تصدير
بسم الله الرحمن الرحيم
تبيَّن أثناء تدريس تاريخ أوروبا في القرن التاسع عشر أنَّ هناك حاجةً ماسَّة إلى كتابة هذا التاريخ باللغة العربية، وذلك حتى تتهيَّأ فرصة الوقوف على حقائقه للذين يُعنون به عناية خاصة، أو لأولئك الذين يودون الاستزادة من المعرفة وحسب، وقد لا يجدون بين أيديهم في هذا الموضوع ما يَشفي غُلَّتهم.
ولعل السَّبب في انصراف الكُتَّاب عن معالجة التاريخ الأوروبي، والاقتصار على نشر الكتب المدرسية، أو القيام ببعض الدراسات العابرة، هو الاعتقاد بأنَّ الأوروبيين أحقُّ وأولى بتدوين تاريخهم، ولديهم من الوسائل ما يجعل في مقدورهم فعل ذلك، فصار أكثر كُتَّابنا العرب يُؤْثرون النَّقل والتَّرجمة على التصنيف والتأليف، ومع ذلك فقد لا يكون — لسبب أو لآخر — في استطاعة القراء الوقوف على أحدث بحوث الأوروبيين أنفسهم في هذا التاريخ، في حين أنَّ «تفسير» التاريخ نفسه عملية مُسْتمرة، وذلك في ضوء ما هو مُتَجَدِّدٌ دائمًا من تيارات فكرية ناشئة من تراكم الحقائق المُستكشفة من بطون الوثائق والأسانيد، والتي هي كذلك منبعثة من تطور المجتمع في كل النواحي.
ولقد حاولنا في هذه الدراسة أن نعرض «تفسيرًا» لتاريخ القرن التاسع عشر، يقوم على أساس أنَّ هذا القرن شهد ظهور الطبقة المتوسطة «البورجوازية» كقوة جديدة اكتمل نموُّها وصارت تبغي إحراز السيطرة في المجتمع بالقضاء على الحكومات المُطْلقة والطبقات الأرستقراطية ذات الامتيازات في «النظام القديم»، فاعتنقت البورجوازية المبدأ القومي والمذهب الحر، كي تُشَيِّد صرح الدولة القومية الوطنية، والتي اقترن تأسيسها كذلك بإنشاء الحكومة الديمقراطية؛ أي ذلك النوع من الحكومات الذي لا تكتفي البورجوازية فيه بالمُسَاهمة في إدارة شئون الحكم، بل تَنْشُد السيطرة على كل أسباب الحكم نفسه. وهكذا دخلت البورجوازية في نضال مرير مع «الطبقات الإقطاعية» القديمة؛ فكان الفشل نصيبها تارة، وكان النَّجاح رائدها في النهاية، عندما دانت السلطة للطبقة المُتوسطة «البورجوازية»، وتمتعت بالسيطرة في أوروبا منذ أواسط القرن التاسع عشر تقريبًا. ولو أنَّ هذا النَّجاح نفسه كان يشمل في طياته بذور قوة ناشئة جديدة، سوف تنهض لمُنَاصبة البورجوازية العداء، في الوقت الذي كادت فيه هذه تستكمل دعم سيطرتها. أمَّا هذه القوة المناضلة الجديدة فكانت «البروليتارية» أو الطبقة العمالية.
وفي هذا القسم من التاريخ الأوروبي (١٧٨٩–١٨١٥) عالجنا منشأ الفكرة القومية والمبدأ القومي من ناحيتين: الفلسفية والتاريخية، وإن شئت النظرية والتطبيقية، لننتقل من ذلك إلى بيان أنَّ الثورة الفرنسية وإمبراطورية نابليون إنما كانتا بمثابة «التَّجْرِبة» الحاسمة لاختبار قدرة البورجوازية على تحقيق الغرض الذي ناضلت من أجله في سبيل الوصول إلى السلطة للمُحَافظة على كيانها ومصالحها، وهو تحطيم بقايا «الإقطاع»، وذلك ليس في فرنسا وحدها، بل وفي كل أوروبا.
وسوف يجد القارئ أننا قد عنينا — على وجه الخصوص — ببيان الأثر العميق — سواء من النَّاحية السلبية أو الأخرى الإيجابية — الذي أوجده قيام الثورة الفرنسية وإنشاء الإمبراطورية النابليونية في كل بلدان أوروبا، وذلك فيما ظهر من نظريات وآراء متعلقة بموضوعات الدولة والأمة والقومية، وما إلى ذلك، ثم ما وقع من ترتيبات وتغييرات إقليمية، تشكَّلت بها خريطة أوروبا السياسية.
ولقد كان هذا العرض ضروريًّا لتوضيح الأسباب التي أدت إلى «بعث» الإقطاع من جديد، ولو لأجل موقوت، على يد الملكية الرَّاجعة التي كان يمثل الوزير النمسوي «مترنخ» نظامها وقتئذٍ خير تمثيل. فكان أن استأنفت البورجوازية النِّضال سنوات عديدة بعد سقوط الإمبراطورية النابليونية؛ وهو نِضَالٌ وإن لم ينته بصورة حاسمة في صالح البورجوازية، فإنه ولا شك قد مهَّد السبيل لأن تظفر هذه الطبقة المتوسطة ببغيتها في السنوات التالية، بعد سنة ١٨٤٨.
ونحن لا يمكن أن نكون من السباقين في هذا النَّوع من التفسير. فنضال الطبقات في حد ذاته فكرة «ماركيسية» أصيلة، والتاريخ الذي سجلناه إنما قد استقيناه من المصادر الأوروبية، ولم يكن في وسعنا أن نخلق جديدًا، بل لا تعدو مهمتنا اختيار الموضوعات وترتيبها لشرح «الفكرة» التي تقوم عليها دراستنا، ومُحَاولة عرض هذه الدراسة عرضًا سليمًا.
نرجو أن نكون قد وفقنا فيما حاولناه، والله من وراء القصد.
العباسية
١٥ شعبان ١٣٧٧ / ٦ مارس ١٩٥٨