الأسس الفلسفية للبنائية عند ليفي ستروس
قد يبدو لأول وهلة أن الميدان الذي اختاره ليفي ستروس، وهو ميدان
الأثنولوجيا والأنثروبولوجيا، أي دراسة الشعوب والحضارات القديمة،
ينتمي إلى العلوم الاجتماعية الخالصة، ومن ثم فهو خارج عن نطاق بحثنا
هذا، الذي ينصب على الأسس «الفلسفية» للبنائية. ومن المؤكد أن المصادر
التي أثرت على اتجاه ليفي ستروس الفكري كانت متعددة، وبعضها بعيد عن
ميدان الفلسفة، ومع ذلك فسوف نحاول أن نثبت في هذا القسم من بحثنا أن
ستروس كان فيلسوفًا بقدر ما كان عالمًا أنثروبولوجيًّا، وأنه صبغ
دراسته الاجتماعية بصبغة فلسفية لا تخطئها العين، وحوَّل المؤثرات غير
الفلسفية إلى الاتجاه الفلسفي، وكان هذا الطابع الذي يميزه عن سائر
علماء الأنثروبولوجيا هو مصدر قوته وعمقه وطرافته، ولكنه كان في الوقت
ذاته هو العامل الذي أدى إلى توجيه الانتقادات إليه من كلا الطرفين؛
لأن الفلاسفة لم يقتنعوا بأسسه الفلسفية، على حين أن الأنثروبولوجيين
لم يجدوه عالمًا أنثروبولوجيًّا بما فيه الكفاية.
لقد كان ليفي ستروس متفقًا مع علم النفس عند فرويد في مواضع كثيرة،
أدت إلى القول بأن آراء فرويد كانت مصدرًا من المصادر التي استقى منها
ستروس تفكيره. ففي كتاباته يظهر بوضوحٍ إيمانه بفكرة وجود أساس لا
شعوري عميق في الإنسان، إلى جانب شعوره الواعي. ولقد كان مثل فرويد
يؤمن بوجود جانبين؛ أحدهما طبيعي، والآخر نتاج للثقافة، في الإنسان.
والجانب الأول هو الذي أطلق عليه فرويد اسم اﻟ
Id، وتترجم عادة بكلمة: «هي»،
بينما الأنا، أي الجانب الثاني، يمثل تأثير الثقافة، بالمعنى الشامل،
في الإنسان. وكان ستروس يعتقد، كما اعتقد فرويد، أن الأسطورة نوع من
الحلم الجماعي في المجتمعات البدائية، وهو حلم له لغته الرمزية الخاصة،
القابلة للتفسير. وهذا التفسير كفيل بالكشف عن المعاني الخفية
للأسطورة، واستخلاص المبادئ الأساسية لتفكير الإنسان البدائي من
خلالها، ولكن هذه المبادئ التي توجد بطريقة لا واعية في ظاهرة جماعية،
هي الأسطورة البدائية، ليست مقتصرة على البدائيين وحدهم، بل إنها في
واقع الأمر تصدُق على كل العقول البشرية على نحو شامل. فالمبادئ
الأساسية التي نتوصل إليها عندئذٍ، تؤثر في عقولنا مثلما تؤثر في عقول
سكان جزر المحيط الهادئ من البدائيين، وهي تشكل نوعًا من المنطق الكلي
الشامل، الذي يتمثل لدى هؤلاء البدائيين بصورة نقية خالصة، قبل أن نضيف
إليه نحن منطقنا الخاص، الذي تقتضيه الظروف المعقدة لحياة الإنسان
الحديث.
على أن البنائية قد تجاوزت مدرسة التحليل النفسي في نقطتين:
- الأولى: هي أن مدرسة التحليل النفسي أرجعت الأساطير والهفوات
والأحلام إلى مجال اللامعقول والعشوائي، ورأت أنها
تعبر عن الذهن الإنساني في عفويته وتلقائيته غير
الموجهة. أما البنائية فرأت أن هذه النواتج الذهنية هي
نشاط موجه نحو تحقيق أهداف معينة، وأن لها منطقها
الخاص الذي يسري على مجال محدد، ويختلف عن المنطق
الشامل الذي تحاول الحضارة الحديثة أن تتوصل إليه،
ولكنه يظل مع ذلك منطقًا له دقته وانضباطه في مجاله
الخاص.
- أما النقطة الثانية: فهي أن البنائية تُلغي المركز المميز للحالة
الحاضرة، أو للباحث نفسه، بالقياس إلى الحالة الماضية
التي كان يعيشها البدائيون؛ ففي التحليل النفسي نجد
المحلل يحتل مركزًا مميزًا بالنسبة إلى الشخص الذي
يحلله، ويعد نفسه مختلفًا عنه، ما دام قادرًا على كشف
أبعاد أعمق من تلك التي يرويها المريض عن تجاربه
العفوية. أما في البنائية، وفي اتجاهها التحليلي عند
لاكان Lacan، فإن
المحلل نفسه لا يعتبر نفسه سليمًا وسويًّا بالقياس إلى
من يحلله، ولا يتخذ منه أي موقف متميز.
ولكن، إذا استثنينا هذه الفوارق البسيطة، فمن المؤكد
أن حركة التحليل النفسي كان لها تأثيرها المباشر في
البنائية؛ وذلك لأنها قدمت إليها مبدأً أساسيًّا في
فهم الإنسان، هو أننا إذا أردنا أن نعرف العقل
الإنساني في جذوره وأصوله الأولى، التي لا تزال تمارس
تأثيرها فينا حتى اليوم — وإن كنا قد أضفنا إليها
تعقيدات لا حصر لها — فلنحلل ذلك «اللاشعور الجماعي»
للإنسانية كما يتمثل في أساطير البدائيين.
هكذا قدم علم النفس الفرويدي لستروس الهدف العام
لأبحاثه، ولكن أداة البحث قد أتت إليه من مصدر مختلف،
هو علم اللغويات. ففي الأربعينيات من هذا القرن، حين
كان ليفي ستروس في أميركا، التقى بباحث مشهور في علم
اللغويات هو «جاكوبسون Jakobson»، وتأثر إلى حد بعيد
بطريقته في البحث عن بناءات لغوية تظل ثابتة مهما
اختلفت اللغات المنفردة. ولما كانت اللغة تعبيرًا عن
النشاط الرمزي للإنسان، فلا بد أن هذه البناءات
الثابتة تعبر عن مبادئ أساسية للعقل البشري، تنعكس على
مجالات نشاطه الأخرى. ومن هنا جاءت فكرة المزج بين
البحث في اللغويات والبحث الأنثروبولوجي، وتفسير
الظواهر الاجتماعية عند البدائيين على أساس النموذج
اللغوي الثابت. وهذا معناه تجاهل العامل التاريخي،
وتأكيد فكرة القبلية
a-priorisme، أي
وجود صور وقوالب لا تخضع لتأثير الزمان، ولا شأن لها
بعوامل التطور، وهو نفس الاتجاه الذي أكده جاكوبسون في
مجال اللغويات.
إن اللغة، كما هو معروف، هي العنصر الأساسي في «التفكير»؛ لأننا لا
نستطيع التفكير في أي شيء ما لم نقسم العالم المحيط بنا إلى فئات أو
أصناف أو مقولات
catégories ونعبر عن
هذه الفئات برموز أو ألفاظ. ولو بحثنا في نظم القرابة العائلية مثلًا
La parenté لوجدنا أن سلوك الإنسان
في مجال القرابة يتوقف إلى حد بعيد على تعبيراته في الحديث عن علاقات
القرابة؛ فالمرء يدرك علاقة «أبناء العم أو الخال» عن وعي إذا وَجَد في
اللغة لفظًا يعبر عن ابن العم أو الخال. وعند مستوى معين تتيح اللغة
للإنسان أن يتصل بغيره ويكوِّن علاقات اجتماعية، بحيث يصبح من الممكن
المقارنة بين نظم القرابة عند البدائيين، التي يتم فيها تبادل النساء،
ونظم اللغة التي يتم فيها تبادل الألفاظ، ونستطيع عندئذٍ أن ننظر إلى
قواعد الزواج ونظم القرابة على أنها نوع من اللغة، أي مجموعة من
العمليات التي تستهدف تحقيق نوع معين من الاتصال
communication بين الأفراد
والجماعات.
١ ففي كلتا الحالتين يتم تبادل «رسالة» معينة، وتوصيلها من
طرف إلى الآخر؛ إما النساء اللائي يتبادلن بين العشائر أو الأُسَر،
وإما الألفاظ التي تتداول بين الأفراد، ومن هنا كان من الممكن بحث
الحالتين على أنهما تعبيران عن ظاهرة واحدة، لها نفس الهيكل أو البناء
الأساسي.
وهكذا كان للبحوث اللغوية دور عظيم الأهمية في تحديد الاتجاه الذي
سارت فيه بنائية ليفي ستروس، وفي صبغ أبحاثه الأنثروبولوجية بطابعها
المميز. ولكن هل يعني هذا أن العوامل الفلسفية لم يكن لها تأثير في
تفكيره؟ الواقع أن هذه العوامل كانت بالغة الأهمية في حالة ستروس على
وجه التحديد، وهي التي تميزه عن سائر الأنثروبولوجيين. وكل ما في الأمر
أن الاهتداء إليها يحتاج إلى جهد خاص، سنحاول القيام به، تاركين جانبًا
تأثيرَ العامل اللغوي، على أهميته، لأنه خارج عن النطاق الأساسي لهذا
البحث.
ولنبدأ بأن نلاحظ أن تكوين ليفي ستروس وتعليمه كان فلسفيًّا
وقانونيًّا، وأنه لم يتجه إلى البحث الأنثروبولوجي إلا في مرحلة متأخرة
نسبيًّا، ومن هنا كان من الطبيعي أن ينعكس هذا التكوين الفلسفي على
منهجه في البحث الأنثروبولوجي، حتى إن أحد الباحثين قال عنه إنه «كان
يتصرف دائمًا كما لو كان داعية يدافع عن قضية، لا عالمًا يبحث عن
الحقيقة الفعلية.»
٢
على أن اهتمام ستروس المتأخر بالبحث الأنثروبولوجي لا ينبغي أن يُعَد
تحولًا عن الأصل الفلسفي الذي بدأ منه؛ ذلك لأن هذا الميدان بالذات
يمكن أن يقدم مادة خصبة للتفكير الفلسفي، إذا كان الباحث قد تدرب على
هذا التفكير بما فيه الكفاية. فمن الممكن أن نقول، من وجهة نظر معينة،
إن دراسة الثقافات القديمة لها أهمية فلسفية كبرى؛ إذ تُخرِجنا من
الحيز الضيق للثقافة التي نعيش فيها، وتقدم إلينا أنماطًا فكرية مغايرة
لتلك التي اعتدناها. وصحيح أن هذه الأنماط البدائية — في رأي ستروس —
لا تختلف «في جوهرها» عن تلك التي نستخدمها اليوم، ولكن المهم أنها
تدرس هنا في إطار مغاير لذلك الذي ألفناه في حضارتنا الحديثة. وهكذا
يجد الأنثروبولوجي مجالًا خصبًا لتطبيق واختبار فكرة النسبية التي
طالما سعى الفلاسفة إلى فهمها، ويتيح له ميدان دراسته فرصة عظيمة
لإلقاء نظرة «موضوعية» على الفكر الإنساني الذي نسِينا أصوله وعجزنا عن
اختبار جذوره العميقة المتأصلة فينا دون وعي منا. وعلى حين أن الفيلسوف
يعجز، في الأحوال العادية، عن الخروج عن الإطار الفكري لحضارته؛ لأن
هذا الإطار الفكري هو الذي يتكلم فيه، ومن خلاله؛ فإن الدراسة
الأنثروبولوجية تتيح له مجالًا فريدًا لتأمل مبادئه الفكرية «من
الخارج»، في بساطتها ونقائها الأول.
وفضلًا عن ذلك، فإن ستروس لم يكن من أولئك الأنثروبولوجيين الذين
يتوقف اهتمامهم عند حدود ثقافة بدائية معينة، يعايشها بعمق، ويحلل ما
لاحظه عنها في مؤلفات تفصيلية فيها كثير من الوصف وبعض التفسير، كما هي
الحال عند مالينوفسكي Malinowski
مثلًا، فقد كانت دراسة الثقافات القديمة عنده وسيلة لغاية أوسع، هي
الوصول إلى المبادئ الأساسية ﻟ «الذهن البشري»، ولم تكن التفاصيل
الأنثروبولوجية في نظره سوى أداة تساعده على الوصول إلى حقائق تصدق على
هذا الذهن في عمومه، لا في شكل خاص من أشكاله؛ ولذلك لم يحاول ستروس أن
يعايش ثقافةً بعينها، ويقضي بين أهلها سنوات طويلة، ويندمج في حياتها
اليومية فترة طويلة، كما فعل غيره من الأنثروبولوجيين المحترفين، بل
إنه كان يقوم بدراسات ميدانية سريعة إلى حد ما، إذا قيست بما قام به
غيره. ولم يكن يستقر في مكان واحد طويلًا، وإنما كان يدرس ثقافة هذا
المكان بالقدر الذي يساعده على تحقيق هدفه الأصلي، الذي هو في صميمه
هدف فلسفي. وهكذا يمكن القول، من وجهة نظر معينة، إن بحثه في
الأنثروبولوجيا لم يكن غاية في ذاته، بل كان وسيلة لغاية معينة هي في
صميمها غاية فلسفية. وبقدر ما كان هذا الأسلوب في البحث مميزًا له عن
غيره من علماء الأنثروبولوجيا، ومن ثم سببًا من أسباب شهرته بينهم، فقد
كان في الوقت ذاته هو المحور الذي دارت حوله الانتقادات التي وُجهت
إليه، سواء من جانب علماء الأنثروبولوجيا ومن جانب الفلاسفة. وتلك، على
أية حال، مسألة سنعرض لها فيما بعد بالتفصيل.
لقد كانت الفلسفة، منذ بداية عهدها، ترفض المظهر الخارجي للعالم،
وحين انبثق منها العلم الطبيعي أخذ بدوره يبحث عن حقيقة لا تقدمها
إلينا المظاهر المباشرة، وأخذ بالتدريج يكوِّن لنفسه عالمًا خاصًّا به،
مؤلفًا من كيانات عقلية ورياضية، لا نستطيع أن نجد لها وجودًا في عالم
المظاهر، وإن كانت مع ذلك قادرة على أن تجعل هذا العالم مفهومًا
ومعقولًا. وكانت مهمة ليفي ستروس هي أن يطبق هذا الشرط الذي أتاح للعلم
الطبيعي إحراز أكبر قدر من التقدم على العلوم الإنسانية؛ لكي يجعلها
بدورها علومًا تتجاوز نطاق المظهر الخارجي للأشياء، ولا تندمج في ظواهر
العالم أو في الظواهر الإنسانية، وإنما تبحث عن حقيقة عميقة وراء
مظاهرها البادية.
ولنذكر أنه كان في هذا الصدد يفرق بين العلوم الإنسانية، التي تستهدف
الفهم النظري وحده، ولا تفترق مهمتها عن مهمة العلوم الطبيعية أو
العلوم المنضبطة، وبين العلوم الاجتماعية، التي يمكن أن يكون لها دور
عملي؛ لأن هدفها هو التغيير، وهو شيء لم يحاول ليفي ستروس أن يحققه في
كتاباته، بل حرص على أن يظل بعيدًا عن الميدان العملي وعن محاولات
التغيير؛ فهو يسعى إلى الفهم فحسب. وقد عبر عن هذه التفرقة بقوله: «لقد
استعارت العلوم الإنسانية من العلوم المنضبطة والطبيعية درسًا هو ضرورة
التخلي عن المظاهر apparences إذا
أراد المرء فهم العالم، على حين أن العلوم الاجتماعية قد استخلصت درسًا
موازيًا، هو ضرورة قبول المرء للعالم إذا أراد تغييره.» وربما بدا
المصطلح الذي يستخدمه ستروس في هذا الصدد غريبًا إلى حدٍّ ما؛ إذ إن من
الشائع أن يستخدم لفظ «العلوم الإنسانية» لمجموعة العلوم التي تقبل
مظهر العالم وتعترف بالظواهر الإنسانية على ما هي عليه. على حين أن لفظ
«العلوم الاجتماعية» أكثر انطباقًا على تلك العلوم الهادفة إلى
الانضباط والدقة، والتي تسعى إلى الاقتراب من مناهج العلوم الطبيعية،
ومن ثم ترفض الشكل الظاهري للموضوعات التي تبحثها، وتسعى إلى حقيقة
خافية من وراء المظاهر، تعبر عنها — في الغالب — بقوانين رياضية. ولكن
ستروس آثر أن يعكس الآية، ويجعل الانضباط في جانب العلوم الإنسانية.
وعلى أية حال فالمسألة تسمية فحسب، ومن المعروف أن تعبيرَي «العلوم
الاجتماعية» و «العلوم الإنسانية» ما زالا موضوع خلاف بين المشتغلين في
هذا الميدان، ولم يستقر الرأي نهائيًّا على مسميات ثابتة تحدد نطاق
كلٍّ منهما حتى اليوم.
والذي يهمنا في هذا الأمر هو أن ستروس بالرغم من تأكيده هدف
«الانضباط» في العلوم الإنسانية، كان فيلسوفًا في رفضه للطابع الذي
تتبدى عليه الأشياء، وسعيه إلى حقيقة أعمق من هذا المظهر. ولنذكر في
هذا الصدد أن «كانْت» بدوره كان يضع نصب عينيه هدف العلم «المنضبط»،
ويستهدف تحقيقه في مجال الفلسفة ذاتها، التي أراد منها أن تبحث عن
عوامل الانضباط في علمي الطبيعة والرياضة وتطبقها في ميدانها الخاص.
وهكذا يمكن القول إن «كانْت» أراد أن يجعل من الفلسفة «علمًا
إنسانيًّا» بالمعنى الذي حدده ستروس.
بل إن تفاصيل الانتقال من مظهر العالم إلى الحقيقة العلمية متشابهة
فيما بين «كانْت» وستروس؛ ذلك لأن ستروس بدوره يرى أن ما نعرفه عن
العالم الخارجي ندركه من خلال حواسنا، أي إننا نضفي على الظواهر التي
ندركها سمات معينة، ترجع إلى الطريقة التي تعمل بها حواسُّنا، وإلى
الترتيب الخاص الذي يرتب به ذهننا المنبهات الحسية ويفسرها. ومن أهم
سمات عملية الترتيب هذه تفتيت المتصل الزماني والمكاني المحيط بنا إلى
قطاعات منفصلة، بحيث نرى في الطبيعة أشياء مصنفة في فئات، ونجعل الزمان
مؤلفًا من حوادث منفصلة متعاقبة. وما يحدث في حياتنا الاجتماعية، وفي
ثقافتنا، هو انعكاس لما يحدث في إدراكنا للعالم المحسوس؛ إذ إننا نجزئ
نواتج ثقافتنا ونرتبها بنفس الطريقة التي نجزئ بها نواتج الطبيعة
ونرتبها، ونكون منها «بناء» مماثلًا للبناء الذي ننظم به إدراكنا
للعالم. وكما تحدَّث كانْت عن مقولات ذهنية تكون قوالب لا بد أن يُصاغ
فيها كل ما ندركه عن العالم، ثم طبق هذه المقولات، في الجزء الخاص ﺑ
«جدل العقل الخالص» من كتابه المشهور «نقد العقل الخالص»، على نواتج
الفكر الميتافيزيقي والتأملي البحت، فجعل منها ما يشبه «البناءات» التي
تُنقل من مجالها الأصلي إلى مجال مغاير، فكذلك فعل ليفي ستروس حين أكد
أننا عندما نضع نظمًا اجتماعية أو نقوم بشعائر، نحاكي طريقة إدراكنا
للطبيعة، ونحول النموذج الذي ندرك عليه الطبيعة إلى المجال الثقافي،
بحيث يكون بناؤهما مشتركًا. وهذا أمر مفهوم؛ لأن الذهن البشري هو
الفعال في الحالتين، ولا بد من وجود نقاط تشابُه أساسية في طريقة
ممارسته نشاطه في كل مجال من المجالات.
ولكن، مثلما أن تأكيد «كانْت» لفاعلية الذهن البشري لم يؤدِّ به إلى
أن يكون مثاليًّا على طريقة باركلي، فكذلك كان ستروس بعيدًا كل البعد
عن هذا النوع من المثالية؛ فهو يعترف بأن للطبيعة وجودًا حقيقيًّا خارج
الذهن البشري، ولا يجعل وجودها متوقفًا على إدراكنا الذهني لها. «ولكن
فهمنا للطبيعة تتحكم فيه كثيرًا طبيعةُ ذلك الجهاز الذي نفهمها به.
وهكذا فإن فكرة ستروس هي أننا إذا لاحظنا الطريقة التي نفهم بها
الطبيعة، وتأملنا خصائص التصنيفات، التي نستخدمها وطريقة تعاملنا مع
المقولات الناتجة عن هذه التصنيفات، أمكننا أن نستدل على حقائق أساسية
عن آلية التفكير.»
٣ وإذا عرفنا آلية التفكير البشري، أمكننا أن ندرك نواحي
التشابه الأساسية في الثقافات المختلفة التي تشترك في أنها كلها نواتج
لذهن يعمل بطريقة واحدة.
وإذن، فلم يكن ليفي ستروس مثاليًّا بنفس الطريقة التي كان بها باركلي
مثاليًّا، ولكن مثاليته «كانتية» إلى حد بعيد، فهو بدوره يؤكد تدخل
الذهن في كل شيء، ويتمسك بفكرة الترابط الوثيق بين كل الظواهر، التي
تجمع بينها آلية ذهنية واحدة. وتنفذ هذه النظرة الكانْتيَّة إلى صميم
عمله الأنثروبولوجي، فيسعى إلى كشف العلاقات الباطنة بين مختلف مظاهر
الحياة في المجتمع البدائي. ويرى أن السلوك اليومي للناس في هذا
المجتمع، وطريقة تشييدهم لمساكنهم، وأداءَهم لشعائرهم وطقوسهم الروحية،
وتنظيمهم لعلاقات القرابة بينهم، كل هذه تكشف عن بناء واحد قد يجد
العالم الأنثروبولوجي صعوبة كبرى في الوصول إليه؛ لأنه بناء لا شعوري،
لا يدرك عن وعي ولا يوجد على السطح الظاهر، ولكنه لن يعجز عن ذلك إذا
كان مسلَّحًا بالمنهج السليم.
أما هذا المنهج السليم فأهم ما فيه هو تأكيد أولوية البناء على
مظاهره الخارجية، أو ما يمكن أن يسمى — بلغة كانْت — بالقبلية a priorisme؛ ففي استطاعتنا أن نفهم
النواتج الثقافية على أساس البناء الواحد الذي ترتكز عليه، أما إذا
بدأنا بهذه النواتج ذاتها، ولم نحاول أن نردها إلى أساس سابق؛ فلن نصل
إلى أي فهم متعمق، ومن هنا كان انتقاد ستروس للنزعة الوظيفية عند
«مالينوفسكي».
هذه الوظيفية كانت تتجلى — على سبيل المثال — في تفسير مالينوفسكي
لظاهرة قيام قبائل معينة بتسمية نفسها بأسماء حيوانات؛ إذ كان يرى أن
هذا راجع إلى الفائدة المكتسبة من هذه الحيوانات في الحياة اليومية
لتلك القبائل، أو إلى أنها كانت تعتمد عليها في مأكلها، وغير ذلك من
التفسيرات الوظيفية التي رفضها ليفي ستروس من أساسها. فالبناء سابق على
مظاهره، وليست هذه الأفعال الجزئية هي التي تفسر البناء، بل إن البناء
هو الذي يفسرها. وقد عبر ستروس عن هذه الفكرة بوضوح حين قال: «في
الأنثروبولوجيا … لا تكون المقارنة هي التي يرتكز عليها الحكم العام،
بل إن العكس هو الصحيح. فإذا كان من الصحيح — وهو ما نؤمن به فعلًا —
أن النشاط اللاواعي للذهن قوامه فرض أشكال على مضمون، وإذا كانت هذه
الأشكال في أساسها واحدة بالنسبة إلى جميع الأذهان، تستوي في ذلك
القديمة والحديثة البدائية والمتحضرة، وهو ما تدل عليه دراسة الوظيفة
الرمزية كما تعبر عنها اللغة، فإنه يكفي المرء عندئذٍ أن يدرك البناء
اللاواعي الكامن من وراء كل نظام اجتماعي
institution وكل عُرف؛ لكي يتوصل
إلى مبدأ للتفسير يسري على كل النظم والأعراف الأخرى، شريطة أن نمضي في
التحليل بما فيه الكفاية بطبيعة الحال.»
٤
هكذا تكتسب لغة ستروس صبغة «كانْتية» واضحة، ويصبح تفسير هذه الظواهر
من خلال البناء «شرطًا لإمكان» هذه الظواهر، أي إن البناءات هي التي
تَفرض على الظواهر المتباينة والكثيرة تنظيمَها وترتيبها الخاص، بل هي
التي تجعلها ممكنة. ولقد كان هذا التشابه الواضح مع مذهب كانْت هو الذي
دعا الفيلسوف «ريكير
Ricoeur» إلى أن
يصف بنائية ستروس بأنها «مذهب كانْتي بدون ذات ترنسندنتالية»
٥ صحيح أن زوال الذات الترنسندنتالية يعني فقدان عنصر أساسي
في مذهب كانْت؛ لأن هذه الذات، بما لديها من صور الحساسية ومقولات
الفهم، هي التي تعطي العالم مظهره القابل للمعرفة، ولكن يظل من الصحيح
أيضًا أن بناءات ليفي ستروس، وعلاقتها بالظواهر الاجتماعية التي
تفترضها مقدمًا، مشابهة للصور الذهنية التي هي بمثابة القوالب لكل
موضوع نعرفه في العالم، كما قال بها كانْت، وإن هذا التشابه يصل إلى حد
لا يمكن تجاهله.
على أن هذه النزعة الفلسفية الواضحة لدى ليفي ستروس، إذا كانت تضفي
مزيدًا من العمق على أعماله الأنثروبولوجية، وتصبغها بطابع فريد لا نجد
له نظيرًا بين غيره من المشتغلين في هذا الميدان، فقد كانت هي ذاتها
السبب الأكبر في النقد الذي تعرَّض له. ومما يلفت النظر أن هذا النقد
لم يأتِ من جانب المشتغلين بالأنثروبولوجيا وحدهم؛ فعلى حين أن هؤلاء
لم يقتنعوا بالاتجاه الفلسفي الواضح في كتابات ستروس العلمية، نجد أن
الفلاسفة بدورهم قد دخلوا معه في حوار حاد وجهوا فيه انتقاداتهم إلى
الركائز الأساسية لتفكيره، وإلى الأهداف التي يتجه إليها عمله العلمي
بوجه عام. وسوف نبحث كلًّا من اتجاهي النقد هذين، العلمي والفلسفي، على
حدة.
إن من الحقائق المعروفة، في حالة فلسفة كانْت، أنه افترض للذهن
البشري تركيبًا معينًا دون أن يحدد مصدر هذا التركيب، فهو لا يقول لنا
مَن الذي وضع في الذات الإنسانية صورَ الحساسية ومقولات الفهم التي هي
أساس معرفتنا لكل ظواهر العالم، ولا يبيِّن لنا كيف أصبح للذات هذا
التركيب بعينه. ويمكن القول إن ليفي ستروس قد سار في أعقاب كانْت في
هذه المسألة بدورها؛ فهو لا يبيِّن لنا كيف تكوَّن البناء، ولا يحدد له
أصلًا، وأغلب الظن أنه ينظر إلى السؤال عن أصل البناء على أنه سؤال
ميتافيزيقي لا شأن له به.
ومع ذلك ففي مجال العلم ينبغي أن يُطرح هذه السؤال، ولا يمكن أن يقبل
المشتغلون بالعلم سواء في ميدان الأنثروبولوجيا أو غيره، افتراضًا
مسبقًا بوجود بناءات ثابتة للعقل البشري تفرض نفسها على كل نواتجه
الاجتماعية والثقافية، وتصبغها بصبغتها الخاصة، ما لم يحدد الباحث
أصلًا لهذه الأبنية، يكفي لإقناعهم بأن لها هذا القدر من العمومية
والثبات، وهو ما لم يفعله ليفي ستروس.
ولقد كان الأصل الوحيد الذي ورَد في كتاباته صراحة، هو الأصل اللغوي.
وهذه نقطة أساسية كان فيها ستروس مختلفًا عن كانْت الذي لم تكن للغويات
أهمية في فلسفته. ومع ذلك فمن الممكن القول بوجود قدر معين من التشابه
حتى في هذه الحالة. فمن المعروف أن «كانْت» قد استمد قائمة مقولاته من
أنواع الأحكام المنطقية، مرتكزًا في ذلك على الفكرة القائلة إن النشاط
الرئيسي للذهن البشري يتمثل في عملية إصدار الأحكام ذات الطابع
المنطقي، ومن ثَم فإننا إذا حصرنا قائمة الأحكام التي يصدرها ذهننا،
أمكننا أن نستخلص منها المقولات والقوالب الرئيسية التي يشكل بها الذهن
كلَّ موضوع يدخل في نطاق معرفته. ويجوز أن ليفي ستروس لم يبتعد كثيرًا
عن هذه الفكرة، حين قال إن النشاط الرئيسي للذهن هو العملية الرمزية
التي تتثمل في اللغة
٦ وإننا نستطيع أن نُرجِع الأنساق الرئيسية التي ينظم بها
الإنسان حياته الاجتماعية إلى تلك البناءات الأساسية المشتركة بين كل
اللغات البشرية.
وعلى أية حال، فإن وجه الخطورة في هذا الرأي هو أنه يحكم على اللغات
البشرية في عمومها من خلال وجهة نظر معينة، هي السائدة في عصر معين أو
في مدرسة فكرية معينة. ومن المعروف في علم اللغويات أن النماذج اللغوية
تتعدد بتعدُّد المدارس. وقد تأثر ستروس بالنموذج الذي وضعه «جاكوبسن»،
وهو نموذج تجاوزته الأبحاث التالية في علم اللغويات بمراحل. «فالآليات
التي تعتمد عليها قدرة الإنسان على إضفاء معنًى مركَّب على الكلمات
البشرية، وما يترتب على هذه القدرة من تكوين أنماط محددة، هي عمليات
أعقد بكثير مما يوحي به النموذج المبسَّط من وراء نظريات جاكوبسن
وستروس. ومن هُنا فإن ما يستخلصه من بناءات مستمَدَّة من معطيات غير
كافية، ليست على الاطلاق بناءات تعبر عن صفات مشتركة بين الإنسانية
كلها، بل إنها تعبر عن صفات جماعة ثقافية معينة فحسب.»
٧
ولقد كان هذا الاتجاه إلى تعميم نموذج لغوي معين على كل مجالات
العلوم الإنسانية، وإنكار تعدد النماذج بتعدد ميادين البحث، هو الذي
أدَّى بالنقاد إلى التحذير من خطورة التعميمات الشاملة لدى البنائيين،
ولدى ستروس بوجهٍ خاص. وبالفعل نجد في البنائية ميلًا إلى اتهام كل من
لا يعترف بهذا الأنموذج الواحد، ويطبقه على كل مجالات العلوم الإنسانية
بأنه جاهل أو مفتقر إلى الروح العملية، مما دعا «لوفيفر
Henri Lefebvre» إلى أن يصف البنائية
بأنها «مذهب إرهابي»؛ لأن المرء في نظرها إما أن يكون بنائيًّا متسقًا
يؤمن بأنموذج موحَّد، ويطبقه تطبيقًا شاملًا على كل شيء، وإما أن يكون
شخصًا لا يفهم شيئًا.
٨ والأمر الذي لا يمكن إنكارُه هو أن ستروس قد بذر في
البنائية بذرة دجماطيقية، أصبح من الصعب بعد ذلك التخلص منها؛ نتيجة
لتسلُّط النموذج اللغوي عنده على جميع الميادين.
وإذا كان البعض قد انتقدوا النموذج اللغوي الذي أراد ستروس تعميمه،
فإن البعض الآخر قد انتقدوا الاعتقاد الذي يكمن من وراء عملية التعميم
هذه — سواء أكان أصلها لغويًّا أم غير لغوي — وهو الاعتقاد الراسخ لدى
ستروس بأن البناءات ثابتة، لا يؤثر فيها الزمان. ولعل أحق النُّقَّاد
بأن نستمع إلى وجهة نظره في هذا الصدد هو «بياجيه»، ليس فقط؛ لأنه كان
عالمًا ومفكرًا من الطراز الأول، بل أيضًا لأنه كان من أنصار البنائية،
ومع ذلك فقد هاجم فكرة ثبات البناءات ورأى أنها ليست ضرورية على
الإطلاق؛ لكي يكون المذهب البنائي متسقًا مع نفسه.
فمن الملاحظ أولًا أن ليفي ستروس ينسب إلى البناءات ضربًا من الوجود
يصعب تحديد طبيعته. فهي موجودة على نحو مستقل عن ذهن العالم الذي يتوصل
إليها؛ أي إنها ليست مركبًا من تلك المركبات الاصطلاحية التي يتواضع
عليها العلماء من أجل تيسير عملهم، دون أن يكون لها وجود حقيقي. ولكن
وجودها في الوقت ذاته ليس وجودًا متعاليًا
transcendent ينتمي إلى عالم شبيه
بعالم المُثل الأفلاطونية، بل هو كامن في قلب التجربة الواقعية. وليس
مما يقرب طبيعة هذا الوجود إلى أذهاننا أن يقول ستروس إنها تنبثق عن
الذهن البشري الذي لا يتغير، وإنها سابقة على كل تنظيم اجتماعي؛ لأنها
أصل كل تنظيم وسابقة على ما هو نفسي وما هو عضوي؛ ذلك لأن حيرتنا تزداد
حين نعلم أن لها وجودًا مستقلًّا يهتدي إليه الذهن ولكنه لا يخلقه، وأن
هذا الوجود ليس اجتماعيًّا ولا نفسيًّا ولا عضويًّا.
٩ ويبدو أن ما يهم ليفي ستروس في هذا كله هو أن يدافع عن
ثبات العقل البشري عن طريق تأكيده أن لهذا العقل «وظيفة رمزية» لا يؤثر
فيها تغير الزمان. ولكن بياجيه يرد على ذلك بقوله: «ينبغي أن نعترف
بأننا لا نفهم على وجه التحقيق لماذا يكون العقل قد كُرِّم إذا ما
حُوِّل إلى مجموعة من الأطر الثابتة، أكثر مما يكرَّم إذا نُظر إليه
على أنه نتاج لم يكتمل بعدُ، لعملية بناء ذاتي مستمرة. فهل من الضروري
النظر إلى الوظيفة الرمزية على أنها ثابتة؟»
١٠
إن ما يدافع عنه بياجه في هذا الصدد هو إمكان الجمع بين فكرة البناء
وفكرة التطور التي تسري حتى على الوظيفة الرمزية لدى الإنسان. وهو هنا
يهاجم «وهم الثبات» الذي كان يشكل صنمًا كبيرًا من أصنام الفلسفة منذ
أيام أفلاطون، والذي يبدو أن ليفي ستروس كان بدوره من الواقعين تحت
تأثيره. ولكن هل يعني هذا أن كل من رفض فكرة الثبات، وأكد التطور، كان
في موقف أفضل من موقف ستروس؟ الواقع أن بعض هؤلاء، مثل «ليفي برول Lévi-bruhl» قد ارتكبوا أخطاء أشد
بكثير مما وقع فيه ستروس، على الرغم من أنهم أكدوا أن عقل الإنسان ليس
أزليًّا وليس ثابتًا. فعند ليفي برول تُقسَّم المجتمعات البشرية إلى
مجتمعات خلتْ من المنطق لها عقلية «قبل المنطقية Mentalité pré-logique»، وهي
المجتمعات البدائية، وأخرى متحضرة هي وحدها التي تعرف التفكير. ولقد
كان ستروس على حق تمامًا في رفضه القاطع تقسيم الإنسان إلى منطقي وغير
منطقي. ونقد ليفي بريل بشِدة؛ لأنه شبه العقلية البدائية بعقليات
الأطفال أو المجانين؛ لأن هذا كله يرجع إلى اتخاذ ليفي بريل نظرة
مرتكزة حول الذات، تأثر فيها بحضارته الخاصة والعصر الذي يعيش فيه،
وتصور أن كل ما عداها خطأ وتخلف. وحقيقة الأمر في نظر ستروس، هي أن ما
يبدو غير منطقي أو قبل المنطقي، له منطقة الخاص، وإن كان مخالفًا
لمنطقنا؛ لأنه لا يخشى التناقض ولا ينفر منه. ومن ناحية أخرى فقد علَّل
ليفي بريل التجاء البدائي إلى مبدأ «المشاركة Participation» (أي أن يكون الشخص من قبيلة معينة مثلًا،
ويتصور أنه من قبيلة أخرى في الوقت نفسه) بأنه يرجع إلى غلبة العنصر
الانفعالي الوجداني affectif على
العنصر العقلي. ولكن الخطأ الذي وقع فيه هو أنه ضيَّق نطاق العنصر
العقلي بحيث جعله مقتصرًا على النشاط العلمي مع أن النشاط العلمي ليس
إلا وجهًا واحدًا لنشاط عقلي أعم، تتولد عنه أنساق كثيرة يختلف بناؤها
تبعًا للغاية التي تستهدفها (كاللغة والأسطورة والفن والمنطق
والرياضة). وهكذا يرى ستروس أن الاختلاف بين مجتمع وآخر لا يرجع إلى
استخدام كل منهما لشكل خاص من أشكال النشاط العقلي، مادام من الضروري
أن يتوافر فيها كلها حد أدنى مشترك هو وجود لغة، وهو الشرط الضروري
لقيام أية ثقافي، وما دامت اللغة ترتكز على النشاط العقلي (الرمزي)،
ولا قيام لها بدونه.
وإذن فليس كل من قال بأن العقل البشري يتطور ويتخذ أشكالًا متباينة
«من حيث الكيف» وفقًا لمستوى الحضارة التي ينتمي إليها — ليس كل من قال
بذلك يُعَد في موقف أفضل من موقف ستروس. ومن المؤكد أن ستروس كان
محقًّا في نقد بعض الاتجاهات التي ارتكزت على فكرة حدوث تحوُّل أساسي
في نوع العقلية البشرية عبر العصور، وكان على حق في دعوتنا إلى ألا
نتعالى، وألا نتصور أنفسنا على أننا أسياد للآخرين، ونقيسهم بمقاييسنا
الخاصة، بل ينبغي أن نترك المجتمعات البدائية توجِّه رسالتها بلغتها
العقلية الخاصة، دون حط من شأنها. ولكن المشكلة هي أن ستروس قد تطرف في
تأكيد معقولية البدائيين إلى حد القول بأن للعقل الإنساني هويةً أساسية
تظل ملازمة له في كل زمان ومكان، وأننا نستطيع كشف هذه الهوية بتحليل
نواتج هذا العقل من أساطير ونظم اجتماعية وطقوس … إلخ، في المجتمعات
البدائية. وهنا يتعرض هذا التطرُّف المضاد للنقد الذي وجهه إليه
بياجيه، والذي ركزه على قول ستروس «بمنطق طبيعي» يكون الأساس الثابت
لكل تفسير وتنظيم إنساني، أيًّا كان مكانه أو زمانه؛ فليس هناك ما يمنع
على الإطلاق من تأكيد حدوث تطور حتى في تلك البناءات التي تمسك بها
ستروس — مثل أنساق القرابة — والتي ينبغي أن تكون ناجمة عن «مؤسسات»
معينة، ولا بد أن يكون الجهد الجماعي الطويل الأمد هو الذي جعلها
ممكنة.
وعلى عكس اعتقاد ستروس بأن العقل يكرم بتأكيد ثباته، يرى بياجيه أن
التطور ميزة في البناءات البشرية، وليس عيبًا فيها؛ ذلك لأن الحيوان لا
يستطيع أن يغير نفسه ما لم يغير نوعه بأكمله. أما الإنسان فينفرد
بالقدرة على تشكيل ذاته وتحويرها عن طريق تكوين بناءات من صنعه هو، لا
تُفرض عليه من الداخل أو من الخارج. ولذلك فمهما كان تأكيدنا لتلك
الضرورات الباطنة التي تفرض نفسها على تطور الذهن خلال تعامله مع
البيئة الخارجية، ينبغي أن نعترف بأن العقل قد تطور، وبأن هذه هي
الوسيلة الوحيدة التي تتيح لنا إنقاذ البنائية من عزلتها
المترفعة.
١١
هكذا فإن نقد بياجيه يُلقي ظلالًا من الشك على الاعتقاد الذي لم
يحاول ستروس أن يناقشه، وهو أن تأكيد أهمية البناءات في المعرفة يستتبع
حتمًا تأكيد ثبات هذه البناءات، وأن البنائية — من حيث هي مذهب فكري —
ترتبط بفكرة الثبات ارتباطًا لا ينفصم. وأغلب الظن أن العامل الذي أدى
إلى تأكيد ستروس لهذه القضية، وحرصه الشديد على أن يقدمها كما لو كانت
هي إنجازه الأكبر في الميدان الأنثروبولوجي، هو ذلك المنهج الخاص الذي
اتبعه في الدراسة الأنثروبولوجية، والذي أثار انتقاد عدد كبير من
المتخصصين «المحترفين» في هذا الفرع، وإن كان قد أضفى على كتاباته
طابعًا فلسفيًّا شيقًا. فقد كان ستروس يؤمن بأن البحث الأنثروبولوجي
يحتاج إلى قدر محدود من الدراسة الميدانية التجريبية، وإلى قدر كبير من
التفكير والتحليل العقلي. وكان — مثل كبار الفلاسفة الفرنسيين — يؤمن
بأن التجربة لا تتضمن الحقيقة، بل إن الحقيقة «تضاف» إلى التجربة
بواسطة العقل. ومن الطبيعي بالنسبة إلى الباحث الذي يجعل للتحليل
العقلي الدور الأساسي، أن تكون فكرة «الثبات» أساسية عنده؛ لأن مهمة
العقل هي البحث عن عناصر الثبات من وراء المتغيرات. ولو كان ستروس يتبع
المنهج الأنثروبولوجي التقليدي لما بدأ بحثه وفي ذهنه فكرة لا تتزعزع،
هي محاولة الوصول إلى المبادئ العامة للعقل البشري من خلال دراسة
الإنسان البدائي.
لقد كان ستروس، كما وصفه واحد من نقاده من الأنثروبولوجيين
«المربوطين على
الكراسي
Chair-borne anthropologists»
١٢ (أو المحمولين على الكراسي)، الذين لا يكترثون بالإقامة
طويلًا بين الشعوب البدائية التي يدرسونها، بل يقيم في مكان بالقدر
الذي يسمح له بجمع المادة اللازمة لاستدلالاته العقلية والرياضية، التي
هي في الواقع مهمته الأساسية. أما المعايشة وتعلُّم اللغات الأصلية
للسكان والإقامة بينهم كأنه واحد منهم، فكلها أمور تدخل في باب
«التفاصيل» التجريبية التي كان يترفع عنها. وكانت نتيجة ذلك أنه قام
بمغامرة غير مضمونة العواقب؛ فهو لم يستطع أن يلقي ضوءًا على عقل
الإنسان المعاصر من خلال الإنسان البدائي؛ لأن الهوة التي تفصل بينهما
سحيقة؛ ولأن المسافة التاريخية والحضارية هائلة إلى حد لا يكاد معه
القول بوجود «قوالب ثابتة» يفيدنا في إلقاء أي ضوء على السلوك المعقَّد
للإنسان المعاصر. كما أنه (وهو الأهم) ربما كان قد شوَّه صورة الإنسان
البدائي حين قصَر همَّه على كشف «سماته الأساسية»؛ إذ إنه لم يحاول أن
يفهمه فهمًا متكاملًا، يعايش فيه كل جوانب حياته، بل كان ما يهمه منه
هو أن يجد فيه صورة بدائية أو «طبعة أولى» لتلك السمات التي يعدها
أساسية في الذهن البشري بوجه عام. ومن شأن هدفٍ كهذا أن يجعل البحث في الإنسان البدائي
مجرد وسيلة
لإثبات هدف فلسفي مسبق أصر عليه الباحث منذ البداية.
وهكذا كان الجانب الفلسفي الذي لا ينكر في أبحاث ستروس، سببًا للحملة
التي شنَّها عليه علماء متفرعون للأنثروبولوجيا، ينظرون إلى بحوثهم
المتعلقة بالحضارات القديمة على أنها غاية في ذاتها، تستهدف بقدر
الإمكان فهمَ هذه الحضارات من داخلها دون إقحام لأي هدف خارجي. ولكن
الفلاسفة، من جانبهم، لم يقتنعوا بالأسس الفلسفية التي ارتكز عليها
تفكير ستروس، ولا بالأهداف التي سعى هذا التفكير إلى تحقيقها. وكان
الخلاف المشهور بين ليفي ستروس وجان بول سارتر علامة مميزة للتباين في
وجهات النظر بينه وبين الفلاسفة بوجهٍ عام.
إن البنائية في نظر سارتر مذهب «تعالمي Scientiste» يقوم على الأخذ بنموذج علمي معين (قد يكون
لغويًّا، أو رياضيًّا … إلخ) ثم تطبيقه على جميع الميادين، وفرضه فرضًا
حتى على التركيب الأساسي للذهن البشري. والفيلسوف أو العالم البنائي لا
يرى أمامه، في كل شيء، سوى هذا النموذج الواحد المستمد من أصل علمي،
والذي يبهره إلى حد أنه يتجاهل كل شيء ما عداه. ومن هنا كانت البنائية
فلسفة تصلح لمجتمع تسوده وتحكمه التكنوقراطية؛ لأن التكنوقراطي بدوره
إنسان متخصص في ميدان فني أو علمي معين، ويعجز عن إدراك أي شيء إلا من
خلال ما تخصَّص فيه، بحيث تكون نظرته إلى الأمور دائمًا جزئية، محدودة،
بالرغم مما تدعيه من دقة وانضباط. هذا التكنوقراطي هو النموذج المطلوب
للإنسان في المجتمع البورجوازي؛ لأنه عظيم الكفاءة والإنتاجية في
ميدانه، ولكنه عاجز عن رؤية الصورة الكلية والأهداف العامة، ولا يخطر
بباله أصلًا أن يسعى إلى تغيير المجتمع ما دام هذا التغيير يفترض
الرؤية الشاملة؛ ولذلك فإن البنائية، التي هي فلسفة مجتمع تكنوقراطي،
تخضع دون أن تشعر للأيديولوجية البورجوازية السائدة في مجتمع لا يُطلب
فيه من الإنسان إلا الدقة والانضباط، مع ترك التركيب الأساسي للمجتمع
على ما هو عليه دون أدنى محاولة للتغيير.
على أن ستروس لم يحاول التبرؤ من صفة «التعالمية»، ولم يجد فيها ما
يدعو إلى الخجل. فهو يعترف بأنه يريد أن يبحث الإنسان بطريقة موضوعية،
ومن ثمَّ فلا بد أن يُخضعه لنموذج علمي صارم. ومثل هذا البحث لا ينبغي
أن يُعَد داخلًا في إطار أيديولوجية معينة؛ لأنه في حقيقته خارج عن
الأيديولوجية. ولا يمكن بالمثل أن يُتَّهم بأنه تفكير مجتمع تكنوقراطي؛
إذ إنه لا يضع نفسه داخل هذا المجتمع ولا يتحدث من وجهة نظر مندمجة
فيه. فمن طبيعة البنائية أنها ترفض الطابع الظاهري للعالم والإنسان؛
لكي تكتشف بناءاتهما الخفية. مثل هذا الرفض يجعلها بمنأًى عن كل
التسميات أو الاتهامات المستمدة من وجهة نظر مندمجة في العالم ومعترفة
بمظهره.
ولكن، هل هذا رد مقنع؟ قد يكون مقنعًا للبنائي ذاته، ولكن ناقده
يستطيع أن يرد بأن الخروج عن الأيديولوجية هو ذاته نوع من
الأيديولوجية. وإن رفض الطابع الظاهري للعالم والوقوف بمعزل عن محاولات
تغييره، هو بالضبط ما تريده البورجوازية من الإنسان التكنوقراطي؛ لكي
يخلو لها الجو، ويزداد تسلطها إحكامًا. وإن نزعة ستروس اللاسياسية
(
a-politisme)
١٣ التي حرص فيها على أن يظل بعيدًا عن الميدان العملي، تسدي
إلى الأيديولوجية المحافظة خدمةً جليلة. وعلى أية حال، فإن المسألة
ستظل دائمًا موضوعًا للخلاف بين وجهتي نظر أساسيتين؛ إحداهما تبحث عن
الدلالة الأيديولوجية لكل سلوك نظري أو عملي، حتى ولو كان يعلن ابتعاده
عن الأيديولوجية، والأخرى تؤكد أن الأيديولوجية معناها فرض تفسير على
الحوادث من خارجها وإخضاعها لغايات ليست كامنة فيها، بينما المطلوب من
العلم أن يقدم تفسيرًا داخليًّا للحوادث وفقًا لما يكمن في باطنها من
عناصر فحسب.
وهكذا يبرر ستروس منهجه في التفكير على أساس أنه هو الذي يتيح كشف
الطبيعة الباطنة للظواهر، دون إقحام لعناصر خارجية. ولكن الأمر الملفت
للنظر حقًّا هو أن كلًّا من الجانبين البنائي والوجودي، يؤكد أن طريقته
الخاصة في التفكير هي التي تتيح بحث الظواهر من الباطن والتغلغل في
أعماقها، ويتهم الجانب الآخر بأنه يتبع منهجًا خارجيًّا أو سطحيًّا في
التفكير، لا يسمح بالاندماج في اللب العميق للظواهر. فكما رأينا سارتر
يتَّهم ستروس بالنزعة التعالمية التي تفرض على الظواهر نموذجًا علميًّا
خارجًا عنها، وتعجز بذلك عن فهم حقيقتها الباطنة أو العمل على تغييرها؛
فإن ستروس يوجه اتهامًا مماثلًا، ولكن من زاوية أخرى، إلى سارتر وإلى
الوجودية بوجه عام. وقد خصص ستروس فصلًا كاملًا من كتاب «التفكير غير المتحضر La Penséesauvage لنقد
وجهة نظر سارتر في كتاب «نقد العقل
الجدلي Critique de la raison dialectique وهو نقدٌ لم ينصب في واقع الأمر على سارتر
وحده، بل على وجهة نظر كاملة تمثل وجودية سارتر جانبًا واحدًا من
جوانبها المتعددة. فهناك مجموعة كاملة من المذاهب الفلسفية تتصور أنها
تصل إلى العمق الباطن للإنسان من خلال «التجربة المعاشة»، وتشمل هذه
المجموعة، إلى جانب الوجوديين، مفكرين وفلاسفة مثل برجسون ودلتاي،
وربما هوسرل أيضًا. ولكن الواقع أن هذه التجربة المعاشة ليست، كما تبدو
للوهلة الأولى، الطريق الموصل إلى ما هو كامن وأصيل في الإنسان، بل
إنها — في نظر ستروس — لا تعدو أن تكون سطحًا خارجيًّا تكمن من ورائه
قواعد بنائية أساسية، هي تلك القواعد التي تتحكم في العلاقة بين الأنا
والآخر.
فالتجربة المعاشة، مهما بدت عميقة، ليست إلا النتاج الظاهري لأساس
أعمق، هو البناء الذي يشكل معناها الباطن.
ويعتقد ستروس أن الوجوديين، وأنصار التجربة المعاشة بوجه عام، يصعدون
مشاغلهم الشخصية إلى مرتبة المشكلات الفلسفية، وهذا — على حد تعبيره في
كتاب
Tristes tropiques الذي كان نوعًا
من الترجمة الذاتية لحياته، موضوعة في إطار أنثروبولوجي — «أمر محفوف
بالمخاطر، وقد يؤدي إلى نوع من الفلسفة السوقية …»
١٤ ذلك لأن التفكير عندما يدخل المرحلة التعليمية الموضوعية،
لا ينبغي أن يعود مرة أخرى إلى الإهابة بالتجارب الشخصية والفردية التي
كان يدور حولها قبل وصوله إلى هذه المرحلة، والتي تجاوزها عمدًا عن
طريق التجريد وبناء أنساق شخصية. فأمثال هذه المذاهب ترتد ثانية إلى
المرحلة قبل العلمية، وتنسى أن العلم، بتجريداته ونماذجه الشكلية،
يستطيع أن يلقي ضوءًا حتى على التجربة المعاشة ذاتها، ويفسرها بطريقة
أكثر ثراء. والمهم في الأمر أن هذا الصراع بين ستروس والوجوديين يذكرنا
بالصراع الذي دار قبله بما يزيد عن قرن من الزمان، بين كير كجورد،
فيلسوف الذاتية المشهور، وبين هيجل، نصير التجريد العقلي والنسق الفكري
الشامل.
١٥ ويبدو أن كل عصر يشهد فصلًا من فصول هذا الصراع الذي لا
ينتهي بين أنصار الفكر العيني المُعايِش للحياة وأنصار الفكر التجريدي
الذي يسعى دوامًا إلى الشمول.
ولقد كان من نتيجة هذا الصراع بين النزعة التجريدية عند ستروس،
والنزعة العينية عند سارتر، أنهما تبادلا الاتهامات في ميدان آخر، هو
ميدان التاريخ، الذي كان سارتر يتأمله في حركته وديناميكيته وصيرورته
الدائمة، على حين كان ستروس يجمده؛ لكي يدرس نماذجه بطريقة سكونية؛ فقد
عاب سارتر على ستروس أن فلسفته تتهرب من الواقع الحي لكي تُغرق نفسها
في تجريدات شكلية تنصبُّ على حضارات بدائية يصفها ستروس نفسه بأنها
«خارج التاريخ». ومن ثم فإنها تعجز عن الانتقال من ذلك الميدان الذي
كان فيه التاريخ متوقفًا أو مجمدًا، إن جاز هذا التعبير، إلى مجال
التاريخ الحاضر في تدفُّقِه نحو المستقبل. ومن المؤكد أن ستروس عاجز عن
تطبيق أية نتيجة يتوصل إليها في مجال بحثه، على الإنسان المعاصر،
بالرغم من كل ما بذله من جهود لتأكيد وجود تشابهات أساسية في «الطبيعة
البشرية» بمعناها العام، وبغضِّ النظر عن موقعها من التاريخ.
على أن ستروس يرد على هذا الاتهام بأن الوجودية، وخاصة عند سارتر، هي
التي تمركزت حول الحاضر، واتجهت صوب المستقبل أكثر مما ينبغي. صحيح
أنها تمجِّد التاريخ وتؤكد تدفقه وصيرورته، ولكنها في نظرتها إلى
التاريخ تفهم الماضي من خلال مقولات الحاضر فحسب، ولا تعطي هذا الماضي
حقه، بل لا تعترف للآخرين بالحق في دراسة هذا الماضي لِذَاته. وإنه لمن
الطبيعي للمذهب الذي يرتكز على مقولات الذاتية، وعلى تحليل الإنسان في
موقفه العيني وفي «مشروعه» الحي، أن يكون متمركزًا حول الذات، وحول
الحاضر، وأن يكون التاريخ الماضي في نظره هو ما يؤدي إلى هذا الحاضر،
والمستقبل هو ما ينبثق عنه. على أن النتيجة التي ترتبت على هذا هي أن
سارتر قد تجاهل العقلية البدائية، وبدا كما لو كان يساير الرأي القائل
بأن البدائيين عاجزون عن التحليل العقلي والبرهان المنطقي، وهو استنتاج
غير مستغرب عند فيلسوف يتخذ من الذات، في موقع تاريخي معين، مركزًا
يدور حوله كل تفكيره. وإذا كانت الوجودية تتهم البنائية بأنها تتطلع
إلى الماضي المتجمد خوفًا من مواجهة الحاضر والمستقبل وتهرُّبًا من
مسئولية اتخاذ موقف منهما؛ فإن البنائية تعود، من جانبها، فتتهم
الوجودية بأنها تُغمض عينيها عن شكل أساسي من أشكال التجربة البشرية،
هي تلك النظم والطقوس والأساطير التي عاشت بها الإنسانية البدائية،
وتتصور أن السعي من أجل مستقبل أفضل يتحرر فيه الإنسان من شتى أنواع
العبودية، معناه تجاهل البناءات الاجتماعية والفكرية للإنسان في صورتها
النقية الأولى، أو أن الهدف الأول يتعارض مع الثاني، مع أنه لا تعارض
بين الاثنين على الإطلاق.
وهكذا فإن البنائية والوجودية، ممثلتين في ستروس وسارتر، تتبادلان
الاتهامات بصورة يبدو معها كأن المذهبين يقفان على طرفَي نقيض، وكأنه
لا سبيل على الإطلاق إلى إيجاد أية وسيلة للتقريب بينهما. ومن المسلَّم
به أن المسافة بين هذين المذهبين كبيرة إلى أبعد حد، وإن بينهما
اختلافًا أساسيًّا في منهج التفكير ووسائله وأهدافه. ومع ذلك فربما كان
من الممكن، بشيء من الجهد، أن يتلمَّس المرء بعض النقاط التي يتلاقى
فيها المذهبان، أو على الأقل، بعض أوجه الشَّبَه غير المباشرة، وربما
غير المقصودة، بينهما.
ولنلاحظ أولًا، فيما يتعلق بستروس وسارتر على وجه التحديد، أن كلًّا
منهما قد اتصل بالماركسية خلال فترة معينة من حياته؛ ستروس في أولها
وسارتر في آخرها. فقد اعترف ستروس في سيرته الذاتية بأنه كان في شبابه
ماركسيًّا. أما سارتر فإن قصة التِقائه المتأخر بالماركسية معروفة
للجميع. ومن هنا كانت كتابات كل منهما تلجَأ، بدرجات متفاوتة، إلى
المصطلحات الماركسية، على الرغم من أنهما استخدما هذه المصطلحات بمعانٍ
متباينة. وعلى أية حال فإن من القرائن غير المباشرة على أن التضاد بين
البنائية والوجودية ليس بالحدة التي يصوَّر بها عادة: أن ستروس، برغم
خلافه الشديد مع سارتر، وقد أهدى كتاب «التفكير غير المتحضر
La Pensée sauvage» إلى
ذكرى «ميرلو بونتي» الذي كان أقرب إلى الوجودية بكثير منه إلى
البنائية.
١٦
على أننا نستطيع أن نجد نواحيَ أخرى يتشابه فيها المذهبان دون وعي
منهما بهذا التشابه. وأهم هذه النواحي، رأي ستروس في الطبيعة والثقافة،
الذي نجد فيه ما يذكِّرنا برأي سارتر في الوجود والماهية. فمنذ كتاب
«البناءات الأولية لنظام القرابة Les Structures élémentaires de la parenté وهو الكتاب الحاسم
والأساسي في المذهب البنائي بأكمله، يؤكد ستروس وجود تضاد أساسي بين
الطبيعة
والثقافة Nature et culture في الإنسان. فليس ثمة إنسان طبيعي، وإنما
يكتسب الإنسان طبيعته من خلال ثقافة معينة. وهذا التقابل بين طبيعة
الإنسان وثقافته وخضوع طبيعته للعناصر الثقافية، هو الذي يميز الإنسان
عن الحيوان، الذي لا يعيش إلا في «الطبيعة»، ولا يحوِّر هذه الطبيعة
إلا إذا حور نفسه من حيث هو نوع حيواني. وربما بدا لأول وهلة أن رأي
ستروس في هذه المسألة ينطوي على مفارقة؛ إذ إن هدفه الذي لا يَمل
تكراره هو أنه يريد الوصول إلى الطبيعة الأساسية للذهن البشري. مما
يوحي بأن لهذا الذهن تركيبًا «طبيعيًّا» ثابتًا. ولكن ستروس يؤكد، من
ناحية أخرى، أن طبيعة الإنسان تكمن في خروجه عن الطبيعة. فإذا أردنا أن
نبحث في ذلك التركيب الثابت الذي يميز الذهن البشري على نحو شامل،
فلنبحث عنه في تلك النظم الثقافية (أي اللا طبيعية) التي انفصل عن
الحيوان منذ أن وضعها.
وهذا يعني، بعبارة أخرى، أن ستروس عندما بحث عن المبادئ الكلية للذهن
البشري بوجهٍ عام، لم يحاول أن يلتمسها في تكوين طبيعي لم يتدخل فيه
الإنسان، وإنما تلقَّاه على ما هو عليه، بل إنه اهتدى إليها في ذلك
التنظيم الثقافي الذي يتحكم به الإنسان في حياته، والذي يُعبَّر مباشرة
عما هو أساسي في طريقة تفكيره.
وإذا كان من الشائع النظر إلى الطبيعة التي لم يخلقها الإنسان على
أنها هي الأصل، وإلى الثقافة على أنها الفرع أو الناتج، فإن ستروس يقلب
الآية، ويرى الثقافة أصلًا والطبيعة (في حالة الإنسان بالذات) مشتقة
منها. وإذا كان من الشائع أيضًا وصف الطبيعة الخام بأنها ثابتة
والثقافة بأنها نسبية متغيرة، فإن ستروس يؤكد أن الثقافة هي العنصر
الثابت في تكوين الإنسان، ومنها يستمد الإنسان ثبات طبيعته. فمنذ
اللحظة التي يحظر فيها زواج المحارم، يكون معنى ذلك ظهور عنصر ثقافي في
المجتمع الإنساني (وهو الحظر، أي التنظيم الاجتماعي، والقانون) يشكل
الطبيعة، وهي غريزة الجنس، ويتحكَّم فيها. ففي هذا الحظر والتحريم
تتجاوز الطبيعة ذاتها وتبدأ في تكوين بناء جديد، يحل فيه التنظيم
المعقد المميز للإنسان، محل العفوية والعشوائية المبسطة التي تميز بناء
الحياة الحيوانية.
ولسنا نود أن نستطرد في وصف العلاقة بين الطبيعة والثقافة عند ستروس،
بل إن ما قلناه يكفي لإيضاح المسألة التي نريد أن ننبِّه إليها، وأعني
بها وجودَ نوع من التشابه، ربما لم يتنبه إليه ستروس ولا سارتر بين
البنائية والوجودية في هذه النقطة الأساسية؛ ذلك لأن من القضايا
الرئيسية في الوجودية، تلك القضية القائلة إن وجود الإنسان سابق
لماهيته، أي إن ما يميز الإنسان هو عدم وجود طبيعة ثابتة مميزة له. ومن
المؤكد أن هناك تشابهًا قويًّا بين تأكيد ستروس أن الإنسان يصنع طبيعته
عن طريق الثقافة، وتأكيد سارتر أن الإنسان لا يبني وجوده على ماهية
ثابتة، بل يصنع ماهيته من خلال وجوده. وفي كلتا الحالتين تأكيد لحقيقة
أساسية، هي أن أهم ما يميز الإنسان هو ما يصنعه الإنسان نفسه، مع فارق
هام مستمد من مجال اهتمام كل من المفكرين الكبيرين، هو أن ستروس كان
يتحدث عن الإنسان الاجتماعي، على حين أن مدار حديث سارتر كان الإنسان
الفردي.
وأخيرًا، فإن التضاد بين نزعة التجريد عند البنائيين والنزعة العينية
عند الوجوديين يمكن تخفيفه إلى حد غير قليل، إذا أدركنا أن كل طرف يحمل
في ثنايا مذهبه شيئًا من صفات الطرف الآخر. فلم تكن الكتابات الوجودية
في كل الأحوال عينية تنبض بالحياة، كما يشيع وصفها عادة، وإنما كانت في
أحيان غير قليلة تتسم بقدر كبير من الجفاف التجريدي، وأوضح مثَل على
ذلك كتابَا سارتر «الوجود والعدم» و«نقد العقل الجدلي»، اللذان كانا
يعرضان مضمونًا فكريًّا عينيًّا من خلال شكل وأسلوب لا يقل في تجريده
عن كتابات ستروس.
ومن جهة أخرى ففي وسع المرء أن يجد في كتابات ستروس جانبًا من
اللمحات الشعرية التي تخفف، من آن لآخر، من غُلَواء التجريدات
المتطرفة. ويظهر ذلك بوضوح حين يتحدث عن الموسيقى ويربط بينها وبين
الاسطورة؛ إذ يجد فيهما معًا إيقاعات متكررة وتنويعات على ألحان (أو
موضوعات) رئيسية. وفضلًا عن ذاك فهما تشتركان معًا في أن ما يفهمه
المرء منهما خاص به إلى حدٍّ بعيد، وفي أن من يتلقى الرسالة الموسيقية
أو الأسطورية وليس مرسلها، هو الذي يتحكم في معناها. وتثير الموسيقى
والأسطورة، من حيث هما أسلوبان ثقافيان، استجابات انفعالية في المخ
البشري، يمكن عن طريق تحليلها فهمُ البناء اللاشعوري للذهن البشري.
وبالفعل يكرس ستروس جزءًا كبيرًا من مجلداته الثلاثة الضخمة التي ألفها
بعنوان «أسطوريات
Mythologiques للكشف
عن الآليات المنطقية التي تثير الاستجابات الانفعالية، ويؤكد وجود
توازٍ بين البناء المنطقي والاستجابة الانفعالية، أي بين الجانب
الثقافي والطبيعي في الإنسان. ويمجد ستروس الموسيقى في لغة يختفي فيها
جفاف تجريداته الرياضية المألوفة؛ فيقول مثلًا: «إن الموسيقى هي وحدها،
من بين سائر اللغات، التي تتسم بطابع متناقض هو أنها معقولة أو مفهومة،
وفي الوقت ذاته غير قابلة للترجمة. وهذه السمات تجعل خالق الموسيقى
كائنًا أشبه بالآلهة، وتجعل الموسيقى ذاتها السر الأعظم في المعرفة
البشرية؛ فكل فروع المعرفة الأخرى تسير في أعقابها، وهي التي تحمل
مفتاح تقدمها.
١٧
والواقع أن كِتاب «الأسطوريات» يحفل بأمثال هذه الارتباطات الشعرية
التي يمزجها ستروس بتحليلاته الأنثروبولوجية، فيخفِّف إلى حدِّ بعيد من
جفافها، ويثبت أن للجانب الانفعالي العيني وجودًا لا يمكن تجاهله، وسط
الصيغ الرياضية المفرطة التجريد، التي اشتهرت بها كتاباته. ولعل في هذا
ما يدل على أن الشقة التي تفصل بين بنائيته وبين الوجودية تضيق أحيانًا
إلى حد لا يتصوره من يتأملون كِلا المذهبين من خلال الصيغ التي شاع
إطلاقها عليهما دون تدقيق أو تمييز.