القومية: أصولها التاريخية
تمهيد
تستند القومية إلى أصول تاريخية، كاستنادها إلى الأصول الفلسفية والنظرية التي سبق الكلام عنها، ونشأة الفكرة القومية ونموها من النَّاحية الفلسفية أو النظرية، كان يتفق من حيث الترتيب الزمني مع وقائع التاريخ وحوداثه الأولى، ولو أنه كان ببطء شديد؛ أي بعد مضيِّ زمن طويل، أن أحدثت هذه النَّظريات أثرًا جعل الوقائع مُطَابقة لها، فاقتضى الحال مرور قرن ونصف قرن من الزَّمان تقريبًا ليكتمل شعور الشعوب بقومياتها في عالم الواقع والنشاط الفعلي.
فلا يجوز الاعتقاد بأنَّ التاريخ يعرض فجأة ودون سابق إنذار مشهدًا للقوى المتضامنة بلا أسباب ولا مقدمات له؛ لأنَّ التاريخ إنما يسلك طريق التطور، ولا قدرة للفكرة النظرية على إبراز الحوادث التاريخية بغير هذا الطريق البطيء؛ لأنَّ الفكرة الواحدة (أو الرأي المعين) قد تظهر في جهةٍ ما، ليدين بها جماعةٍ ما، ثم لا تلبث حتى تختفي بعضَ الوقت لتعود إلى الظهور بعد فترة من الزَّمن قد تكون طويلة أو قصيرة حسب شتى المناسبات، ومن أجل تأييد حوادث مُعينة بذاتها، فيلتف فريق من الناس حول هذه الفكرة أو النَّظرية، وفي هذه المرحلة تكون هذه الآراء أو الفكرات قد اكتسبت حيويةً ونشاطًا يتعذر معهما محوها من الوجود بالرغم مما قد يكون هنالك من قوى معارضة تريد القضاء عليها، فينشب عندئذٍ نضال عنيف تنتصر في نهايته النظريات والآراء الجديدة، وتبدو ثمرة هذا الانتصار في صورة حوادث ووقائع في عالم الحقيقة، ثم لا تلبث حتى تنتشر هذه النظريات بين الجماهير في قوة تتعذر مقاومتها بعد أن تكون في هذه المرحلة قد نجحت في استثارة قوات متضامنة عظيمة.
ونظرية القومية كغيرها من النظريات إنما تسلك هي الأخرى هذا الطريق نفسه، فتمر في أدوار عدة، وتتخذ مظاهر أو أشكالًا مُتباينة تبعًا لدرجة نموها وتطورها، ولا يجب اعتبار أنَّ هذا النمو والتطور قد حصلا بصورة رتيبة بطيئة، بل جاءت نظرية القومية نتيجة نمو أو تطور متقطع وغير متسلسل الحلقات.
ولم يكن تكوين هذه القوميات «صناعيًّا»؛ فلقد كان لها وجود مستكنٌّ قبل بروزها إلى عالم الوجود الفعلي الخارجي، فهي لا تعدو عن كونها حقائق اكتمل الشعور بذاتيتها وبوجودها، ولا يمكن كذلك اعتبار القومية للسبب نفسه، ابتكارًا أو ابتداعًا؛ أي شيئًا مُستحدثًا من العدم؛ فكل ما هنالك أنَّ القوميات كانت موجودة، ولكن بدرجات مُتفاوتة، فبعضها كان لا يزال في دور الميوعة، ولا يمكن تمييزه من البيئة أو الوسط الذي أحاط بها كشعوب البلاد السلافية، أو الذين تتألف منهم إمبراطورية الهابسبرج، وتلك كانت آخر القوميات التي دبت فيها الحياة واكتمل شعورها بذاتيتها.
وعلى النقيض من ذلك، فهناك أمم كانت تتمتع بحياة مستقلة واحتفظت بذاتيتها بالرَّغم من خضوعها لسيطرة «دولة» أُخرى عليها؛ فالقوميات من هذا الطراز يستمر بقاؤها ووجودها دون أن يكون لديها شعور بهذا الوجود، ودون أن تكون لديها رغبة أو إرادة لإبراز ذاتيتها.
ويكفي أن تطرأ مناسبات تاريخية مُعينة، حتى تستيقظ هذه القوميات من سباتها، وتستبدَّ بها الرَّغبة حينئذٍ في طلب الاستقلال الذي لا معدى عن تحقيقه في هذه الحالة إن شاءت البقاء بعد ذلك، والقوميات التي من هذا الطراز هي التي اختفت في الواقع كذاتية سياسية من أزمنة طويلة، حتى لقد بات مُتعذرًا عليها إدراك أنَّ لها رسالة في الحياة أو أن لها «قومية» خاصة بها. ومع ذلك فإن هذا لا يعني اختفاء العناصر والمقومات التي دخلت في تكوين هذه القوميات ضمن الإطار المرسوم لها، بل صار ينقصها الروح فقط الذي يشيع فيها الحياة، ويجعلها تشعر بذاتيتها، وتتبع ظهور هذا الروح أو اليقظة القومية هو موضوع هذه الدراسة.
لقد شهد القرن الثامن عشر في السنوات الأخيرة منه تجربة صحيحة تُشير إلى ما كان منتظرًا أن تمرَّ فيه القوميات من أدوار عند تكوينها، ولو أنَّ هذه التجربة المقصود الكلام عنها بالذات قد حدثت في وقت كان تطور الآراء فيه قد بلغ مرحلة من النمو والتقدم يتعذر بها خنق هذه الآراء وإخمادها كما حصل في أُمم أُخرى. وأمَّا هذه «التجربة» فكانت حادث الإثم الذي ارتكب في حق الأمة «والقومية البولندية» عند تقسيمها الأول في سنة ١٧٧٢.
وعلى ذلك سوف يشمل البحث في أصول حركة «القوميات» من الناحية التاريخية دراسة هذا الحادث البولندي من جهة، وهو حادث «دولة» كانت تسير في طريق الاختفاء من عالم الوجود، ثم دراسة «الدول» التي كان لا يزال لها وجود ولكنها فقدت «قومياتها» كالمجر (هنغاريا) واليونان وإيرلندة، باعتبار أنَّ هذه جميعًا قد خضعت لسيطرة أجنبية عليها، ولكن لم تستطع هذه السيطرة الأجنبية أن تمحو «ذاتية» هذه الدول. ولقد اختلف النظام الذي أقامته السيطرة الأجنبية في كل واحدة من هذه الدول واختلفت «ذاتية» كل شعب من هذه الشعوب الثلاثة، ولم تكن هذه الدول الثلاث أو الشعوب الثلاثة قد خطت بعد في طريق «القومية» خطوات ظاهرة، وإن كانت تملك القواعد أو الأسس التي تشيد عليها صروح قومياتها.
بولندة
ولقد كان طبيعيًّا أن تطرأ تعديلات على حدود هذه الدولة البولندية في مختلف مراحل تاريخها؛ فقد حدث في وقت من الأوقات أن وصلت حدودها إلى موسكو، كما حدث أن فقدت كذلك جزءًا من أراضيها، فضاعت منها كييف كما نبذت دوقية بروسيا سيادة بولندة عنها، وفي سنة ١٧٧٢ كانت بولندة دولة يبلغ عدد سكانها خمسة عشر مليون نسمة، وفي سنة ١٧٧٢ كانت بولندة «دولة» وحقيقة تاريخية واقعة.
ومع ذلك لم يكن لدولة بولندة من الناحية السياسية وجود ما، أو أنها كانت قائمة ولكن في صورة سيطرة مطلقة تتمتع بها طبقة واحدة هي الطبقة الارستقراطية، وتمارس هذه الطبقة السلطان المطلق في الدولة في ميادين السياسة والاجتماع والثقافة.
وبذلك استطاع النبلاء البولنديون أن يحطموا سلطة الملك تحطيمًا، ولم يكن هؤلاء يشعرون بوجود صالح عام أو وطني يقتضيهم الواجب المحافظة عليه؛ فكانت المشاحنات الشخصية أو النزاعات الطبقية الأساسَ الذي قامت عليه الأحزاب التي ساعد وجودها على تفرق الكلمة وإضعاف البلاد. وانعدم إلى جانب هذا أي تضامن أو تماسك بين الطبقة الأرستقراطية وسائر أفراد الشعب وطبقاته، واستأثرت هذه الأقلية الأرستقراطية بالثروة والغنى؛ فأخذت بأساليب المدنية الأوروبية وأقامت نظامًا «بوليسيًّا» أحكمت فيه الرقابة، وأنشأ أعضاؤها الصلات القوية مع الغرب بفضل الزواج من الأسرات الأوروبية الكبير في غرب أوروبا. ولكن هؤلاء النبلاء لم يكونوا بحال من الأحوال يمثِّلون «الأمة» البولندية، بل عاشوا عالة عليها، ويستنزفون مواردها، وكما لو كانوا يعيشون في بلد فتحوه بحدِّ الحسام.
ولم يوجد في بولندة طبقة متوسطة (بورجوازية) بالمعنى المعروف، والتي تشغل في العادة مكانًا وسطًا بين الطبقتين العليا والدنيا؛ فقد كان ما يمكن تسميته بالبورجوازية في بولندة يتألَّف من بعض المعمرين الألمان في المدن، والذين كانوا يعيشون في كد ونصب وفي مذلة وهوان، وكذلك اليهود الذين فرضت عليهم الضرائب المتنوعة دون حساب. ولقد بقيت هذه الطبقة المتوسطة المزعومة دون التئام أو اندماج ودون شعور جماعي ودون تنظيم بل ودون حياة خاصة بها.
وواضحٌ أنَّ مُجتمعًا هذا شأنه كان من المُتَعَذِّر أن يتمَّ فيه توحيد أو اندماج، بل إنَّ الكاثوليكية التي كان مُستطاعًا أن يتسلَّح بها البولنديون في مقاومتهم ضدَّ جيرانهم الروس أو الألمان من أصحاب العقائد المُغَايرة لعقيدتهم لم تكن كافية لأن تصبح عامل إدماج وتوحيد؛ فقد كان من بين البولنديين أنفسهم نفر اعتنقوا الأرثوذكسية أو اللوثرية.
وأمَّا أن عملية البتر هذه لم يتسبب منها ضرر لبولندة، فمردُّه إلى أن بولندة كانت كما شاهدناها «دولة تاريخية» فحسب؛ أي إنَّ تكوينها كان نتيجة انضمام مساحات من الأراضي إلى بعضها في مُختلف مراحل التاريخ؛ فلم يؤثر شيئًا في «قوميتها» اقتطاع بعض هذه الأراضي منها. ولا تعدو لذلك أن تكون عملية البتر هذه مجردَ طعنة أصابت كبرياء النبلاء أو الطبقة الأرستقراطية البولندية، ومن المتعذر لهذا كله اعتبار التقسيم الذي حصل سنة ١٧٧٢ اعتداءً وقع على «أمة».
إلا أنَّ هذا التقسيم لم يلبثْ أن أدى إلى قيام حركة صارت فيما بعد أصلًا للقومية البولندية؛ فقد ظهرت بعد التقسيم حركتان هامتان؛ الأولى: عندما تألَّفت جماعة من المصلحين الذين أرادوا إصلاح الدولة والقضاء على الفوضى الناجمة من وجود «حق الاعتراض» وتلك العهود والمواثيق المبرمة عند اعتلاء الملك العرش لتنفيذ شروط النبلاء عليه، ثم اتحادات النبلاء في مجالسهم الكونفدرائية. ولقد أراد هؤلاء في الوقت نفسه إصلاح الدولة بإنشاء جيش يضمُّ قواتٍ من المُشاة والمدفعية، مع فرض ضريبة مُعيَّنة للإنفاق من محصولها على هذا الجيش.
وتحت تأثير النفوذ الذي كان للوزير البروسي والأموال التي أنفقها على أعضاء المجلس، ارتمى «الدياط» في أحضان بروسيا واتبع سياسةً مناوئةً لروسيا، ووصل إلى قرارات كان من المتعذر تنفيذها قبل الاستعداد اللازم أولًا بالبدء في إصلاح شئون الدولة ذاتها وإعادة تنظيمها؛ فقد قرر «الدياط» إنشاء جيش من مائة ألف مقاتل، وطالب بجلاء روسيا عن الأراضي التي احتلها عسكرهم (بمقتضى تقسيم ١٧٧٢)، كما قرر المفاوضة مع بروسيا لعقد معاهدة تحالف معها، وتأجَّل البحث في برنامج الإصلاح المنشود إلى العام التالي.
فقد كان مُقَدرًا لهذه الحركة المُزدوجة — سواء من أجل الإصلاح السياسي أو الإنعاش الروحي والخلقي — أن تشقَّ طريقها وسط مناضلات حادة ومكائد وأحداث شديدة لا تقل في آثارها العنيفة عما كان يحدث قبل تقسيم سنة ١٧٧٢. بل إنَّ هذا التقسيم نفسه لم يكن له من أثر إلا زيادة هذه النزاعات والأحداث حدة على حدتها.
ومع ذلك فالجدير بالملاحظة أن الاعتداء الذي وقع على بولندة وانتهى بتقسيمها في سنة ١٧٧٢ ثم كان مُقدمة لاعتداءات لاحقة (في سنتيْ ١٧٩٣، ١٧٩٥) ترتَّب عليها اختفاء بولندة من خريطة أوروبا كليةً، إنما وقع في وقت كان قد بلغ فيه تطور الآراء وتقدمها درجة جعلت متعذرًا على البولنديين الرضوخ للتقسيم وعدم الاحتجاج ضده؛ الأمر نفسه الذي جعل متعذرًا خنق الروح البولندية وإخمادها، على نحو ما حدث للدولة التي ذهبت من الوجود فيما مضى، واقتسم أرضها الطامعون فيها والمُعتدون عليها وقضوا عليها: أضف إلى هذا أنَّ المسألة البولندية تنازعتها تيارات مُتَضاربة بسبب المؤامرات الكثيرة النَّاجمة من اختلاف المصالح الأوروبية السياسية بشأنها. ثم لم تلبث أن نشبت الثورة الكبرى في فرنسا في سنة ١٧٨٩؛ فكان لهذه الثورة أكبر الأثر في تحرير الحركة البولندية وفك عقالها بصورة من الصور، بعد سنة ١٧٨٩.
ولذلك وبفضل هذه الأسباب جميعها، فإنَّه بدلًا من انقضاء «المسألة البولندية» واختفائها من ميدان السياسة الأوروبية، فقد بقيت مسألة «مفتوحة». وذلك ليس فيما يتعلَّق بأهل البلاد أنفسهم كذلك، ولو أنها ظلت في الوقت نفسه مسألة سياسية تستأثر باهتمام الطبقة الأرستقراطية (طبقة النبلاء) وحدها فقط، ولا تَلْقَى أي اهتمام من جانب سواد الشعب نفسه، ثم إنها لم تُثِرْ بعدُ أيَّ شعور قومي؛ فلم يستثر هذا الشعور القومي إلا بعد وقوع الكوارث التي نزلت ببولندة في العهود التالية.
هنغاريا (المجر)
وكانت هنغاريا (المجر) في آخر القرن الثامن عشر «دولة» من طراز آخر: دولة تاريخية في نطاق دولة أخرى، وتحتفظ بذاتيتها وشخصيتها بالرغم من ذلك، والبحث في تاريخها يكشف عن المدى الذي بلغه شعورها بذاتيتها هذه وشخصيتها.
وتحتلُّ مملكة المجر (هنغاريا) مركزًا خاصًّا لا معدى عن توضيحه لعلاقة ذلك بما يُعرف باسم نظرية الحقوق التاريخية؛ وهي النظرية التي اعتمد عليها الهنغاريون فيما بعد عند المطالبة بحقوقهم الوطنية؛ ذلك أنَّ مملكة المجر من الممالك القديمة في أوروبا، والتي كان لها وجود قديم، فما لبثت حتى فرضت ذاتيتها و«شخصيتها» على سادتها الجدد عندما انتقل فيها الحكم إلى آل هابسبرج في سنة ١٥٢٦، فانتخبت ملكًا عليها فردنند النمساوي — شقيق الإمبراطور شارل الخامس — (والذي أُعطِي كما هو معروف الحكم في النمسا، ثم صار إمبراطورًا بعد تنازل أخيه شارل الخامس سنة ١٥٥٦، وكان فردنند قد تزوَّج من شقيقة ملك بوهيميا والمجر «لويس جاجلون» الذي لقي حتفه في واقعة موهاكز المشهورة على يد الأتراك في سنة ١٥٢٦).
وقد اعتبر «الدياط» في هنغاريا اتحاد البلاد مع النمسا بمثابة محالفةٍ الغرضُ منها الاطمئنان على سلامة الدولة، في حين أن فردنند على النقيض من ذلك كان يَعتَبِر حصوله على المجر بمثابة «هبة» منحتها الدولة له شخصيًّا.
وهكذا ففي حين استطاع الهابسبرج خلال هذه المدة الطويلة من أواخر القرن السادس عشر ثم أثناء النِّصف الأول من القرن الثامن عشر، القضاءَ على مملكة بوهميا وإدماجها في أملاكهم، فقد بقيت المجر على خلاف ذلك محتفظة بكيانها وذاتيتها داخل نطاق دولة آل هابسبرج ذات نظام الحكم المطلق؛ فكان أن ترتَّبَ على هذه الحقيقة قيام ذلك الوضع التاريخي الذي جمع في نظام ثنائي بين النمسا والمجر.
ومعنى ذلك أنَّ المجر أيَّدت ارتباطها بالنمسا وصار متعذرًا عليها الانفصال عنها، ومع ذلك فقد انطوى هذا المبدأ نفسه على مبدأ آخر؛ هو أنه لما كان متعذِّرًا على المجر الانفصال عن النمسا فقد صار متعذرًا على النمسا كذلك الانفصال عن المجر. ولهذا المبدأ أهمية كبيرة؛ لأن تقرير ارتباط النمسا بالمجر وعجزها عن الانفصال عنها كان معناه أنَّ النمسا صارت تعترف بأنَّ للمجر كيانًا وذاتيةً خاصة بها.
ويمكن إيجاز الشروط التي اشترطها المجريون للاعتراف بالضمان الوراثي في أنَّ هؤلاء اعتبروا الضمان الوراثي من قوانينهم؛ أي قانونًا مندمجًا في قوانين «مملكتهم»؛ فصار هذا القانون الذي اعترف بالوراثة في آل هابسبرج جزءًا لا يتجزأ من الدستور الهنغاري؛ مما معناه أنَّ المجر لا تعترف بوراثة الهابسبرج كأمراء نمساويين تئول إليهم حقوق الوراثة وفق القوانين النمساوية، ولكن باعتبار أنَّ لهم حقوقًا وراثية بمقتضى القوانين الهنغارية وبناءً على ما تتضمَّنه هذه القوانين الهنغارية من نصوص خاصة بوراثة العرش في المجر فحسب.
أضف إلى هذا ما تعهد به وارث العرش من آل هابسبرج من إدارة شئون الحكم في المجر بوصفه ملكًا على المجر وفق قوانين البلاد وحسبما نص عليه دستورها؛ فكان معنى ذلك أنَّ هناك «عقدًا رسميًّا» بين الدياط «المجري» وبين صاحب السلطان والحكم بها. وهكذا، فإنه في حين قد تَمَّ الاعتراف بوجود «دولة» النمسا، ووضعت هذه نظامًا إداريًّا يسري على كل أقاليمها (السلافية-الألمانية) ظفرت المجر بالاعتراف بحقها في الوجود وبذاتيتها الخاصة بها؛ مما تدعم بسببه نهائيًّا نظام «الحكم الثنائي» داخل الدولة الهابسبرجية.
وثمة عامل ثانٍ ساعد على دعم وجود المجر واحتفاظها بكيانها أثناء القرن الثامن عشر، ونعني بذلك السياسة التي اتبعتها ماريا تريزا التي تولَّتْ عرش الإمبراطورية من سنة ١٧٤٠ إلى ١٧٨٠ بعد وفاة والدها شارل السادس؛ فقد سبقت الإشارة إلى الصعوبات التي صادفت الإمبراطورة بسبب اعتداءات فردريك الثاني (الأكبر) — ملك بروسيا — على أملاكها في سيليزيا، حتى إنه لم يكن هناك مَعْدًى عن حشد كل القوات التي تملكها «ماريا تريزا» لدفع هذا الغزو، فأقبل الهنغاريون في هذه الظروف على تقديم كل مُسَاعدة كانت ملكتهم «ماريا تريزا» — كما قالوا — في مسيس الحاجة لها، وفي نظير ذلك أيدت الملكة — وهي إمبراطورة النمسا وملكة المجر — كلَّ الحقوق والامتيازات التي كانت لهؤلاء.
ولقد أرادت ماريا تريزا بعد حرب الوراثة النمساوية (سنة ١٧٤٠–١٧٤٨)، التي تميَّزَتْ كما سبق أن عرفنا بالنضال بين بروسيا والنمسا حول امتلاك سيليزيا. وأثناء «فترة الهدوء» التي تلت هذه الحروب، أرادت أن تعمل لتوحيد السلطة وتركيزها في النمسا بإنشاء إدارة وحكومة مركزية من الناحيتين السياسية والقضائية خصوصًا، فاستصدرت لهذه الغاية عدة قوانين بين سنتيْ ١٧٤٧، ١٧٤٩، ثم ما لبثت حتى تابعت نشاطها لتحقيق هذا الغرض نفسه أثناء «حرب السنوات السبع» التي استمرت من سنة ١٧٥٦ إلى ١٧٦٣، وكانت تبغي منها ماريا تريزا استرجاع سيليزيا ولكن دون طائل؛ فاستصدرت طائفة أخرى من القوانين بين سنتيْ ١٧٦٠، ١٧٦٣.
وكان هناك عامل ثالث ساعد بدوره على بقاء المجر متمتعة بكيانها وذاتيتها، ونعني به إصلاحات الإمبراطور جوزيف الثاني (١٧٦٥–١٧٩٠) ابن ماريا تريزا، أو على الأصح تعطيل تلك الإصلاحات التي حاولها هذا الإمبراطور، وكان جوزيف الثاني حاكمًا فيلسوفًا حاول توحيد أملاكه النمساوية بالرغم من تباين أقاليمها على أساسٍ يقبله العقل؛ أي على أساس «فلسفي»، فلم يبلثْ أن أثار ضده مُعَارضة شديدة في كل أنحاء مملكته عندما رفض رعاياه إلغاء تقاليدهم الموروثة والنزول عن لغاتهم الأهلية أو الرضاء بإلغاء الأنظمة القضائية والإدارية المحلية، كما عارضوا نظام التجنيد العام الذي أريد به الاستعاضة عن التطوع الاختياري في نظام الخدمة العسكرية، واشتدت المعارضة على وجع الخصوص في المجر ثم في الأراضي الواطئة النمساوية (بلجيكا)، لدرجة أنَّ جوزيف الثاني لم يلبث أن اضطر قبل وفاته بمدة قصيرة إلى إلغاء كُلِّ الإصلاحات التي كان ابتدعها.
وانتهز الهنغاريون فرصة وفاته واعتلاء شقيقه ليوبولد الثاني عرش الإمبراطورية (١٧٩٠–١٧٩٢) لاستعادة أنظمتهم القديمة، فأرغموا ليوبولد على التخلي عن برنامج الإصلاحات التي هدفت إلى توحيد الأملاك النمساوية. ثم إن إصلاحات جوزيف الثاني بما ترتَّبَ عليها من رد فعل كبير قد ساعدت كذلك على تقوية شعور المحلية في المجر؛ فقد اجتمع الدياط في صورة هيئة تأسيسية، وكان لم يجتمع مدة من الزمن أيام ماريا تريزا، ولم يجتمع أصلًا في حكم جوزيف الثاني، فبادر الآن بالانعقاد عقب وفاة الملك مباشرةً ليستصدر عدة قوانين (خلال سنتيْ ١٧٩٠-١٧٩١) تحتَّم بمقتضاها تتويج الملك في بودابست — عاصمة المجر — خلال الشهور الستة التالية لاعتلائه العرش، كما حَرَمَتْ هذه القوانين الملك من ممارسة سلطاته الكاملة حين نصَّت على اجتماع «الدياط» مرة كل ثلاث سنوات، ومنعت الملك من فرض الضرائب وجمع الجيوش من غير موافقة «الدياط»، وصار للدياط إلى جانب الملك الحقُّ في سن القوانين وتفسيرها وإلغائها، وصار حتمًا ممارسة السلطات التنفيذية والقضائية وفق القانون.
وتألف من هذه القوانين نوعٌ من الدستور لعلَّ أهم ما يستلفت فيه النظر — إلى جانب ما تقدَّم — ما جاء في مادته العاشرة التي جاء فيها: أن الملك مُعترف باستناد حقه في الوراثة إلى القانون الهنغاري كاستناده إلى القانون النمساوي سواءً بسواء، «وأنَّ هنغاريا إنما تؤلِّف مع الأقاليم التي ضُمَّتْ إليها مملكةً حرةً في كل ما يتصل بشكل الحكومة القانوني، ويدخل في ذلك كافة فروع الإدارة، وهي مُستقلة؛ أي مُتحررة من أي نوع من أنواع الخضوع لمملكة أخرى، أو لشعب آخر، بل هي على العكس من ذلك مُستمتعة بوجود كيان صحيح، ولها دستورها الخاص بها؛ ولذلك فإن مليكها المتوج عليها شرعًا وقانونًا الواجب عليه أن يُدير شئون الحكم وفق القوانين وحسب التقاليد والعادات الخاصة بها، وليس حسبما يجري في أقاليم أخرى.»
وتلك كانت عبارات صريحة قوية تؤيِّد ما كان للدستور المجري من طابع خاص. ولم يكن ذلك شيئًا جديدًا؛ إذ إنَّ هذا «الدستور» كان موجودًا قبل ذلك، وكل ما في الأمر أن صَدَرَ تأكيد رسمي لهذا الدستور الآن. ولا ينبغي أن يُؤْخَذَ من ذلك أنَّ المجر قد صارت انفصالية أو تريد الانفصال من النمسا؛ لأنَّ المجر — على العكس من ذلك — قد قَبِلَتْ تبعيتها للدولة النمساوية وقبلت سيادة الملك العليا عليها، وأرادت فقط أن تحتفظ بطابعها وذاتيتها كما أرادت التمسك بدستورها التاريخي، ذلك «الدستور» الذي لم يكن مُستندًا إلى نظريات أوحى بها الفكر والعقل، ولكن إلى وقائع وأحداث التاريخ.
ولم يكن الدستور الهنغاري «مسطرًا» في وثيقة واحدة، بل نما وتطوَّر حتى صار يتألَّف من عدة قوانين وقرارات ومرسومات وما إلى ذلك، صَدَرَتْ من أزمان بعيدة في شتَّى المناسبات والظروف، لعل القانون الصادر في سنة ١٢٢٢ والخاص بتقرير حقوق وامتيازات النبلاء وهم من المجيار، ووسائل إجبار الملك على احترام هذه الحقوق، كان من أهمِّ القوانين التي صدرت في هذه الأزمان البعيدة.
ومن الواضح أن نظامًا كهذا جعل متعذرًا أي تقدم سياسي، ولكن من ناحية أخرى حفظ هذا النظام حقوق البلاد «وحرياتها» عندما أوجد المجالس الإقليمية التي درجت على الاتصال فيما بينها للإبقاء على الروح الوطنية مُشتعلة إذا رفض الملك دعوة الدياط للاجتماع. وكان في تفاصيل نظام التمثيل والنيابة، سواء في المجالس الإقليمية والمقاطعات والمدن الحرة أو في الدياط بمجلسيه أو طبقتيه، ما جعل طبقة النبلاء — وهم من المجيار كما ذكرنا — يحتكرون كلَّ أسباب السلطة السياسية في أيديهم. ومع أنَّ شطرًا من الأهلين كانوا من الجرمان (التيتون) فقد حُرم هؤلاء تمامًا من أن يكون لهم صوت في توجيه الشئون العامة.
وهؤلاء النُّبلاء (المجيار) هم الذين انتخبوا فردنند الأول النمساوي سنة ١٥٢٦ ملكًا على هنغاريا؛ حتى يخفَّ لنجدتهم ضد الأتراك العثمانيين. ولقد بَقِيَ كما رأينا تاج المجر من ذلك الحين من نصيب آل هابسبرج.
وعلى ذلك؛ فقد كان دستور المجر دستورًا «إقطاعيًّا تاريخيًّا»: إقطاعيًّا لأن الدولة بمقتضى هذا الدستور لم تتأسَّس إلا من اتحاد عنصرين أحدهما «الملك» والآخر الأُمَّة، ولم تكن اختصاصات كلٍّ منهما وعلاقتهما إزاء بعضهما بعضًا واضحة الحدود والمعالم في القانون الإقطاعي القديم، وتاريخيًّا لأنَّ حوادث التاريخ هي الأصل في قيام هذا الدستور ولأنَّه صار يعتمد في بقائه على موقف كلٍّ من هاتين القوَّتين (الملك والأُمَّة) من الأخرى، وتلك علاقات مُتغيرة حسب مقتضيات الأحوال والظروف في العصور المختلفة.
ولقد كان يزيد عدد هؤلاء النبلاء الهنغاريين عن عدد النبلاء في فرنسا سنة ١٧٨٩ باثنيْ عشر ضعفًا، وذلك بالنسبة للطبقات الأُخرى في المجتمع. وأمَّا أهم امتيازاتهم فكان إعفاءهم إعفاءً تامًّا من الضرائب أو إلزامِهم بدفع شيء إلى الدولة.
ففيما يتعلق بالأمر الأول: إنَّ المجر عند انتشار الإصلاح الديني اعتنقت البروتستنتية، ولكن ما إن قويت حركة انتعاش الكنيسة الكاثوليكية حتى عاد قسم عظيم من البلاد إلى الكاثوليكية مرة أخرى، وفي كل مكان عملت الكنيسة الكاثوليكية لتأييد مصالح الأُسرة المالكة، وربطت مصيرها بمصير «الملك» صاحب السيادة الشرعية على البلاد.
وعندما ازدهرت الحياة في البلاط النمساوي في عاصمة الهابسبرج أيام شارل السادس ثم ماريا تريزا في القرن الثامن عشر، كان نبلاء المجر عماد هذه الحياة الاجتماعية الجديدة في العاصمة النِّمساوية. أضف إلى هذا أنَّ ماريا تريزا اتَّبَعَتْ سياسة هدفت إلى التقريب بين النبلاء الألمان والنبلاء الهنغاريين، وعملت على «مزج» الفريقين بتشجيع التزاوج بينهما وعند ملء الوظائف الإدارية وبتوزيع المناصب عليهم في البلاط، كما أغدقت عطاياها على الفريقين بالتساوي؛ فترتَّب على ذلك أنْ بدأت تشعر هذه الطبقة الأرستقراطية الهنغارية بروح جديد أخذ ينمو شيئًا فشيئًا، حتى صارت تنظر إلى الأشياء نظرةً أكثرَ اتساعًا من ذي قبل، وحتى صار هؤلاء النبلاء الهنغاريون الذين عاش أكثرهم في فينا وأنشئوا صلاتٍ شخصية مع الإمبراطور، ينظرون إلى الأمور من الناحية السياسية، وليس من الناحية الوطنية (الهنغارية) فحسب، وذلك بالرَّغم من أنَّ عواطفهم بقيت هنغارية، كما ظل الوطني الهنغاري (المجري) يستأثر بمحبتهم.
وهؤلاء النُّبلاء الهنغاريون كانت لهم صلات كذلك مع الطبقات الأرستقراطية في أوروبا، خصوصًا الأرستقراطية الفرنسية والإنجليزية، كما أنهم تأثَّروا بالثقافة الأوروبية الغربية؛ الأمر الذي ترتب عليه كله أن صارت تدريجيًّا هذه الأرستقراطية الهنغارية لا تجد غضاضة في قبول ما يُريده ويوصي به صاحب السلطان (أي الملك والإمبراطور) حتى لقد غدت أخيرًا طبقة النبلاء العظام في مجالس الدياط أداةً طيعةً في يد الإمبراطور.
وهكذا صار هؤلاء النبلاء العظام عواملَ نموٍّ وتطور، أفادت منها الدولة النمساوية على حساب الدولة الوطنية (هنغاريا)؛ مما تهدد بالخطر هنغاريا، حيثُ إنَّ النمسا التي اتبعت في بوهيميا سياسيةً مُشابهة لما تفعله الآن في المجر كانت قد نجحت في «جرمنة» بوهيميا «جرمنةً» كاملة وقضت عليها تمامًا. ولكن النمسا عجزت عن القضاء على المجر، وبقيت هذه للأسباب التي ذكرناها بالرَّغم من مُحاولات النمسا المتكررة محتفظة بكيانها وذاتيتها، إلا أنَّه لا يمكن اعتبار المجر (هنغاريا) أُمَّةً حديثةً؛ أي بها مجتمع من طراز المجتمعات الحديثة المعروفة، بل لقد بقيت المجر محتفظة «بمجتمعها» القديم الذي استطاع الدفاع عن امتيازاتها ومُقاومة ضياع هذه الامتيازات التي هددت الملكية بإلغائها؛ فكان للمجر «استقلال» سياسي وحياة وطنية (أهلية)، ولكنها لم تكن تتمتع بنظم برلمانية أو نيابية تمثيلية، كما أنَّها لم تكن «أمة»، فقد كان بعد انتشار التعليم والشعور السياسي بين طبقة النبلاء الوسطى أَنْ أمكنَ انطلاق القومية الهنغارية، ولقد حدث ذلك في الربع الأول من القرن التاسع عشر؛ فالمجر إذن دولة تاريخية لها ذاتيتها الخاصة بها واستطاعت المحافظة على هذه الذاتية أو الشخصية، ولكنها لم تصلْ بعدُ إلى مرتبة الدولة القومية أو الوطنية بالمعنى المعروف.
أمة اليونان
واليونان أمة يختلف طرازها عن الطرازين السابقين، من حيث إن اليونان يؤلِّفون أمة «روحية» تشعر بتقاليدها ولكنها لا تزال عاجزة تمامًا عن الشعور بحياتها أو وجودها القومي، وليست العناصر التي تضافرت على خلق الأُمَّة اليونانية مُسْتَمَدة من الآراء الحديثة، بل لقد كفى الأمة اليونانية أن تعتمد على ذكرياتها القديمة لتستطيع الحياة والبقاء.
ومع أنَّ اليونان خضعت لسلطان الأتراك العثمانيين منذ نهاية العصور الوسيطة، فقد أمكنها المُحَافظة على وجودها وكيانها، وتلك حقيقة لا ينبغي أن تُثير الدهشة إذا عرفنا أنَّ الدولة العثمانية لم تكن «دولة» بالمعنى الصحيح، بل كانت خليطًا أو مزيجًا من الأقوام يعيشون في أقطارٍ كان كل ما يعني الأتراك من شأنها هو استمرار احتلالهم ثم استغلالهم لها؛ مما ترتَّب عليه أن صار «تركيب» هذه الدولة العثمانية تركيبًا غير عادي؛ فهناك حكومة وهناك سكان أو «رعايا»، وهناك طبقة إقطاعية مُمتلكة فرضت نفسها على البلاد التي فتحتها والتي أجازت لأهلها أن يعيشوا تحت سلطانها طبقةً دنيا في نظير أن «يفتدوا» أنفسهم بالقيام بما صار يُطلَب منهم تأديته من واجبات وخدمات: كدفع الخراج (الضريبة المفروضة على الأرض)، وكانت هذه نوعًا من الضرائب الشخصية أو الفردية التي يدفعها «الروم» لقاءَ العيش في سلام، ثم الضريبة العقارية، وضريبة العشور، وكل هذه الضرائب «فدائية»؛ أي يَفتدي بها الأفراد أنفُسَهم وأملاكهم من أرض وعقار … إلخ.
وفي الماضي أخذ العثمانيون عددًا من أبناء وبنات الروم بنسبة الخمس؛ وذلك لتنشئتهم النشأة التي يُريدونها ولتكوين تلك الفرق التي عُرِفَتْ باسم الانكشارية، وبطل العمل بهذا النظام في سنة ١٦٨٥ فقط؛ فكانت هذه ضريبة افتدائية أُخرى؛ وهكذا بقي العثمانيون بفضل هذه الضرائب الافتدائية إن صحت هذه التسمية — سواء لافتداء الأفراد «من الروم» بدفع الخراج، أو لافتداء الأرض والعقار بدفع العشور والضريبة العقارية، أو لافتداء أبناء وبنات الروم في نظام الانكشارية — نقول بقوا طبقةً منفصلة عن أهل البلاد التي فتحوها ومفروضة على سكانها الأصليين فرضًا، ولم يُفكر العثمانيون في الامتزاج بهؤلاء أو اتباع سياسية تهدف إلى حدوث اندماج بين الفريقين، وعلى ذلك فقد استطاع اليونان أن يحتفظوا بطابعهم وذاتيتهم، وسهل على العثمانيين في ظل النظام الذي أقاموه أن يعترفوا بوجود الأمة اليونانية.
ولقد امتدَّ سلطان البطريركية ومجلسها (السينود) حتى شمل اليونان وجزر الأرخبيل وآسيا الصغرى بأسرها وكل المشرق (أو الليفانت) وشبه جزيرة البلقان، بل وامتدت ولاياتها «القضائية» إلى أبعد من ذلك حتى إنه عند إنشاء كنيسة روسيا كان بطريق القسطنطينية هو الذي أجلس على كراسيهم الأساقفة الروس لممارسة وظائفهم الدينية.
ومن أول الأمر سلكت هذه الكنيسة الأرثوذكسية طريق المُعارضة الرَّسمية والمُستمرة ضد الكاثوليكية. وتبدت هذه المعارضة في أول الأمر في مقاومة رغبة الإمبراطور «قسطنطين دراغاسيوس» في إعادة الاتحاد بين الكنيسة الأرثوذكسية والكاثوليكية، وكانت هذه المعارضة سببًا — كما سبق القول — في أن يقبل رجال الدين الأرثوذكس السيطرة العُثمانية «في القرن الخامس عشر»، وفي القرن السابع عشر كافحت الكنيسة الأرثوذكسية جماعة اليسوعيين (الجزويت) كفاحًا مريرًا؛ لأنَّ هؤلاء يمثلون كنيسة رومة في الشرق. وفي آخر هذا القرن وبداية القرن التالي (الثامن عشر) عاون الأرثوذكس الأتراك العثمانيين مُعاونةً فعَّالةً في انتزاع المورة من جمهورية البندقية، وهي دولة كاثوليكية، كما أنهم هاجموا مع العثمانيين جزيرة «كرفو» التابعة للبندقية.
ولذلك؛ فقد بقيت الكنيسة الأرثوذكسية داخل الدولة العُثمانية بمثابة الحفيظ على العاطفة الوطنية (القومية) لدى اليونان، والتي اختلطت بالعاطفة والعقيدة الدينية؛ فتجانست هاتان العاطفتان: الوطنية (القومية) والدينية، في أنه قد نشأت منهما مقاومة مزدوجة ضد السلطان العثماني من أجل الاستقلال الذاتي، وضد الكاثوليكية من أجل الاحتفاظ بالذاتية الأرثوذكسية.
وكان بين اليونان الأرثوذكس واليونان الكاثوليك هؤلاء أن نشب النِّضال الذي اتفق حدوثه مع حركة اليونان الاستقلالية.
ذلك إذن كان نظام المؤسسة الكبيرة (الكنيسة الأرثوذكسية) التي امتدَّ سلطانها حتى وسع الإمبراطورية العثمانية بأسرها.
ومع هذا؛ فقد وجد إلى جانب الكنيسة الأرثوذكسية تنظيم إداري آخر لا يقلُّ في أهميته عن وجود هذه الكنيسة الأرثوذكسية، ونَعني بذلك المجالس البلدية؛ فقد أبقى العثمانيون عندما أقاموا إمبراطوريتهم مكانَ الدولة البيزنطية ما كان لدى هذه الأخيرة من ترتيبات وأنظمة إدارية، واكتفوا باستبدال الموظفين العثمانيين بأولئك الذين ملئوا مناصب الإدارة في العهد البيزنطي، وترك العثمانيون الوظائف الصغرى يشغلها أصحابها. والسبب في ذلك أنه لم يكن لديهم العدد الكافي من الرجال لملء هذه الوظائف؛ فأبقوا في المقاطعات والمدن التي يخدمها الخوارنة (خوري الكنيسة) المجالس البلدية التي درج السكان على انتخاب أعضائها بأساليب تختلف باختلاف المدن والمقاطعات.
ولقد ترتَّب على اعتراف السلطان العثماني بوجود الكنيسة الأرثوذكسية والبلديات اليونانية أن استمرت اليونان تتمتع بحياة روحية مستقلة. وكان مما ساعد على ذلك أنَّ الأتراك لم يستهدفوا في أساليب حكومتهم الدعوة للدين الحنيف ونشر لواء الإسلام بين الشعوب التي خضعت لسلطانهم، وذلك في رأي كثيرين لأنَّ الأتراك اعتقدوا أنَّ الله وحده سبحانه هو الذي يختار من يشاء من عباده لهدايته بنعمة الإسلام؛ فكانوا أبعد ما يكون من الرَّغبة في فرض الإسلام دينًا على الشعوب التي خضعت لهم، وكانوا يرون أنَّ الخير كلَّ الخير بدلًا من ذلك أن يبتعدوا عن التعرض بشيء لحياة اليونان الروحية والفكرية.
ثم تأسست في «ياسي» وبوخارست مراكز لتعليم اللغة اليونانية في الولايات الدانوبية (البغدان والأفلاق). واحترم العثمانيون هذه المدارس جميعها، ولم يتعرضوا لها بسوء، ولم يحاولوا حرمان اليونان من أن يكون لهم هذه السيطرة الفِكرية، ولم يحدُّوا من نشاطها لسبب معين، وإلى جانب الأسباب التي مَرَّت بنا هو أن الأتراك لم يكونوا يأبَهون لها. ولقد قصد كذلك عدد من اليونان إلى الغرب (أوروبا الغربية)؛ لارتشاف العلم من مناهله في دُورِها ويمَّمُوا شَطر فرنسا خصوصًا للتزود من ثقافتها.
أمَّا هذا النشاط، فقد دلَّ على أن اليونان ظل شعورهم بقوميتهم ينمو نموًّا مطردًا دون أن يطرأ شيء يوقفه أو يعطِّلُه، وكان مظاهر هذا الشعور الوطني (أو القومي) أنَّهم أطلقوا على أبنائهم أسماءً إغريقية كما سموا أنفسهم أسماءً إغريقية أو بيزنطية؛ فأكدوا بذلك تصميمهم على الاحتفاظ بكيان مستقل ومنفصل عن الكيان العثماني. ومع ذلك؛ فالذي يجدر ملاحظته بشأن هذه الثقافة اليونانية أنَّها اعتمدت في صميمها على التقاليد البيزنطية، في حين يقل كثيرًا اعتمادها على الثقافة الإغريقية القديمة، وتلك حقيقة فات إدراكها على كثيرين من المُعاصرين الذين انبروا لتأييد الهللينية أو حركة إحياء الحضارة اليونانية؛ فاعتبروا اليونان الحديثين سلالة الإغريق القدامى، واعتبروا نشاطهم الثقافي إحياءً للثقافة الإغريقية القديمة، في حين كان الحال على العكس من ذلك تمامًا؛ لأنَّ اليونان التي عاصرها هؤلاء إنما كانت «يونان» بيزنطية وذات ثقافة ترتدُّ في نشأتها إلى أُصول بيزنطية.
ولقد كان هناك عامل آخر إلى جانب الكنيسة الأرثوذكسية والمجالس البلدية يُساعد على استمرار بقاء الأُمَّة اليونانية، ونعني بذلك سلسلة الوقائع والأحداث التي فَتَحَتْ آفاقًا لاستمرار نشاط هذه الأمة فيما يحفظ عليها ذاتيتها من جهة، ثم أتاحت الفرصة في الوقت نفسه لحصول رد فعل بين اليونان ضد السيطرة العثمانية؛ ذلك العامل هو وجود طبقة من كبار «البيزنطيين» بالقسطنطينية عاصمة الإمبراطورية العثمانية ذاتها، سواء كان هؤلاء من الطبقة الأرستقراطية أم من أهل الطبقة المتوسطة (البورجوازية)؛ فهؤلاء هم الذين عاونوا على صيانة التقاليد الهللينية في مُستقر هذه التقاليد من الأزمان السابقة.
وعاش أعضاء هذه الأسر الكبيرة في حي الفنار في قصورهم ويقف على خدمتهم أتباع عديدون، وكانوا ذوي ثراء عريض، وهم الذين يترأَّسون البيوت التجارية الكبيرة، واستأثروا بالمشروعات الاقتصادية الهامَّة داخل الإمبراطورية العثمانية؛ فإنه لم يمضِ زمن طويل على سقوط القسطنطينية في قبضة الأتراك حتى كان هؤلاء قد أعادوا صفوفهم وانطلقوا يعملون لتنمية ثرواتهم، وامتاز يونان الفنار بمعرفتهم لغات «المشرق» أو الليفانت ولغات بلدان البحر المتوسط وكذلك بلدان أوروبا الغربية؛ فأنشئوا مع كل هذه الجهات صلاتٍ واسعةً ساعدتهم في نشاطهم التجاري خصوصًا، وأصبح لهم بفضلها ما يُشبه نظام المخابرات الدقيق، ثم كان طبيعيًّا أن تتوثَّق العلائق بينهم وبين «البطريركية» التي أمدوها دائمًا بالأموال للإنفاق على المدارس والكنائس والأديرة.
ويلي الأسر التي اتخذت مقامها في حي الفنار فريق آخر من اليونان الأثرياء ذوي النَّشاط الملحوظ والذين اختصوا «بالتجارة البحرية». ولقد بلغ نشاط هؤلاء درجة بعيدة، حتى إن السفن جميعها تقريبًا التي حملت الراية العثمانية كانت سفنًا يونانيةً في الحقيقة؛ وصاروا هم الذين يقومون بالملاحة البحرية الطويلة، ثم الملاحة الساحلية، وتعاونوا في مبدأ الأمر مع اليهود الذين لجئوا للتوطُّن في الدولة العثمانية، فرارًا من الاضطهاد الذي نزل بهم في إسبانيا والبرتغال فتواطنوا في «سالونيك» وفي غيرها، ولكن سرعان ما عظمت المُنافسة بين الملاحين اليونان وبين هؤلاء اليهود اللاجئين.
ولقد أفاد اليونانيون من الضعف والانحلال الذي أصاب نشاط البندقية في تجارتها البحرية في القرن الثامن عشر؛ فاستطاعوا أن يوسعوا شيئًا فشيئًا دائرة نشاطهم البحري، ثم طرد الإيطاليين أنفسهم في آخر الأمر من مياه الجزر اليونانية. ولما كان الإنجليز قد قضوا كذلك على نشاط الفرنسيين في هذه الجهات (في حروب الثورة الفرنسية) فقد حلَّ اليونان محلهم، وهكذا احتل اليونان مكان الإيطاليين والفرنسيين في أساكل الليفانت، وبفضل ذلك استطاعوا احتكار هذه التجارة البحرية بأجمعها تقريبًا.
وإلى جانب هؤلاء، كان هناك يونانيون أنشئوا جاليات كبيرة في كل موانئ البحر المتوسط الهامة، وفي أماكن أبعد من هذه كذلك مكان منهم أصحاب السفن أو الذين أشرفوا على تجهيزها ووَسْقها بالبضائع، وأصحاب مخازن التجارة ومُستودعاتها، ثم التجار أنفسهم، وقد أثرى هؤلاء ثراءً عظيمًا. ولقد كانوا في أوَّل الأمر يقومون بنشاطهم التجاري تحت حماية الرَّاية الفرنسية التي نالت اعتراف الأتراك بها دون إعلام سائر الدول وقتئذٍ، وتأسست أهمُّ الجاليات الكبيرة في مرسيليا وجنوة وتريستا والإسكندرية وليفورنة والبندقية.
ولم يكن هؤلاء المُعمِّرون أو المتوطِّنون اليونان من التجار والفناريين أنانيين ولا «واقعيين»؛ فحافظوا بحرارة على كل التقاليد البيزنطية، وظلَّت تربطهم بأوطانهم صلات وثيقة، وتبرعوا بسخاء بأموالهم للمدارس اليونانية والمؤسسات الخيرية، بل إن أهل الجاليات اليونانية والفناريين أنفسهم هم الذين قاموا بتمويل حركة الاستقلال اليونانية أثناء ثورة المورة في سنة ١٨٢١.
ولقد قام بفضل هذا التقليد المزدوج نوع من «الحكم الثنائي» في هذه الولايات الدانوبية جمع بين السلطة المركزية العُثمانية وبين ممثِّلي هذه السلطة المركزية في الأفلاق والبغدان وهم يونانيو الفنار، وكان هذا النوع من الإدارة التي قامت في الولايات الدانوبية بمثابة تجربة أتاحت لليونان من الأسر الكبيرة الفرصة لمُمَارسة شئون الحكم، سوف يفيد اليونان منها في المستقبل.
وهكذا كان بفضل كل هذه العوامل أن وجد من بين جمهرة اليونان نخبة ممتازة شعرت بأهميتها، وأدركت أنَّ هناك احتمالات لمستقبل زاهر للأمة اليونانية، وهذه النخبة الممتازة هي التي زوَّدت عند سنوح الفرصة الأمةَ اليونانية بقادتها وزعمائها، ثم كان بسببها أن استطاعت اليونان عند تحريرها واستقلالها أن تجد «هيئة إدارية» تتسلَّم زمام الأمور كان قد تمَّ تهيئتها سياسيًّا وتدريبها على ممارسة شئون الحكم والإدارة في داخل الإمبراطورية العثمانية ذاتها.
وفي الجزر كان هناك خارجون على القانون كذلك من طراز «الكلفت» نفسه، وهؤلاء كانوا من النوتية والملَّاحين ورجال البحر القراصنة، وقد كان عددهم عظيمًا في جزر الأرخبيل «سيكلاد»، ونشر المؤرخ الفرنسي «فوريل» السالف الذكر كثيرًا من أغانيهم التي تحدَّثوا فيها عن مغامراتهم.
وانتصر الروس على العُثمانيين في الحرب التي كانت بدأت منذ أن أعلنها الأخيرون على روسيا (في أكتوبر ١٧٦٨)، واستمرت حتى حاقت الهزائم بالدولة، وخشي الباب العالي العاقبة فطلب الصلح، وأبرمت معاهدة قوجك قينارجه (كشك كينارجي) في يوليو سنة ١٧٧٤. فنصت المعاهدة على منح اليونانيين العفو الشامل وضمان حرية عباداتهم وإعفائهم من الضرائب المتأخرة عليهم، كما أنها نصت على احترام ما كان للأفلاق والبغدان (الولايات الدانوبية) من امتيازات سابقة.
يعد الباب العالي بحماية الديانة المسيحية بصورة دائمة في جميع الكنائس ويُوافق على أن يقدم إليه الوزراء الروس كل ما يبدو لهم من أمور متعلقة بصالح الكنيسة المؤسسة في القسطنطينية، وبصالح خَدَمَة هذه الكنيسة جميعهم، ويعد بقبول كل ما يقدم إليه احتجاجات باعتبار أنها صادرة من أشخاص محترمين يمثلون دولة مُجاورة وصديقة مُخلصة ويتكلمون باسمها.
أن الباب العالي يَعِدُ من الآن فصاعدًا بأن الديانة المسيحية لن تتعرض لأي اضطهاد مهما قلَّ شأنه، وأنَّه لن يمنع أحدًا من إصلاح الكنائس وترميمها أو إعادة بنائها، وأن يمنع منعًا باتًا أن يلحق برجال الدين المسيحيين إهانة أو يكونوا موضع سخرية أو اضطهاد بأي شكل من الأشكال.
ومع ذلك وبالرغم مما تقدم جميعه لم تكن ثورة سنة ١٧٧٠ حركة قومية، ولم يكن «الكلفت» أو رجال البحر القراصنة … إلخ متأثرين بأي «شعور قومي». وكل ما يُمكن أن تدل عليه هذه الثورة أنه كانت هناك عناصر مقاومة يونانية وطنية، وأنَّ هناك احتمالًا لظهور هذه العناصر ذاتها مرة أخرى إذا سنحت الفرصة لقيام حركة قومية صحيحة.
ثم إن الجمهورية كانت تمنع يونانيي الجزر من الاشتغال بالملاحة حتى لا يتحد يونانيو الجزر خصوصًا مع أهل كرفو المعروفين بعدائهم الشديد — كسائر أهل الجزر — ضد السيطرة الإيطالية التي يخضعون لحكومتها، وكانت «كرفو» هذه مركزًا هامًّا للثقافة غزت بأضوائها بلاد اليونان نفسها.
وهكذا وجدت في اليونان كل العناصر التي تتألف منها «القومية» وأهم هذه اللغة والدين، وإن كانت هذه القومية لم يتح لها الظهور بعد، بل بقيت تترقَّب الفرصة تسنح في شكل مثل عليا معينة أو عواطف ملتهبة ليتسنى لها جمع هذه العناصر في «شعور قومي» ناضج كما بقيت تترقَّب الفرص تسنح في وقوع حادث سياسي، أو مجيء ظروف سياسية مناسبة لتصبح «حركة قومية». وأمَّا الذي كان صاحب الفضل في إمداد اليونانيين بهذه المثل العليا؛ ثم في تهيئة الظروف السياسية المناسبة، فكان «الثورة الفرنسية»، ثم كان عندئذٍ أن انتقل اليونان من مجرد «أمة» مشتتة وما تزال في دور الميوعة إلى أمة اكتمل نضجها وصار لها شعور قومي؛ أي إلى «أمة قومية».
إرلندة
وكانت إرلندة «دولة» — وبالأحرى «دويلة» — من طراز يختلف عن الطرازات السابقة؛ من حيث إنَّ إرلندة نقطة ابتداء لما يصح وصفه «بالقومية» الخالصة؛ وذلك لأنَّ إرلندة تمتعت «بذاتية» بدت في جميع مناحي الحياة السياسية والاجتماعية بالرغم من رزوح هذه «الذاتية» تحت أقسى أنواع البؤس والاستبداد لدرجة حطمت قواها وأعجزتها حتى عن إدراك مقدار ما صارت إليه من وهن وانحطاط، بل وأعجزتها عن الشعور بما كان يتحتم عليها فعله لمقاومة هذا الانحطاط.
ولكن كان الأثر الذي خلَّفته الكوارث والنوازل أن فقدت الأُمَّة أحاسيسها ومشاعرها لدرجة أنه لم يعد هناك مجال لحدوث «رد فعل» قد ينتشلها من الوهدة التي تردَّتْ فيها، وكان كل الأثر الذي خلفته هذه الكوارث والنوائب كراهية عظيمة تغلغلت في نفوس الإرلنديين ضد أولئك الذين بطشوا بهم.
ومنطقة الاحتلال الإنجليزي هذه كانت بمثابة رأس الجسر لامتداد النشاط الإنجليزي العسكري إلى داخل إرلندة، ولكن سرعان ما اتَّضَحَ أن منطقة الاحتلال الإنجليزي كانت تَسِير تدريجيًّا وبصورة من الصور نحو الاندماج في الكيان الإرلندي، فلم تلبث إرلندة أن «تمثَّلت» الإنجليز الذين أقاموا في منطقة الاحتلال وكانوا يمتلكون الأراضي الشاسعة في إرلندة حتى انتهى الأمر بأن صار هؤلاء يؤلِّفون طبقة من النبلاء (الأنجلو أيرلنديين)، وتحتَّم حينئذٍ على حكومة الملك في لندن أن تعمل من وقت لآخر لتغذية منطقة الاحتلال بعناصر إنجليزية جديدة، وفي عهد أسرة تيودور (خصوصًا أيام الملكة إلياصابات) وفي عهد أسرة ستيوارت؛ أي في القرنين السادس عشر والسابع عشر، تأيَّد نظام «الحكومة الفاتحة» وتدعمت أركانه بأن تجدَّدت العمليات العسكرية التي أرهقت البلاد وخربتها وأذاعت بها الإرهاب، وجوعت «الإدارة» الأهلين وأهلكت المجاعات عددًا عظيمًا من الناس.
ولم يفد من هذه «التسوية» سوى عدد ضئيل من الكاثوليك الذين «ثبتت» براءتهم من القيام بالثورة ضد «التاج»، وكان بفضل هذه التسوية أن صار انتقال «ملكية» الأراضي من أصحابها الإرلنديين إلى سادتهم الإنجليز إجراءً يستند إلى قوانين رسمية.
وموجز القول: أن هذه القوانين (قوانين العقوبات) فرضت سيطرة أقلية من البروتستنت على أكثرية من الكاثوليك هم أهل البلاد الإرلنديون، وكان واضحًا أنَّ الحكومة الإنجليزية لم تكن تستهدف من سياستها إدماج الإرلنديين أو استيعابهم، وإنما كانت تَبْغِي إخضاعهم لسيطرتها الباطشة المُستبدَّة من ناحية، ثم استغلال موارد البلاد واستنزاف دماء أبنائها من ناحية أخرى، تعتمد في تحقيق مأربها على وجود «الحامية» الإنجليزية البروتستنتية مما كان معناه أن حالة حرب فعلية كانت قائمة بصورة مستديمة تحت ستار «نظام سياسي» معيَّن.
وأمَّا الدعامة الثانية للسيطرة الإنجليزية فكانت الكنيسة الإنجليكانية، ولو أن هذه الكنيسة لم يكن لها أتباع من بين الإرلنديين أنفسهم؛ لأنَّ هؤلاء كما هو معروف إنَّما كانوا من الكاثوليك ما عدا أقلية بروتستنتية في شمال الجزيرة الشرقي في مُقاطعة «ألستر». ولقد اعتمدت الكنيسة الإنجليكانية في تقرير العقيدة وتنظيم العبادات على القرارات والقوانين التي يستصدرها البرلمان، وهذا فيما يتعلق بالعقيدة ذاتها، ثم على الملك الذي كان من حقه تعيين القساوسة والأساقفة، وهذا فيما يتعلَّق بملء الوظائف الكنسية. وقد بلغ عدد الأساقفة اثنين وعشرين أسقُفًا والقساوسة ثلاثة آلاف، في حين لم يكن يوجد إرلندي واحد يَدِين بالولاء للبروتستنتية في الأبرشيات الإنجليكانية في إرلندة وعددها المائتان.
ثم إن هؤلاء الأساقفة ظلوا يعيشون أكثر الوقت في إنجلترة، وكانت هذه الكنيسة الإنجليكانية التي فُرِضَت فرضًا في إرلندة ذاتَ ثراء عريض نتيجة مصادرة أملاك الكنيسة الكاثوليكية، كما صارت تُحَصِّل العشور من الإرلنديين، وأشرفت على التعليم وعلى حياة الأهلين المدنية، وتمتعت بالولاية القضائية على الأراضي التي تملكها، وعلى الفلاحين المُقيمين عليها، وذلك كله دون أن يُفِيد الإرلنديون وهم كاثوليك شيئًا من الخدمة الرُّوحية التي تؤديها الكنيسة، وفضلًا عن ذلك لم يَنْجُ من سلطان الكنيسة الإنجليكانية أولئك الاسكتلنديون أتباع «الكنيسة المشيخية» والذين عاشوا في مقاطعة ألستر.
وكان الملاك الدعامة الثالثة التي قامت عليها السيطرة الإنجليزية في إرلندة، وهذه كانت أبعد الدعامات أثرًا وأقواها نفوذًا؛ ذلك أنَّ الإنجليز كانوا يملكون في إرلندة الأرض التي استولوا عليها نتيجة مُصادرة أملاك الأفراد الصغيرة وأملاك كبار الإرلنديين من أصحاب الأراضي الشاسعة.
ولقد كان هناك طبقتان من الملاك الإنجليز؛ الطبقة الأولى: وتتألَّف من كبار الملاك الذين لم يتخذوا مقامهم في إرلندة وعهودًا باستغلال أراضيهم إلى طائفة من الوكلاء كانوا في أحايين كثيرة من أهل البلاد أنفسهم، وذلك في نظير نسبة معينة من الإيراد، الأمر الذي جعل هؤلاء الوكلاء يشتدُّون في معاملتهم ويقسون على المشتغلين في هذه الأراضي من أجل الحصول على أعظم قدر ممكن من الإيراد.
ولقد حَرَمَ هذا النظام الإرلنديين الذين عاشوا في هذه الأراضي من الحماية التي كانت لهم في علائقهم كفلاحين بالسادة الأشراف أو ملاك الأرض وفق القواعد والأنظمة «الإقطاعية» القديمة، ثم إن الأرض ما لبثت حتى فقدت جودتها وقلَّت غلتها تدريجيًّا بسبب امتناع الملاك عن إنفاق أموالهم في استصلاحها أو في استخدام طرائق حديثة في استغلالها؛ فنزل الضنك والبؤس بالفلاحين وهَمَّ جمهرة الشعب الإرلندي نتجية لسوء الحالة الاقتصادية، وكان الملاك يُعْطُون بطريق الإيجار إلى المزارعين الإرلنديين جزءًا صغيرًا من أراضيهم لمدة لا تزيد على عشرين أو ثلاثين سنة، في نظير أن يؤدي هؤلاء المستأجرون خدمات معينة إلى جانب ما يدفعون من إيجار، فكان أشقَّ هذه الخدمات تسخيرُهم في العمل في أراضي الملاك لقاءَ أجر ضئيل أو بالمجَّان.
وأما هؤلاء «الوسطاء» فقد صاروا يتطبَّعُون بطباع الإنجليز ويُمْعِنون في تقليدهم ومحاكاتهم، على أنه مما تجدر ملاحظته أنَّ جميع هؤلاء الملوك الإنجليز من أعيان البورجوازية ثم هؤلاء الوسطاء الإرلنديين كان ينقصهم التهذيب والتعليم ولا ثقافة لهم، كما كانوا غِلَاظَ الطباع أصحاب خشونة ووحشية في مسلكهم وأساليب حياتهم.
تلك إذن كانت دعامات السيطرة الإنجليزية في إرلندة: الإدارة السياسية، الكنيسة الإنجليكانية، نظام الملكية العقارية «والأرض»، ثم ذلك النظام الحكومي الذي هدف إلى تحطيم جميع أسباب الحياة الروحية والمادية في إرلندة.
ومن نَاحية الزِّراعة، بَقِيَتْ إرلندة في حالة تأخُّر ظاهر تزاول أساليب الزراعة القديمة وأدواتها المحاريث الخشبية، فاستمرت فلاحة الأرض طالما أخرجت الأرض محاصيلها، حتى إذا ضعفت التربة تُركت الأرض بورًا وانصرف الناس عن فلاحتها وزرعها، أضف إلى هذا انعدام وجود الطرق وعربات النقل؛ مما جعل متعذرًا نقل المحاصيل إلى الأسواق لبيعها، فلم تنل زراعة الحنطة أي عناية، واقتصرت زراعتها في بعض أجزاء إرلندة الجنوبية الغربية فقط لإنتاج مشروب الويسكي، وصار البطاطس محصول البلاد الرئيسي وذلك على حساب المحصولات الأخرى، وزاد في ضنك أهل البلاد وبؤسهم تقسيم الأراضي إلى أجزاء صغيرة، وكان من عوامل هذا التفتيت والتجزئة نظام الوراثة الذي ذكرنا أنَّه قضى بتوزيع أملاك المورث على الورثة بالتساوي، وثمة عامل آخر وهو تجزئة أراضي القرية «المشاعة» على أهل القرية بالتساوي، وقد ظلت تنقص وتتضاءل مساحات هذه الأجزاء من الأراضي المُقَسَّمة والموزعة تبعًا لزيادة عدد السكان.
وأمَّا العامل الأخير؛ فكان انعدام وجود المزارعين المأجورين. ولقد عرفنا أن طريقة التأجير والوساطة كانت الطريقة المتَّبَعة في استغلال الأراضي، وكانت لا تزيد مساحة كل منطقة حسب هذا النظام على عدد من الأفدنة يتراوح تقريبًا بين الخمسة عشر والأربعين فدانًا. وهكذا بقيت إرلندة بعيدةً كلَّ البعد من تلك الحركة الاقتصادية الزراعية التي قامت وقتئذٍ في إنجلترة وفي قسم من فرنسا وأَحْيَت النشاط الزراعي من جديد في كلٍّ منهما.
وترتَّب على وجود هذا البؤس والشقاء أن اضطرَّت العناصر النشيطة إلى الهجرة من البلاد وبخَاصة عندما تعذَّر عليهم العمل كأُجَراء زراعيين في أراضي المُلَّاك الإنجليز الذين منعوهم من الدخول في أراضيهم. ولما كان الانقلاب الصناعي قد حصل وقتئذٍ في إنجلترة فقد نشأت مراكز صناعية جديدة صارت بسببها الحاجة مُلحة إلى الأيدي العاملة الكثيرة، فقصد هؤلاء المهاجرون الإرلنديون إلى هذه المراكز الصناعية الجديدة وسرعان ما تألَّفت منهم «جاليات» كبيرة في ليفربول ومانشستر خصوصًا، وتزايد عدد الإرلنديين في هذه المدن بنسبة نمو الصناعة بها.
ولقد ترك هذا البؤس والضنك آثارًا لا تُمحى في نفوس الإرلنديين؛ فمن النَّاحية النفسية (السيكولوجية) زادت حِدَّةُ ذلك الطابع الذي امتاز به الخلق الإرلندي، ونعني بذلك عدم الاكتراث وعدم المبالاة وقلة التبصر في عواقب الأمور ثم «المطاوعة» والتزام مسلك سلبي إزاء كل ما يقع من أحداث، فهم يستسلمون للبؤس راضخين ويوطنون النفس على ضرورة الثقة بحُسن نوايا «ساداتهم» فلا يهتمون حتى بأن يكون استخدامهم بناءً على على عقود مكتوبة؛ مما جعل الإنجليز يتشجعون على الاستهانة بهم والإمعان في إذلالهم وإرهاقهم؛ ففقد الإرلنديون بسبب البؤس والضنك الذي كانوا فيه كل شعور باحترام أنفسهم أو الثقة في أنفسهم، حتى أنَّ المُثقفين منهم كان يُسيطر عليهم الخمول الذهني والجسمي معًا لدرجة منعتهم حتى من التفكير في الإتيان بأي نشاطٍ كان.
وكان طبيعيًّا لهذا كله أن يقتنع الإنجليز أنَّ من العبث أن يرجو المرء خيرًا من هؤلاء الإرلنديين أو أن يستحثهم على فعل شيء وهم الذين اعتقد الإنجليز أنهم شعب من المنافقين الكذابين الذين انطبعت نفوسهم على القسوة والوحشية والحقد لا يعرفون معنى النِّظام ولا يصلُحون إلا للخضوع لنير حكومة باطشة مستبدة. وهذا الاعتقاد كان من أهم أسباب إمعان السادة الإنجليز في سياستهم القائمة على العَسْفِ بالإرلنديين ومحاولة إبادتهم وإفنائهم.
ولا جدال في أنَّ هذا الاعتقاد الخطير في نتائجه كان اعتقادًا خاطئًا، فالإرلنديون كما يتبيَّن من وثائق العصر كانوا يتمتعون بروح عظيمة حقيقة، أرغم البؤس والضنك الذي حلَّ بالأُمَّة الإرلندية أبناءها أن يؤمنوا بحكم القضاء والقدر، وجعلهم البؤس والضنك في حالة ركود نفساني ظاهر؛ فقدوا بسببه القدرة على تنظيم صفوفهم والشعور بما كان لديهم من قوَّة كامنة، ولكن ذلك لم يكن إلا نتيجة نظام الحكم الإنجليزي السائد في بلادهم؛ النِّظام الذي حطَّم نفوسهم تحطيمًا، حتى إنهم لم ينتهزوا فرصة نزول جيمس الثاني في بلادهم وما تبع ذلك من اضطرابات ناجمة من مُحاولة هذه الأخير استرداد عرش أسرة ستيوارت، فيقوم الإرلنديون بثورة مُستطيرة تخلِّصهم من ظلم السادة الإنجليز. ومع ذلك، فقد بقيت الروح الإرلندية حية ولم تندثر بالرغم من كل ما حدث.
وهذه القوة الرُّوحية، وبمعنًى أدق روح الإرلنديين «الاستقلالية»، قد استندت على عقيدتهم الدينية الكاثوليكية؛ لقد شاهدنا كيف حطَّم الحكم الإنجليزي كلَّ أنظمة الأيرلنديين وأساليب حياتهم في شتَّى نواحيها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ولكنه عجز عن تحطيم الكنيسة الكاثوليكية وعجز عن مَحْوِ عقيدة الإرلنديين الدينية، فبقيت الكنيسة في إرلندة بأنظمتها وتقاليدها، وكما كانت قبل السيطرة الإنجليزية، فاستمرت البلاد مقسمة إلى ست وعشرين أبرشية أسقف تحوي أربعة رؤساء أساقفة، وحوالي الألف من القساوسة ومائتيْ كاهن موزعين على «خوريات» بهذا العدد، فضلًا على قساوسة الأبرشيات الذين بلغوا تسعمائة.
وقد عين الأساقفة في أول الأمر المطالبُ بالعرش الإنجليزي جيمس الثاني بعد ثورة ١٦٨٨، ثم صار يعيِّنهم المطالبون بالعرش من بعده من أسرة ستيوارت: جيمس إدوارد ثم شارل إدوارد، وباختفاء هذا الأخير اتبع القساوسة والأساقفة الإرلنديون نظامًا آخر، فصاروا يعدون قائمة بأسماء المرشحين لملء المناصب الدينية يَعْرِضونها على البابا الذي يختار لهذه المناصب من يشاء من بينهم. وحيث إنَّ الإنجليز قد صادروا أملاك الكنيسة الكاثوليكية، فإن هذه لم تلبث أن اعتمدت في إدارة شئونها على المساعدات التي يقدمها لها أتباعها. على أنَّ الذي تجدر ملاحظته أنَّ هذه الكنيسة ظلت قائمة في الخفاء بسبب القوانين التي استصدرتها الحكومة الإنجليزية لتعطيل نشاطها، فلم يكن لها كنائس؛ لاستيلاء الكنيسة الإنجليكانية على دُورِها المُخصصة للعبادة وعجزها بطبيعة الحال عن بناء غيرها، ومُنِعَتْ من دَقِّ النواقيس أو الاحتفال علنًا بأعيادها، إلى غير ذلك من المظاهر والطقوس الدينية، فاكتفت حينئذٍ بإعداد معابد صغيرة في الأكواخ الحقيرة غالبًا وفي الأهراء أو المخازن، وفي بلفاست لم يكن يوجد سوى «معبد» كاثوليكي واحد.
ولقد خضع الشعب الإرلندي لسلطان ونفوذ هؤلاء القساوسة ورجال الدين خضوعًا مُطلقًا، ومما ساعد على هذا الخضوع أنه لم تقم في إرلندة أية حركة «تعقلية» تستند على تحكيم العقل والتفكير المنطقي فيما يعرض من أمور. ثم إن من أسباب هذا الخضوع كذلك امتياز الجنس الكلتي الذي منه الإرلنديون بالانكباب على العبادة والتدين لدرجة التصوف.
على أن تمسُّك الإرلنديين بعقائدهم وديانتهم الكاثوليكية كان الأساس الذي أوجد العاطفة الوطنية لديهم، بمعنى أن الإرلنديين شهدوا في واقع كونهم «كاثوليكًا» الوسيلة التي أبقت لهم كيانهم ووجودهم بل واستقلالهم إزاء الإنجليز، بالرَّغم من كل ما فعله هؤلاء لإفنائهم وإبادهم، بل إن إمعان الإنجليز في اضطهادهم كان من أثره زيادة هذه العاطفة، وإن شئت الغريزة الدينية، وبالتالي العاطفة أو الغريزة الوطنية شدةً على شدتها وقوةً على قوتها.
ومع ذلك؛ فإنَّ إرلندة التي عظم بؤسها وشقاؤها لدرجة أن خَمَدَ كل شعور لدى الشعب بالحاجة لمُقاومة السيطرة الإنجليزية، لم تَلْبَثْ في السنوات القليلة التي سبقت اشتعال «الثورة الفرنسية» أن أصبحت مسرحًا لبعض حركات المقاومة التي اقترنت بأعمال العنف والشدة ضد هذه السيطرة الإنجليزية.
ولقد صارت هذه العصابات تسطو على «التحويطات الزراعية» لتخريبها وعلى الماشية لإيذائها بكسر أرجلها، وكل ذلك انتقامًا من القوانين الصارمة التي حرمت الإرلنديين من الأرض، وكانت مصدر كل تلك المساوئ التي سَبَقَ وصفها عند الكلام عن ملاك الأرض الإنجليز، واعتدى «الصبيان البيض» على أتباع هؤلاء الملاك وموظفيهم واستفحل شرُّهم، فصار لا يجرؤ أحد على الشهادة ضدهم، وعجز القانون عن تأديبهم أو وقف اعتداءاتهم، وكانت هذه العصابات أولى تلك «التنظيمات الزراعية» التي تعددت واستمر رجالها أو «أعضاؤها» طول قرن من الزَّمان يتحدون القانون ويُحطِّمونه دون أن تستطيع الحكومة ردعهم. ولقد شهدت إنجلترة نفسها مثل هذه الحركات وقتئذٍ، ومنشأ ذلك كله ولا شك نظام «التحويطات الزراعية» الذي ضُمَّتْ بمقتضاه الحقول الصغيرة لتؤلِّف حقولًا كبيرةً ثم حُوِّطَت الأراضي أو سُوِّجَتْ وقُسِّمت تقسميًا جديدًا وأدمجت المساحات البور والمراعي المشاعة في أراضي كبار الملاك، وكثرت هذه التحويطات الزراعية في إرلندة كما كثرت في إنجلترة.
ولقد تألفت بعد سنة ١٧٧٠ عصابات أخرى من طراز «الصبيان البيض»، ولقد أفادت هذه العصابات من المتاعب والصعوبات التي صادفتها إنجلترة حينئذٍ بسبب ثورة مستعمراتها (الولايات) الثلاثة عشر في أمريكا واستقلالها.
وقد انتشرت حركتهم حتى امتدَّت بعد ذلك إلى كل المُقاطعات المُجَاورة لها، وكان منشؤها الشكوى من العشور ومواجهة الضرائب المُخَصَّصة لصيانة الطرق وسوء توزيع هذه الضرائب؛ الأمر الذي جعل عبء صيانة الطرق يقع على كاهل مستأجري الأرض وحدهم، وكان بعض هذه العصابات جماعات دينية غرضها الدفاع عن العقيدة الكاثوليكية في حين تصدى بعضها الآخر لمقاومة الضرائب المحلية والعشور خصوصًا، ثم قام فريق ثالث لمقاومة ذلك النظام الاقتصادي الذي جمع الأرض في أيدي الملاك الإنجليز، وحرم الفلاحين الإرلنديين من الاستقرار في الأراضي التي استأجروها وعاشوا عليها واضطروا إلى دفع الإيجارات الفادحة عنها، والتي كانت لا تتناسب مع غلتها وريعها.
على أنَّ هذه الحركات الثورية جميعها كان مبعثها المُطالبة بحقوق اجتماعية لفريق من النَّاس أرهقهم البؤس وأضناهم الضنك والشقاء بسبب الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية الغاشمة السائدة تحت سيطرة الإنجليز، فلم تكن هذه الحركات الثورية بحالٍ من الأحوال «قومية» أو سياسية.
ومع ذلك، فالجدير بالمُلاحظة أنَّ الثورة الاستقلالية الأمريكية سرعان ما أحدثت أثرًا كبيرًا بين الأقلية الإرلندية البروتستنتية وحرَّكتهم إلى المطالبة بالحقوق السياسية، وتلك هي النتيجة الثانية التي أشرنا إليها لهذه الثورة الاستقلالية؛ فقد كان الإرلنديون البروتستنت — ومن هؤلاء التجار والملاك — وعلى الرَّغم من اعتناقهم البروتستنتية، يرزحون بدورهم تحت أثقال القوانين الإنجليزية، وكان البروتستنت من أتباع الكنيسة المشيخية — أي البرسبتيريين — محرومين من الوظائف العامة بسبب «قانون التمييز الطائفي لسنة ١٦٧٣» الذي سبق الحديث عنه، فكان موقفهم يُشْبِه من عدة وجوه موقف أولئك «الأمريكيين» الذين أرادوا الدفاع عن حقوقهم كمواطنين إنجليز ضد الحكومة.
ثم إنهم أنشئوا — وكما فعل الأمريكيون أيضًا — نوعًا من «المليشيا الوطنية» أو الجيش الإقليمي والقوات المُرابطة للدفاع عن جزيرتهم بلغ عدده أربعين ألفًا من المتطوِّعين، ثُمَّ قاموا بحركة واسعة لمقاطعة التجارة الإنجليزية في إرلندة. وبفضل إنشاء المليشيا الوطنية ومقاطعة التجارة الإنجليزية استطاع الإرلنديون إبلاغ احتجاجاتهم المدوية إلى أسماع الحكومة وإرغام الحكومة على التسليم ببعض مطالبهم. ومع ذلك فلم تكن هذه حركة قومية؛ لأنَّ هؤلاء الإرلنديين البروتستنت لم تكن تحدوهم في حركتهم هذه أية رغبة في الانفصال عن إنجلترة، ولقد كان أتباع الكنيسة المشيخية (البروتستنت) دائمًا من أنصار الملكية، كما كان الإرلنديون الكاثوليك أعداء البروتستنت الأمريكيين، وعلى ذلك فقد بات متعذرًا اعتبار الحركات التي قامت في السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر في إرلندة «حركات قومية».
وهكذا نَسْتَبِين من دراسة تاريخ إرلندة في آخر القرن الثامن عشر أن العناصر التي تتألف منها «القومية» قد وُجِدت مجتمعة في إرلندة، ولو أنَّ هذه القومية كانت لا تزال مُفتقرة إلى الشعور بذاتيتها وإلى ضرورة العمل من أجل إبراز وجودها بصورة قاطعة؛ وذلك لأنَّ الحقوق التي حصل الإرلنديون عليها لم تكن كافية لأنْ يتحرَّر هؤلاء بفضلها من ذلك البؤس والشقاء الذي نَزَلَ بساحتهم وظلوا يقاسون من آثاره، بل إن هذا البؤس والضنك بَقِيَ على شدته وقسوته حتى إنهم كانوا بحالة يَعْجِزون فيها عن القيام بأي عمل إيجابي لطرده عنهم.
وفي آخر القرن الثامن عشر كان الإرلنديون قد نسوا تمامًا كل ما تمتَّعت به أمتهم من أمجاد غابرة أو حاضرة زاهرة نشرت ألويتها في إرلندة قبل الغزو أو الفتح الأنجلوسكسوني لبلادهم، فلم يكن يقضُّ مضاجعهم سوى شعور الألم بسبب الفوارق التي فصلت بينهم وبين الإنجليز الذين نكَّلوا بهم وأخضعوهم لسيطرتهم الباطشة. وغنيٌّ عن البيان أن الشعور بالألم وحسب لا يُمكن اعتباره شعورًا بالقومية.
الخلاصة
تلك إذن كانت الأمم التي تمتَّعت بوجود وكيان ذاتي في آخر القرن الثامن عشر، ولكن دون أن يشعر أهلها شعورًا قوميًّا بهذه الذاتية حتى يمكن أن ترتفع بفضل ذلك إلى مصافِّ الدول القومية التي عرفها القرن التاسع عشر. والذي يُسْتَخْلَصُ من تاريخ هذه الأمم الأربع: أولًا أن كل واحدة منها — بولندة، المجر (هنغاريا)، اليونان، إرلندة — كانت ذات شخصية أو ذاتية تاريخية. وتشترك جميعها في وجود هدف تاريخي واحد يربط بين كل شعب من شعوبها، ولو أن هذه كانت شعوبًا يختلف أحدها عن الآخر فقد ظلَّ سواد الشعب في كلٍّ من بولندة والمجر (هنغاريا) بعيدًا كلَّ البعد عن حياة «الدولة» — والحكومة — ونشاطها، ولا أثر له في تاريخ الأمة. فصارت تمرُّ الحوادث وتقع الوقائع دون أن يَأْبَهَ لها سواد الشعب ودون أن يُسْهِمَ فيها بشيء، حتى إنه لو صَحَّ التسليم بوجود أي شعور في بولندة والمجر، فذلك ملحوظ فقط في جماعات قليلة من أهل الطبقة العليا، ولم يَنْفُذْ هذا الشعور بتاتًا إلى سواد الشعب نفسه.
وأمَّا الحال فقد كان على العكس من ذلك في اليونان وإرلندة، ففي كلٍّ منهما كان سواد الشعب نفسه هو الذي تتمثَّل فيه الحياة الجماعية المستمَدَّة من تطورات التاريخ نفسه ومن حوادثه، فانتفى في كلٍّ منهما وجود طبقة أرستقراطية ذات امتيازات مُعينة، بل كان سواد الشعب نفسه مبعث كلِّ عناصر القوى التي وجدت بهما، والتي اعتمد عليها الشعور القومي فيما بعدُ عند ظهوره.
وعلى ذلك، فقد ارتدَّت يقظة الشعور القومي في أسبابها إلى دوافع عاطفية كانت تختلف في كل مجموعة من هاتين المجموعتين؛ أي بولندة والمجر في جانب، واليونان وإرلندة في جانب آخر.
ومما تجدُر مُلاحظته أنَّه مع تعذُّر ظهور الشعور القومي بصورة واضحة، أو بمعنًى آخر مع عجز هذه الأُمم عن إدراك أن لها ذاتية مستقلة وخاصة بها، فقد كانت من ناحية أُخرى تخضع لسيطرة العاطفة القومية التي أرغمتها على إدراك ما كان يوجد من فوارق تفصل بينها وبين الدول التي فرضت عليها سيطرتها وأخضعتها لسلطانها كجزء لا يتجزَّأ منها. مثال ذلك: العاطفة الدينية القومية في اليونان؛ حيث قاوم أهلها الأرثوذكس سلطان الحكومة الإسلامية العثمانية، والعاطفة الدينية الكاثوليكية في إرلندة، حيث قاوم الإرلنديون الكاثوليك سلطان الحكومة البروتستنتية الإنجليكانية، وفي إرلندة — كما شاهدنا — تضافر مع العاطفة الدينية الشعور بالألم العميق نتيجة لما نزل بالشعب من كوارث ونكبات ليجعل أهل هذه الجزيرة يُدركون أنَّ هناك فوارقَ عميقة تفصل بين جزيرتهم وبين إنجلترة.
وأمَّا في المجر (هنغاريا) فقد لعبت اللغة ولعب اعتزاز الهنغاريين بتقاليدهم السياسية هذا الدور نفسه. وفي بولندة كانت العاطفة الانتقامية هي المتغلِّبة حيثُ أصرَّ البولنديون على النِّضال ضد أولئك الغرباء الذين اجتاحوا بلادهم واقتسموها فيما بينهم غنيمةً باردةً.
أضفْ إلى هذا كله عاطفة الاعتزاز بالجنس: ففي إرلندة الشعب كلتي، وفي هنغاريا مجياري، وفي اليونان يوناني لاتيني، وفي بولندة سلافي. يقابل ذلك الجنس التوتوني في إنجلترة والنمسا، والأورالي الطائي في تركيا (آسيا الصغرى).
ولذلك فقد اختصت هذه الأمم التي لم ينضج شعورها بقوميتها بعدُ بوجود عنصرين مُتَّحدين أحدهما إنساني وتاريخي والآخر طبيعي ووراثي، وهذان العنصران هما اللذان سوف يتألَّف من اجتماعهما دائمًا تلك الأسس التي قامت عليها الحركات القومية في القرن التاسع عشر.
تلك إذن كانت الأصول النظرية أو المثالية «الفلسفية» ثم التاريخية الواقعية «المادية» التي تستند عليها الحركة القومية، والتي بتناولها أمكن تصوير ما كانت عليه أوروبا كذلك سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وفكريًّا في آخر القرن الثامن عشر. وقد اتَّضَحَ من هذه الدراسة أنَّ الشعور القومي كان قد بدأ يستيقظ في إبهام عبَّرَتْ عنه العاطفة ذات النوازع المختلفة، إمَّا على يد طبقة أرستقراطية (إقطاعية) وإما بجهد طبقة بورجوازية (متوسطة) ناشئة ولا تزال ضعيفة في ظل الإقطاع القديم.
وهذا الشعور القومي المستيقظ لم يلبث أن اكتمل نضجه في السنوات التالية مباشرةً بسبب قيام الثورة الفرنسية وإنشاء الإمبراطورية النابليونية لتنتقل الفكرة التي انطوى عليها هذا الشعور إلى «مبدأ»؛ أي إلى قوة تؤثِّر في مجرى الحوادث لإخراج هذه الفكرة إلى عالم الوجود السياسي في القرن التاسع عشر. ولقد اقترن وصول الشعور القومي إلى مرتبة النضج هذه باكتمال نمو الطبقة البورجوازية (المتوسطة) كقوة تَبْرُزُ إلى الميدان لتدخل في صراع مرير مع الإقطاع لتحاول بالقضاء عليه الظفر بالحقوق المدنية والسياسية التي تكفل لها السيطرة «القانونية» والفعلية في المجتمع الجديد.
ولقد كان لقيام الثورة الفرنسية وبناء عروش الإمبراطورية النابليونية أكبر الأثر في أن تفوز البورجوازية بالسلطة في فرنسا ثم في أنحاء أوروبا تدريجيًّا لتدخل بعد انقضاء عهد الثورة الفرنسية وإمبراطورية نابليون في صراع جديد مع بقايا الإقطاع بعد أن تحطَّم النظام القديم «عمليًّا» في أكثر بُلدان أوروبا وصارت تبذل العناصر الرجعية كلَّ ما وسعها من جهد وحيلة لترميم بنائه، ولكن في النهاية، من غير طائل.