السودان في العصر الروماني
كان أول حكام الرومان بمصر «كورنيليوس جاليوس»، وقد قام بخدمات جليلة لسيده الأمير الإمبراطور أغسطوس، فبعد أن استولى على مدينة «هيروبوليس» تابع تقدُّمه في مصر العليا حتى خضع له جميع أهل مصر، وقد كانت مدينة «قفط» و«طيبة» مركزَي القلاقل والثورة، يساعدهما أهل النوبة ممَّن يقيمون جنوبي الشلال الأول، فلمَّا أخضعها «كورنيليوس» سار بجنوده حتى «أسوان»، ودعا رؤساء النوبيين الذي كانوا يقيمون قريبًا من «الفيلة» جنوبي وادي حلفا، فأفهمهم ما «لروما» من الحقوق في تلك المنطقة من وادي النيل، وترك لهم أن يحتفظوا باستقلالهم، فظل أهل النوبة في السنوات الأخيرة من حكم البطالسة على سلام وأمان مع مصر.
فلمَّا علم أهل النوبة بانتقال حاكم مصر شرقًا، وأن عددًا عظيمًا من جنوده شغله قتال العرب، انتهزوا تلك الفرصة وغزوا «طيبة»، وهجموا على الحامية التي كانت قريبة من «أسوان»، واستولوا عليها، وانتزعوا تماثيل قيصر. فلمَّا علم الرومان بأمر هذه الثورة الرهيبة أرسلوا حاكم مصر «بترونيوس» الذي كان قد عُيِّن حديثًا على رأس جيش يبلغ عدده عشرة آلاف من الجنود الراجلة، وثمانمائة من الراكبة لمقاتلة العدو الذي كان يبلغ عدد جيشه نحو ٣٠٠٠٠ جندي، فاضطر النوبيون إلى الرجوع؛ إما طردًا أو انسحابًا، إلى مدينة «بسلسيس؛ أي: الدكة» الحالية، وهناك بدأ «بترونيوس» قتالهم، فأرسل مندوبيه ليطلبوا من النوبيين إرجاع من غنموه وحملوه في غزوهم، وإبداء ما حملهم على الثورة، فأجاب النوبيون بأن ذلك يرجع إلى سوء معاملة «الملوك» لهم، فأجابهم بترونيوس «بأنهم ما كانوا قط سادة بلاد سيدها قيصر»، فطلب النوبيون مهلة ثلاثة أيام، ولما لم يبدوا شيئًا في هذه المدة هاجمهم «بترونيوس»، واضطرهم للقتال.
وقد كانت العاقبة وخيمة على النوبيين الذين لم تعضهم دروعهم ورماحهم وقسيهم وسيوفهم عن قلة ضباطهم وسلاحهم، فولَّوا الأدبار؛ فريقًا إلى المدينة، وفريقًا إلى الصحراء، وآخر عبر النهر إلى جزيرة صغيرة في النيل، وكان من بين الغادين قواد «كانداس» ملكة النوبة، فتبعهم «بترونيوس» في السفن وقبض عليهم، وأرسلهم إلى الإسكندرية، وقد هلك معظم النوبيين قتلًا أو أسرًا، وتابع «بترونيوس» تقدمه جنوبًا من مدينة الدكة حتى أريم عابرًا في طريقه التلال الرملية — التي هلك بالقرب منها جيش «قمبيز» بعاصفة شديدة — فاستولى على «أريم» دون عناء، وتابع السير في النهر نحو خمسمائة ميل حتى «نبته» عاصمة الجزيرة المروية القديمة، واستولى في طريقه على المدن المهمة.
وقبل أن تتمكن من الاستيلاء عليها عاد «بترونيوس» إليها، فاضطرت الملكة إلى إرسال رسلها بقصد الصلح، فأحالهم على «قيصر»، ولما أنبأه بأنهم لا يعرفون من هو ولا أين يقيم، أرسل معهم بعضًا من رجاله إلى «قيصر» في «ساموس»، وهناك حصلوا منه على كل ما طلبوا، حتى إن قيصر رفع الجزية التي كان قد ضربها عليهم.
وقد أثبتت غزوة «بترونيوس» هذه لأهل النوبة أن حكومة مصر إذ ذاك لا تؤمن عاقبة الثورة عليها «كما تحقق الدراويش ذلك بعد ثورتهم»، واعتبروا بما ألقاه عليهم بترونيوس من الدروس التأديبية، فقد أتاهم بخيله ورجاله، وحمل عليهم بشدة، وقوض أركان حاضرة ملكهم، وأرسل عددًا عظيمًا منهم إلى الإسكندرية حيث باعهم، ثم حمل ما وصلت إليه يداه من الغنائم.
ولقد جاء فيما رواه «بلين» عن تلك البلاد أنها كانت بلادًا ذات بأس وشهرة أيام حكم ملكها «ممنون»، ولكنها لم تكن في الواقع إلا ولاية مصرية، وكانت جديرة بهذا الوصف؛ إذ كثيرًا ما تولَّى زمامها حكام مصريون.
وفي عهد حكم أغسطوس بُدئ ببناء معبد «الكلبشة»، وزيد في معبدي «دندرة والدكة»، وفي حكم «كاديوس» «٤١–٥٤م» قام الرومان بمشروعات كثيرة؛ كتوطيد ترويج التجارة بين بلاد العرب والهند ومصر، وفكر «نيرون» في غزو إيتيوبيا «أي: السودان، لا الحبشة» بقصد وضع يده على حاصلات البلاد، ومن العجيب أن الروم حتى في ذاك الوقت لم يعلموا إلا النذر من جغرافية بلاد السودان، وإلا لأدركوا أن أثمن ثروة البلاد كائنة في دارفور وكردفان والأقاليم حول النيلين الأبيض والأزرق وبينهما، فقد أرسل «نيرون» قبل أن يقوم «بغزو النوبة» بعض ضباطه مع بعض الجنود ليرودوا البلاد، ويرفعوا إليه تقريرًا بحالتها، إلا أنهم عادوا منبئين بأن ليس على ضفاف النيل إلا أرض بلقع.
على أن ما عادوا به من المعلومات عن بلاد السودان لا تخلو من أهمية؛ فقد مروا ببلاد عديدة حتى مدينة «مروى»، وتابعوا السير حتى وصلوا إلى منطقة قالوا عنها إنهم رأوا الصخور فيها تعترض النهر حيث يندفع بقوة هائلة. ويؤخذ مما رووه: «أنهم وصلوا إلى إقليم تغمره مستنقعات عظيمة قد نبتت فيها أعشاب كثيفة جعلت الملاحة مستحيلة في تلك المنطقة»، ولو قارنَّا بين ما وصفوا به منطقة المستنقعات التي وصلوا إليها وبين ما وصف به «السير وليم جارستن» مستنقعات بحر الجبل لما خامرنا الشك في أنهم وصلوا إلى جزء من وادي النيل يخترقه هذا البحر، «بحر الجبل»، وإننا نأسف مع الدكتور بدج الأثري الإنكليزي الشهير؛ لأن كثيرًا من التفاصيل التي ذكرتها البعثة الرومانية الكشافة لم يصل إلينا، ولكن لا جدال في أن ما ذكروه من أوصاف منطقة المستنقعات لم تُبنَ إلا على مشاهدتهم الشخصية.
ومن سنة ٥٤ حتى سنة ٢٦٠م لم يلقَ الرومان متاعب تذكر من جانب النوبيين الذين رضوا بأن يتركوا أسياد المنطقة من أبريم الجنوبية.
وفي أوائل حكم دقلديانوس «٢٨٤–٣٠٥م» ازداد نشاط «البجة»، وتكررت غزواتهم واعتداؤهم على جنوب مصر، ورأى دقلديانوس أن لا قِبَل له على قمعهم وردِّ عاديتهم، على الرغم من تعزيزه لحامية أسوان وإقامة غيرها في كثير من المدن القريبة منها، ولم يكن في ذلك الوقت قادرًا على إرسال جيش إلى بلاد السودان ليكسر من شوكة تلك القبائل وينزل بها شر الهزائم، فاستقر به الرأي على سحب تلك الحاميات، وأن يعهد بحماية مصر العليا ورد عادية «البجة» إلى قبيلة «نباكا»، وهي قبيلة ذات بأس سكنت الصحراء الغربية، يرجع أصلها غالبًا إلى دارفور وكردفان، وامتدت حتى الواحة الخارجة، وقد كان بيدها تجارة جنوب السودان كلها، وكان لأهلها من البأس والخشونة وصولة القتال ما جعلهم خير أنداد لأهل البجة، وهم سلالة قبائل «منيتو» أو «البقارة» الذين ألقوا الرعب في قلوب فراعنة مصر، فأقطعهم دقلديانوس أرضًا واسعة ورتَّب لهم مالًا كثيرًا سنويًّا في مقابل حراستهم لبلاد مصر، ورد عادية البجة عن مدنها وأهلها، وفي الوقت نفسه عقد مع البجة اتفاقًا بأن يدفع لهم مبلغًا سنويًّا نظير كفِّهم عن الاعتداء على مدن مصر العليا.
ولما تمَّ ذلك شيَّد حصنًا على جزيرة قريبة من «الفيلة»، وأقام فيه معبدًا ليجتمع فيه الرومان وأهل تلك القبائل؛ ليسووا ما بينهم من الخلاف حبيًّا، ويجددوا عهود الولاء ومواثيق الوفاء على أيدي قساوس من الفريقين.
كان أهل البجة وأمثالها يعبدون في «فيلة» الآلهة إيزيس وأوزيريس وبرباوس وغيرهم، وكان من عادات البجة أنهم يقدِّمون الرجال قربانًا للشمس.
وقد كانت سياسة دقلديانوس هذه هي السياسة الطبيعية الحكيمة في تلك الظروف، وهو أول حاكم لمصر أدرك بدهائه ورجاحة عقله أن خير سبيل للاطمئنان على أرض مصر من غزو أهل الجنوب هو بإيغار صدور قبائل الغرب على قبائل الشرق، ومبالغ يسيرة يدفعها سنويًّا لتلك القبائل.
وقد خيَّم السلم على مصر العليا، ووفت تلك القبائل بعهودها نحو مائة سنة، إلا أن البجة حنثوا بعهودهم في أواخر ثيودوسيوس الثاني «٤٠٨–٤٥٠م»، وقاموا في وجه نبته، وغزوا مصر العليا، واستولوا على الواحة الخارجة، وهزموا من كان فيها من جنود الرومان.
وفي حكم الإمبراطور ماركيانوس «٤٥٠–٤٥٧م» جمع ماكسيمانوس، القائد العام للرومان بمصر، جيشًا جرارًا وسار به جنوبًا حتى حلَّ بأرض البجة و«نبته»، فمزَّق جموعهم ونكل بهم، وأرغمهم على ردِّ من كان لديهم من أسرى، وفرض عليهم غرامة جسيمة، وزَّعها على من حلَّ بهم أذاهم وأصابهم اعتداؤهم، وحتَّم عليهم تقديم رهائن لضمان حسن سلوكهم مستقبلًا، وأن يتعهدوا بالتزام جانب السكينة والسلم مائة سنة، فرضوا بذلك كله مقابل مطلب واحد عجيب، ذي معنى عظيم، وهو «أن يسمح لهم بالحج إلى معبد إيزيس بفيلة، وباستعارة تماثيلها من آنٍ لآخر؛ ليتوسلوا إليها أن تمدَّهم برحمتها وتشملهم بنعيمها»، فكان لهم من ماكسيمانوس ما أرادوا، وساد السلام بين الرومان وقبائل السودان طول حياته، ولكنهم ما لبثوا بعد موت ماكسيمانوس أن اتحدوا وسووا بينهم من الخلف، وغزوا بلاد مصر، واستردوا رهائنهم، ولكن فلوروس حاكم الإسكندرية أسرع إليهم وأخمد ثورتهم، وجدد البجة ونبته المواثيق عاملين باتفاقهم السابق.
وفي أواخر حكم جستنيانوس الأول «٥٢٧–٥٦٥م» انتهى أجل اتفاقية ماكسيمانوس، ويظهر أن تلك القبائل فكرت في مناوأة مصر، ولو أنه لا يوجد ما يدل على عزمهم على ذلك، ومهما يكن من أمرهم فإن جستنيان صاحب التشريع الروماني صبَّ عليهم جام غضبه؛ فبدأ بإغلاق معبد إيزيس وما حوله بفيله لاعتقاده أن وجوده يجعل تلك المنطقة مركزًا للدسائس والفتن، وأن لا مفر من ذلك ما دام لقبائل البجة ونبته حق الدخول إلى بلاد مصر بدعوى الحج إلى ذلك المعبد، فأمر بإغلاق المعبد، وحرَّم عبادة إيزيس، وحمل ما كان بالمعبد من التماثيل إلى القسطنطينية، وزجَّ قساوسته في أعماق السجون.
وقد عادت قبائل السودان إلى مناوأة مصر أيام حكم تيبيريوس الثاني «٥٧٨–٥٨٢م»، ولكن قائد جيوش الرومان بمصر أخضع ثائرتهم، ولم يروَ شيء مدة قرن بعد ذلك التاريخ؛ إذ شغل الرومان برد عادية الفرس، وتركوا قبائل الغرب والشرق تحكم نفسها بنفسها كما شاءت.