٨ نوفمبر سنة ١٨٨٨ حضروا العساكر من محطتي موهي واللابورية ومائة وعشرون نفر من عساكر برنجي أورطة لمركز الأورطة، وفي يوم ٢٤ منه صار تعيين بخيت أغا محمود الملازم ومعه فرق عسكرية إلى اللابورية لكشف أخبار الأشقياء، وفي الساعة ٥ حضر بعض عساكر، وعرفوا على أن الأشقياء قابلوهم بخور الطين، ولغاية الغروب تم وصول الباقي وحضرت مكاتبة من رئيس الأشقياء عمر صالح يرغب التسليم، وأوضحوا فيها مثل حامد بك محمد وعبد الوهاب أفندي طلعت وعلي أغا جابور وسالم أفندي خلاف وحسن أفندي لطفي، وإن لم صار التسليم فتصير المحاربة، ولم عطى لهم الرد فضلًا.
حرق محررهم، وفي يوم ٢٥ منه احطاطه الأشقياء بالحصار، وصاروا يهللوا بمقالة إنهم مهدية، وفي الساعة ١٠ من هذا اليوم وردت منهم مكاتبة أخرى استعجالًا للأولى، وصار رميها بمعرفة العساكر من خارج الحصار، وبالاستفهام من الآدمي الذي أحضرها عن الكيفية عرف على أن القصد التسليم، وفي يوم ٢٩ منه حضروا المذكورين بجوار المحطة، وصاروا يضربوا الأسلحة علينا من الساعة ٣ لغاية الساعة ٩، وفي الحال صار خروج بعض عساكر إليهم، وانتشب الحرب بينهم، وهزموهم وقتلوا منهم ٦٢ نفرًا، بخلاف المجروحين، ولم يحصل لعساكرنا شيء، وفي يوم ٢٧ منه لم يزل حضروا هؤلاء المفسدين، وشاغلوا العساكر بضرب النار، وفي الساعة ١٠ من ليلة يوم الأربع صار ضرب نوبة كبسة، وفي الحال اشتغل ضرب النار من الأشقياء وعساكر الحكومة الخديوية، ولغاية الصبح اشتد الحرب بين الفريقين إلى أن صار إصابة أحمد أغا علي الأسيوطي، وبخيت أغا علي، وسليمان أغا سودان، بالرصاص والسيف من أيادي الأشقياء، بأوجههم وأيديهم، وقليلًا من الصف ضباط والعساكر وفي هذا الأثنى دخلوا من تلك المفسدين داخل المحطة بقصد امتلاكها، وقتلوا محمد أفندي علي النجار القبودان، والأسطى أحمد المهندس، ومرجان مزار ٢ جي ريس الخديوي، وخميس سالم الباش عطشجي، وفرج الله مردة العطشجي، ولما ترآى لجميعنا ذلك صار الاجتهاد في قتل من دخلوا الحصار والمحطاطين به من خارج، وفي الساعة ٢ تقريبًا انقضت المعركة بين الطرفين بانتصار عساكر الحكومة، وهزم عدوهم باقتفاء، وما صار قتله منهم وجد مائتان نفر وعشرة، بخلاف الذي أمكن تعداده والمجروحين الذين وصلوا لمحل إقامتهم، واكتسبنا منهم إحدى عشر بيرق بما فيهم بيرق أميرهم، وبعضًا من الأسلحة الرامنتون والبيادة وجملة سيوف وحراب، وأسر واحد منهم، وارتجعت العساكر في محلاتهم بعد عمل التشريفة اللازمة، وفي يوم الخميس لم حصل شيء بخلاف المشاغلة فقط، وفي ليلة الجمعة الساعة ١ تكامل حضور جماعة فأتوا لهنا، والساعة ٢ حضر أحد الأهالي البيادة المأسورة بطرفهم، وعرف عن قتل أغلبهم، وأن غرضهم الفرار إلى الرجاف، وفي صباح اليوم المذكور حضر أدمي تعلق عدالين أغا شلبي وعرف عن فرارهم ليلًا، وفي الساعة ١ من هذا اليوم حضر واحد عسكري أصله من ملحوقات ٣ جي بلوك باللابورية، وصادق على قول من سبق حضورهم، وفي الوقت توجهوا العساكر إلى المحل الذي كانوا مقيمين به الأشقياء، فوجدوا جملة نفوس قتلى ومجروحين بخلاف ما سبق تعداده، ونقلوا المجروحين وأحضروا بعض صناديق جبخانة فوارغ، وفي يوم السبت الموافق غرة الجاري الساعة ٦ حضر واحد عسكري أصله كان من توابع المرحوم ريحان أغا إبراهيم، وبمسؤوليته عن الكيفية أوضح أنه محضر معهم من الخرطوم، وأن ما قاله الأشخاص المحضرين منهم المورين عنهم بهذا هو حقيقي، وأن قوة الأشقياء صارت ضعيفة جدًّا، كذا عينا تراجمه لكشف أخبار، وتوجهوا لحد خور عبد العزيز، فوجدوا جملة أجربة داخلها ملبوساتهم وواحد سنكه رامنتون فأحضروهم.
وفي يوم تاريخه الساعة ٥ حضر واحد عسكري يسما فضل المولى من جماعة بوجي من ضمن المأسورين بحركة الرجاف الأخيرة، وعرفوا بأن الأشقياء توجهوا إلى الرجاف مكسورين مجدين السير، والمجروحين الذين كانوا معهم يبلغوا مائة وخمسين نفر، وجاري وفاتهم بالطريق وسيرهم بالعجلة، وكلما مروا على محطة مثل الخور واللابورية جارين حرقها هذا ولإحاطة شريف علم سعادتكم بما قد حصل من عساكر الحكومة وجب ترقيمه بالعرض لسعادتكم أفندم.
في ٢ ديسمبر سنة ١٨٨٨.
سعادتلو أفندم حضرتلري
أفندم مع ما توضح أن جميع فرسانهم وريساهم وقاضيهم قتلوا في يوم الواقعة.
في تاريخه.
وقد نشر سليم مطر بك، وهو ضابط بحري، رسالة عن رحلاته في أعداد يولية وأغسطس وسبتمبر من مجلة الجمعية الجغرافية سنة ١٨٤٢، حيث كشف النيل الأبيض.
(٦) الخليفة عبد الله التعايشي
ربع القامة، أسمر اللون، أشيب الشعر، عربي الملامح، خفيف الشاربين واللحية مستديرها، وقد هذَّب لحيته وشاربيه، على وجهه آثار الجدري، أقنى الأنف، وقَّاد الذكاء، قصير الشفتين، تبرز منهما أسنانه، أميل إلى الابتسام، جم النشاط، وعلى الإجمال يشبه المهدي إلا أنه أقصر منه قليلًا، وأقل سمرة، وأضيق جبهة، وأصغر لحية، وكان نحيفًا ثم صار بدينًا.
وكان نظيفًا ويتطيَّب، وعن يساره سيفه، وفي يمينه حربة قصيرة هدندوية، ويعرج عرجًا خفيفًا لكسر ساقه عند سقوطه من جواده عند فتح الأبيض، وكان يمشي خلفه غلمان من الحبش، وله أربع زوجات، منهن أم كلثوم بنت المهدي، عدا الجواري.
وبلغ أولاده ٢١ ذكرًا و١١ أنثى، وكان عنده خصيان.
وكان يصلي الفجر في مسجده ويسمع راتب المهدي، ثم يخلع زيه الرسمي ويلبس الشقة، ويتناول الطعام، وهو زبدة بقرية ولبن بقري، وينام إلى الضحى ثم يستيقظ فيتناول طعامًا من عصيدة الدخن مع ملاح التقلية أو أم دقدوقة، وهو ملاح مركب من السمن والشرموط البقري والويكة مع الشطة والملح والبصل، ثم اللحم المنصص.
ثم ينظر في المراسلات، ثم يدخل الحريم حتى الظهر، فيخرج للصلاة في المسجد في محرابه تحت الرواكيب، ثم يصدر الأحكام ما بين توبيخ وسجن ونفي وقتل، ويتناول الغداء في داره وهي الكسرة والطبيخ، ثم يصلي العصر في الجامع ويسمع الراتب، ويتفقد الجيش، ويصلي المغرب ثم يتناول العشاء في داره، ويعود لصلاة العشاء في المسجد، ثم يعود إلى داره ويجتمع مع وزيره يعقوب وقاضي الإسلام وشيخ السوق وأمين بيت المال، ويبقى الملازمون جالسين أمام باب داره حتى يتأكدوا من انصراف مجلسه فينصرفون، ثم ينظر مع رئيس خصيانه في نفقات منزله، ثم يدخل مخدعه ويجتمع بزوجاته، ثم ينام حتى الفجر.
ويستأذن الداخل عليه، ويخلع سلاحه وينكس رأسه، ويداه إلى صدره، ثم يقول: السلام عليك يا خليفة المهدي «عم»، فيجيب: وعليك السلام، ويشير عليه بالجلوس فيجلس جاثيًا أو يقبِّل يده، ولا يخرج حتى يأمره بالانصراف.
وكان يولم للجيش وليمة، وكان النساء في عهده يصلين خلف الرجال.
حكومة التعايشي
جعل السودان عمالات ثمان: الجزيرة، وجبال إدريس، وغرب البحر الأبيض، وشات، والبادية الغربية، والبادية الشرقية، وشرق النيل الأكبر، وغرب النيل الكبير، وعمالة الشلك والدنكا «مديرية فاشودة».
ولم يحتل فاشودة وفازوغلي، بل كان يرسل إليها العمال لجلب الحبوب والعبيد على سبيل الجزية.
وكان يطلب إلى عماله المحافظة على الصلوات الخمس، وتلاوة راتب المهدي، والجهاد والطاعة، وإقامة العدل، والبعد عن الفساد.
وبلغ جيشه في أم درمان أكثر من ٥٠ ألف في ستة أقسام: قسم الملازمية القديم وقائده بخيت جاموس النوبي، والملازمية الجديد وقائده شيخ الدين بن الخليفة، والكارة بقيادة إبراهيم الخليل، والراية الزرقاء بقيادة يعقوب أخي الخليفة، والراية الصفراء بقيادة محمد شريف، والراية الخضراء بقيادة الخليفة ود الحلو، وألحق بالجيش قسم الصحراء الشرقية بقيادة عثمان دقنة، وكان عند التعايشي مدافع وذخائر.
وكان يجمع الزكاة والعشور والغنائم، وأهمل الزراعة أولًا، وراجت صناعة الأسلحة، وأبقى الترسانة والمراكب وخط التلغراف بين الترسانة وأم درمان، وأنشأ معملًا للصابون، وضرب النقود من الفضة، وكان التعليم قاصرًا على حفظ القرآن وتفسيره.
وقد أبطل أمناء ونواب المهدي، وحصر القضاء في قاضي الإسلام وأعوانه، وكان رفع الدعوى إليه شفهيًّا عند دخوله المسجد بالنداء عليه: يا خليفة المهدي، إني مظلوم، فيسمع قضية المتظلم ويفصل فيها.
وكان سجنه حوشًا واسعًا مسوَّرًا، في وسطه أكواخ من الحجر والطين، يزدحم فيها المساجين مقيَّدين في أرجلهم، وبالجنزير في أعناقهم، واستعمل المشانق والبربندي «الفلق».
وسياسته الخارجية قامت على دعوة الملوك والأمم إلى المهدية، أو محاربة جيرانه، وقد منع دخول الأجانب.
وبعد، فمن عبد ربه خليفة المهدي — عليه السلام — الخليفة عبد الله بن محمد خليفة الصديق إلى منليك، نعلمك أنَّا قد كنا قبل هذا كاتبناك للدخول في الملة الإسلامية، والانتظام في سلك أتباع المهدية، رحمة بك وشفقة عليك وحبًّا لهدايتك وخوفًا عليك من الموت على ملة الكفار الذين مصيرهم إلى النار وغضب الجبار، وحذرناك عاقبة الخلاف والإعراض، وقد مضت من عهد ذلك مدة، وما أتانا منك رد على المكاتبة التي حررناها إليك، وما علمنا السبب في ذلك. أفما وصلت إليك مكاتبتنا أم وصلت واخترت عدم مجاوبتنا كما حصل من الهالك النفس يوحنا عظيم الحبش؟ فإنَّا قد كاتبناه مرارًا، ودعوناه إلى الإسلام جهارًا، فاستكبر واستنكف حتى أهلكه الله — تعالى — على يد أنصار الدين، هو ومن معه من الوزراء والمشركين، وقطعت رءوسهم وحملت إلينا، فكانت عبرة للمعتبرين وعظة للمتعظين.
وغاية الأمر أنَّا قد ضربنا صفحًا عن جميع ما مضى منك، ومن باب الشفقة عليك حررنا هذا ثانيًا إليك بدعوتك إلى الدخول في ملة الإسلام، والانتظام في سلك أتباع المهدي، والإذعان لحكمنا والعمل بإشارتنا، فإن أجبت داعينا وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وحسن إسلامك والتزمت العمل بإشارتنا، وصرت من ضمن أتباع المهدية القائمين بأوامرها المرضية، فاعلم أنَّا سنقبلك ونجعلك أميرًا من طرفنا على بلادك، وتكون مكرَّمًا لدينا، وإلا فإن أعرضت عن ذلك فذنبك عليك، لكن يلزمك أن تكون واقفًا على حدودك، ولا تتعدى حدود الإسلام، وإلا فإن تعديت الحدود فلا بد من مناجزتك الحرب، ويكون عليك من الهلاك والدماء مثل ما كان على الهالك يوحنا لما طغى وبغى وتعدى الحدود، وها قد أنذرناكم بهذا، وفيه الكفاية لك. والسلام على من اتبع الهدى. في سنة ١٣٠٨ﻫ.
غلب الأسد من طائفة يهوذا منليك الثاني المجعول بإرادة المولى ملك ملوك الأيتيوبية، إلى جناب الخليفة عبد الله بن محمد، بعد مزيد السلام، كيف حالتكم؟ أما أنا فأشكر الله بخير وعافية، وأخبركم أني بعد حصول المحاربة بيننا وبين التليان بناحية مدينة عدوة، غلبتهم بإحسان الباري وعدت إلى مدينتي المحروسة بخير وسلام، وأما باقي الكلام الذي أريد أن أبلغه إياكم، فالرسول الواصل صحبة هذا، وهو الحاج أحمد يخبركم به شفاهًا ودمتم. كتب بمدينة أديس أبابا في سنة ١٨٨٨ حبشية ٢٩ ذي الحجة سنة ١٣١٣ﻫ/١١ يونية سنة ١٨٩٦م.
إن ما أردته من انعقاد الصلح بيننا وبينكم فليكن بعلمك أننا لا نريد دخول أحد من الأوربيين في أي جهة من جهاتنا الإسلامية، لا بحرفة البيع والشراء ولا بصفة السياحة، وليس بينا وبينهم إلا الحرب، فإن كنت أنت كذلك ومنعت جميع الأوربيين من الدخول في بلدك إلا بالحرب بحيث لا يكن بينك وبينهم إلا بالحرب، وعلى هذا الشرط ينعقد الصلح بيننا وبينكم ٦ ربيع سنة ١٣١٤ﻫ / ١٤ سبتمبر سنة ١٨٩٦م.
وحمل هذا الكتاب سفير التعايشي محمد عثمان، وقد طلب التعايشي من منليك تأديب ود تور الجوري في جبال فازوغلي؛ لأنه عصاه، فأدبه منليك وملك بلاده.
معاهدة
روى لنا أحد علماء السودان الرواية التالية:
في سنة ١٨٩٧ أُبرمت معاهدة بين منليك وإمبراطور الحبشة وبين الخليفة عبد الله التعايشي، وبمقتضاها نزلت الحبشة عن أراضي حبشية متاخمة للسودان إلى حكومة الخليفة، وقد حدث أن نسخة المعاهدة سُلِّمت إلى المغفور له الشيخ أبي القاسم هاشم شيخ علماء السودان، وكان قبل ذلك كاتم السر للخليفة عبد الله، وسُرقت ورقة المعاهدة من الشيخ أبي القاسم، ولما طلبها الخليفة عبد الله أجابه بأنها مفقودة، وكان ذلك يوم أحد، فأمهله إلى يوم الخميس التالي، وتوعده بالقتل إذا لم يحضرها إليه في اليوم المحدد، فمضى الشيخ أبو القاسم إلى باب، أي «ديوان»، شيخ الدين، وهو الابن الأكبر للخليفة عبد الله، حيث اجتمع أبو القاسم بشقيقه الشيخ الطيب أحمد هاشم، وخرج معه إلى بيته، وأخبره بوعيد الخليفة، واتفقا على الابتهال إلى الله — تعالى — أن يلهمهما أين توجد الورقة المسروقة.
ومضيا في ذكر الله حتى كان مساء يوم الأربعاء، فأغفى الشيخ الطيب، ورأى في غفوته كيف أخذ السارق الورقة، ومن هو، وأن الورقة مودوعة الآن جوف كتاب في دار السارق، فتوجه في الحال إلى ذلك المنزل، واسترد الورقة في غفلة منه، وعاد إلى الشيخ أبي القاسم وسلمها له، وقد تعاهد الشيخ أبو القاسم والشيخ الطيب بعدم البوح باسم السارق؛ خشية أن يصيبه عذاب أليم وهلاك محقق من التعايشي، وتوجه الشيخ أبو القاسم ومعه الورقة في صباح الخميس إلى الخليفة عبد الله ومعه ورقة المعاهدة، وقد حاول الخليفة أن ينتزع منه بيانًا عن كيفية الحصول على الورقة، فأصر الشيخ أبو القاسم على أنه وجدها بين أوراقه الخاصة.
أما السارق فقد أدرك بعد خروج الشيخ الطيب أنه أخذ الورقة من الكتاب وسلمها للشيخ أبي القاسم، فخشي العاقبة وأدناها هلاك محقق من الخليفة، ولبث حائرًا مذعورًا ثلاثة أيام حتى ضمر وهزل، وتوجه إلى الشيخ أبي القاسم وكاشفه بشعوره، وقال له إنه يعرف العاقبة ويريد أن ينزل به المكروه المنتظر حالًا، فأصر الشيخ أبو القاسم على أن الورقة كانت بين أوراقه، وأنه لم يأخذها من دار السارق، فلم يسع السارق — وكان خصمًا منافسًا كائدًا للشيخ أبي القاسم — إلا أن يقرَّ بنبل فضيلته وكرم أرومته، وأدرك أن إخفاء الحقيقة مقصود به إنقاذه من الهلاك، وقد أوصى الشيخ أبو القاسم أولاده بكتمان اسم السارق أبد الآبدين.
أما الورقة فقد ظلت في دار الشيخ أبي القاسم حتى قبيل استعادة السودان على يد كتشنر باشا في واقعة أم درمان، فأمر الخليفة بإحراقها فأحرقت.
بين التعايشي ومشايخ السودان
عند تولية التعايشي كتب إلى مشايخ السودان كافة بالحضور إلى أم درمان؛ لتجديد البيعة عليه، والتبرك بزيارة قبر المهدي، وقد نكَّل بالممتنعين، مثل: صالح الكباشي وأهله الكبابيش، ومادبو شيخ الرزيقات، وعوض الكريم باشا أبي سن شيخ الشكرية، الذي امتنع أولًا عن إجابة دعوة المهدي، ثم أُحضر بعد سقوط الخرطوم إلى أم درمان وعفا عنه المهدي، ولكن أبا سن لم يجب دعوة الخليفة، فسجنه ومات قهرًا، ونكَّل التعايشي بالشكرية، وقتل محمد البشير علي طه بن جن شيخ الحمدة، وسجن محمود ود زايد شيخ الضباينة، ثم عفا عنه، وشنق إبراهيم ود عدلان أمين بيت المال.
قاضي الإسلام
أحمد ود جبارة أول قاضٍ للإسلام في المهدية، وقُتل في الأبيض، فخلفه ود حلاب، ثم أحمد علي، الذي سجنه التعايشي سنة ١٨٩٤، ومات مسجونًا، وخَلَفَه سليمان الحجاز من بربر، ثم الحسين الزهرة الذي سجن سنة ١٨٩٥.
الأسرى
كان رجال المهدية يسمون المسلمين المصريين الأسرى «أولاد الريف»، والنصارى الذين أسلموا «المسلمانية».
وقد انتفع المهدي وخليفته بمعارف المصريين والمسلمانيين الفنية والحربية والكتابية، مع دوام مراقبتهم والحذر منهم.
مؤامرة
وقع خلاف بين التعايشي والخليفة شريف وأقارب المهدي، وظن التعايشي أنهم يؤلِّبون مؤامرة لاغتياله، فسجن الخليفة محمد شريف مكبلًا بالحديد بعد الحكم عليه من الخليفة ود الحلو والقضاة، ثم توسَّط آل المهدي فأفرج التعايشي عن محمد شريف.
المجاعة
حدثت مجاعة سنة ١٣٠٦ وسنة ١٨٨٨م؛ لعدم نزول مطر كافٍ، ولغارة الجراد، وانتشرت الأمراض على النيل والسودان الشرقي والغربي، ما عدا فاشودة التي أرسلت الحبوب فخففت المجاعة، وأدرك التعايشي أن الاهتمام بالزراعة واجب.
في عهد المهدية
ألغيت الضرائب، وجُمعت الزكاة والعشور والغنائم في بيت المال العام بأم درمان، وأقام التعايشي عاملًا على كل عمالة، ولكل عمالة بيت مال خاص، وللعامل وكيل، ومعه قاضٍ، ونائب قاضٍ، وكتاب.
(٧) غزوة عبد الرحمن النجومي لمصر
كان من خطة المهدي وخليفته عبد الله التعايشي فتح مصر، وقد زاد اهتمام الخليفة بهذا الفتح بعد أن أصبح السودان كله خاضعًا لحكمه، فكاتب رؤساء القبائل والعشائر في الصعيد، واستنفرهم للاشتراك في فتح مصر.
وقبل أن يتقدم الجيش الكبير الذي سار من دنقلة إلى فتح مصر بقيادة عبد الرحمن النجومي، وقعت مناوشات في شمال السودان لتبديد شمل الحاميات المصرية.
جَلَتْ الجنود الإنجليزية التي كانت مشتركة مع الجيش المصري في حماية الحدود من مصر والسودان، واشتغل الجيش المصري وحده بقيادة سرداره غرانفيل باشا بعبء المحافظة على الحدود.
كان عبد الرحمن النجومي عاملًا على دنقلة، وكان «قيدوم» من أهل التعايشي وكيلًا له، وفي سنة ١٨٨٥ خرَّب محمد الخير سكة الحديد بين عكاشة وسرس، ثم أرسل النجومي مقدمة جيش برياسة النور الكنزي، فخرَّب السكة الحديدية بين سرس وعبكة في نوفمبر سنة ١٨٨٥.
وقد انتصر شرمسيد باشا قومندان حلفا في ٢٨ أبريل سنة ١٨٨٧ على النور الكنزي في واقعة سرس، ولكن النجومي أرسل عبد الحليم مساعد مع جيش احتل سرس.
وقد أنشأ السردار سنة ١٨٨٥ نقطة من العبابدة المليكاب في آبار المرات برياسة صالح خليفه بك، لتكون في صدر بوغار أبي حمد.
كانت حملة الدراويش في سرس تواصل الغزو، فغزت أرمنة والتوفيقية وطابية خور موسى ودبيرة وسرا الغرب، ثم تقدم النجومي بجيش كبير بلغ نحو ١٥ ألفًا، ومعه النساء، و١٤ مدفعًا والبنادق والرماح والجياد والإبل والغلال والتمر، فوصل معتوقة في ٢٨ يونية سنة ١٨٨٩، وكشف حلفا، حيث قسَّم جيشه إلى ثلاثة أقسام، ووصل قبالة البلينة جنوبي هيكل أبي سمبل.
وحشد السردار غرانفيل باشا الجنود، ووصل إلى البلينة، وكتب النجومي يدعوه إلى التسليم، فأبى وحشد السردار الجيش من أسوان إلى توشكى، وكان رؤساء الجيش ضباطًا إنجليز، بينهم كتشنر باشا وونجت بك «باشا».
وتوشكى بلدة مستطيلة على غربي النيل، على بعد ٦٠ ميلًا من حلفا، وبها نخيل، ومن ورائها سهل رملي تتخلله الآكام والصخور والجبال، التي وصل النجومي بجيشه إليها ولم يبقَ معه عندئذ إلا ٣٣٠٠ من الرجال، و٣٦٠٠ من النساء والغلمان والأتباع.
ووقعت واقعة توشكى، فانتصر الجيش المصري في ٦ الحجة سنة ١٣٠٦ﻫ، وأُسر ابن النجومي، وتعلَّم في مصر، وأصبح بكباشي بالبوليس المصري بعد انسحاب الجيش سنة ١٩٢٤، وغنم الجيش الأسرى والرايات والحراب، وقد ضُمَّت الأشلاء ووضعت في قبر، ووضع له أثر سجِّلت فيه الواقعة إلى اليوم.
ومُدَّت الحدود حتى سرس، فاحتلتها الأورطة الثالثة عشرة.
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيد المرسلين، وبعد، فلا يخفى عليكم ما كانت عليه بلادكم السودانية أيام الحكومة الخديوية من رغد العيش وراحة البال، وما آلت إليه حالتها من الضنك والاضمحلال بأسباب الفتنة المهدوية … إلخ.
(٨) بعد حملة النجومي
بعد هزيمة النجومي، جعل السودانيون «سواردة» أقصى نقطة لهم شمالًا ثلاث سنوات، وقد وقعت مناوشات، منها: غزوة سرس، وسرا الغرب، وقستل، وحمابي، وأمبقول، وبريس، والمرات، حيث قتل فيها صالح بك محمد خليفة، وخلفه أخوه عبد العظيم، وغزوة الشب وأدندان وسرس القديمة، وكانت هذه الغزوات بين سنة ١٨٩٢ وسنة ١٨٩٦.
كسلا
وفشل أحمد فضيل في محاولة دخول كسلا بين مارس وأبريل سنة ١٨٩٦، ورده الإيطاليون إلى القضارف.
تقدم الإيطاليون بإذن الحكومة المصرية، ففتحوا كسلا بقيادة الكولونيل بارتياري، وهرب مساعد قيدوم عاملها من قِبَل الخليفة الذي سبق له عزل أميرها حامد علي، ثم خلَّفه أبا قرجة.
غزوة دقنة لطوكر
فشل عثمان دقنة في الاستيلاء على طوكر سنة ١٨٩٦ في واقعتي سدني وفنك.
في أم درمان
ترك رجال المهدية الخرطوم حتى خربت، واهتموا بعمران أم درمان التي تقع تجاهها على النيل الأبيض، وبنوا ديما، كما كانت عادتهم في بناء الديوم — وهي مساكن خارج المدن — وبنى المهدي جامع الصفيح، وبنى الخليفة بجانبه جامعًا متسعًا — وهو حوش عظيم مربع يحيط به سور وله ثمانية أبواب — بغير سقف، ووضع الحجر الأساسي في ٢٠ نوفمبر سنة ١٨٨٧، وبني بعد ٧٣ يومًا، وكان الأهالي يؤدون الصلوات الخمس فيه جماعة، ثم بنى قبة المهدي، وبدأ البناء في ٧ نوفمبر سنة ١٨٨٨، وقد وصفها إسماعيل عبد القادر الكردفاني في قصيدة مطلعها:
(٩) المصريون في السودان والثورة المهدية
ذبح أنصار المهدية آلافًا من التجار والمستخدمين المصريين في مدينة الطيارة — أكبر مركز لتجارة الصمغ وريش النعام في مديرية كردفان، وبُقِرت بطون الحبالى، وقذف الأطفال في الجو، وكان الثوار يتلقايونهم على أسنة الرماح، في عهد الفقير المنه زعيم قبائل الجوامع والجمع.
وقد استنكر المهدي هذا العمل، ومات أكثر سكان الأبيض، التي عاش فيها ألوف من المصريين جوعًا في أثناء الحصار ولغلاء الحاجيات — كما تقدم، وقيل إن الناس أكل بعضهم بعضًا، وسبيت الفتيات، وانتحر الكثير منهن ومن أوليائهن.
ومات في سقوط كسلا اللواء أحمد عفت باشا، والسنجق حسن سليمان بك، وأحمد شوقي بك معاون المديرية، وفي سقوط سنار اللواء حسن صادق باشا، والقائمقام حسن عثمان الكريتلي بك، وأحمد مكوار بك وكيل المديرية، وفي سقوط خط الاستواء الأميرالاي سليم مطر بك، والقائمقامان حامد محمد بك، وفضل المولى بك، والبكباشية مرجان وعبد الوهاب طلعت، وعلي جبور، وبخيت وسالم خلاف، وفي الأَسْر صالح المك باشا، وفرج الله باشا.
وقدَّر غوردون في إحصائه أن عدد المصريين في السودان قبل سقوط الخرطوم كان يبلغ ٢٠٠ ألف، وبعد فاة المهدي أمر الخليفة التعايشي بأن يجتمع المصريون في صعيد واحد، فبلغ عددهم — عندئذ — خمسة آلاف من الرجال، وكان يسميهم «فضلة سيف المهدي».
وقد وقعت مجاعة في عهد التعايشي «١٨٨٨–١٨٨٩»، وفتكت بمئات الألوف من أهل السودان والمصريين فيه.
وفي وقائع دارفور قُتل البكباشية شرف الدين، وعلي الطوبجي، ومحمد فرج، وفي وقائع سنكات وطوكر وسواكن قتل الأميرالاي عبد الرزاق نظمي بك، والقائمقام محمد توفيق المصري بك، والبكباشية محمود خليل، ومحمد فهمي المصري، وكاظم، وفي وقائع حصار الخرطوم وأم درمان وسقوطهما اللواءات محمد علي حسين باشا، وموسى شوقي باشا، وفرج الزيني باشا، والأميراليان بخيت بطراكي بك، ومحمد القباني بك، والقائمقامية البكوات سلطان عبد الله، ومحمد المك، وعثمان حشمت، وفرج صالح، والسيد أمين، وسرور بهجت، ويوسف عفت، وحسين القباني، وأحمد أبو القاسم، وعبد الله العبد، وعبد القادر حسن، وحسن العقاد، ومصطفى عصمت، ومحمد إسلام، وإبراهيم لبيب، وأحمد عبد الوهاب، والسناجقة البكوات متولي، وعلي، وميتو، وعبد الهادي، ومحمد كرسي، ومحمد قرضية، ومحمد السنجق، ونصر وبشير خشم الموس، ومحمد نعمان، والبكباشية إبراهيم سودان، ومنصور عبد العال، ومحمد عثمان، وأحمد حماية، ومحمد دسوقي، وحسين محمد، وعلي صقر، وسليمان النشار، وحسن فؤاد، ومن كبار الموظفين محمد حسن باشا مأمور المالية، والشيخ محمد حتيك قاضي القضاة، والشيخ شاكر الرئيس مفتي السودان، وعصمت بك مدير التلغراف، وإبراهيم رشدي بك سكرتير غوردون، وقرياقص القمص بك باشكاتب الخرطوم، ومحمد إبراهيم بك، والشيخ محمد موسى مفتي المحاكم الشرعية، والشيخ محمد السقا شيخ القراء، والشيخ حسين المجدي رئيس أساتذة المدرسة الأميرية بالخرطوم، والسيد فايد شيخ السجادة الأحمدية، وأحمد جلاب بك مدير الخرطوم، ومحمد عطية بك صراف الخزينة.
أمين باشا في خط الاستواء
حضر اثنان أحدهما ينكر الألماني والكبتن كازاتي الإيطالي، لمساعدة أمين بك «باشا» مدير خط الاستواء عند قيام الثورة المهدية، وقد تبرع الرحالة الشهير المستر ستانلي بحملة من مصر إلى زنجبار، إلى الكونغو، إلى بحيرة ألبرت، فوصل إليها في ١٥ ديسمبر سنة ١٨٨٧م، وقد التقى استانلي بأمين بك في نسابي في ٢٩ أبريل سنة ١٨٨٨م، وتسلم أمين بك من استانلي أمرًا عاليًا بتوقيع الخديوي توفيق بترقيته إلى رتبة اللواء وترقية ضباطه.
وقد هاجم عمر صالح خط الاستواء سنة ١٨٨٨م، وسجن أمين باشا ثم أفرج عنه.
وقد عاد إلى زنجبار وترك خدمة الحكومة المصرية وقتل.
(١٠) سقوط الخرطوم ورأي الإنجليز في الموقف
خَلُص لنا من مطالعتنا الكثيرة عن موقف الإنجليز في السودان، أن الحكومة الإنجليزية — في لندن — عند الثورة المهدية، لم تتوقع النتائج التي أدت إليها، وأنها افترضت أن انسحاب الحكام والجيش المصري من السودان سيترتب عليه أن ينقسم السودان إلى إمارات أو ممالك وسلطنات صغيرة، كلٌّ منها يدَّعي استقلالًا، ولكن الذي حدث هو أن المهدي انتصر انتصارًا شاملًا، وأصبح السودان في قبضة يده وطوع بنانه ورهن إشارته، وأضحى المهدي يهدد مصر والبلاد المجاورة، بل يهدد الاستعمار الإنجليزي في إفريقيا.
لم يصل نبأ سقوط الخرطوم إلى مصر والعالم في حينه؛ لانقطاع المواصلات، وقيل إن القاهرة لم تعلم بسقوط الخرطوم إلا بعد شهر منه.
تقرير سير شارلس ولسون٢
- أولًا: لضعف قوتنا الناشئ عن كثرة قتلانا وجرحانا، ولأن قاسم الموس ربَّان السفن المذكورة أنبأني بأنه رأى وهو مقبل نحونا القائد فقي مصطفى زاحف بقوة عظيمة نحونا، فاستنبأتُه عن موعد وصولها إلينا، فقال إنها ربما تصل في الغد «أي ٢٢ يناير»، فصرفت يوم ٢١ منه في التهيؤ والاستعداد، ثم سرت في صبيحة اليوم التالي بشرذمة قليلة، فتقدمت بها على ضفة النيل حتى بلغت شندى، كل ذلك لأرى ما إذا كان نبأ الربَّان صحيحًا.
- ثانيًا: لأن الجنرال غوردون٣ ألحَّ في كتابه بأن نتخذ قيادة السفن بأنفسنا، وإلا فنعيدها إليه بعد أن نُنزل منها جميع الباشاوات والبكاوات، وكل رجل كان مصري النزعة أو تركيَّها، فوالحالة هذه اعتمدنا بادئ بدء على تجهيز تلك السفن بالفرقة البحرية، على أن أعباء اللورد شارلس برسفورد وفقدان عدد عظيم من تلك الفرقة حالا دون تتميم خطتنا، فرأينا حالتئذ أن ننتخب من السفن الأربعة الضباط والعساكر السودانية، وننقلها إلى السفينتين اللتين رأينا أن نسير بهما إلى الخرطوم، وهذا ما أعاقني عن تأخير سفري إلى ٢٣ من الشهر المرقوم.
- ثالثًا: لأني رأيت السفن في حالة رثَّة، فاقتضى أن أصلحتها بقدر الطاقة، وأعددتها بحيث تقوى على احتمال ضربات المدافع التي توقعت سقوطها علينا متى وصلنا إلى أم درمان، التي وقعت في أيدي الثائرين قبل سقوط الخرطوم بزمن مديد.
تلك هي أهم الأسباب التى دعتني إلى تأخير سفري إلى الخرطوم، فترونَ بعد التروي والفحص أني كنت محقًّا في عدم السفر حالًا، وترون أيضًا أنني لو كنت سافرت في اليوم الذي تناولت فيه كتب الجنرال غوردون لَمَا قدرت على إنقاذ المدينة؛ إذ هي قد سقطت في أيدي الثائرين في ٢٥ يناير.
(١١) وثائق رسمية
وفي أثناء ذلك أبدت الحكومة المصرية ارتياحها إلى التخلي عن المواني الأخرى الواقعة على البحر الأحمر وفي خليج عدن، وعن زيلع وبربرة، وأخذت في سحب جنودها منها، وقد ساعدتها الحكومة في عدن على تتمة ذلك، ثم أرسل إلى الماجور هنتر تعليمات تؤذنه بإبرام عهدات مع القبائل المختلفة.
وفي جملة هذه الأوراق كتابات أخرى واردة إلى الحكومة الإنجليزية من حكومات فرنسا وإيطاليا وتركيا، تحتوي على مخابرات تبودلت في أمر احتلال المواني المذكورة بعد تخلي الحاميات المصرية عنها، وأثبت اللورد فيتز موريس لدى مجلس العموم في ٣ مارس سنة ١٨٨٤ أنه قد بلغ حكومته نبأ يشفُّ عن ابتغاء فرنسا لابوخ، وحينما بلغ المسيو وادنكتون قول اللورد فيتز موريس، بادر فأرسل كتابًا إلى اللورد غرانفيل يدحض فيه هذا النبأ، وبيَّن فيه أن «لابوخ» لم تكن مبتغاة فرنسا، وإنما هي ملك لها من قديم الزمان، فأرسل إليه اللورد رسالة أبدى فيها عدم رغبته في إقامة مناقشات وصعوبات في صدد تملُّك فرنسا لابوخ المذكورة.
وفي خلال تلك السنة حدث أن فرنسا ضربت أعلامها فوق صروح رأس علي وانجر وساغالوا، حتى تاجورة التي اضطرت الحاميات المصرية إلى الجلاء عنها بعلة مضايقة قبيلة الدناقيل «الدناقلة» لها، وفي ١١ يناير من تلك السنة أرسل السير بارنج إلى اللورد غرانفيل كتابًا يذكر له فيه أن قنصل فرنسا في عدن أبلغ المستر بلار أمير اللواء الإنكليزي أن فرنسا وضعت حمايتها على السواحل المتوسطة بين رأس علي حويت خراب.
ويلوح من الأوراق البرلمانية أيضًا أن الحكومة الإنكليزية أرادت بادئ ذي بدء أن تحيل مسألة احتلال سواحل البحر الأحمر إلى الدولة العثمانية، فتحتلها بعد انجلاء الحاميات المصرية عنها، فأرسلت إلى الدولة العثمانية — بواسطة اللورد دوفرين سفير إنجلترا في الأستانة وقتئذ — كتابًا تقترح عليها فيه ذلك، ومضت مدة خمسة عشر يومًا ولم يرِدْ الردُّ، فعاد اللورد غرانفيل فكتب إلى اللورد دوفرين رسالة ذكر فيها أنه قد وقع القرار على ترك مقاطعة هرر، وانجلاء الحامية المصرية عنها، وأن في النية إعادة المصريين من سائر السواحل التي احتلوها إلى الآن، وهي الممتدة من مضيق باب المندب إلى رأس حافون، بما فيه مواني تاجورة وزيلع وبربرة، فإذا شاء الباب العالي أن يوطِّد سيادته السابقة لسيادة مصر على تاجورة وزيلع فالحكومة الإنكليزية تعترف له بهذه السيادة، على شريطة أن يعمل فيها على منع الاتجار بالرقيق، ويتعهَّد بأن لا ينزل أي قسم منها لأية دولة كانت، ولا يضرب رسومًا على تلك المواني المذكورة في الوفاق المبرم سنة ١٨٧٧ بين الحكومة المصرية وحكومة الملكة.
فأبلغ اللورد دفرين هذه الرسالة إلى الباب العالي، واستحثَّه على الرد، ولمَّا لم يرَ فائدة من حثِّه، أرسل إلى اللورد غرانفيل رسالة قال فيها: «إنني قدمت رسالتكم إلى وزير الخارجية في الأستانة، وأطلعته على فحواها، فوعدني بادئ ذي بدء بالإجابة عنها حالًا، فأعدتُ عليه السؤال يومًا بعد آخر، فكان يماطلني مقدِّمًا لي في كل حين أعذارًا جديدة.»
ومضت على هذه الحال أيام حدث في أثنائها أن أُرسلت عساكر من عدن احتلت هرر، وعزمتْ الحكومة الإيطالية على إرسال تجريدة من قوتها إلى البحر الأحمر، فما كان من الباب العالي — حينئذ — إلا أنه ادَّعى السيادة المطلقة على سواحل البحر الأحمر طرًّا، وبنى ادعاءه على شروط وفاق أُبرم في ٧ سبتمبر سنة ١٨٧٧.
يرى اللورد كمبرلي أن يعهد تدبير وسياسة الساحل الممتد من رأس حافون إلى زيلع إلى حكومة الهند، فتنظر في جميع مسائلها، وتقضي بها حسبما شاءت ورأت، وأن تمد مراقبتها حتى زيلع نفسها، اللهم إلا إذا لم يقبل الباب العالي إعادة سيادته عليها طبقًا للمطالب التي اقترحتها عليه الحكومة الإنكليزية.
بيد أنه «أي اللورد كمبرلي»، يرى عدم وجود امتداد مسئولية الحكومة الهندية إلى ما وراء زيلع وأن تكون جميع المسائل المتعلقة بالسواحل الواقعة بين زيلع وباب المندب والمرتبطة بأراضي هرر متعلقة بنظارة الخارجية بلندن. أما أنا فصدَّقت على هذه الآراء وسأبعث بها إلى الحكومة الهندية بالتعليمات اللازمة بشأنها.
ولا خفاء أن المهدي نال نفوذه بواسطتين اثنتين؛ أولاهما: نجاح رجاله في الحروب، واستيلاؤه على مواقع مهمة كالخرطوم وبربر، وبهذه الواسطة كان تقدمه بطيئًا، واتخذ لنفسه عادة هي أن يقف بعد افتتاحه مدينة ما، هنيهة دون أن يخطو إلى الأمام خطوة. والأخرى: إنفاذه الرسل الذين يتنقلون من مكان إلى آخر فيبثُّون أخبار نجاحه بين الأهلين، ويحثُّونهم على الجهاد ضد الجميع، وهكذا يبثُّون روح البغضاء والكره للأحوال الحاضرة، ويستميلون القبائل إلى الانحياز للمهدي. وفيما أرى أن هؤلاء الرسل لا يمكن درء مخاطرهم بالوسائط الدفاعية، وليس من وسيلة لملاشاة تأثيراتهم إلا باقتلاع الجرثومة التي يتناولون منها نفوذهم، أي بتبديد شمل المهدي، وشق عصا أعوانه، أجل، إن هؤلاء الرسل هم الذين أثاروا أهالي وادي النيل من حد بربر إلى هندوب، واستمالوهم إلى طاعة المهدي، مع أنه لم يتقدم بنفسه إلى أبعد من أم درمان.
إلى أن قال: «وخلاصة ما ذكر أن محاربة المهدي لا بد أن تقوم قيامتها إن عاجلًا أو آجلا. أما نحن فيمكننا أن نقوم بها الآن ونسحقها، ويمكننا أيضًا أن نضحي بكل ما اكتسبناه من الشرف العسكري بالمشاق والأتعاب، وبكل ما أرقناه من الدماء وبذلناه من الأموال في الحملة الماضية، وأن يذهب أدراج الرياح وتؤجل الحرب الفاصلة إلى بضع سنين، ولكن لا يخفى أن هذه السنين ستكون سني قلاقل واضطراب لمصر، وحملًا ثقيلًا على عسكريتنا، وأن الحرب التي سنقوم بها أخيرًا لا تكون أقل ضنكًا من الحرب التي هي أمامنا في الوقت الحاضر؛ ذلك لعمر الحق كل ما سنكتسبه من سياسة الدفاع عن القطر المصري.
من وزير الخارجية الإنجليزية إلى القنصل فيفيان
في قسم المحفوظات بوزارة الخارجية بإنجلترا وثائق تحمل تعليمات وزارة الخارجية بلندن إلى قنصلها بمصر «فيفيان»، ويتبيَّن منها أنه قدمت شكاوى إلى الحكومة الإنجليزية من جمعية تبشيرية وجمعيات منع الرقيق، وأنه في ٢٩ مارس سنة ١٨٧٧ أرسل وزير الخارجية إلى فيفيان كتابًا، أرسل معه الشكاوى المشار إليها، وسأل القنصل أن يبلغه هل صحيح ما يقال من أن الخديوي «إسماعيل» يريد ضم أقاليم إفريقيا الوسطى حوالي بحيرة فيكتوريا وبحيرة ألبرت، وقد رد عليه القنصل في ٩ أبريل سنة ١٨٧٧ بمذكرة مسهبة، قال فيها إنه قابل غوردون فأبلغه أن الملك كاباريكا ملك أونيورو قد خضع لمصر، وضُمَّت مملكته إليها على يد «بيكر»، ولكن الملك أمتيسة ضم بعض بلاد أونيورو إلى مملكته، وأن التعليمات الصادرة من مصر إلى غوردون تقضي بأن يصل إلى بحيرة فيكتوريا، ومن رأيه الاعتراف باستقلال أمتيسة ومجيدة هذه البحيرة.
وثائق عن حكم محمد علي في السودان٤
في دار المحفوظات بالقلعة، وفي دور المحفوظات الرسمية للحكومات الإنجليزية والفرنسية والتركية وغيرها، وثائق رسمية هامة تتعلق بعهد محمد علي، واهتمامه بإنشاء إمبراطورية إفريقيا تشمل السودان والحبشة وأعالي النيل وطرابلس والغرب والجزائر، فضلًا عمَّا لمحمد علي من توسيع ملكه وزيادة نفوذه في سوريا والأناضول، والاشتراك مع الباب العالي في حرب اليونان وفي الحرب الوهابية.
وقد ألَّف إسماعيل من الشايقية فرقة من السواري بالجيش المصري. وانتفع إسماعيل من المنافسة القائمة بين الوزير عدلان — من وزراء مملكة الفونج — ومنافسه حسن رجب، الذي قتل عدلان، فانضم أنصاره إلى الجيش المصري، الذي احتل مملكة الفونج، وحضر ملكها الملك بادي بنفسه طائعًا أمام الجيش المصري الذي دخل مدينة سنار في ١٢ يونية سنة ١٨٢١، حيث بقي إسماعيل فيها حتى ٥ ديسمبر.
وكان جيش إبراهيم باشا يقصد غزو دارفور والوصول إلى بلاد قبائل الدنكا، واتجه جيش إسماعيل إلى فازوغلي، واستعمل الجيشان طريق النيل الأبيض للوصول إلى غايتهما، وبحث «إسماعيل» عن مناجم ذهب الكماميل، التي كانت تافهة جدًّا، فاتجه جيشه إلى الغرب فتلاقى مع جيش «إبراهيم باشا» الابن الأكبر لمحمد علي، وكان طريقهما النيل الأبيض، وكان قد وصل جيش محمد الدفتردار بك — صهر محمد علي — إلى الدبة في دنقلة، وتابع سيره حتى وصل إلى بارة في كردفان، وانتصر على جيش الملك مسلم مخدوم.
وقد ترك انتقام الدفتردار من حادث قتل إسماعيل في شندى ٣٠٠٠٠ من الضحايا.
وثائق عن عهد إسماعيل
لقد نهج «إسماعيل» منهج جده «محمد علي» بإحياء فكرة إنشاء إمبراطورية مصرية مستقلة عن تركيا، ولكن «إسماعيل» قد اضطر أمام معارضة أوربا له في توسيع ملكه واستقلاله، أن يعتمد على المال في تحقيق أغراضه البعيدة، بما دفع للسلطان العثماني ووزرائه والصحف من أموال، وبينما كان نشاط محمد علي ممتدًّا في النواحي جميعًا في إفريقيا، وآسيا، والجزيرة العربية وإلى أوربا «حرب المورة»، وجَّه «إسماعيل» نشاطه، أو اضطر إلى توجيهه إلى إفريقيا، إلى شواطئ البحر الأحمر وكشف منابع النيل، والتوسع جنوبًا.
وثائق حول سياسة غوردون
ولم يكن مسيو شايي لونج بك راضيًا عن سياسة غوردون، فقال: «إن إدارته كانت على اضطراب يؤسف له، من وجهة اختيار مرءوسيه، ومن وجهة الرجال الذين كان يعهد إليهم بإدارة ماليته؛ فعندما قدم إلى السودان، وجده في سلام وفي رفاهية تامة، ولكنه عندما تركه سنة ١٨٧٩ تركه مدينًا وعلى شفا الثورة …»
ويؤخذ من الوثائق المودعة دار المحفوظات بإنجلترا في ٢٩ مارس سنة ١٨٨٧ أن غوردون كان يرى ضمان حيدة بحيرة فيكتوريا واستقلال الملك أمتيسة، وأنه لا يعتقد أن مصر ترفض رأي وزارة الخارجية البريطانية في هذا الصدد.
وثائق حول سياسة الإنجليز
لقد كان جرانت وأنا كاشفي هذه البحيرة، وقد طاف استانلي حولها.»
•••
في سنة ١٨٨٧ أنشأ مستر فرانسيس فوكس «إنجليزي» شركة كشركات الاستعمار الإنجليزية في جنوب إفريقيا والنيجر وإفريقيا الشرقية، ورغب في إنشاء مصانع في الشمال، وفي جنوب سواكن، وإنشاء سكة حديدية بين سواكن وبربر لفتح السودان لتجارة أوربا.
وقد وصفت جريدة «التيمس» في مقال رئيسي لها في ٣ يونية سنة ١٨٨٧ الثروة الطبيعية في السودان، وألقى الماركيز سالسبوري خطابًا في تأييد إنشاء شركة استعمارية أنشأها سير ويليام ماكنسون سنة ١٨٨٥، وجعل دائرة عملها من تجاه جزيرة بمبا إلى شمال زنزبار إلى بحيرة فيكتوريا نيانزا محاذية الحدود المصرية …
وفي الوثائق المصرية المحفوظة بقصر عابدين مذكرة كتبها إلى الخديوي بتاريخ ٢١ أكتوبر سنة ١٨٧٦ رئيس أركان حرب الجيش، عن طريق رئيسه الكولونيل ستون باشا، يقول فيها: «إن مركز الجنرال غوردون — طبقًا للكتب الواردة والأخبار التي وصلت من أوربا عن خطط الإنجليز وغيرهم فيما يتعلق بإفريقيا الوسطى — تدل على خطورة، وعلى وجوب العمل السريع، وأن التأخير قد يترتب عليه زوال السيادة المصرية من أقاليم خط الاستواء»، ونصح بأن تكون بحيرة فيكتوريا بحيرة مصرية كما أصبحت بحيرة ألبرت، وبوجوب إخضاع الملك أمتيسة الذي يضم بلادًا إلى مملكته ويجمع الأسلحة، وقال: «إن أعضاء البعثات التبشيرية يسيرون نحو بحيرة فيكتوريا على باخرة، تؤيدهم الكنيسة، ولا ينقصهم المال أو الموظفين اللازمين.»
وثائق عن تطور السياسية البريطانية
نحن لا نريد أن تكون مصر لنا، إنما نريد أن نتعامل تجاريًّا مع مصر، وأن نسوح بها، ولكننا لا نريد حمل عبء الحكم بمصر، فلنسعَ لرقي هذه البلاد «أي مصر وتونس ومراكش» بما يكون لتجارتنا من النفوذ، ولكن لنجتنب شن حرب صليبية للفتح؛ فإن ذلك يستنزل علينا حكم الإجرام في الأمم المتمدينة.
وكان ذلك ردًّا على اقتراح لنابليون الثالث بأن تأخذ كل من فرنسا وسردينيا وبريطانيا ومراكش وتونس ومصر على الترتيب، وهذا يدل على أن سياسة بريطانيا تتغير، أو أن الإنجليز يكتمون سياستهم حتى ينكشف الموقف الغامض.
وفي سنة ١٨٧٥ لما اشترت الحكومة البريطانية أسهم مصر في شركة قناة السويس، ابتدأت الظنون تحوم حول نيَّات بريطانيا، وتوقَّع الناس تدخُّلها في الشئون المصرية إن عاجلًا أو آجلًا، وفي تلك الأثناء جاءت بعثة المستر «كيف» المالية، فأكَّدت الظنون وقوَّت الشبهات بالرغم من تصريح اللورد «دربي» «وزير خارجية بريطانيا آنئذ» بأن إرسال البعثة المالية إلى مصر يجب أن لا يفهم منه أن هناك أية رغبة في التدخل في شئون مصر الداخلية، ولما وضع المستر «كيف» تقريره عن حالة البلاد المالية، ثم جاء بعده المستر غوسن ووضع هو الآخر تقريرًا مثل تقرير صاحبه، كانت نتيجتهما صدور الأمر العالي بتأليف لجنة المراجعة «التحقيق»، فكانت مبدأ المنافسة بين إنجلترا وفرنسا.
ويقال إنه حينما اشترى «دزرائيلي» من إسماعيل باشا أسهم مصر في شركة القناة بمبلغ أربعة ملايين جنيه إسترليني، لم تكن هذه الأسهم تساوي تلك القيمة في ذاك الوقت.
وقد علَّقت جريدة «التيمس» على ذلك بقولها: «إن الجمهور في هذه البلاد «أي إنجلترا» وفي غيرها سينظر فيما يختص بهذا العمل الهام الذي قامت به الحكومة البريطانية إلى مظهره السياسي أكثر مما ينظر إلى مظهره التجاري، تظاهرًا، بل أكثر من تظاهر، أي تصريحًا بنيات وفاتحة لأعمال تجري وفق النيات، فمن المستحيل حينما نفكر في هذا الأمر أن نفرق بين مشتري أسهم قناة السويس وبين مسألة علاقات إنجلترا بمصر في المستقبل، أو المصير المقدور لمصر من الغيوم التي تلقي ظلًّا قاتمًا على الإمبراطورية التركية … فإذا حصل أن وقعت فتنة أو اعتداء من الخارج، أو فساد داخلي يؤدي إلى انهيار الإمبراطورية التركية سياسيًّا وماليًّا، قد يصبح من الضروري اتخاذ التدابير التي تضمن سلامة ذلك الجزء من ممتلكات السلطان الذي نتصل به أقرب اتصال.»