مصر والسودان
تمهيد
في سنة ٧١٥ قبل الميلاد توفي «ناستاسنن» ملك النوبة، وقليل ما يعرف عن حالة تلك البلاد وما آلت إليه بعد موته، على أن بلاد النوبة في ذلك الوقت لم تكن لتخشى بأس مصر؛ إذ كان يحكمها «أي مصر» دارا الأكبر ملك الفرس، الذي صرف همه إلى إصلاح شئون البلاد، وازدياد ثروتها، ورواج تجارتها، حتى لقَّبه الفرس «بالتاجر»، فتمكَّنت مصر بفضل مجهوده هذا من دفع ما فرضه عليها من الجزية دون عناء، ويقول الدكتور بدج المؤرخ الشهير: «إنه لا ريب في أن الذهب الذي كانت تدفعه مصر إلى «دارا» كانت تحصل عليه من «وادي العلاقي» التابع إذ ذاك لبلاد النوبة، وقد كانت القوافل تغدو وتروح في ذلك الوقت بين مصر والسودان متَّجِرة في الذهب والعاج والأبنوس، وكثيرًا ما كانت تحضر معها عددًا عظيمًا من السودانيين إلى بلاد مصر.»
هذا ما يقوله الدكتور بدج الإنجليزي عن العلاقة بين مصر والسودان في عصر لا تعرف فيه عن حالة السودان إلا النذر القليل، وكانت مصر تحت حكم أجنبي، ولكن بالرغم من هذا لم يسَعِ المؤرخ إنكار ما كان بين البلدين من متين الروابط واتصال الأواصر.
زد على ذلك ما رواه هيرودوت أشهر مؤرخي الإغريق وأعلاهم كعبًا في التاريخ القديم؛ إذ قال: «إن دارا فرض على بلاد النوبة جزية تُدفع له ذهبًا وعاجًا وعيدانًا.»
ولم تكن العلاقة بين القطرين في ذلك الوقت علاقة منافع وتجارة فقط، بل ارتبط أهلهما برابطة الدين، ويؤيد ذلك ما أثبته «هيرودوت» من أن أهل النوبة دانوا في ذلك العهد بدين أهل مصر؛ إذ يقول: «أهالي النوبة الشمالية كانوا يعبدون «أمون رع» و«أوزيريس»، وكانت عقيدتهم في هذين الإلهين عظيمة جدًّا، وكانوا يعتقدون في الأول أنه مدبِّر حروبهم، ومرشدهم إلى خير طريق لجيوشهم، فإذا ما همُّوا بحرب ولَّوا وجوههم شطره، وتوسلوا إليه ليلهمهم من أمرهم رشدًا.»
ويقول الدكتور بدج تعليقًا على هذه الحادثة: «من رواية هيرودوت هذه يتبين جليًّا أن هؤلاء المهاجرين المعروفين «بالأوتومولي» سكنوا منطقة على النيل الأبيض على مسيرة أربعة شهور جنوبي مدينة إلفنتين، أو على مسافة بضع مئات من الأميال جنوبي موقع مدينة الخرطوم الحالية، وأنهم من القبائل غير الزنجية التي سكنت الإقليم المعروف الآن بمملكة سنار.»
•••
تلك هي العلاقات التي ربطت بلاد وادي النيل بعضها ببعض بعد حكم الفراعنة، فلمَّا آلَ مُلك مصر إلى البطالسة عملوا على زيادة توثيق العُرَى بين ساكني مصر والسودان، وإحكام الرابطة بينهم، لما بينهم من متعدد المصالح الحيوية المشتركة.
وقد تجلَّى اهتمام البطالسة بأمر السودان في عهد بطليموس الثاني، الذي بدأ بإحكام صلات المودة بينه وبين ملك النوبة «أركمين أو أرجمينيس»، وازدادت التجارة بين القطرين في ذاك الوقت زيادة عظيمة بفضل سياسة بطليموس السلمية التي آثرها في ربط القطرين والاستيلاء على ينابيع ثروة السودان على سياسة القتال والفتح.
وقد كان جلُّ قصده أن يضع يده على مناجم الذهب بوادي العلاقي، ولم يكن ثمَّت من سبيل إلى ذلك إلا أن يبسط سلطانه على وادي النيل حتى «الدكة» جنوبًا، ولم يكن الإقليم الواقع بين «عمارة» و«الدكة» خاضعًا لملك ما، في ذلك العصر، «ويبلغ طوله ١٣٠ ميلًا»، وقد روى مؤرخو اليونان أن البطالسة بسطوا نفوذهم في ذلك الإقليم على مدى نحو مائة ميل.
ولم تقف مجهودات بطليموس عند هذا الحد، بل دفعه اهتمامه بأمر السودان إلى إرسال بعثة برية بالطريق الذي تبعه سلفه من الملوك، ولمَّا لم تأتِ البعثة بفائدة كبيرة ولَّى وجهه شطر المرافئ البحرية القريبة من جنوبي السودان؛ ليتخذ منها طريقًا للتجارة مع تلك البلاد، «وما تلك المرافئ إلا الملحقات التي يطالب بها الحزب الوطني.»
•••
وقد ذكر المؤرخون بحقٍّ أن الملك بطليموس في مصر كان مؤيَّدًا، وخضعت له بلاد السودان خضوعًا تامًّا، ودانت له رقاب بلاد حملة الرماح والقسي، ويؤيد هذا الرأي الدكتور بدج أمين القسم المصري بالمتحف البريطاني.
وفي السنوات الأخيرة من حكم بطليموس الرابع أرسل بعثات كثيرة عن طريق موانئ البحر الأحمر لقنص الفيلة التي كانوا يستعينون بها في الحروب، وقد أصلح بناء معبد الدكة «بالنوبة» الذي بناه «أركمين» ملك النوبة.
قد ساد السلام العلاقات بين مصر والسودان طول عهد البطالسة، وراجت التجارة بين البلدين، وكانت القوافل لا ينقطع لها سير دون عقبة في سبيلها، إلا ما كان من سطو بعض قطَّاع الطرق، والضرائب الباهظة التي كان يطلبها أحيانًا حكام المدن التي كانت تُعرض فيها تلك السلع للبيع.
مما سبق ذكره يتبين جليًّا أن العلاقات بين مصر والسودان في العصر البطلسي لم تكن بأوهى منها في العصر السابق، زد على ذلك أن العنصرين قد ارتبطا برابطة الدين، فقد تديَّن أهل النوبة آلهة مصر، حتى إن «أركمين» ملكهم معاصر بطليموس الرابع لقَّب نفسه «طنانخ آمن تع رع»، نسبة إلى إله مصر «آمن رع»، وسمَّى نفسه «ابن رع وحبيب إيزيس».