العباسيون والفواطم والإخشيديون والمماليك
وقد تدفَّق العرب المسلمون إلى السودان من جهات مختلفة، أكثرها مصر، ثم من الحجاز واليمن إلى شرقي السودان، ومن بلاد المغرب إلى غربي السودان.
في سنة ٨٣٣ ميلادية، تراخى أهل النوبة في دفع البقط «الجزية»، فغلَّ مسلمو الحدود أيديهم عن إرسال ما اعتادوا إرساله من المؤونة إلى ملك النوبة، فصمم زكريا بن بحنس ملك النوبة بإيعاز من ابنه «فيرقي» على قبض يده عن دفع الجزية، وأن يتأهَّب إذا دعت الحال لقتال سيده الخليفة المعتصم «٨٣٣–٨٤٢».
فسار إليهم محمد بن القمي في جيش عدده سبعة آلاف مقاتل، وجدَّ في الصحراء إلى مناجم الزمرد، ووصل إلى دنقلة، فاستعد «علي بابا» ملك البجاة لملاقاته، ولكن عُرَى جنوده وقِصَر رماحهم أضعف مركزهم أمام العرب، فعمدوا إلى المقاومة حتى كادوا يهلكون العرب، ولمَّا وصلت السفن من القلزم اشتد ساعد المسلمين، وحمل قائدهم برجله وركبه مكبِّرين على السود، وفتك بهم فتكًا ذريعًا حتى ولوا الأدبار لاحقين بملكهم الذي طلب الصلح راضيًا بدفع الجزية «البقط»، ولمَّا أقبل إلى محمد القمي أحسن لقاءه وأكرمه وحمله على زيارة الفسطاط.
قال المتنبي من قصيدة مشهورة سنة ٣٤٦ﻫ يمدح بها كافور الإخشيدي «٩٦٦–٩٦٨م»:
وبعد ذلك ببضع سنين غزا النوبيون مصر للمرة الثانية، واستولوا على الصعيد حتى مدينة أخميم شمالًا.
وفي سنة ٩٦٩، أرسل جوهر الصقلي حاكم مصر بعثة إلى جرجس ملك النوبة؛ لأخذ الجزية المعتادة، ودعوته إلى الإسلام، فلمَّا وصل الرسول أحمد بن سليم إلى ملك النوبة رحَّب به وبالغ في إكرامه، ودفع الجزية، إلا أنه بقي على مسيحيته.
وفي سنة ١٠٠٥، ميلادية اضطرب حبل السلم في النوبة؛ فقد استولى أحد سلالة بني أمية الوليد بن هشام الخارجي — وكان يكنَّى «أبا ركوة»؛ نسبة إلى القربة التي كان يحملها إلى أسفاره سنة الصوفية — على برقة، وهزم جيوش الخليفة الحاكم بأمر الله، وغزا مصر، وشتت شمل جيوشه عند الجيزة، ولكن وَجد أن الضرورة تحتِّم عليه التقهقر إلى النوبة، وهناك انضم إليه عدد عظيم من أهلها، فما لبث أن لحقت به جيوش الحاكم وهزمه هزيمة منكرة، وجزَّ رأسه ورأس ثلاثين ألفًا من أتباعه، وأرسلت إلى مصر، ثم طافوا بها مدن سوريا محمَّلة على مائة جمل، وبعد ذلك ألقيت في الفرات.
في سنة ٣٩٧ﻫ/١٠٠٧م، سار «أبو ركوة» إلى بلد النوبة، فلمَّا بلغ إلى حصن يُعرف بحصن الجبل للنوبة أظهر أنه رسول من «الحاكم» إلى ملكهم، فقال له صاحب الحصن: «الملك عليل ولا بد من استخراج أمره في مسيرك لسيدي»، وبلغ الفضل الخبر فأرسل إلى صاحب القلعة بالخبر على حقيقته، فوكَّل به من يحفظه، وأرسل إلى الملك في الحال، وكان ملك النوبة قد توفي وملك ولده، فأمر أن يسلَّم إلى نائب الحاكم، فتسلمه رسول الفضل وسار به، فلقيه الفضل وأكرمه وأنزله في مضاربه وحمله إلى مصر، فأشهر به وطيف به فألبس طرطورًا، وجعل خلفه قردًا يصفعه كان معلَّمًا بذلك، ثم حُمل إلى ظاهر القاهرة ليُقتل ويُصلب، فتوفي قبل وصوله، فقطع رأسه وصلب، وبالغ الحاكم في إكرام الفضل إلى حدِّ أنه عاده في مرضه دفعتين، فاستعظم الناس ذلك، ثم إنه عمل في قتل الفضل لمَّا عوفي فقتله.
وفي سنة ١١٧٣م، توجه القائد شمس الدولة توران شاه — وكان يلقَّب بفخر الدين، الأخ الأكبر لصلاح الدين — بحملة إلى بلاد النوبة بقصد جباية الجزية، وأن يرى هل تصلح تلك البلاد لأن تكون ملجأ لصلاح الدين إذا ما اضطر إلى الفرار من وجه سيده نور الدين عند قدومه إلى مصر، فعبر توران شاه البحر من اليمن إلى بلاد النوبة بقصد جباية الجزية، وساق الأهالي أمامه حتى وصل إلى «أبريم»، وكانت مزودة بكميات عظيمة من المؤن والذخائر، وبالرغم مما أبداه النوبيون من الاستبسال في الدفاع عنها، فقد هُزموا ودُمِّرت المدينة، ووقع في أسر توران شاه أهل المدينة أجمع، وقد بلغوا نحو٧٠٠٠٠٠ من رجال ونساء وأطفال، ووجدوا بالمدينة ٧٠٠ خنزير، بادر المسلمون بقتلها، ثم أمر بنزع الصليب من الكنيسة، وسلب أتباعه ما كان بها، ثم أذِّن في قبتها للصلاة، وأُسر مطران المدينة واعتُقل في قلعة التل الحصينة، وعثر توران شاه في المدينة على كمية كبيرة من القطن أرسلها إلى قوص حيث بيعت، ثم رحل من البلاد بعد أن ترك قوة من الفرسان مزودة بالمؤونة والسلاح والذخيرة في «أبريم».
وقد روى أبو صالح أن صلاح الدين ذهب مع البطريرك أنبا ميخائيل ليطلب المعونة من جرجس ملك النوبة، فغضب هذا للمعاملة التي عومل بها البطريق، ووصل إلى مصر على رأس جيش يبلغ نحو ١٠٠ ألف مقاتل، وما يماثل هذا العدد من الإبل، واتجه متقدِّمًا فيها مخرِّبًا ومدمِّرًا حتى وصل إلى القاهرة، وقد وضَّح المؤرخ الإنكليزي بطلر أن هذا الحادث وقع في حكم مروان الثاني آخر خلفاء بني أمية «٧٥٠–٧٥٤م»، في عهد أمير مصر عبد الملك بن موسى بن نصير، لا صلاح الدين.
وفي سنة ١١٧٤م، هَزمت جيوشُ صلاح الدين كنزَ الدولة حاكم أسوان الثائر، الذي كان قد تقدَّم إلى القاهرة بجيش من العرب والعبيد، ووقعت معركة شديدة عند قرية طود «مركز الأقصر» مُزِّقت فيها جيوش كنز الدولة شرَّ ممزق، وقد ولى الأدبار، ثم خيَّم السلام بعد ذلك نحو عشرين سنة بين أهل النوبة وصلاح الدين، الذي توفي في ٤ مارس سنة ١١٩٣م، وآلت بعد ذلك أسوان إلى السقوط والخراب.
وزيادة على ذلك أحرق ملك النوبة كثيرًا من السواقي التي تروي أراضي شاسعة، وتَلِفَت زراعتها، فهمَّ حاكم قوص بمقابلته، ولكنه عجز عن غلبته، غير أنه أخذ كثيرًا منهم أسرى، من بينهم ملك الجبل، وحاكم جزر ميكائيل ومنطقة «داو»، وأرسلهم إلى القاهرة حيث أمر الخليفة السلطان الظاهر بيبرس «١٢٦٠–١٢٧٧م»، من المماليك البحرية، بقتلهم.
وقد حدث في ذاك الوقت أن قَدِم إلى مصر ابن أخت داود؛ ليطلب المعونة على خاله الذي أنزل به الأذى، فأجابه «بيبرس» إلى ذلك، وبعث معه بجيش جرار تحت قيادة اثنين من الأمراء؛ لينزع الملك من يد «داود»، ولما التقى الجيشان بأرض النوبة استبسل الفريقان في القتال، ولكن هُزم النوبيون أخيرًا وولوا الأدبار، فواصل المسلمون تقدُّمهم بالبر والنهر، واستولوا على الحصن بعد الحصن، وذبحوا وأسروا كثيرًا من الأهالي، ووصلوا أخيرًا إلى جزيرة «ميكائيل» عند رأس الشلال، وطردوا السفن النوبية، واضطر النوبيون إلى الفرار إلى جزر النيل، ووقع عدد عظيم من ماشيتهم في أيدي المسلمين، فأقسم قمر الدولة لقائد جيوش داود يمين الطاعة لشكندة، ولما أخذ الأمير شمس الدين آق سنقر الفرقاني أحد قائدي جيش بيبرس أرجع أهالي بلاد مريس المجاورة لأسوان وجميع الفارين.
أما منطقة بلاد الجنادل البالغة ربع مساحة النوبة فلقربها من أسوان عُدَّتْ ملكًا لبيبرس، وكانت حاصلاتها في ذاك الوقت التمر والقطن، هذا وقد قبل «شكنده» مقابل بقائه وأهل بلاده على مسيحيتهم، أن يدفع دينارًا ذهبًا عن كل ذكر بالغ من أهل بلاده، وقد أقسم بألا يحيد عما شرط عليه، ولا يحنث بعهوده، وكذلك فعل رعاياه.
ومن قبائل أسوان: العبابدة، وتنقسم إلى العشاباب، والفقراء «المليكاب»، والعبودين والشناتير، ثم قبيلة العقيلات والبشارين.
البجة
البجة — أو البجا أو البيجة أو البجاة — هم سكان الصحراء الشرقية في السودان — بادية بني كوش — أصلهم من الحبشة، وباديتهم بها معادن الذهب والفضة والزمرد والحديد والرصاص.
وقد غزا الفراعنة والرومان بلادهم من أجل الذهب، وكان أنسابهم من الفقراء، وهم أصحاب ذمة، وأهل ضيافة، ألوانهم مشرقة الصفرة، وجوههم عريضة.
وقد انقسم البجة إلى قبائل العبابدة والبشارين والهدندوة والأمارار والحلانقة والحباب وبني عامر، ومن مدنهم عيذاب وسواكن على البحر الأحمر.