ميشيل فوكو وبناء العقل الحديث
حين نشر ميشيل فوكو M. Foucault
كتاب «الكلمات
والأشياء Les Mots et leschoses» في عام ١٩٦٦م، أحدث الكتاب ضجة كبرى، ورآه
البعض مبشرًا بفلسفة جديدة، بينما نظر إليه آخرون على أنه أضاف بعدًا
جديدًا إلى الحركة التي سبق أن أثمرت في ميادين اللغويات
والأنثروبولوجيا والتحليل النفسي والتفسير الماركسي. ولكن هذه الضجة
الصاخبة كانت في واقع الأمر ضجة موقتة؛ إذ إن الكتاب بعد مُضِي عشر
سنوات على نشره، لم يثبت قدرته على الصمود للزمن، وأصبح من المألوف
كلما تعرض باحث لهذا الكتاب في الوقت الحالي أن تغلِب لهجةُ الانتقاد
عنده على لهجة الإعجاب، بل إن البعض يعربون عن اعتقادهم بأن الكتاب كان
«موضة» مرتبطة بفترة معينة، وأنه — برغم عدم اعترافه بالتاريخ — قد
أصبح اليوم ذا قيمة تاريخية فحسب. ومن هنا؛ فإننا لا نعتزم الإطالة في
الكلام عن فوكو وعن كتابه الرئيسي هذا؛ إذ إن الاتجاهات الأكثر ثباتًا
في البنائية أحق منه بالبحث المطول.
في كتاب «الكلمات والأشياء» يعرض فوكو الصور البنائية المختلفة التي
أخذها العقل الأوروبي منذ عصر النهضة حتى القرن العشرين. وقد يتبادر
إلى الذهن للوهلة الأولى أن مثل هذا العرض لا بد أن يكون تاريخيًّا، ما
دام موضوعه قد تغير طابعه على مر القرون الخمسة التي اتخذها المؤلف
ميدانًا لبحثه. ولكن حقيقة الأمر أن فوكو نظر إلى العقل — الذي أطلق
عليه اسمه اللاتيني Ratio — نظرة نسبية
لا علاقة لها بالتاريخ. فالعقل قد تغيَّر طابعه في مرحلة من مراحل
بحثه؛ لأن هناك «بناءً» مميزًا لكل من هذه المراحل. أما تلك التغيرات
التي تطرأ نتيجة لتفاعل العقل مع الأحداث وحركته خلال الزمان؛ فإن فوكو
لا يهتم بها، ولا يتحدث عنها في كتابه. وهكذا فإن كل ما يقدمه إلينا هو
مجموعة من البناءات المغلقة إغلاقًا محكمًا، والتي اتخذها العقل خلال
الفترة الحديثة من الحضارة الأوروبية. أما كيفية الانتقال من كل بناء
إلى آخر، والعوامل التي أدَّت إلى تغير البناءات، فهذا ما لا يحاول
فوكو أن يفسره.
ولقد وضع فوكو لكتابه الرئيسي هذا عنوانًا فرعيًّا هو:
Archéologie des sciences humaines
وهو عنوان يمكن أن يعني في اللغة العربية أمورًا كثيرة؛ فلفظ
archéologie هو في معناه المباشر:
علم الآثار. وعلم الآثار علم تاريخي، فهل كان هذا ما يهدف إليه فوكو؟
الحقيقة أن رفضه للنزعة التاريخية يؤدي إلى استبعاد هذا التفسير من
أساسه. كذلك قد يدل هذا اللفظ على فكرة القِدم، بحيث يكون المعنى
المقصود هو البحث في الجذور القديمة للعلوم الإنسانية، أو في مبادئها
الأولى
١ لا بالمعنى التاريخي، بل بالمعنى البنائي. وهذا بالفعل هو
ما يقصده فوكو. فهو لا يريد أن يدرس ماضي العلوم الإنسانية من خلال
وثائقها القديمة (كما يفعل علماء الآثار في ميدانهم الخاص)؛ لكي يتابع
بالتدريج تلك العملية التي أدَّتْ، من خلال تحولات تعاقبت تاريخيًّا في
خط متصل، إلى اتخاذ العلوم الإنسانية طابعها الراهن. بل إنه يجمد كل
وضع اتخذته هذه العلوم خلال تلك الفترة، ويتأمل كل مرحلة من مراحلها من
خلال عناصر الثبات فيها، ولا يعالجها أبدًا على أنها مرحلة انتقالية؛
لأن بناءها يبدو له متماسكًا؛ ولأنه يُسقط من حسابه عناصر التحول
والتغير الكامنة في كل مرحلة، لكي يحتفظ بهيكل بنائي ساكن يراه أنه هو
المميز حقًّا لكل مرحلة.
ففي عصر النهضة نرى بناء أساسيًّا واحدًا يسود جميع المجالات، ويعبر
عنه فوكو بفكرة الفلك الكُري La sphère: فالمعارف كلها موحدة، ومقولة التشابه
والتماثل هي السارية على جميع الميادين، والمعرفة ذاتها متناهية مقفلة
دائرية. ومثل هذا التصوير لعصر النهضة يعتمد في الواقع على الاستشهاد
بآراء شخصيات ثانوية في ذلك العصر؛ ولذلك التجأ فوكو في كثير من
المواضع إلى آراء شخصيات مغمورة، محققًا بذلك هدفين؛ أولهما: أن يبهر
القارئ بمعارفه الواسعة وقراءاته المستفيضة، فيجتذب بذلك أولئك الذي لا
يبحثون في الفكر إلا عن تبحر صاحبه
érudition. وثانيهما: أن يجد في
هذه الشخصيات الثانوية، التي لم تكن تتابع حركة الرفض الناشئة في ذلك
الحين، تأييدًا لذلك التصوير البنائي الذي عبر به عن روح عصر النهضة.
ولو كان فوكو قد رجع إلى الشخصيات الكبيرة في ذلك العصر؛ لأدرك أن كل
شيء كان موضوعًا موضعَ الشك والتساؤل، وأن العقول الناضجة لم تكن ترى
سوى إشكالات وأسئلة قلقة، حيث كانت العقول الهزيلة ترى كلًّا متكاملًا
مقفلًا على ذاته. ومن الجائز أن هذه الأسئلة لم تكن تُطرح دائمًا
بطريقة صارخة، وأن الشك والقلق كان يخشى التعبير عن كل ما ينطوي عليه
من هَدْم لنظام المعرفة القديم، ولكن من المؤكد أن اتجاه أقطاب عصر
النهضة كان واضحًا، وأن بركانًا كان يغلي تحت السطح، على حين أن فوكو
لم يركز نظرته إلا على ذلك السطح الساكن الراكد، فكان من الطبيعي ألا
يُصوَّر البناء الفكري لذلك العصر إلا على أنه أشبه بالفلك المقفل
المستدير.
ومثل هذا يقال عن نظرته إلى العصر الكلاسيكي في القرنين السابع عشر
والثامن عشر، حيث كان «النظام Ordre»
يسود جميع مجالات المعرفة والنشاط الذهني للإنسان. ففي وسعنا أن نوافق
معه على أن النظام كان بالفعل حقيقة أساسية في ميادين الرياضيات والفلك
والفيزياء، وفي الإبداع الفني (القواعد الكلاسيكية للعمل الفني)
والميدان السياسي (نظام الحكم المطلق). ولكن هذا النظام بدوره لم يكن
يخلو من قلق وتوثُّب وتحفز لكسر كل إطار يدور في داخله النظام الموجود.
والدليل على ذلك أن الفترة الأخيرة من هذا العصر هي التي شهدت حركة
التنوير، وهي حركة كان أهم ما يميزها هو تطلعها إلى عصر مقبل تتحطم فيه
قيود النظام المستتب، سواء أكان ذلك في المجال العقلي أم في المجال
السياسي والاجتماعي. ومن الظلم إدراج حركة التنوير، التي كانت تتضمن
بذور ثورة كاملة، ضمن إطار عصر يوصف بأنه عصر شكَّلتْ فيه المعرفة
نسقًا لا يحيل إلا إلى ذاته، ولا تستمد أية حقيقة فيه قيمتها إلا من
موقعها في كلٍّ أوسعَ منها، وبأنه عصر لا تظهر فيه أدنى بادرة لفكرة
التطور والتحول.
وحين ينتقل فوكو إلى القرن التاسع عشر، يصفه بأنه هو القرن الذي
«اخترع» التاريخ واستعاض به عن النظام. على أنه لما كانت نظرة فوكو في
أساسها غير تاريخية، فإنه يُسيء فهم البناء الأساسي لهذا العصر إلى حد
بعيد. ومثال ذلك أنه لا يتحدث عن ماركس إلا في صفحات قلائل، ويستبعده
بسرعة على أساس أنه لم يأت بجديد بالقياس إلى ريكاردو. ويذهب إلى أنه
لم يتجاوز نفس المشكلات، ونفس الإطار المعرفي، الذي دارت فيه أبحاث
ريكاردو، ويصف الموجة التي أثارها الاثنان معًا بأنها «زوبعة في
فنجان».
٢ وليس من الصعب أن يدرك المرء الأسباب التي دعت به إلى
إصدار مثل هذا الحكم الجائر؛ فتفكير ماركس يخرج عن إطار البناء الموحد
الذي حدده للقرن التاسع عشر، كما أن ثبات البناء يقتضي ألا يكون قد حدث
تحوُّل أساسي في الموضوع الواحد بين شخصيتين كبيرتين مثل ريكاردو
وماركس.
أما العصر الحاضر؛ فإن فوكو يقسم المجال المعرفي فيه إلى أبعاد
ثلاثة، الأول منها هو العلوم الرياضية والفيزياء، والثاني هو العلوم
التي أطلق عليها اسم «التجريبية»، كالاقتصاد والبيولوجيا واللغويات،
والثالث هو التفكير الفلسفي. وفي رأيه أن العلوم الإنسانية تبحث لنفسها
عن مكان في هذه المجالات الثلاثة؛ إذ تحاول البحث عن صياغة رياضية،
وتطبيق الأسلوب التجريبي، وإن كانت تخضع في كثير من الأحيان لإغراء
الفكر التأملي. ولكن فوكو لم يتعمق في بحث المشكلات الجوهرية التي
تواجه العلوم الإنسانية في عصرنا الحاضر، كالتضاد بين الفهم والتفسير،
وبين فكرتي البناء الثابت والمنشأ التاريخي … إلخ.
ومن خلال هذا العرض السريع للاتجاهات الأساسية في كتاب «الكلمات
والأشياء»، نستطيع أن ندرك العيوب الأساسية التي اتسمت بها نظرته إلى
بناء الفكر الأوروبي الحديث منذ عصر النهضة حتى اليوم.
فكتابه يحفل بمحاولات التقسيم الثلاثي الذي يسري، بطريقة واحدة، على
جميع المجالات، وهي المحاولات التي اشتهر بها كانْت في تقسيمه الثلاثي
للمقولات الذهنية، وتطبيقه لهذه التقسمات على بحوثه في مختلف المجالات،
كما اشتهر بها هيجل في التزامه للإيقاع الديالكتيكي الثلاثي الذي يظل
يحكم المذهب من بدايته إلى نهايته. فالانتقال من عصر النهضة إلى العصر
الحاضر كان انتقالا ثلاثيًّا مبنيًّا على نموذج هندسي، هو الانتقال من
الشكل الكري المقفل La sphère الذي
كانت فيه المعرفة محددة مقفلة، إلى المسطح le plan الذي يسوده النظام الهندسي في العصر
الكلاسيكي، إلى المثلث أو الثلاث
la trièdre الذي يتألف منه العلم المعاصر. وأمثال هذه
التقسيمات قد تُعجب هواة التماثلية والتناسق الشكلي، ولكنها لا تفيد في
الكشف عن طبيعة الواقع؛ لأن واضعها كثيرًا ما يضطر إلى تجاهل عناصر
أساسية، أو التعسف في تفسير عناصر موجودة، من أجل ضمان الانسجام الشكلي
الظاهري للبناء. وفي حالة فوكو، نجده يتجاهل القرن التاسع عشر؛ لأنه لا
يدخل في الإطار الثلاثي الذي وضعه، فضلًا عن أن فكرة المسطح ليست هي
الفكرة المميزة لعصر تسوده روح النظام، بل إن أي شكل هندسي آخر يصلح
لتحقيق هذا الغرض.
ومن ناحية أخرى فإن فوكو، حتى لو كان قد أتى بنموذج يصلح للتعبير عن
كل مرحلة «من داخلها»، فإنه يعجز تمامًا عن تفسير الانتقال من مرحلة
إلى أخرى، أي عن تفسير التغير الذي أدى إلى تحول الفكر الأوروبي من
بناء إلى آخر؛ فموقفه يستلزم القول بوجود انفصال أساسي بين كل مرحلة
وأخرى، مع أن المعقولية تقتضي السعي إلى إيجاد اتصال بين المراحل،
والتاريخ يستحيل تصوره في ظل نظرة تضع هُوة لا قرار لها بين فتراته
المختلفة، وتقف عند حد فَهم كل فترة في إطارها الداخلي الخاص. وليس
أدلَّ على ذلك من أن فوكو وجد نفسه مضطرًّا إلى القول بوجود
«انقطاع
غامض rupture énigmatique» في تفسير الانتقال من عصر النهضة إلى العصر
الكلاسيكي، أو من عصر «النظام» إلى عصر «التاريخ»، وهو تعبير يكشف
بطريقة صريحة عن العجز عن الفهم، ويدل على أن التمسك المفرط بالبناء
والنسق يمكن أن يصبح عقبةً في وجه المعقولية الصحيحة.
على أن أهم أوجه النقد التي يمكن أن توجه إلى فوكو هو استخفافه
بالتاريخ، وإنكاره أن يكون العقل البشري قد أحرز تقدمًا منذ عصر النهضة
حتى عصرنا الحاضر، وكما هو واضح فإن هذا نقد لا ينطبق على فوكو وحده،
بل ينطبق على البنائيين عمومًا، وإن كان إهمال فوكو لفكرة الاتصال
التاريخي أكثر وضوحًا؛ لأن الموضوع الذي عالجه في كتابه الرئيسي يرتبط
ارتباطًا وثيقًا بموضوع التاريخ. وعلى أية حال فإن النقد الذي يوجه إلى
فوكو في هذا الصدد يمكن أن يُعمَّم على معظم البِنائيين
الآخرين.
إن فوكو يحاول أن يهتدي، في كل عصر، إلى عناصر الثبات من وراء التحول
الظاهري، وهو في هذا يرتكز على مبدأ يُسلم به — هو ومعظم البنائيين —
دون مناقشة، وهو أن العناصر الثابتة هي الأساسية والجوهرية، وأن
العناصر المتحولة والمتغيرة سطحية عرضية. على أن هذا المبدأ يمكن
الاعتراض عليه من الأساس. فمن الممكن من وجهة نظر أخرى أن نقول إن
الثبات هو المظهر السطحي، الذي تكمن من ورائه تحولات وتغيرات أعم منه؛
ذلك لأن حالة المعرفة في كل عصر تبدو ثابتة بالنسبة إلى من يضع نفسه في
إطار ذلك العصر، ولكن في استطاعة النظرة التاريخية، حين تخرج عن ذلك
الإطار وتطل على ذلك العصر إطلالة راجعة فيها رحابة واتساع، أن تكشف عن
العمليات المتغيرة والتفاعلات التي كانت تدور في الخفاء من وراء هذا
الثبات الظاهري. وفي هذه الحالة يعتبر المنظور التاريخي المبني على
التغير أعمق، وأكثر نفاذًا إلى باطن الأشياء، من المنظور البنائي الذي
يُعَد عندئذٍ مكتفيًا بوصف السطح الخارجي وقبوله على ما هو عليه. ولسنا
ندعي أن هذه هي الحالة الوحيدة الممكنة؛ إذ إن البِنائي يستطيع أن يؤكد
أنه اكتشف عناصر ثابتة أعمق من عناصر التحول الجديدة. وهكذا يظل لكل من
المنظورين الحق في القول بأنه يتعمق في الظواهر إلى مستوًى أبعد من
الآخر. ولكن المهم في الأمر أن هذا يُبطل ادعاء البنائية، وادعاء فوكو
على وجه التحديد، بأن منهجه الذي ركز فيه، باختياره، على عناصر الثبات
وجمَّدها، وأهمل فيه عناصر التحول، هو وحده الذي يُوصل إلى الأساس
المطلق للمعرفة.