تاريخ النوبة
تقع بلاد النوبة فيما بين الشلال الأول والرابع، وقد أطلق عليها التاريخ أسماء كثيرة، فهي في التوراة بلاد الكوش، وكوش هذا — فيما تقول التوراة — هو جدُّ النوبيين، وأخو «مصرايم» جدِّ المصريين، وكلاهما من حام بن نوح. وأطلق عليها الإغريق اسم إيتيوبيا، ومعناه الوجه شديد السمرة، ويطلق هذا الاسم الآن على بلاد الحبشة.
أما اسم النوبة، فهو — فيما يقال — نسبة إلى كلمة نب، ومعناها في اللغة النوبية: الذهب، أي: بلاد النوبة هي بلاد الذهب، ولوفرة هذا المعدن في صحاريها.
وكان يسكن هذه البلاد قوم يجتمعون في نسبهم بقدماء المصريين، حتى ليذهب المؤرخ ديودور إلى القول بأن أصل المصريين جالية نوبية نزحت من الجنوب، ويؤيده في ذلك أن موتى المصريين — قبل عصور التاريخ — كانت تُدفن ورءوسها متجهة نحو الجنوب، وأن البخور كان يستعمل في العبادة المصرية منذ القدم، وما كان ذلك ممكنًا لو لم يكن المصريون قد جاءوا من الجنوب، وأن أشهر آلهة مصر من النوبة، مثل: أوزيريس الذي أنقذ مصر من الهمجية، وعلَّم أهلها الزراعة، ووضع لهم الشرائع، وشيَّد المباني في طيبة. ومثل زوجته إيزيس التي أخرجتهم من الوحشية، وصرفتهم عن أكل لحوم البشر، وعلَّمتهم قواعد الزواج الشرعي، وكذلك ابنهما حورس رب الوطنية والفروسية، الذي طهَّر مصر من آلهة الشر والفساد.
ويذهب آخرون إلى أن النوبيين نزحوا قديمًا من مصر إلى الجنوب، وحملوا معهم بذور الحضارة والعقائد المصرية، ويستدلُّ هؤلاء على ذلك بأن النوبيين كانت لهم حضارة قديمة، لا تختلف كثيرًا عن حضارة المصريين، كما أن الإله المصري أمون كان مقدسًا عندهم في نبته ومروى.
أما قبائل النوبة التي تقطن بين الزنوج جنوب كردفان، فإنها لا تمت إلى الزنوج بصلة، وإنما وُجدت هنالك منذ القدم، فرارًا من التصادم بالموجات البشرية القوية التي تدفَّقت إلى تلك البلاد، ولا تزال هذه القبائل في مستوى أرقى من الزنوج، وتمتاز عنهم في تكوين الجسم والطباع.
وهناك عنصر حامي لم يختلط بالزنوج، كالنوبة، وهو المعروف بقبائل البجة، بل ظل محافظًا على بداوته في الصحراء، بينما كان العنصر النوبي يعيش على ضفاف النيل.
ولما جاء الفتح الإسلامي تدفقت سيول القبائل العربية إلى تلك البلاد؛ لانتجاع الرزق واستغلال مناجم الذهب، فاختلطت دماء النوبيين والبجة بدماء العرب، ونزلت هنالك بعض قبائل البربر، ثم جاء الفتح التركي بعنصر آخر، حتى صار النوبيون الآن خليطًا من عدة عناصر، أهمها: العربي، فالتركي، فالبربري، فالنوبي.
(١) مصر والنوبة
ويرتبط تاريخ النوبة ارتباطًا وثيقًا بتاريخ مصر، حتى ليصح القول بأن كلًّا منهما متمِّم للآخر؛ فإن وحدة الأصل والوطن والدين قد أحكمت بينهما أواصر القربى والجوار، فإذا هما شعب واحد في آماله وآلامه، على الرغم من اختلاف الإقليم والمناخ.
وللتاريخ النوبي أطوار عدة تبدأ منذ فجر التاريخ، حيث عهد البداوة والقبلية في النوبة، وبدء الحضارة والملكية في مصر، وفي هذا الطور قامت مصر بكثير من الحملات التجارية والحربية في بلاد النوبة، وبذل ملوكها جهودًا متوالية في فتح الطرق البحرية بين الجنادل، وإخضاع القبائل النوبية المجاورة التي كثيرًا ما كانت تُغِير على الحدود المصرية.
وكان من آثار ذلك نمو العلاقات بين مصر والنوبة، وتبادل المنافع والدماء، فقد غزا سنوفرو، آخر ملوك الأسرة الثالثة، بلاد النوبة، ثم توغل في الجنوب وعاد ومعه سبعة آلاف أسير من الزنوج والنوبة، ومائتا ألف رأس من الماشية، واستخدم هؤلاء الأسرى في استثمار مناجم الفيروز بطور سيناء، أو في تشييد قبره بدهشور، وبناء هرمه في ميدوم، واستطاع بيبي الأول أحد ملوك الأسرة السادسة — بعد أن بسط نفوذه على شمال النوبة — أن يجنِّد منها جيشًا هَزم به أمراء الوجه البحري.
ولما سهلت المواصلات بين مصر والنوبة، هاجر كثير من المصريين إلى تلك البلاد؛ للبحث عن مناجم الذهب، أو فرارًا من ظلم الولاة، فدخلت بلاد النوبة في طور جديد، ونمت فيها بذور الحضارة المصرية، وازدادت عناية الفراعنة باستعمارها، فأقام ملوك الدولة الوسطى هنالك الحصون والقلاع؛ للسيطرة عليها وتأمين الطريق.
وفي عهد الدولة الجديدة، تم الاستيلاء على تلك البلاد، وامتزج بها الدم المصري، وانتشرت المدنية المصرية، ثم استقلت النوبة عن مصر، وقامت فيها مملكة قوية عاصمتها «نبته» على مقربة من الشلال الرابع، بسطت سلطانها على مصر فيما بعد.
وقد أسفرت هذه الأطوار عن إيجاد رابطة قوية بين مصر والنوبة، فإن مملكة «نبته» لم تقم إلا على أساس الحضارة المصرية، وبرعاية كهنة أمون الذين هاجروا إليها بعد سقوط طيبة، كما أن أحمس أول ملوك الأسرة الثامنة عشرة تزوَّج بابنة ملك النوبة على عهده، فأمدَّه هذا الملك بجيش نوبي استطاع أن يطرد به الرعاة من مصر، وتزوج كاتشا ملك النوبة بابنة كاهن مصري، فأنجبت له بعض ملوك الأسرة الخامسة والعشرين.
ثم اضمحلت مملكة «نباتا» بعد سقوط هذه الأسرة، واستقلت كل من مصر والنوبة، وتعاقب على مصر الفرس والبطالسة والرومان، وقامت في النوبة مملكة مروى، فنالت في التاريخ شهرة واسعة لم تنلها نبته من قبل، وبعد أن زالت مملكة مروى ظهرت في النوبة ممالك أخرى، أشهرها: مملكة النوبة السفلى، من الشلال الأول إلى الرابع، وعاصمتها دنقلة العجوز، ومملكة علوة، من الشلال الرابع إلى أعالي سنار، وعاصمتها سوبة على النيل الأزرق، ومملكة أكسوم، وهي المعروفة الآن بالحبشة.
وحوالي القرن السادس الميلادي كانت المسيحية قد انتشرت في تلك البلاد، ولم يبقَ على الوثنية إلا قبائل البجة، وكان الإسلام إذ ذاك قد دخل مصر، وأحاط المسلمون ببلاد النوبة من الشمال والشرق، وكان لهم مع نصارى النوبة ووثنيي البجة وقائع كثيرة كانت تفرض فيها الجزية، وقلَّما تؤدى، حتى انتمى النوبيون إلى الإسلام حوالي القرن الثامن الهجري.
وقامت في المهاجر العربية في بلاد النوبة ممالك صغيرة، مثل: مملكة الشايقية، والدفار، ودنقلة، والحندق، وأرقو، وكانت على صغرها ذات بأس وقوة، حتى إن ملوك الشايقية كثيرًا ما كانوا يغزون ممالك النوبة ويفرضون عليها الجزية، ثم انقسمت بلاد النوبة بعد ذلك بين الفونج في الجنوب والكشاف في الشمال، حتى جاء الفتح المصري الأخير، فعادت كلها تابعة لمصر.
وقد ظهرت الحضارة هنالك منذ أربعة آلاف سنة، ثم أخذت تنمو وتزدهر وتصطبغ بالصبغة الفرعونية، حتى بلغت شأوًا بعيدًا في الدين والسياسة والفنون، فقامت هناك الأهرام والمعابد، وارتقت الفنون والصناعات، وانبسط سلطان النوبة على وادي النيل.
وقد وفِّقت هذه البعوث إلى كثير مما ترجوه، واستطاعت أن تجمع صورًا قيِّمة لتلك الحضارة؛ أهمها ما يختص بالعصر المروي، وهي بلا شك ثروة جديدة تضاف إلى نفائس التاريخ.
ولعل أقدم هذه الآثار ما وُجد في مقابر عنيبة، ويرجع تاريخها إلى ألفي سنة قبل الميلاد؛ منها مائتا آنية من الخزف والفخار، محفور عليها نقوش بديعة ملونة، وفي هذه المقابر أيضًا تماثيل صغيرة، كانت توضع مع الميت لتنوب عنه في أداء الأعمال الشاقة في الحياة الأخرى، وهذا لون من العقائد المصرية القديمة.
وهذه المقابر خاصة بطبقة الملوك والأشراف، يُلبِسونهم التاج والحلي والسلاح، ويزوِّدونهم بالطعام والشراب، ويُودِعون قبر الملك تحفه الخاصة، ثم يشنق العبيد أنفسهم لديه، وتطهَّم خيوله حيث تُقتل داخل القبر؛ ليكون الجميع في خدمته في الحياة الأخرى!
وقد روى هيرودوت أن النوبيين كانوا يحنِّطون الميت، ويطلون جسده بالجصِّ، ويدهنونه بمادة تجعله قريب الشبه بالحياة، ثم يوضع في أسطوانة من البلُّور؛ بحيث يُرى الميت ولا تنبعث منه رائحة الموت، وتُحفظ هذه الأسطوانة لدى أقارب الميت سنة كاملة، يقدَّم له في خلالها الذبائح وبواكير كل شيء، حتى ينتهي العام فتُنقل هذه الأسطوانة إلى المقابر.
(٢) مملكة نبته أو نباطا وملوك النوبة في مصر
ومن المحقق أنه نشأت ممالك بالنوبة، ولكن تاريخها غامض، وقد ثبت أن الملك أحمس أول ملوك الأسرة الثامنة عشرة قد استعان بملك النوبة على الرعاة الذين أرهقوا المصريين أكثر من ستمائة عام «٢٢١٤–١٦٠٠ق.م»، حتى تشتَّت كثير منهم في بلاد النوبة، وأسسوا فيها مهاجر كثيرة، وأمدَّه هذا الملك بجيش نوبي طرد به هؤلاء الرعاة من مصر.
ومن ملوك «نبته» قامت الأسرة الخامسة والعشرون «٧١٥–٦٦٤ق.م»، ولا يزال باقيًا من آثار هذه المملكة بعض المعابد والأهرام، فهناك — عدا المعابد — ثلاثة عشر هرمًا في جبل البرقل، وخمسة وعشرون تجاهه في نوري عند الشلال الرابع، وهي مبنية من الحجر الرملي على هيئة أهرام مصر إلا أنها أصغر منها حجمًا، وفي واجهة كل هرم إيوان كأواوين المعابد المصرية.
وقد استولى النوبيون على الصعيد، وانقسم الوجه البحري إلى عشرين ولاية بعضها مستقل عن بعض، وكان على ولاية سايس أمير قوي «تفنخت»، طمع في ضم الولايات الأخرى إليه، فاستعان على ذلك بجنود نوبية حارب بها الأمراء حتى تغلب عليهم، وتم استيلاؤه على مصر السفلى، فعُدَّ مؤسِّسًا للأسرة الرابعة والعشرين.
وقد أبقى «بيعنخي» لأمراء مصر امتيازاتهم، وأقام عليهم «تفنخت» ملكًا من قِبَله بعد أن أُخضع وتاب، ثم عاد إلى عاصمة ملكه ظافرًا منصورًا.
ولما توفي الملك «بيعنخي» خلفه الملك «كاتشا»، ولم يكن من أسرة ملكية، وإنما كان متزوجًا من ابنة كاهن مصري؛ ولذلك انقض عليه «تفنخت» وأجلى جنوده عن مصر، ثم توفي «تفنخت» وخلفه ابنه باكوريس، وكان قوي الإرادة، فاتخذ خطة أبيه، وجرَّد الأمراء من سلطانهم، وصار ملكًا مستقلًّا على مصر، وفي أثناء ذلك مات «كاتشا» ملك النوبة، وخلفه ابنه «شبكا»، فتوجه إلى مصر لقتال «باكوريس»، واستعان عليه بأمرائها الذين يبغضونه، وشاء القدر أن يقع «باكوريس» في قبضته بمدينة تانيس، فألقاه حيًّا في النار! وعادت مصر تابعة لملك النوبة.
ويعد الملك «شبكا» مؤسِّسًا للأسرة الخامسة والعشرين، وكان ملكًا عادلًا محِبًّا للإصلاح، فشاد الجسور، وحفر الترع، وأصلح بعض المدن والمعابد المصرية، وجعل الأشغال الشاقة بدلًا من عقوبة الإعدام، ونظَّم الإدارة المصرية، فجعل على كل إقليم رئيسًا تحت إشراف أمراء من النوبة، وأقام أخته الأميرة «أمنرتيس» حاكمًا على طيبة.
(٣) مملكة مروى في عهد الرومان
تاريخ المملكة
ظهرت بعد دولة «نبته» أو «نباطا» مملكة «مروى» في الجنوب، و«مروى» هذه غير البلدة المعروفة الآن بهذا الاسم، فإن الأولى كانت تقوم قرب شندى، ولم يبقَ منها اليوم إلا أطلال دارسة، أما الأخرى، فتقع قرب آثار مدينة نباطا القديمة، وبين هذه وتلك طريق في الصحراء يبلغ طوله ١٨٠ ميلًا، وفي بداية الأسرة السادسة والعشرين في مصر، أنشأ الملك «إبسمتيك» حاميات قوية لحدود الدولة في جزيرة إلفنتين عند أسوان، وكان لهذا الملك جيش قوي من الإغريق، واغتاظ الجند المصريون وفرُّوا إلى النوبة، وانضموا إلى ملك «مروى»، فضم بعض القبائل النوبية إليه.
وكانت «مروى» معاصرة للفرس والبطالسة والرومان، ولها وقائع مع هؤلاء جميعًا، وكان سلطانها يمتد من الشلال الأول إلى الحبشة، وآثارها تلي آثار نباطا في القدم وتفوقها في الأهمية، من بينها هيكل للإله أمون، ومجموعة من الأهرام يبلغ عددها ثمانين هرمًا، وفي جزيرة مروى بركة يملؤها ماء الأمطار، وحولها آثار هياكل فخمة، وبين هذه البركة ومدينة شندى آثار هيكل يبلغ محيطه ألف ياردة، ولملوك مروى آثار في نباطا نفسها، وهيكل قائم في بلدة عمارة جنوبي الشلال الثاني بنحو مائة ميل، في دكة ودبود من النوبة السفلى.
وقد نهضت مملكة مروى حتى قيل إنها كانت تجهز للحرب جيشًا مؤلَّفًا من مائتين وخمسين ألف مقاتل، وكان فيها أربعمائة صانع، وأن للمرأة في عهدها رقيًّا وسيادة، فكان أكثر ملوكها نساء، ولقد عجز قمبيز عن غزو المملكة.
وفي عهد البطالسة، استولوا على جزء من النوبة السفلى حتى بلدة المحرقة، وكان الملك أرجيمنس ملك مروى معاصرًا لبطليموس الثاني «٢٨٥–٢٤٧ق.ب»، وقد حوَّر هذا الملك في الديانة النوبية، وأدخل في مملكته كثيرًا من النظم والقوانين الإغريقية، ومن آثاره: هيكل في دكة، أقامه على أطلال من عهد الأسرة الثانية عشرة، وأتمَّه البطالسة من بعده.
واشتهر في مروى بعده الملك «أذخر أمون»، وله في دبود هيكل صغير لا يزال قائمًا إلى اليوم.
وقد أرسل الإمبراطور الروماني أغسطوس قيصر، حوالي عام ٢٣ قبل الميلاد، حملة من مصر لغزو بلاد العرب، وكان على مروى في ذلك العهد ملكة تلقب بكنداكة — وهو لقب الملكات اللواتي تولين الحكم في مروى، وفتحت الصعيد، وقد هزمها النائب الروماني بترنيوس بجيش مؤلَّف من عشرة آلاف وثمانمائة فارس، فتقهقرت أمامه حتى أدركها قرب دكة، وطلب منها رد الأسرى والغنائم، فلم تجبه إلى ذلك، فحمل عليها حملة قاسية شتَّت جيشها، ففرَّت منهزمة أمامه شرَّ هزيمة، وامتنعت في قلعة قرب الشلال الرابع حتى استولى على حامية أبريم، ودمر نباطا، وقد قبلت كنداكة الصلح.
وظلت المحرقة حدًّا فاصلًا بين مصر والنوبة إلى عهد الإمبراطور الروماني ديوقليشيان «٢٨٤–٣٢٣ب.م»، حيث رأى أن خراج هذه المنطقة، فيما بين المحرقة وأسوان، لا يفي بنفقات الجنود اللازمة لجمعه، فنزل عنها للنوبيين، وأعاد الحدود المصرية إلى أسوان، ثم قوَّى حامية إلفنتين، وعقد مع النوبة والبجة معاهدة على حفظ الحدود، ظلت قائمة إلى عهد الإمبراطور مارشيان، حيث نقضها النوبيون وغزوا مصر العليا، وجلبوا منها كثيرًا من الأسرى والغنائم، فغزاهم القائد مكسيمينوس محافظ طيبة عام ٤٥١ للميلاد، وتغلب على النوبة والبجة معًا.
وما زال الرومان يعاملونهم بالحسنى حتى قام الإمبراطور جستنيان «٥١٧–٥٦٦ب.م» فأغلظ معاملتهم، وأمر نرفس قائد حامية بيلاق فعطَّل الهياكل، وسجن الكهنة، وأرسل تماثيل الآلهة إلى القسطنطينية، ولما زار المؤرخ إسترابون هذه الجزيرة، وجد أهلها من مصريين ونوبيين يعبدون صقرًا كبيرًا يؤتى به من النوبة، ولعل القبلة القائمة في الخلوة المقدسة كانت محلًّا لهذا المعبود.
وفي الجزيرة من آثار العهد المسيحي أطلال كنيسة لمارية العذراء، وأخرى للبطريق ماري أناطس، وكان فيها جامع ذو منارة لم يبقَ من آثاره الآن شيء، وقد كانت هذه الجزيرة أولى ضحايا خزان أسوان، يطغى عليها ماؤه أشهر الشتاء من كل عام، فتبدو في ذلك المنظر الرائع، وهي تصارع الفناء وتصمد له، حتى ينحسر عنها الماء أشهر الصيف، وقد ترك على معابدها أثر هذا الصراع الطويل.
وقد أنشأ رمسيس الأكبر معبد أبي سنبل الكبير، تذكارًا لانتصاره على الحيثيين، وهو منحوت في الجبل إلى عمق ١٨٥ قدمًا، ويزين صدره أربعة تماثيل عظيمة، تَهشَّم وجه أحدها، ويبلغ ارتفاع كل منهما ٦٥ قدمًا، وعرضه ٢٥ قدمًا، وهي تمثل رمسيس الأكبر جالسًا على عرشه، ينظر إلى النيل بتلك العظمة الخالدة منذ نيف وثلاثة آلاف سنة.
ويشتمل المعبد على ردهة واسعة، فيها ثمانية أعمدة على شكل تماثيل للإله أوزيريس، ارتفاع كل منها ١٧ قدمًا، وقد زُينت جدران الردهة بكثير من الصور الحربية، وحولها غرف مشحونة بالنقوش البديعة، وفي داخل المعبد ردهة أخرى تؤدي إلى مذبح فيه أربعة تماثيل ملونة، أحدها للإله هرماخيس، وآخر لرمسيس، وثالث للإله أمون رع، ورابع للإله بتاح، ويكاد يكون هذا المعبد سجلًّا شاملًا لفتوحات رمسيس ومواقفه المشهورة، فهو يشمل على نحو ألف ومائتي صورة تنطق بمجده وعظمته؛ منها صورتان كبيرتان على جانبي الباب من الداخل، تمثله في موقف رمزي وهو قابض بيده على شعور فوج من الأسرى الجاثين أمامه من مختلف الشعوب، وبيده مقمعة وهو متحفز لسحقهم بضربة واحدة، وأمامه الإله هرماخيس يقدِّم له حسام النصر، ويتلو عليه آيات المجد والفخار، وهناك لوحة أخرى تمثل وقائعه المشهورة مع الحيثيين، وقد جاء في وصف إحداها القصة الآتية:
«في العام الخامس من حكم رمسيس الثاني، كان جلالته في أرض الشاة على مقربة من قادش، وكانت الطليعة تراقب بانتباه شديد، ولما وصل الجيش إلى شمال مدينة شبتون، جاء إلى معسكر المصريين اثنان من عيون شاسو، وادَّعيا أنهما رسولان من قبل رؤساء القبائل لإخبار الملك رمسيس بأنهم غادروا ملك الحيثيين وهجروه، رغبة في عقد محالفة مع جلالته، وأنهم أصبحوا من ذلك الحين خاضعين لحكمه، ثم استطردا في الحديث مع جلالته وأخبراه أن زعيم الحيثيين في أرض حلب، وأنه يخشى الاقتراب من ملك مصر.
والواقع أن هذين الرجلين كانا جاسوسين أرسلا لكشف موضع رمسيس واستعداده الحربي، بينما كان زعيمهم على أهبة الهجوم.
وبعد ذلك بقليل جاء كشَّاف مصري إلى حضرة الملك وأخبره أن الجيش الحيثي قد ضرب معسكره خلف قادش، وأنه أفلح في ضم وحدات ومعدات كثيرة من الأقاليم المجاورة إلى جيشه.
عند ذلك جمع رمسيس رؤساء جيشه وأطلعهم على الأمر، وأنَّب فرقة الاستطلاع على تقصيرها في كشف مواطن العدو، ثم صدرت الأوامر للجيش بالزحف على قادش، وبينما هم يعبرون في النهر إذا بالجيش الحيثي وقد أطبق عليهم، فزأر رمسيس في جنوده زأرة أبيه مانتو ملك طيبة، وأسرع فسلَّح نفسه بالسلاح الكامل، وركب عجلته وانتقل بها في صفوف الأعداء، ولم يلبث أن وجد نفسه محصورًا بين الحيثيين، ومنفصلًا عن جيشه، فدعا أباه أمون أن يعينه على أمره، واستمات في الدفاع، فتكدَّست في طريقه جثث القتلى، ثم اتخذ لنفسه نفقًا بين صفوف العدو، وهو يصليهم بسهامه القاتلة، حتى نجا من الهلاك الذي كان محدقًا به من كل جانب.
وقد كانت مقدمة هذا المعبد مطمورة بالرمال المنهالة عليه من الجبال، فأزالت الحكومة هذه الرمال، وأقامت على سطح الجبل سورًا كبيرًا لمنع انهيالها عليه مرة أخرى، وقد عُثر هناك على آثار كثيرة نقلت إلى المتحف المصري منها مجموعة من الحجر الرملي تتألَّف من مسلَّتين صغيرتين، ومذبح كانت توضع عليه القرابين، وأربعة قردة تتعبد إلى الشمس وقت الشروق ووقت الغروب، وهيكل بداخله تماثيل بعض الحيوانات المقدسة.
تاريخ المسيحية في النوبة
يبدأ تاريخ المسيحية في بلاد النوبة حوالي عام ٥٤٥ للميلاد، حيث وصل إليها رسل من الإسكندرية يدعون أهلها إلى الدين المسيحي الجديد، وقد عطَّل الإمبراطور جستنيان معابد بيلاق، وسجن كهنتها، وأرسل تماثيل آلهتها إلى القسطنطينية، وفي عام ٥٧٧ قلب الرومان هيكل الإلهة إيزيس إلى كنيسة، وأقاموا فيها مطرانًا يدعى ثيودوروس، ومن ذلك العهد أخذت المسيحية تنتشر بسرعة في بلاد النوبة حتى عمَّتها في أواخر القرن السادس للميلاد.
وقد أرسل عمرو بن العاص إلى النوبة جيشًا من عشرين ألف مقاتل بقيادة عبد الله بن سعد بن سرح، حملهم على دفع الجزية ثم عاد إلى مصر.
بسم الله الرحمن الرحيم، عهد من الأمير عبد الله بن سعد بن أبي السرح، لعظيم النوبة ولجميع أهل مملكته، عهد عقده على الكبير والصغير من النوبة، من حدِّ أرض أسوان إلى حدِّ أرض علوة.
إن عبد الله بن سعد جعل لهم أمانًا وصدقة جارية بينهم وبين المسلمين ممن جاورهم من أهل صعيد مصر وغيرهم من المسلمين وأهل الذمة: إنكم معاشر النوبة آمنون بأمان الله وأمان رسوله محمد النبي ﷺ أن لا نحاربكم، ولا ننصب لكم حربًا، ولا نغزوكم ما أقمتم على الشرائط التي بيننا وبينكم، على أن تدخلوا بلدنا مجتازين غير مقيمين فيه، وندخل بلدكم مجتازين غير مقيمين فيه، وعليكم حفظ مَن نزل ببلدكم أو بطرفه من مسلم أو معاهد حتى يخرج عنكم، وإن عليكم ردَّ آبقٍ خرج إليكم من عبيد المسلمين حتى تردوه إلى أرض الإسلام، ولا تستولوا عليه ولا تمنعوا منه، ولا تتعرَّضوا لمسلم قصده وجاوره إلى أن ينصرف عنه، وعليكم حفظ المسجد الذي ابتناه المسلمون بفناء مدينتكم، ولا تمنعوا منه مصليًا، وعليكم كنسه وإسراجه وتكريمه، وعليكم في كل سنة ثلثمائة وستون رأسًا، تدفعونها إلى إمام المسلمين من أوسط رقيق بلدكم غير المعيب، يكون فيها ذُكران وإناث، ليس فيها شيخ هرم ولا عجوز ولا طفل لم يبلغ الحلم، تدفعون ذلك إلى والي أسوان، وليس على مسلم دفع عدوٍّ عرض لكم ولا منعه عنكم، من حدِّ أرض علوة إلى أرض أسوان.
فإن أنتم آذيتم عبدًا لمسلم، أو قتلتم مسلمًا أو معاهدًا، أو تعرضتم للمسجد الذي ابتناه المسلمون بفناء مدينتكم بهدم، أو منعتم شيئًا من الثلثمائة والستين رأسًا، فقد برئتْ منكم هذه الهدنة والأمان، وعدنا نحن وأنتم على سواء حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين، بذلك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله محمد ﷺ، ولنا عليكم بذلك أعظم ما تدينون به من المسيح وذمة الحواريين، وذمة من تعظِّمونه من أهل ملتكم ودينكم، الله الشاهد بيننا وبينكم على ذلك.
وقد جرت العادة أن يكون البقط «أي: الجزية» ثلثمائة وستين رأسًا لفيء المسلمين، وأربعين رأسًا لوالي مصر، وكان الولاة يدفعون للنوبيين نظير ذلك مئات الأرادب من القمح والشعير، وكثيرًا من الهدايا والصدقات.
ولما انتقلت الخلافة من بني أمية إلى بني العباس، حوالي عام ١٣٢ﻫ، طورد الأمير عبيد الله بن مروان أمير مصر فيمن طورد من الأمويين، ففر بعبيده وأمواله إلى بلاد النوبة، ونزل في مدينة خاوية، فاستعمر بعض دورها، وأرسل إلى ملك النوبة يستجير به ويستأمنه على حياته، فقدم إليه الملك في عسكر عظيم، وتقدَّم إلى الأمير عبيد الله فقبَّل يده، فأشار إليه الأمير أن يجلس على فرش قد نضدت له، فأبى الملك إلا أن يجلس على الأرض، وقال كل ملك لا يكون متواضعًا لله فهو جبار متكبر عنيد! وأطرق الملك طويلًا ثم سأل الأمير: «كيف سُلِبتم ملكَكم وأُخذ منكم، وأنتم أقرب الناس إلى نبيكم؟
فأجاب أن الذي سلبنا ملكنا أقرب إلى نبينا منا.
فقال له: فكيف إنكم تمتُّون إلى نبيكم بقرابة وأنتم تشربون ما حُرِّم عليكم من الخمر، وتلبسون الديباج وهو محرم عليكم، ولم يفعل نبيكم شيئًا من هذا؟ وبلغنا أنك لما وُليت مصر كنت تخرج إلى الصيد، وتكلِّف أهل القرى ما لا يطيقون، كل ذلك في سبيل كركي تصيده.»
وصار ملك النوبة يعدِّد على الأمير جملة مساوئ وهو صامت لا يجيب، ثم قال له: «فلما استحللتم ما حرَّمه الله عليكم سُلِبتم ملكَكم، وأوقع الله بكم نقمة لم تبلغ غايتها منكم، وأنا أخاف على نفسي إن أنزلتك عندي أن تحلَّ بي تلك النقمة التي حلَّت بكم، فإن البلاء عام، والرحمة مخصوصة.»
ثم أمره بالرحيل عن بلاده، فعاد إلى مصر حيث قبض عليه عمال الخليفة المنصور، وبعثوا به إلى بغداد فسجن فيها إلى أن مات.
وفي عهد الدولة الأموية والدولة العباسية كان في أسوان كثير من العرب من قبائل قحطان وربيعة ومضر، وخلقٌ كثير من قريش، وكانت لهم ضياع في النوبة، فلما دخل المأمون مصر استعداه ملك النوبة على هؤلاء، وقال بأن هذه الضياع له، وأن بعض عبيده من النوبيين باعوها للمسلمين بغير حق، فأحال المأمون هذه الدعوى على والي أسوان، ورأى المسلمون أن يفسدوا على الملك محاولته، فأوصوا البائعين أن يقرروا أمام الوالي أنهم ليسوا عبيدًا للملك، وأن علاقتهم به إنما تكون كعلاقة المسلمين بملوكهم، ولمَّا جمع الوالي بينهم قرروا ذلك، فسقطت دعوى الملك، ومن ذلك العهد صار سكان تلك الضياع المجاورة لأسوان أحرارًا لا تسري عليهم شريعة ملك النوبة من حيث استعباد رعاياه، ومن ثم نشأت العداوة بين ملوك النوبة والمسلمين، فصاروا يتحيَّنون الفرص للإغارة على أسوان وبلاد الصعيد.
كانت أسوان مقر إمارة بيت كنز الدولة الذين هبطوا من الحجاز في خلافة المتوكل على الله — حوالي عام ٢٤٢ﻫ — وصاروا حكَّامًا على ذلك الإقليم من قبل الحكومة المصرية، ثم استقلوا بالحكم فترة من الزمن، وامتد نفوذهم فيها.
وفي أواخر القرن الثامن وأوائل القرن التاسع الهجري، كانت أسوان ضحية حروب طويلة بين العرب والحكومة المصرية، وبين العرب وهوارة، حتى أقفرت وصارت خرابًا بلقعًا، إلى أن استعمرت بعد الفتح العثماني من جديد.
وأشهر الغزوات التي وقعت بين مصر والنوبة في العهد المسيحي، غزوة ملك النوبة لأسوان عام ٣٤٤ﻫ / ٩٥٦م؛ حيث قَتَل وسَبى من أهلها خلقًا كثيرًا، فخرج إليه محمد بن عبد الله الخازن من قِبَل أنوجور الإخشيد، وزحف على بلاده في البر والبحر، حتى أدركه وأوقع به.
وهجم نائب ملك النوبة على أسوان عام ٣٥١ﻫ، فخرَّبها وأوقع بأهلها، وتوغل في صعيد مصر حتى مدينة أخميم، وكان ذلك عقب دخول القائد جوهر الصقلي أرض مصر، فلم يزد جوهر على أن دعا ملك النوبة إلى الإسلام وأداء ما عليه من الجزية، فلم يجبه إلى شيء من هذا، وإنما أكرم رسله وزوَّدهم بالهدايا.
وبعد سقوط الدولة الفاطمية، أراد السلطان صلاح الدين عام ٥٦٨ﻫ فتح النوبة، فجهَّز جيشًا بقيادة أخيه شمس الدولة والأمير كنز الدولة حامي أسوان، ففتح هذا الجيش بلاد النوبة إلى أبريم، ولمَّا لم يرَ صلاح الدين فائدة من الاستيلاء على تلك البلاد المجدبة، أعاد منها جيشه، وترك فيها حامية وأميرًا من الأكراد، ثم عاد فسحب هذه الحامية بعد غرق أميرها هناك، ونقضت النوبة عهدها مع صلاح الدين في عهد المماليك، فجرَّد عليها جيشًا عام ٥٧٤ﻫ أخضعها لشروطه.
وفي عام ٦٧٤ﻫ أغار داود ملك النوبة على أسوان، وأحرق سواقي كثيرة، وأراد التوغل في الصعيد فتصدى له الأمير نجم الدين عمر، أحد أمراء بيت كنز الدولة، ورده إلى النوبة، واتفق أنَّ سكندة ابن أخت داود ملك النوبة، قدم إلى السلطان الظاهر بيبرس مستجيرًا من بغي خاله، فتذرَّع السلطان بذلك وأراد الاقتصاص منه، فجهَّز جيشًا من المماليك والعرب وسيَّره إلى بلاد النوبة، ففتحها بعد معارك كبيرة، وأسر فيمن أسر الملك داود وأسرته، ثم أقيم سكندة ملكًا على النوبة، وتعهَّد بأداء الجزية المقررة، وجعل نصف إيراد النوبة لعمارة البلاد وحفظها، ونصفه للسلطان، ونزل له عن منطقة الجنادل لقربها من أسوان، وقرر إهداء مجموعة كبيرة من الفيلة والزراف والفهود والإبل والبقر، تُهدى إليه كل عام.
وأرسل السلطان المنصور قلاوون جيشًا إلى النوبة عام ٦٨٦ﻫ، بعد أن استنفر العربان أولاد أبي بكر وأولاد عمر وأولاد شريف وأولاد شيبان وأولاد كنز الدولة وجماعة من بني هلال، فاستولى على البلاد إلى جنوب دنقلة، وضرب عليها الجزية ثم عاد.
وفي عهد السلطان الناصر ابن قلاوون، هاجر إلى مصر أمير نوبي يدعى نشلى، فأسلم وأقام عند السلطان، وكان على النوبة إذ ذاك ملك اسمه كربيس قد امتنع عن أداء الجزية، فجهَّز إليه السلطان جيشًا عام ٧١٦ﻫ، وبعث معه نشلى ملكًا على النوبة، ففرَّ كربيس إلى أرض علوة، واستقر نشلى في الملك إلى أن تآمر عليه النوبيون وقتلوه بممالأة جماعة من العرب، وكان كربيس قد حُمل إلى السلطان في مصر، فأبقاه عنده وأسلم فحسن إسلامه، فلما قتل نشلى أرسله السلطان ملكًا على النوبة، ولم يلبث أن أسلمت جميع رعيته، فكان هذا آخر عهد المسيحية في بلاد النوبة.
وفي دنقلة العجوز جامع قائم على أطلال كنيسة، وعلى واجهته حجر من الرخام، منقوش عليه تاريخ افتتاح هذه العاصمة في ٢٠ من ربيع الأول سنة ٧١٧ﻫ و٩ من يونية سنة ١٣١٨م على يد سيف الدين بن عبد الله الناصر، وأحد أمراء بيت كنز الدولة.
وقائع البجة
في الصحراء الشرقية بين النيل والبحر الأحمر يقطن منذ القدم عنصرٌ حامي يُعرف بالبجة، وهو عنصر قوي شديد البأس، كان له مع قدماء مصر والنوبة وقائع كثيرة، وأشهر بلادهم مدينة عيذاب على البحر الأحمر تجاه جدة، وكانت فيما مضى مركزًا هامًّا لنقل الحجاج والتجارة، وتشمل بلاد البجة منطقة العلاقي، التي عرفت من أول عهد الفتح الإسلامي بهذا الاسم، كما عرفت قديمًا باسم أوكيتا، وفي هذه المنطقة تقع مناجم الذهب والزمرد التي استغلها الفراعنة عهودًا طويلة، ولا تزال بها بقية تعمل فيها بعض الشركات الأجنبية، وظل البجة عنصرًا مستقلًّا في تلك الصحراء إلى عهد الفتح الإسلامي؛ حيث وفد عليها كثير من القبائل العربية لاستغلال ما فيها من المعادن، واختلطت بسراة البجة في المعاملة والنسب.
وكان البجة كثيرًا ما يُوقِعون بالمسلمين الذين في المعدن، ويغِيرون على قرى النوبة والصعيد الأعلى، وهم في أمن ومنعة في الصحراء، فبعث إليهم المأمون جيشًا بقيادة عبد الله بن الجهم عام ٢١٦ﻫ، وكانت له معهم وقائع كثيرة، ثم فرض عليهم جزية قدرها مائة من الإبل أو ثلثمائة دينار في كل عام.
وأقام البجة على ذلك مدة قصيرة، ثم عادوا إلى غزو الصعيد والإيقاع بمسلمي المعدن، وكان ذلك في عهد المتوكل على الله «٢٣٢–٢٤٧ﻫ»، فاستشار الناس في أمرهم، فعلم أنهم ذوو قوة ومنعة في الصحراء، وأن الطريق إليهم يستغرق مسيرة شهر بين المهامة والجبال، ففترت همته عن غزوهم، ولكنهم أمعنوا في البغي والعدوان، واستطار شرُّهم في الصعيد، فولى المتوكل محمدًا بن عبد الله القمي على الصعيد الأعلى، وأمره بحرب البجة، فسار إليهم عام ٢٤١ﻫ بجيش عرمرم مؤلَّف من عشرين ألف فارس وراجل، ووجَّه إلى البحر الأحمر سبع سفن محملة بالمؤن والأقوات، وأمرها أن توافيه عند ساحل البحر مما يلي بلاد البجة، ثم زحف بجيشه حتى جاوز المعدن وانتهى إلى حصونهم، فخرج إليه ملكهم المدعو علي بابا في أضعاف جيشه، ودار بينهما القتال في غير حزم ولا بلاء، فقد كان ملك البجة يرمي إلى مراوغتهم حتى ينفذ ما لديهم من الزاد فيأخذهم بغير قتال! فلمَّا وصلت السفن واستولى المسلمون على ما فيها من الأزواد، ناجزهم البجة بصدق وجلاد.
وكانوا على إبل فارهة نفورة، فأمر القمي بوضع الأجراس في أعناق الخيل، وحمل بها على البجة، فذعرت الإبل وفرت هاربة بهم في الجبال والوديان، وأوسعهم المسلمون قتلًا وأسرًا، حتى طلب ملكهم الصلح والأمان، فصالحه القمي على أداء ما عليه من الجزية، وتمكين المسلمين من العمل في المعدن.
واتصل البجة بمهاجري العرب، واعتنق الحداربة الإسلام — وهم صفوة القوم — ثم تبعهم الرنافج بإسلام ضعيف، ومن ذرية هؤلاء قبائل العبابدة والبشارية.
(٤) القبائل العربية
وأول ما نزلت القبائل العربية بالنوبة إنما نزلت في صحرائها الشرقية، وعلى الأخص في وادي العلاقي؛ حيث معادن الذهب والزمرد، فإن المعاهدة التي بين النوبة والمسلمين كانت تحرِّم أن ينزل أحدهما في بلد الآخر إلا مجتازًا غير مقيم فيه.
ولما خرب المعدن ونضب معينه تفرَّقت القبائل العربية على النيل، وانتشرت في النوبة السفلى والعليا، وتلاشى العنصر النوبي واللغة النوبية في النوبة العليا؛ لكثرة من هاجر إليها من العرب، ولأن أغلب أهلها كانوا من الزنوج الذين انسحبوا بإزاء هجرة العرب إلى الجنوب.
عرب العليقات
ونزل من القبائل العربية، في منطقة مستقلة بين بلدتي المضيق وكرسكو، عربٌ يُعرفون بعرب العليقات، نسبة إلى وادي العلاقي الذي نزلوا منه بعد خرابه، وهم يدعونه من النسبة إلى عقيل بن أبي طالب.
واشتهر من ربيعة بيتٌ لقِّب أمراؤه بكنز الدولة، وأول من حمل منهم هذا اللقب الأمير محمد بن عبد الله حامي أسوان، فإنه ظفر بأبي ركوة الأموي — حوالي عام ٣٩٧ﻫ — وكان أبو ركوة ثائرًا على الحاكم بأمر الله الفاطمي، فأكرمه الحاكم إكراما عظيمًا، وخلع عليه هذا اللقب الكريم، فصار من ذلك العهد علمًا على هذا البيت وأمرائه.
وقد ربض هؤلاء الأمراء على حدود مصر الجنوبية يردُّون عنها غارات النوبة وعدوان البجة، وبسطوا سلطانهم على الصعيد والنوبة بعد إسلامها، فقامت لهم دولة في سنار حوالي القرن التاسع الهجري، وصار نفوذهم في فترة من الزمن يمتد من جبال فازوغلي جنوبًا إلى حدود النوبة شمالًا، أما في مصر، فكان سلطانهم يمتد من أسوان إلى نهاية الأعمال القوصية مدى ستمائة عام.
ويذكر التاريخ لأمراء هذا البيت معارك كثيرة مع السلطان صلاح الدين وبعض الولاة وقبائل هوارة، وذرية هذا البيت منتشرون في النوبة والصعيد، ومن الخطأ تسمية النوبيين بالبرابرة.