القومية: أصولها الفلسفية
القومية كفكرة نظرية: كان لانتشار القومية — كفكرة ومبدأ — الأثر الأكبر في تشكيل كل ما طرأ من تغيرات على خريطة أوروبا السياسية في القرن التاسع عشر، حيث قد أجريت دائمًا باسم القومية التعديلاتُ التي رَسَمَت الحدود بين الدول خلال هذا القرن. ولم يشذَّ عن ذلك سوى حدثين فقط؛ أولهما: ضم الألزاس واللورين «الفرنسية» إلى الإمبراطورية الألمانية الناشئة في سنة ١٨٧١، وثانيهما: وضع البوسنة والهرسك اليوغسلافية، ومن أملاك الدولة العثمانية، تحت إدارة النمسا «إمبراطورية النمسا والمجر» في سنة ١٨٧٨. فقد انتهى فيما عدا هذين الحدثين، كلُّ ما حصل من تغييرات في خريطة أوروبا السياسية بين عامي ١٨١٥–١٩١٩ بإنشاء الدولة القومية وتشييد صروحها.
والقومية كفكرة: يُقصد بها تحرر الشعوب من كل سيطرة أجنبية عليها، وكمبدأ أو كقوة دافعة ومُحَرِّكة: يُقصد بها تطبيق هذه «الفكرة» تطبيقًا عمليًّا. وبهذا المعنى تصبح القومية غرضًا أو هدفًا في حد ذاته، تتضافر الجهود على تحقيقه، ثم تغدو في الوقت نفسه «مبررًا» يسوِّغ ما يقع من تغييرات سياسية. والقومية كقوة دافعة ومُحَرِّكة لا تقل أهميتها كعامل إنشائي في تكوين الدولة القومية (أو الوطنية) الحديثة في القرن التاسع عشر، عن كل تلك القوة الدَّافعة والمُحَركة، ذات الأثر الواضح في تشكيل حوادث العصور السابقة — وهي التي سبقت الإشارة إليها في التعريف بالقومية — كعامل الوحدة الدينية، وإنشاء الملكية الثابتة المستقرة، وتأسيس الدولة بمعناها السياسي الحديث، وكل تلك عوامل ساعدت على تكوين أوروبا من الأزمان (العصور) الوسيطة.
ولقد كان كل واحد من هذه العوامل ينطوي على رغبة في الاستئثار بالسلطة، وامتداد السلطان أو التوسع. والقومية مثلها كمثل هذه القوى الدَّافعة ذاتها لا تعدو هي الأُخرى أن تكون من النَّاحية التطبيقية مظهرًا من مظاهر هذه الرَّغبة في الاستئثار بالسلطة وامتداد السلطان أو التوسع. ولذلك صارت القومية «أداة» للتمتع بالسلطة «الداخلية» إذا أراد شعب أن يتحرر من ربقة السيطرة الأجنبية، ثم إنها صارت كذلك أداة للتمتع بالسلطة «الخارجية» إذا شاء شعب أن يضم إليه شعوبًا أُخرى مُتَّحدة معه في الجنس أو اللغة أو الدين أو التقاليد أو العادات. وكانت هذه الشعوب لا تضمها إليه حدود واحدة؛ أي خارجة عن نطاق حدوده.
وظهور مبدأ القومية — وما تفرع عنه وارتبط به من آراء ومذاهب حرة، وديمقراطية تهدف إلى ضرورة أن يمارس كل شعب شئون الحكم بنفسه، عن طريق نوابه وممثليه بصورة واضحة وذات أثر فعال في تشكيل حوادث القرن التاسع عشر — كان نتيجة لما تمخضت عنه «الثورة الفرنسية» على وجه الخصوص، منها آراء ومبادئ.
على أنَّ فكرة القومية نفسها لم تكن وليدة هذه «الثورة الفرنسية» وحدها، بل لقد شهدت أوروبا بداية ظهور الفكرة القومية في السنوات القليلة التي سبقت اندلاع هذه الثورة، ثم اتخذت الفكرة القومية لبداية ظهورها ميادين أخرى غير فرنسا.
وكانت هذه «ظواهر» مُتفرقة ولا سبيل للقول بأنها تنهض دليلًا على أن هذه الشعوب التي ذكرناها قد نضج شعورها القومي أو أنها صارت تُدرك معنى القومية إدراكًا صحيحًا كاملًا. ولكن من ناحية أُخرى لا جدال في أنَّ حدوث هذه «الظاهرة» في أماكن مُخْتلفة في وقت واحد إنما يبرهن على أنَّ هناك «فكرة» جديدة مُعَيَّنة قد أخذت تشيع بين الشعوب، هي «فكرة» القومية، ولا ينال من أهميتها أنها كانت لا تزال في هذا الدور الأول من وجودها «مبهمة» ولما يتولد منها بعد تلك القوى الدَّافعة والمُحركة التي سوف تُسيطر على تشكيل الحوادث طيلة القرن التاسع عشر.
على أنه مما يجدر ملاحظته كذلك أنَّ هذا العهد المتقدم قد شاهد كذلك بداية ظهور «النظريات» التي تناولت تفسير تلك القومية؛ فانقسم أصحاب فكرة القومية «النظريون» إلى فريقين: يتبع أحدهما «المدرسة الفرنسية»، والآخر «المدرسة الألمانية»، وتبنى كل واحدة منها تفكيرها على تفاعل العوامل التي تتألف منها «الشخصية» أو «الذاتية» الفرنسية أو الألمانية، وهي عوامل نفسية وخلقية مرتبطة أوثق الارتباط بتاريخ الشعبين الفرنسي والألماني، وهي كذلك قوائم هذا التاريخ نفسه.
(١) المدرسة الفرنسية
وثار جدل طويل عقب ذلك بين إسبانيا وفرنسا حول هذه المسألة، بسط فرنسوا الأول في أثنائه هذا الرَّأي في وضوح عندما قال: «ومن المتعذر قانونًا أن ينقل إنسان حقوق السيادة التي على مدينة من المدن أو مقاطعة من المقاطعات بدون إرادة أهلها ومن غير موافقتهم التامة على نقلها.»
وفي ١٦ ديسمبر ١٥٢٦ اتخذ برلمان باريس قرارًا نفى فيه أن للملك حق التنازل إلى ملك أجنبي عن مقاطعة من مقاطعات مملكته. وعندما حدث في سنة ١٥٥٢ أن ضمت فرنسا إليها أسقفيات تول ومتز وفردان (في الحرب التي أعلنها ملكها هنري الثاني على الإمبراطور شارل الخامس في فبراير ١٥٥٢)، أعلن أسقف متز لمواطنيه أنَّ الملك الفرنسي إنما جاء إلى هذه البلاد «مُحَررًا»، وأنه يُريد معاملة أهل متز المعاملة التي يلقاها الفرنسيون أنفسهم، وأنه يبغي أن يعلن شعب متز عن رغبته بمحض اختياره في الانضمام إلى فرنسا بدلًا من استخدام أساليب العنف والشدة من جانب الملك الفرنسي نفسه ليحقق هذه الغاية.
وتلك نظرية تفتقر من النَّاحية التاريخية لما يؤيدها. ومع ذلك فالذي يعنينا من أمرها أنَّها قائمة على فكرة التعاقد؛ أي العقد الذي يُبرِمه شعب من الشعوب بمطلق حريته وإرادته مع صاحب السيادة الشرعية عليه، كما أنَّها تنطوي عند التحليل النِّهائي على «فكرة» أنَّ الشعب هو مقر السيادة العليا في الدولة.
وواضح أنه من المُتعذر على المرء أن يلمس في أقوال هؤلاء الملوك الفرنسيين ووزرائهم ما يدل على وجود خطة مرسومة «لسياسة فرنسية» واضحة المعالم وذات أغراض ومقاصد محددة، عندما كانت سياسية هؤلاء سياسة إيجابية واقعية تقوم على فكرة «الدولة» وليس على فكرة «الأمة» ومقوماتها. على أنَّ من المُسَلَّم به في الوقت نفسه أن هؤلاء الملوك ما كانوا يترددون في الاستناد عند الضرورة على الآراء القائلة بضرورة اعتبار ولاء الشعب أو الأهلين الذين تضمهم الدولة داخل حدودها ركنًا أساسيًّا في قيام هذه الدولة ووجودها؛ الأمر الذي ترتب عليه أن صار الأخذ بهذه الآراء جزءًا من «تقاليد» السياسة الفرنسية الظاهرة.
بل إنَّ هذه «التقاليد» القديمة ذاتها هي التي أفضى وجودها إلى بروز نظرية واضحة المعالم في القرن الثامن عشر قامت على أركان هذه التقاليد، لتعريف الدولة وبيان الأُسس التي تقوم عليها؛ فقد كان حتى هذا الوقت وجود الدولة إطلاقًا مرتهنًا أصلًا بوجود السلطة العليا وتقريرها كشرط أساس لذلك؛ مما ترتب عليه أن صارت «الدولة» مرتبطة بمبدأ «الملكية». ولكن لم تلبث فكرة «الأمة» في القرن الثامن عشر أن أخذت تعلو على فكرة صاحب السيادة العُليا أو «السلطة» باعتبارها العامل الأساسي في تكوين الدولة. ولقد نجم من ذلك أن بطل اتخاذ مبدأ «حقوق الملكية المقدسة» معيارًا عند محاولة الحكم على «شرعية» الدولة أو عدم شرعيتها.
ولقد دار حول هاتين النظريتين المُتعارضتين: نظرية الأرستقراطية الفرنجية ونظرية السُّلطان المُطلق الرُّومانية، جدل طويل، جعل متعذرًا الوصول إلى رأي قاطع بشأن أصول الأمة الفرنسية ووحدتها. وتعذَّر الاتفاق بين أصحاب هاتين النَّظريتين على تفسير معين يوضِّح هذه الأصول من النَّاحية التاريخية؛ وعندئذٍ راح «المفكرون» يسعون للاهتداء إلى «آراء» أُخرى قد تُسَاعدهم على تقرير الحقيقة في ضوء نظريات تستند هذه المَرَّة إلى «الفِكْرة المثالية» المُجَرَّدة بدلًا من الاعتماد على التفسير التاريخي وحده فقط.
أن الآراء القومية والوطنية هي السائدة الآن؛ مما قد يكون له آثار بعيدة، حيث يكثر في الوقت الحاضر ترديد كلمتيْ أمة ودولة بصورة لم ينطق بهاتين الكلمتين أحد البتة على أيام لويس الرابع عشر. كما أن أحدًا لم يكن وقتذاك يُدرك كنههما، ولم يسبق أن صار المرء يلم بما للأمة والحرية من حقوق، ويُدرك تمامًا هذه الحقوق مثلما هو حادث اليوم.
ولا شك أنَّ إخضاع هذه المسائل لقوة التفكير العقلي؛ أي تحكيم العقل فيما يعرض من ظواهر لمعرفة حقيقتها، وإخضاعها لقوة المنطق، والتمعُّن الفلسفي، جعل مُمْكنًا تفسير أصول الدولة والأمة، وصياغة النظريات اللازمة لمُعَالجة هذه الموضوعات وما يتصل بها. وكان بفضل هذه القُدرة على استخدام العقل والفكر عند مراجعة الآراء القديمة، ومُحَاولة وضع تفسير «عقلي» لمعنى الدولة والأمة، أن صارت الفكرة التي ينطوي عليها معنى «الأمة» ويرسم لفظ «الأمة» في الأذهان مدلولها، وثيقةَ الصلة بالمعنى الذي يوحي به الكلام عن «الجماعات القومية» أو الوطنية؛ فانفصلت بذلك فكرة الأُمَّة هذه عن الفكرة القانونية التي ينطوي عليها معنى «الدولة»، وصارت مُتَّصلة بدلًا من ذلك بفكرتي الحرية والحقوق؛ أي إنَّ الكلام عن الأُمَّة صار يستتبع حتمًا الكلام عن الحريات والحقوق التي لأفراد وأبناء هذه الأمة.
ولقد كاد ينجم عن الانتقال إلى هذا التفسير الواسع لفكرة الأمة خطر القضاء على الشعور الوطني الأولي؛ أي الشعور بواجب الدفاع عن الوطن والتفاني في خدمته، والاستعاضة عن هذا الشعور الوطني بشعور آخر إنساني يهدف إلى إزالة الفوارق بين الأمم. ولكن هذا الانسياق وراء العاطفة الإنسانية سرعان ما أوقفه أو عمل على تصحيحه واجب السير في سياسة خارجية معينة أدت إلى إشعال الحروب التي خاضت الثورة الفرنسية غمارها. بل إن رجال الثورة أنفسهم لم يلبثوا أن كافحوا لقمع هذا الانسياق وراء العاطفة الإنسانية أو «العالمية»؛ أي ضد الاندماج في حياة لا تُقيم وزنًا للفوارق القائمة فعلًا بين الأمم المُختلفة.
تلك إذن كانت الأسباب التي جعلت التفكير في صياغة «نظريات» معينة لتفسير مدلول أو مفهوم الأمة والدولة في فرنسا ضروريًّا.
دعونا نترك جانبًا كل الوقائع!
ولقد كانت نظرية العقد الاجتماعي تنطوي كذلك على فكرة إخضاع الدولة بوصفها كائنًا أو جثمانًا أو تنظيمًا سياسيًّا لتلك الروح الوطنية المتولدة من اجتماع المواطنين وترابطهم فيما بينهم من أجل التنازل عن إرادتهم الفردية لخلق الإرادة العامة؛ أي وجوب إخضاع الدولة لسلطان الإرادة العامة.
ولم يغفل روسو في تفكيره السياسي — وخاصةً فيما يتعلَّق بمسائل الدين — وجود «الضمير الإنساني». بل شيَّد صرح فلسفته العامة على أساس احترام «الفرد». وذلك بالرَّغم من المبادئ التي ارتكزت عليها نظرية العقد الاجتماعي؛ أضف إلى هذا أنَّ روسو عند تفكيره في معنى «الدولة» طَفِقَ يعرض طائفة من الآراء تُلقي ضوءًا على المعاني الماثلة في ذهنه عن القومية أو الوطنية. من ذلك رأيه في وجوب أن يستهدف التشريع في الدولة مُراعاة روح الشعب نفسه؛ فتصدر القوانين تعبيرًا صادقًا عن قومية الشعب، ومرآةً صافية تعكس مشاعره القومية أو الوطنية؛ حتى يتسنى حينئذٍ المُحافظة على تقاليد وعادات الوطن. وأمَّا الوسيلة إلى تحقيق هذه الغَاية فهي التربية والتعليم قبل كل اعتبار آخر.
ولقد أوضح روسو هذه الفكرة بجلاء في رسالته السالفة الذكر عن «الحكومة البولندية» التي نشرها في سنة ١٧٧٢، وموجز القول: أنَّ من الضروري دائمًا المُلاءمة بين الدَّولة والرُّوح أو العبقرية الوطنية أو القومية. وتلك غاية أراد روسو بلوغها عندما حاول أن يضع دستورًا لبولندة على أساس جمهوري، ولو أنَّه من ناحية أُخرى لم يكن يرى مُستطاعًا إلا في حالة واحدة فقط الملاءمة بين هذا النَّوع من الدساتير لإقامة النُّظم الجمهورية وبين الشعور القومي أو الوطني، وذلك إذا كانت الدول المُرَاد وضع هذا الدستور الجمهوري لها دولًا صغيرة.
ويتضح مما تقدم إذن أن أقوال روسو نفسه لا تعنينا بقدر ما يعنينا إدراك حقيقة الرُّوح التي تغلغلت في كل كتاباته، ثم لوحظت آثارها في كتابات وآراء مُعَاصريه، والتي عبرت عنها فكرة الديمقراطية والجمهورية، وبمعنى آخر فكرة سيطرة السيادة الشعبية.
واعتقد «كنط» أن القوانين الأخلاقية واحدة، بالنِّسبة للفرد والأمة على حد سواء، وكذلك يستحيل على المرء أن يتلمَّس مسوِّغًا أو ينتحل عذرًا يفسِّر أي حادث «اغتصاب» في التاريخ. ومع ذلك فقد كان «كنط» في تفكيره رجلًا لا يفرِّق في محبته بين بلد وآخر، ولا يعتقد بوجود فوارق بين الأمم يفصلها بعضها عن بعض، كما أنَّ فلسفته لم تكن تستند إلى أسس وطنية أو قومية أو أخرى مرتبطة «بالإنسانية» بمعناها المطلق؛ ولذلك صار من المتعذر إذا قصرنا البحث على الميدان السياسي الصحيح اعتبار أنَّه كان لهذا الفيلسوف (كنط) أثرٌ كبيرٌ في نمو وتطور النظرية التي جاء بها روسو.
وإمعان الفكر في النظريات التي أتى بها كلٌّ من روسو وكنط ومابلي يكشف عن حقيقة جديرة بالملاحظة، هي أن تفكير هؤلاء جميعًا إنما يصل بهم إلى نتيجة واحدة موجزها: اعتبار القومية (أو الوطنية) مجرد ارتباط بين إرادات حرة مُطلقة.
ولقد حدث في الوقت الذي كان يكتب فيه روسو ومابلي بحوثهما، كانت الولايات (المستعمرات) الثلاث عشرة الأمريكية تناضل من أجل استقلالها الذي أعلنته في يوليو ١٧٧٦. ومع أنَّ الاستقلال كان حدثًا سياسيًّا؛ أي نتيجة صراع سياسي (ضد إنجلترة الدولة المُستعمرة)؛ فقد نبذ الاستقلال سلطان «سيادة» وسيطرة أجنبية، وحقق الاستجابة «لشعور قومي» جديد، وأنشأ «قومية» جديدة. وعلى ذلك؛ فقد رَحَّب الفرنسيون باستقلال هذه الولايات باعتبار أنَّ استقلالها نجاح «عملي» للآراء والنظريات السياسية التي جاءوا بها حول «الدولة» و«القومية».
ومع ذلك، فلا جدال في أنه كان «للثورة الفرنسية» الفضل في انتقال هذه الآراء والمبادئ القومية من دائرة التفكير النظري إلى حيز التطبيق العملي؛ وذلك لأنَّ هذه الثورة بما انطوت عليه من معنى التحرر وتحطيم القيود القديمة كانت من جهة مبدأً «عالميًّا»؛ أي مما يأخذ به كل شعب من شعوب «العالم» يُريد الانطلاق من إسار الأنظمة السائدة في العهد القديم، ثم إنها من جهة أُخرى قد حملت في طياتها حلولًا عمليةً وتنظيمًا واقعيًّا لإنشاء مجتمع جديد.
والدليل على ذلك أن «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» الصادر في ٢٦ أغسطس سنة ١٧٨٩ إنما يشتمل من الوجهة القومية أو الوطنية على فكرتين أساسيتين: أنَّ الأمة هي مقر السيادة العليا، وأنَّ القانون بيان للإرادة العامة، والذي يعبِّر عن رغبات هذه الإرادة العامة؛ أي إنَّ الإرادة العامة هي وحدها مستقر القانون «وضباط» التشريع؛ الأمر الذي يجعل لها صلاحية تعيين سيادة الأمة والمحافظة على بقائها؛ أي بقاء «الأمة». ولن يتسنَّى قيام «الدولة» في هذه الحالة إلا إذا وافق المحكومون موافقةً مُطلقة وبمحض إرادتهم على قيامها.
ولقد أمكن الوصول من هاتين الفكرتين الأساسيتين إلى نتيجة مزدوجة؛ شقها الأول أنَّ الثورة صارت ترفض فكرة الاستيلاء على الأراضي والأقاليم وامتلاكها «بحق الفتح»؛ أي إنها قد رفضت الاعتراف بأنَّ للفتوح حقوقًا تسوِّغ خضوع الشعوب لسلطان حكومات أجنبية عنها، وشقها الثاني أنَّها صارت من ناحية أُخرى تعترف بأنَّ للشعوب مهيضة الجناح، أو التي كانت تئنُّ من فداحة المظالم التي وقعت عليها على يد مغتصب السلطة بها، الحقَّ كل الحق في التحرر والخلاص بالانفصال من تلك السيطرة الغاشمة المفروضة عليها؛ وذلك لأنَّ «حق الانفصال» الذي يجبُ أن تتمتع به مثل هذه «الأمة» لا يعني في واقع الأمر إلا إتاحة الفرصة للشعوب «المغصوبة» حتى تتخلص مما هي فيه من ظلم تنوء من ثقله.
ومثل الأمم والشعوب في التمتع بهذا الحق مثل الأفراد الذين يكفل لهم «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» الحق في مُقَاومة الظلم والعمل للانفكاك من ربقة الاستبداد.
ولقد كرس دستور الثورة الأول (٣ سبتمبر ١٧٩١) هذه المبادئ عندما أعلن في فصله السادس أنَّ الأمة الفرنسية قد نبذت ظهريًّا الدخول في حرب تبغي من ورائها الحصول على أية فتوحات، وأنَّها لن تستخدم قواتها للإضرار بحرية شعب من الشعوب. بل إن الحال ما لبث حتى تطور بعد شهور قليلة بانتقال الأمر من الإصرار على عدم استخدام القوات الفرنسية للإضرار بحرية شعب من الشعوب إلى وضع هذه القوات في خدمة الشعوب التي أرادت استرجاع حرياتها المغصوبة.
ولقد استندت «الثورة» على هذه «النَّظرية القومية» نفسها عندما أرادت أن تضع حلًّا لمسألة الأمراء الألمان الذين لهم أملاك في مقاطعة الإلزاس الفرنسية، وأثاروا مشكلات عديدة بسبب ممتلكاتهم هذه. فقد اتفق الرَّأي على أنَّ الإلزاس إقليم حصلت عليه فرنسا (من أيام صلح وستفاليا سنة ١٦٤٨)، وأنَّ امتلاك الأرض لا يُعطي هؤلاء الأمراء الألمان أية حقوق على هذه الأراضي مُنفصلة عن السكان الذين يعيشون عليها.
ولقد عمد أهل ستراسبورج (الإلزاسيون) للإفصاح عن رغباتهم وإرادتهم في تقرير مصيرهم بأن بادروا بإرسال بيان أو خطاب إلى «الجمعية الوطنية التأسيسية» بباريس في ١٨ مارس سنة ١٧٩٠ قالوا فيه: «إنهم قد وثقوا اتحادهم بفرنسا بفضل «الأيامين» التي حلفوها من هذا المكان نفسه، الذي لم يأسف آباؤهم على الانضمام منه إلى فرنسا. لقد أقسمنا وتردد هذا القسم الآن على بذل آخر قطرة من دمائنا لتأييد الدستور، وإذا لم تكن ستراسبورج قد نالت المجد والرفعة كالمدينة الأولى التي يُحتذى بمثالها في ميدان الوطنية بين مدن المملكة، فسوف يكون لها على الأقل شرف الصدراة كطريق كبير يقود لتحقيق الحرية الفرنسية بفضل وطنية سكانها وأهلها.»
والحقيقة أنَّ الثورة اتبعت هذه الأساليب نفسها؛ أي الاستناد إلى «النَّظرية القومية» وتطبيق المبدأ القومي، عندما عقدت استفتاءات عامَّة تمهيدًا لضم نيس وسافوي إلى فرنسا، فأفصح أهل هذه البلاد عن إرادتهم في الانضمام إلى فرنسا والاتحاد معها، واتخذ «المؤتمر الوطني» قرارًا بذلك في ٢٧ نوفمبر سنة ١٧٩٢.
وهكذا ظهر إلى عالم الوجود في فرنسا من الناحية النظرية والواقعية «قانون عام» جديد، سواء فيما يتعلق بشئون الدولة الداخلية الخاضعة لأحكام القانون العادي الداخلي، أو ما كان مُتعلقًا بالشئون الخارجية؛ أي بعلاقات الدولة بغيرها من الدول مما يخضع لأحكام القانون الدولي. وفي هذا العهد حينما بدأت الثورة الفرنسية كان مبدأ القومية لا يزال وثيق الصلة بمبدأ الحرية السياسية، كما كانت «الوطنية» في هذا العهد تعني الانتصار للحرية ومحبة الوطن والذَّوْدَ عن حياضه في الوقت نفسه. وبذلك اعتبرت فرنسا «أمة» لأنها دولة مُتحررة؛ أي صارت تتمتع بالحرية الكاملة، وبهذا المعنى كتب المعاصرون عن فرنسا فوصفوها بتعريفهم لها أنها «الأمة العظيمة».
تلك إذن هي النظرية الأولى، وهي نظرية جوهرية في موضوع القومية، وكانت تستند في أساسها على تصورات أو مدركات فلسفية.
(٢) المدرسة الألمانية
وتغاير نظرية المدرسة الفرنسية (الفلسفية) النظرية التي أخذت بها المدرسة الألمانية وتتعارض معها؛ لأنَّ هذه الأخيرة نظرية تاريخية. وسبب الاختلاف بين هاتين المدرستين في تفسير معنى القومية أنَّ تكوين هذين البلدين التاريخي — فرنسا وألمانيا — كان يختلف في كلٍّ منهما عن الآخر بصورة أدت إلى وجود اختلاف في الاتجاه الفكري بين البلدين في نهاية القرن الثامن عشر، حتى صار لفكرتي الدولة والقومية معانٍ في ألمانيا مُغايرة لمعانيها في فرنسا. واختلفت النظرية الألمانية عن النَّظرية الفرنسية من ناحية تطورها والمراحل التي مرت بها حتى اكتمل نموها، ثم من ناحية الآثار التي ترتبت عليها بعد ذلك في توجيه الشُّعوب الأخرى في هذا الطريق «القومي» نفسه.
ولا معدى لإدراك النظرية الألمانية عن معرفة الأدوار التاريخية التي مرت بها ألمانيا ذاتها. ولقد خضعت ألمانيا في أثناء تكوينها التاريخي لآثار تجربتين سياسيتين على درجة كبيرة من الأهمية؛ أولاهما أنَّ ألمانيا بقيت ترسُفُ أزمانًا طويلةً في قيود العصور الوسطى، في حين تحررت فرنسا بتحطيم هذه القيود؛ فاستمرت ألمانيا تخضع لتأثير الآراء والمبادئ السائدة في العصر الوسيط. فلم تكن ترى تحت تأثير هذه الآراء والمبادئ الوسيطة في معنى السيادة العليا غير الإمبراطورية؛ أي إنَّ الفكرة التي أصبحت مُتغلغلة بها كانت الفكرة الإمبراطورية، وبمعنى آخر الفكرة «العالمية».
فلم يكن لمدلول «الدولة» القائمة على مساحة مُعَيَّنة من الأرض أيُّ وجود في فكرة الإمبراطورية أو أيُّ ارتباط بها، بل تتخذ الإمبراطورية مكانها مُتربعة فوق كل «الدول» الأخرى، ويتخذ الإمبراطور مكانه مُتربعًا فوق كل الملوك العاديين. والإمبراطور هو الذي يمثل الفكرة المسيحية في عالم السياسة، كما يمثل البابا هذه الفكرة نفسها في عالم الروح أو الدين. ولقد استتبع ذلك أنه صار متعذرًا بقاء الفكرة الإمبراطورية محصورة في ألمانيا فقط، بل اتسع ميدانها حتى تخطَّتْ الحدود الألمانية، سواء صوب الغرب أو صوب الجنوب؛ فدخل في نطاقها من النَّاحية الغربية حوض الرون واللورين، ومن الناحية الجنوبية إيطاليا الشمالية، كما أرادت إدخال إيطاليا الوسطى ورومة في نطاقها كذلك.
ومع ذلك، فإنَّ حدود الإمبراطورية الرُّومانية (الجِرْمَانية) المُقَدَّسة في نهاية القرن الثامن عشر لم تكن مُتَّفقة مع حدود ألمانيا وحدها وحسب؛ فبلغت مساحتها حوالي ستمائة ألف كيلومتر مربع، ويقطن بها حوالي ثلاثين مليون نسمة، وتطغى عليها بعض الدول أو الحكومات التي تتألف منها هذه الإمبراطورية وتعتبر جزءًا منها، مثل النمسا التي بلغ عدد سكانها في الأقاليم الدَّاخلة في نطاق الإمبراطورية عشرة ملايين ونصفًا، في حين بلغ عدد سكانها في الأقاليم الخارجة عن نطاق هذه «الإمبراطورية الرُّومانية الجرمانية المُقَدَّسة» أربعة عشر مليونًا، ومثل بروسيا بعدد سكانها الذين يبلغون مليونين ونصفًا داخل الإمبراطورية، ثم مليونين ونصفًا آخرين خارج الإمبراطورية.
وذلك توزيع كما هو واضح من شأنه تهيئة العوامل التي تجعل من المُحتمل كثيرًا في المُستقبل قيام حركات المطالبة بالحقوق السياسية داخل الإمبراطورية «الرُّومانية الجرمانية المقدسة» إذا شاء المرءُ أن يردَّ القومية إلى أصول تاريخية، أو أن يُؤلِّف وحدات قومية من بين الشعوب التي كانت في وقت ما جزءًا من هذه الإمبراطورية.
وهكذا انفصلت فكرة السيادة العليا الألمانية التي نبتت أصلًا كفكرة إمبراطورية عن كل سند إقليمي أو سياسي؛ الأمر الذي يجعل ممكنًا حصول الانفصام بين القومية الألمانية والتنظيم السياسي في ألمانيا، بل يفسره. تلك إذن كانت التجربة السياسية الأولى التي مرت بها ألمانيا.
ولقد كانت التجربة الثانية من بعض نواحيها مناقضة لهذه التجربة الأولى. ومردُّ ذلك إلى أنَّه لم يلبث أن ظهر في ألمانيا نوع من الدول التي خرجت تاريخيًّا إلى حيز الوجود بفضل عوامل مصطنعة، مثل بروسيا التي عمل آل هوهنزلرن (الأسرة الحاكمة بها) على تكوينها من أقاليم مختلفة دخلت في حوزة هذه الأسرة إما بطريق الإرث، أو التزاوج، أو كفتوحات بحد السيف، أو بالشراء، وتألفت منها مملكة بروسيا.
ولقد صار لبروسيا شكلها السياسي بعد خطوات كان أسبقها إنشاء براندنبرج إمارة انتخابية؛ أي أن يكون لناخبها (حاكمها) صوت في اختيار وانتخاب الإمبراطور في الإمبراطورية الرُّومانية «الجرمانية» المقدسة. ثم كانت الخطوة التالية تأسيس الملكية عندما منح الإمبراطور ليوبولد الأول في سنة ١٧٠٠ لقب الملك فردريك الأول ليستميل بذلك إلى جانبه أحد أمراء الإمبراطورية الأقوياء في حرب الوراثة النمساوية المنتظرة.
ويرجع الفضل فيما بلغته بروسيا وقتئذٍ من بأسٍ وقوة إلى تنظيمها البيروقراطي المُحكم، ثم إلى وجود جيش نظامي قوي بها. وطول مُدَّة تكوينها ظل الجيش والبيروقراطية العنصرين الأسياسيين في تشييد صروحها. ثم جاءت الخطوة الأخيرة لإعطاء بروسيا شكلها السياسي عندما أنشأ بها فردريك الثاني أو الأكبر (١٧٤٠–١٧٨٦) الحكومة المستبدة المُطلقة. وفضلًا عن ذلك، فآل هوهنزلرن هؤلاء هم الذين أوجدوا بروسيا من حيث إن «سكانها» أو أهلها صاروا يتألفون من العناصر، أو الأجناس، التي جلبها الملوك البروسيون نتيجة لسياستهم الاستعمارية أو الاستيطانية الواسعة، والتي اضطروا لاتباعها من أجل تعمير الأراضي التي كانت لا تزال — داخل ملكهم — غابات وأحراشًا؛ فجلبوا لها المُعمرين من أنحاء أوروبا، وبذلت الإدارة قصارى جهدها لإدماج هذه العناصر الجديدة بالعناصر الأصلية، كما عمل فردريك الثاني على إخضاع «سكان» هذه الأقاليم التي حصل استعمارها لسلطان الحكومة؛ فأمكن بفضل هذه الجهود التي بذلها آل هوهنزلرن أن تخرج إلى عالم الوجود تدريجيًّا «أمة» بروسية اختلفت في تكوينها تمامًا وللأسباب التي ذكرناها عن الأمة الفرنسية أو الأمة الإنجليزية، وهما الأمتان اللتان كان قد تمَّ اكتمال تكوينهما ووجودهما بصورة من الصور قبل تأسيس «الدولة» ذاتها في فرنسا وفي إنجلترة.
وهكذا فيما يتعلق بالقومية صارت بروسيا مثالًا ظاهرًا لما يمكن أن تحدثه وتوجده «الدولة» بما لديها من قوة وقدرة إنشائية، حتى إن المرء في وسعه أن يعزو صنع كل شيء للدولة بعد أن شهد قدرة الدولة على خلق وتكوين الشعب والأمة، من كل تلك العناصر المبعثرة في مختلف الأقاليم التي استعمرتها الدولة وأدخلتها في حدودها وبسطت عليها سلطانها. ولقد أصبحت «الدولة» كذلك ذات ذاتية خاصَّة بها، وإن شئت ذات كيان يفيض بالحيوية والنشاط؛ الأمر الذي جعله سهلًا أن ينتقل البروسيون إلى تقديس الدولة على حساب الفرد، بخلاف ما حصل في فرنسا.
على أنَّ ذلك كله قد أسفر عن نتيجة هامَّة أخرى متولِّدة من ذلك التأثير الذي أحدثه وجود بروسيا، التي عرفت كيف تنشئ لنفسها كيانًا مُتَمَاسكًا قويًّا، على سائر أجزاء ألمانيا التي بقيت مُفتقرة إلى كيان منظم. ولقد زاد تأثُّر ألمانيا بما حدث في بروسيا بسبب الشهرة العسكرية والأخرى الفلسفية اللتين تمتَّع بهما فردريك الثاني الأكبر نفسه، وكانت تلك شهرة عظيمة؛ حتى إنَّه سرعان ما أصبح موضع فخار وإعجاب كل ألماني.
على أنَّ كل هذا التمجيد والإعجاب كان ينطوي على تناقض ظاهر؛ لأنَّ «الدولة» والملك اللذين أوحيا للألمان الإعجاب بألمانيتهم والافتخار بها، كانا في حقيقة الأمر أقلَّ ما يمكن «ألمانية»؛ الأولى (الدولة) في تكوينها وأنظمتها، والملك في نشاطه وأهدافه. فيبدو التناقض واضحًا إذا ذكرنا أن فردريك الأكبر خاض حروبه ضد النمسا، وضد الإمبراطورية «الرومانية الجرمانية المُقَدَّسة»؛ أي إنه حتى يبني صرح دولته قد دخل في نضال دامٍ ضد الأساس الذي يرتكز عليه التاريخ الألماني نفسه.
على أنه بعد سنوات قليلة من انقضاء هذه الحروب، لم يلبث أن حدث في سنة ١٧٦٩ انقلاب في علاقات هذين العاملين؛ بحيث تعاون كلاهما الآن فردريك الثاني والإمبراطورة ماريا تريزا على إنشاء «نظام وطني ألماني» موجه ضد فرنسا، وكان لتبرير إنشاء هذا النظام أن ادَّعَى كلاهما الرَّغبة في الدفاع عن الحريات الألمانية. ولقد كانت هذه الدعوى ذاتها هي التي استند إليها فردريك الثاني كذلك فيما بعد في مقاومة جوزيف الثاني الذي انفرد بحكم الإمبراطورية بعد وفاة والدته (١٧٨٠) ماريا تريزا، وكانت له أطماع إقليمية في ألمانيا لم تلبث أن نَفَّرَتْ منه الأمراء الألمان، فاستطاع فردريك الثاني في سنة ١٦٨٥ أن يؤلف من هؤلاء حلفًا كونفدرائيًّا باسم «اتحاد الأمراء» غرضه الظاهر المحافظة على الإمبراطورية في نظامها القائم حسبما أقرته معاهدات الصلح في وستفاليا سنة ١٦٤٨، ووقاية الإمارات الألمانية من وقوع أية اعتداءات عليها، في حين كان غرض «الاتحاد» كما يستبين من نصوصه السرية، مُقاومة رغبات جوزيف الثاني الذي أراد إلى جانب أطماعه الإقليمية الأُخرى، أن يستعيض عن الأراضي المنخفضة النمساوية (بلجيكا) بإقليم بفاريا.
ومع ذلك، فمما يجدر ذكره أنَّ هذه الأقوال والتعبيرات عن الوطن والحريات الألمانية، والنِّظام الوطني الألماني، لم يكن يعتقد بحقيقة معانيها أو مدلولاتها كعوامل ذات أثر حاسم في تقديراتهم السياسية، أحد من أولئك الذين جرت على ألسنتهم: فردريك الثاني، أو ماريا تريزا، أو فردريك وليم الثاني. بل إنَّ كل ما يُمكن أن يدل عليه مجيء هذه العبارات في أقوالهم أنهم إنما لجئوا إلى استخدامها في أحاديثهم وبياناتهم لشعورهم بأنَّ لها وزنًا وقيمةً، كدعاوى أو حجج يقبلها الشعب وتمسُّ مشاعره؛ لأنَّ مَحَبَّة «الوطن» الألماني وتقديس «الحُرِّيات» الألمانية وكراهة فرنسا قد صارت جميعها عواطف ذات وجود فعلي لدى الشعب الألماني.
وأمَّا الطبقة الثانية فتتألف من الأمراء الذين كانوا قسمين: أمراء علمانيين وأمراء كنسيين أي من الإكليروس، وتتألف الطبقة التالية من المدن الإمبراطورية؛ أي من المدن التي كان الإمبراطور نفسه رئيسها الأعلى.
ولاتخاذ قرار من القرارات كان ضروريًّا موافقة طبقتين من هذه الطبقات الثلاث، ومع أنَّ عدد الأصوات في هذا الدياط (المجلس الإمبراطوري) كان مائة صوت بعدد ممثلي هذه الطبقات الثلاث في المجلس، فلم يزد في العادة عدد الجالسين به على ثلاثين فقط، في حين بلغ الذين يحضرون من بينهم جلسات المجلس بصورة مستمرة أربعة عشر.
وهكذا لم يكن معنى «الدَّولة» في التنظيم السياسي في ألمانيا أنَّ هناك أُمَّةً ألمانية ذات كيان سياسي؛ فبقيت ألمانيا مُجَزَّأة في عدد من الوحدات أو الأجزاء الصغيرة على أساس من المحلية الصارمة، وقوي التمسك ببقاء هذا الترتيب «الانفرادي» ذي الصفة المحلية، لدرجة أنَّ أي نقاش أو بحث في ضرورة تغيير هذه الحالة، أو في احتمال حدوث هذا «الإصلاح»، كان يُسبب الخوف والفزع من أن يؤدي هذا التغيير إلى إعادة تنظيم البلاد على أساس «الوحدة».
فالوطنية التي وجدت في ألمانيا كانت «وطنية» مجزأة بعدد الوحدات المحلية التي كانت مجزأة إليها ألمانيا؛ أي إنَّ الشعور بحب الوطن كان شعورًا مُجزءًا بقي مستندًا إلى روابط التعلق العاطفي التي ربطت أهل كل إمارة أو دويلة من هذه الوحدات العديدة والمتناثرة بالرقعة المحددة من الأرض التي يعيشون عليها؛ فلم تعرف ألمانيا بسبب هذه «المحلية» عملة موحدة ولا قوانين ولا مقاييس وأوزان … إلخ موحدة، ولم يجمع بين هذه الأقسام المتناثرة إلا شيء واحد فقط هو الوحدة الأدبية والروحية. وكان لهذه الوحدة الروحية والأدبية الفضل كل الفضل في خلق «أمة» متحدة أو متجانسة روحيًّا وأدبيًّا في ألمانيا في نهاية القرن الثامن عشر إلى جانب تلك التجزئة السياسية التي عطلت إنشاء «أُمَّة سياسية» في ألمانيا.
وهذا الأدب الألماني إنَّما تتفق نشأته مع ارتقاء الطبقة المُتوسطة (البورجوازي) في حياتها الاجتماعية بسبب الانتعاش الاقتصادي العظيم الذي حدث في هذا العصر، وبسبب انتشار التربية والتعليم انتشارًا قويًّا بين أهل هذه البورجوازية. والدليل على وجود هذا النشاط الذهني وارتقائه بين البورجوازية ذلك العدد العظيم من المجلات الأدبية والأخلاقية التي صارت متداولة في ألمانيا بين سنتيْ ١٧١١، ١٧٦١. فقد بلغت هذه مائة واثنتين وثمانين مجلة، أو صحيفة أدبية.
ولقد ترتَّب على ارتقاء الطبقة المُتوسطة (البورجوازي) وإصلاح الجامعات أن تكوَّن في ألمانيا جمهور مثقف في وسعه أن يتذوق آثار النشاط الذهني الذي سبقت الإشارة إليه.
تلك إذن كانت معالم الحركة الأدبية التي تميزت «بألمانيتها»، والتي شقت لنفسها طريقًا مُستقلًّا عن زميلاتها في فرنسا وإنجلترة، والتي صار لها الآن شعور بقيمتها الذاتية، وأهميتها كحركة أصيلة ابتداعية.
على أنَّه مما يجدر ملاحظته — فيما يتعلق بالقومية — أنَّ هذه الحركة الأدبية بقيت أدبية فحسب، ولم تتجاوز دائرتها الأدبية؛ فلم تقتحم الميدان السياسي البحت بحال من الأحوال؛ فظل الأدب الألماني بالرَّغم من أنه قد صار أدبًا قوميًّا، بعيدًا كلَّ البعد عن الوطنية السياسية. بل على العكس من ذلك اعتقد هؤلاء الأدباء الألمان «الوطنية» بمعنى محبة الوطن ضعفًا ومسبةً وعارًا، فلم يكونوا يدركون معنى فكرة «الوطنية» بما تنطوي عليه من محبة للوطن، أو فكرة الوطن الألماني، بل كانوا يرون من واجبهم ألا يجعلوا اهتمامهم مقصورًا على «ألمانيا» وحدها فقط.
إنه لمما يسبِّب لي التعب والانزعاج أن أسمع قائلًا يقول: إن الشعور بمحبة الوطن منعدم بيننا وأننا لا وطن لنا … إنْ تلك إلا ألفاظ وحسب، ولا شيء غير ألفاظ، وإني لأتساءل: ما جدوى تلك الجهود التي تُبْذل من أجل إحياء عاطفة لا سبيل لشعورنا بها الآن بتاتًا؛ وهي عاطفة لم يكن لها وجود فيما مضى، ولا يمكن وجودها إلا في لحظات مُعَيَّنة من لحظات التاريخ، وتكون نتيجة لتضافر ظروف معينة.
ولقد اعتقد الذين كانوا أكثر «ألمانية» من بين هؤلاء الكُتَّاب والمفكرين أنَّ لألمانيا رسالة يجبُ عليها تأديتها، وأنَّها لم تستطع تأديتها في الماضي ولكن المُستقبل كفيل بمعاونتها على إتمام رسالتها، في حين أنَّ الدول والبلدان الأُخرى قد انتهى دورها، ومن بين هذه الدول فرنسا. أمَّا هذه الرِّسالة فهي العمل من أجل تقرير السلام ونشر ألوية الحضارة.
وإلى جانب فكرة المساواة الطبيعية التي أخذ بها هؤلاء المصلحون السياسيون كانت لهم آراء إنسانية؛ فنادوا بتحرير رقيق الأرض، وتعليم الشعب وتربيته، باعتبار أنَّ هذه حقوق طبيعية. وأما هذه الآراء: تحرير رقيق الأرض وتعليم الشعب؛ فقد سميت في ألمانيا آراءً «جمهورية».
والسبب في أنَّ هؤلاء المُفكرين والفلاسفة لم يكن يستأثر بحبهم قطر أو وطن واحد من الناحيتين النظرية والواقعية، أنه كانت لهم علاقات واسعة بأقوام من شعوب مختلفة، وقاموا برحلات وجولات في أنحاء أوروبا، وأنشئوا صلات وثيقة مع زملائهم من أرباب الفكر والقلم في فرنسا وهولندة وإنجلترة؛ ولذلك فإنهم مع إيمانهم بالفكرة «الألمانية» بمعناها السامي الذي شهدنا آثاره لم يكونوا يربطون بين هذه الفكرة وبين أي مفهوم سياسي لها أو أي إدراك للمُشاركة الأدبية والأخلاقية، كعامل في تكوين الشعوب وخلق الأُمم. ومن هذه النَّاحية إذن كان الحال يختلف اختلافًا بينًا في ألمانيا عنه في فرنسا التي وجدت بها من زمن طويل «أمة فرنسية».
ومع ذلك؛ فنحن إذا أمعنا النَّظر في آراء هؤلاء الفلاسفة والمُفكرين الألمان، وتعمَّقنا على وجه الخصوص الرأي القائل بالوحدة الفكرية أو الذهنية عاملًا حاسمًا في نشأة ألمانيا وتكوينها، لوجدنا وجوهًا للشبه بين هذه الآراء والآراء التي بسطها «جان جاك روسو» في كتاباته؛ كمُثُله «الإنسانية» العالية وإيمانه بأنَّ الإنسان مطبوع على الخير، وما للآراء والفكرات من قوة وآثار قاطعة.
وثمة مُلاحظة أخرى هي أنَّه قد ترتَّبَ على الفكرة القائلة بوجود «ألمانيا» من الناحية الأدبية، وقيامها ذهنيًّا وثقافيًّا — ولكن ليس سياسيًّا — أنْ صار للفكرة القومية في ألمانيا نوع من الميوعة، جعلها تتشكَّل في معانٍ مختلفة بخلاف ما كان عليه الحال في فرنسا؛ ولذلك فقد تعذَّر أن يكون «للقومية» في ألمانيا تعريف أو صورة ثابتة، واستمرت في نظر الألمان دائمًا فكرة تخضع لما قد يقع عليها من تأثيرات مختلفة في المُستقبل، وتمثل لذلك كل ما قد يحدث من احتمالات مُستقبلة؛ أي إنَّ «القومية» في نظر الألمان لم يكن لها أي أثر واقعي أو حتمي معين ومحدد.
القومية لدى هردر
وفي كل أدوار حياته أبدى «هردر» تشوقًا للازدياد من المعرفة؛ معرفة كل شيء، ورغبةً في التنقيب والبحث عن كل شيء، وذلك إلى جانب همة عالية وانكباب على العمل، كما أظهر من بداية شبابه إلى آخر أيامه قُدرة على التصور والخيال عجيبة كانت ثمرة استنارة وعبقرية أكثر منها ثمرة استنتاجات عقلية.
ولا ريب أن ذلك كان منحًى جديدًا استتبع إدراكًا جديدًا لكل تلك العناصر والعوامل التي تتضافر عادة فيما بنيها على تكوين وإنماء عبقرية الشعوب. أما المرحلة الهامة التالية في تنشئة «هردر» وتطور آرائه الفلسفية فكانت عندما بدأ يعمل أستاذًا في ريغا؛ وذلك لأنه اعتقد في هذه المرحلة بضرورة تحديد أساليب التعليم على أساس أنَّ المدرسة يجب أن تشبه حديقة فيحاء لا سجنًا رهيبًا. واقتضاه الاستعداد والتهيؤ لوضع النِّظام الجديد الذي أراده للتعليم أن يقوم بأسفار عديدة في أوروبا الغربية؛ حتى يدرس برامج التعليم في البلدان المُختلفة؛ فزار باريس حيث تعرَّف بكبار الكتاب والفلاسفة بها وتردد على دُورِ الكتب، وكان في باريس أن عرض عليه العمل مربيًا لأمير هولشتين، فمرَّ في طريقه إلى هذه الدوقية بين أقاليم ألمانيا الغربية.
وتتفق بداية المرحلة الثالثة في تطور آرائه مع استدعائه إلى «فايمر» في الظروف التي سبقت الإشارة إليها، وذلك بعد أن كان قد تقلب (هردر) في وظائف عدة منها عمله كأستاذ في «جونتجن» سنة ١٧٧٥. وكان الذي استدعاه إلى «فايمر» صديقه «جيته»، فأقام «هردر» بها ولم يغادرها طول حياته بعد ذلك إلا مرة واحدة أثناء سفرته في إيطاليا في سنتيْ ١٧٨٨ و١٧٨٩. وكان في «فايمر» أن انكب (هردر) على دراسة الكتاب المُقدس وتاريخ الشرق القديم، وأثمرت هذه الدراسة بحثًا في «الشعر العبري» نشر في سنة ١٧٨٣؛ وذلك لأنَّ «هردر» لم يدرس الكتاب المقدس من النَّاحية الدينية أو الفقهية، بل عُنِيَ بدراسة الناحية الإنسانية، محاولًا أن يفهم هذه الناحية الإنسانية في ضوء ما استطاع أن يُلمَّ به ويعرفه عن تلك المدنيات الشرقية القديمة التي كانت مُعاصرة للكتاب المقدس.
ولقد اعتمد «هردر» في بحوثه وتفكيره على الفهم والإدراك الذهني، ثم دعم ما يذهب إليه بالأسانيد والوثائق أكثر من اعتماده على الطريقة الاستنتاجية والتعقلية البحتة التي اتَّبَعها الفلاسفة الفرنسيون. ولما كان يطمح إلى احتلال مكانة عالية في ميدان العلوم الأخلاقية، فقد دأب على البحث المنظَّم ليستكشف بوسائله القوانين المسيطرة على تطور الإنسانية وتقدمها منذ نشأة الإنسانية وتدرجها في تلك الخطوات التي أوجدت في درجات مُتتالية أنواعًا من الإنسانية لم تكن قطُّ من صنع الإنسان أو ثمرة جهوده على نحو ما يقول الفرنسيون أصحاب الفلسفة «التعقلية»، بل كانت نتيجةً لفعل ظروف وعوامل خارجية بجانب استخدام القوى أو الخصائص الغريزية.
ونحا «هردر» منحًى جديًّا عند دراسته الأدب وتاريخ اللغة، ساعد إلى جانب ما تقدَّم على وضع نظرية «القومية» التي نُسبت له، وذلك أنه عند دراسته كتابات مُعاصريه وكتابات القدماء وآثارهم الأدبية، وأثناء تنقيبه عن مميزات كلِّ مرحلة تاريخية من مراحل نمو الشعوب وتطورها، حاول أن يَصِلَ إلى معرفة الأُسس التي قامت عليها عبقرية الشعوب المختلفة؛ فكان في رأيه أنَّ لكل شعب خصائصه التي يتميز بها من غيره، شأن الشعوب في ذلك شأن الأفراد، وأنَّ الثمار التي تنبت من الأعماق أو من تلقاء نفسها تعبير يفصح عن عبقرية الشعب ويدل على حقيقة هذه العبقرية وكنهها، وأن كل تقليد — وبمعنى آخر: كل خضوع لمؤثرات خارجية وأجنبية عن طبيعة الشعب — إنما هو جهد يدل على ضآلة الذهن ولا يلبث حتى يصبح خطرًا يهدد بالتشويه آراء الشعوب وتفكيرها.
ولقد ترتب على الأخذ بهذه الأقوال أن حصل تجديد أدبي واسع النطاق صار مصدر الحركة الرومانتيكية (التخيلية أو التصورية) الألمانية. ونجح «هردر» في أن يجعل النقاد في ميدان الأدب والفنون يحوِّلون انتباههم عن معايير الجمال الفني إلى البحث عن مصادر الأدب والفن الأدبي والتنقيب في ماضي الشعوب نفسها؛ كي يتسنَّى لهم الوقوف على عبقرية الشعوب في نتاجها الأدبي وقوة الابتداع أو الابتكار المرتبط بعبقريتها.
ويتفرَّع عن هذه الفكرة بصورة من الصور الرأي القائل بأنَّ اللغة أو لسان الشعب نفسه هو الأداة الأساسية التي يُمكن بها الإفصاح عن عبقريته. ولا تستند اللغة في أصولها إلى أن اتفاقًا قد حدث على استخدام وسيلة أو أسلوب فني معين للأداء، بل يعتبر «هردر» اللغة حقيقة عضوية لها مولد ولها حياة وتخضع للموت والفناء، وهي في نظره روح الشعب في صورة مجسدة تُعَبِّر عن مزاجه وأحاسيسه وأفكاره، وكل ما هو متصل بأصل هذا الشعب ومنبته من قُدرة على الابتداع والابتكار؛ أي إنَّ اللغة الوسيلة التي تعبر بها الشعوب عن خلجاتها، وكذلك كان لا مناص في رأيه من معرفة الأدوار التي مَرَّت بها اللغة أثناء تطورها لمعرفة تاريخ الشعوب.
والكاتب العظيم حقًّا هو الذي تتسم اللغة التي يكتب بها بالطابع الوطني الصميم، والذي يرفض محاكاة أو تقليد التعبيرات الأجنبية الغريبة. والواجب يقتضي لذلك كلَّ كاتب أو إنسان له حسٌّ وضمير أن يُتقن لغة قومه وأن يذكر أصولها؛ فيعرف ما كانت عليه هذه اللغة في مراحلها البدائية الأولى. وعلى ذلك لا يستطيع المرء أن يعرف شعبًا إلا إذا عرف لغته. وبمعرفة لغاتها تستفيق الشعوب؛ لتدرك بشعورها ما تنشده من أهداف وما تنتظر بلوغه من نمو وتطور في المستقبل.
تلك إذن كانت الآراء التي استندت عليها نظرية «هردر» في القومية. «فالأُمَّة» في رأيه إن هي إلا جثمان أو كائن حي له وجوده الذاتي والبدائي، ويتمتع بغريزة حية نشيطة وبعبقرية معينة تُفصِح جميعها عن نفسها تلقائيًّا في لغة هذا الكائن وعاداته البدائية وفي مسلكة الخلقي. وعلى ذلك كانت «القومية» شيئًا طبيعيًّا؛ أي من صنع الطبيعة، ولاإراديًّا؛ أي لا حيلة للإنسان فيه، وذا حياة تاريخية.
ومع أن «هردر» في كل بحوثه في الأدب والفن وأصول اللغة كان ينتزع الأمثلة التي يبغي بها إرشاد الشعب الألماني وإسداء النصح للكتاب على أساس الدفاع عن اللغة الألمانية والتقاليد والعادات والفنون … إلخ الألمانية، فقد انفصلت «القومية» في تفكير «هردر» عن الوطنية بمعنى محبة الوطن. فنراه ينشر في سنة ١٧٦٥ بحثًا تساءل فيه إذا كان قد أصبح لبلاده بعد جمهور ووطن على غرار ما هو حادث في البلدان الأُخرى، ثم أجاب على هذا السؤال بعقد مُقارنة بين المجتمع في العصور القديمة والذي يقوم على محبة الوطن، وبين المجتمع في عالم المسيحية والذي يعتبر الشعوب إخوة تؤلف الإنسانية بينهم، والذي يدين بالإنسانية مثلًا أعلى من ناحيتي السياسة والاجتماع. ولقد عزا «هردر» إلى الحضارة المسيحية الفضل في إزالة الحواجز التي فصلت الشعوب عن بعضها بعضًا.
ومن أقواله المأثورة أن الفخورين بقوميتهم أكثر الناس بلادة ذهن مثلهم في ذلك مثل الذين يفخرون بأصولهم العريقة وثرائهم العريض. وفي أواخر أيامه سنة ١٧٩٤ كتب «هردر» يدين كل اشتباك دموي بين وطن وآخر بأنه أسوأ درجات البربرية التي ينحدر إليها البشر، فلم يعترف «هردر» إلا بنوع واحد من المنافسة بين الأمم هي المُنافسة المُثمرة في سبيل التقدم والرُّقي الحضاري. وكان من المتوقع إذن أن يُرحب بتلك الضآلة السياسية التي كانت عليها ألمانيا في عصره بدلًا من أن يأسف على ذلك. بل إنه اعتبر في صالح ألمانيا أن يكون لها وعلى نحو ما هو حادث فعلًا عدة قواعد أو مراكز سياسية اعتقد أن وجودها ضروري ولا غنى عنه؛ ليتسنى نمو فروع أصيلة مُتعددة من الدوحة الألمانية؛ أي الجنس الألماني. فلم يكن لدى «هردر» إذن أي فكر عن استطاعة ألمانيا أن تُصبح «وحدة جغرافية»، ولو أنَّه كان من ناحية أخرى يمجِّد ألمانيا ويرى أسباب هذا التمجيد في لغتها وروحها «وخلقها» وتقاليدها، ويطلب منها أن تشحذ كل قواها وعلى نحو ما كان يفعل هو نفسه؛ ليصبح لألمانيا الموحدة عقليًّا وذهنيًّا شعور بذاتها ووجودها.
وهكذا وصل «هردر» إلى مفهوم للقومية يستند على عناصر تختلف تمامًا عن تلك التي استندت عليها نظرية روسو وسائر الفرنسيين. وزيادةً على ذلك فإنَّ «هردر» لم يكن يلبس نظريته هيكلًا تتجسد به في كائن سياسي على نحو ما فعل الفرنسيون في مفهوم القومية لديهم.
وأمَّا هذا المفهوم والمعنى الذي جاء به «هردر» لنظرية القومية؛ فقد انتشر في أوساط الفكر جميعها في ألمانيا بصورة مزدوجة: في شكل الحركة الرومانتيكية في الأدب مُعتمدة على عناصر الحياة البدائية والتاريخ الألماني، ثم في شكل حركة علمية كان قوامها فقهاء اللغة والمؤرخين والذين يدرسون تاريخ الأديان. وكانت الجامعات العديدة والمنتشرة في أنحاء ألمانيا مراكزَ هذه الحركة الأدبية والعلمية المزدوجة، فكان يؤم هذه الجامعات الطلاب الذين صاروا يفدون إليها من أقاصي البلدان البعيدة. وفي هذه الجامعات صار هؤلاء يدرسون نظريات «هردر» عن القومية وعن ارتكاز عنصرية الشعوب على لغاتها الأصلية، وهؤلاء الطلاب هم الذين صاروا يروِّجون هذه النظريات في أنحاء أوروبا.
الخلاصة
وهكذا وجدت عشية اندلاع «الثورة الفرنسية» نظريات في موضوع «القومية» اختلفت كلٌّ منها عن الأُخرى اختلافًا عظيمًا: النظرية الفلسفية التي أخذت بها فرنسا وبمقتضاها كانت القومية عقدًا أبرمته إرادة المُتعاقدين الحُرَّة المُطْلقة، ثم النظرية التاريخية التي أخذت بها ألمانيا وبمقتضاها اعتبرت القومية كائنًا عضويًّا، لغة الشعوب البدائية هي أداة تعبير هذا الكائن العضوي الأساسية.
ولم يكن مفهوم القومية في هذين الحالين نتيجة المُصَادفة أو الظروف الطارئة، بل كانت الفكرتان على العكس من ذلك تفسيرًا لتطور تاريخين يسيران في اتجاهين متضادين؛ أحدهما: تاريخ بلاد تكونت من عوامل مُختلفة امتزجت امتزاجًا كليًّا؛ لتُصْبِحَ كلًّا واحدًا تحت تأثير ترابط واندماج سياسي ترتب عليه أن «الدولة» و«الأمة» و«القومية» كلها مدلولات لشيء واحد، وذلك في فرنسا. والآخر: هو تاريخ بلاد افتقرت إلى هذا الاندماج والترابط السياسي، وكانت مؤسسة من استقرار شعب في رقعة ممتدة من نهر الراين غربًا إلى نهر الأودر شرقًا، ظل بمنأًى من كل غزو أجنبي أو سيطرة أجنبية عليه، ولكن سرعان ما صار لا يفقه معنًى لفكرة «الدولة» عندما لم يكن لمفهومه عن الدولة أساس جغرافي، ولم يتجسد هذا المفهوم في صورة سياسية، وبقيت «القومية» لديه تستند على العنصر البدائي المشترك، وهو اللغة التي تمثلت فيها وحدة الأصل عند هذا الشعب، وذلك في ألمانيا.
تلك إذن كانت الأصول النظرية أو الفلسفية (والمثالية) للحركة القومية في أوروبا.