التعريف بالثورة وأسبابها
ليست الثورة حدثًا بسيطًا، كما لا يمكن اعتبارها حدثًا تميز دائمًا بالعنف والشدة وإراقة الدماء كما يؤخذ من معنى كلمة «ثورة». فالثورة الفرنسية على الرَّغم من التخريب الذي حدث والحروب العنيفة التي وقعت والدماء التي سُفكت بسببها وأثناءها، كانت من ناحية أخرى حركةَ بِنَاء وتكوين، ثم إنها خَلَّفَتْ آثارًا كانت أكثر دوامًا من حوادث العنف والشدة العابرة.
ومن المعروف أنه عندما بدأت الثورة لم يكن أحد يُفكر في هدم النظام القائم واقتلاعه من جذوره. ومن الحقائق المُسَلَّم بها أيضًا أنَّ أحدًا لم يكن يفكِّر وقت اندلاعها في تأسيس الجمهورية، أو يُريد فصل الكنيسة عن الدولة، أو إقامة نوع من الأنظمة القضائية الاستثنائية، أو بناء المقصلة التي أطاحت برءوس الألوف من أبناء الثورة ذاتها؛ بل على العكس من ذلك كان ما فهمه قادة هذه الحركة وصفوة رجالها وقتئذٍ أن الثورة في معناها «اللفظي» إنما تدلُّ على حركة منظمة، منطقية، يتحكم العقل في حوادثها بصورة تجعل ممكنًا وقوع هذه الحوادث في إثر بعضها بعضًا في ترتيب طبيعي، وفي غير ما عنف أو شدة؛ فكان فقط بعد قيام الثورة أن صارت حوادثها تخضع تدريجيًّا لتأثير الظروف والمصادفات البحتة التي تضافرت على صبغها في النهاية بتلك الصبغة الدموية التي عرفت بها.
وفضلًا عن ذلك، فقد تعددت دوافع الثورة، كما تنوعت العناصر التي تألفت منها، واختلفت النتائج التي ترتبت عليها، حتى صار من المتعذر اعتبارها حدثًا منفردًا أو واقعةً مُستقلةً بذاتها يمكن أن يُحَدَّدَ لها بداية ونهاية.
ولعل هذا «التعقد» الظاهر الذي أضفى على الثورة مَسْحَةً من التناقض بين أهدافها وأسبابها المباشرة وبين ما انتهت إليه، ثم ما صحبها من أعمال العنف والشدة إلى جانب قيامها بنشر الدعوة خارج حدودها إلى الإخاء والحرية والمساواة؛ نقول: لعل هذا التعقُّد الظاهر كان منشأ ذلك التضارب الذي لُوحِظَ في آراء الكتاب والمُؤرخين الذين حاولوا تسجيل حوادث الثورة وتفسير وقائعها.
ولكن «تين» لم يكن مُوَفَّقًا عندما أراد أن يستند في أحكامه على العقل والمنطق وحدهما في توضيح حوادث وأفعال لم يكن للعقل أو للمنطق أي سلطان عليها. ولقد قيل عن «تين»: «حقًّا لقد استطاع أن ينظر جيدًا، ولكنه أساء فهم ما رآه.»
وكان «تين» يَمِيل للأخذ بهذه النظرية عندما قال: «وفي اللحظة التي افتتح فيها مجلس طبقات الأمة، لم تكن الآراء والحوادث قد صارت تسير في مجرى محدد المعالم فحسب، بل إنَّ ذلك قد صار حقيقة ظاهرة وواضحة، فكل جيل من الأجيال يأتي وهو محمَّل سلفًا ودون علم سابق بمستقبله وتاريخه، حتى إنَّ المرء ليستطيع التنبؤ بما يُخَبِّئه القدر لهذا الجيل قبل وقوعه.»
ولكنَّ هذه الأقوال وما يماثلها لا تعدو أهميتها تذكير المرء بذلك القانون القائل بضرورة أن تستَنِد كل ظاهرة حادثة إلى ظواهر سابقة لا مناص من أن تترتب عليها هذه الظاهرة ذاتها. ومع ذلك فإنَّ تطبيق هذا القانون وحده على حوادث الثورة لا يُسَاعد كثيرًا على كشف خباياها. ومن جهة أخرى؛ فإنَّ المذهب القدري إنما يُفيد عند تطبيقه على حوادث الثورة، في تسويغ وقائعها الدامية فحسب: على اعتبار أنه لم يكن هناك مناص من وقوعها.
•••
ويذكر المؤرخون أسبابًا كثيرة لقيام الثورة: من ذلك رغبة الفرنسيين في التخلص من استبداد الملكية وإنهاء سلطانها المُطلق، ولكن يجب ملاحظة أنَّ الملكية لم يكن لها سلطان مُطلق حتى في العهود التي اشتهرت فيه بالبأس والقوة؛ حقيقة تمتعت الملكية أيام لويس الرابع عشر بسلطة مُطلقة، ولكنها لم تَلْبَثْ أن فقدت تدريجيًّا هذا السطان المطلق حتى إذا ما جاء عهد لويس السادس عشر كان الملك قد صار محكومًا من البلاط والوزراء، بل ومن كل إنسان، ولا سيطرة له حتى على نفسه.
ويُعْزَى قيام الثورة إلى بغض وكراهية «البورجوازية» — الطبقة المتوسطة — للطبقات ذات الامتيازات. يؤيد هذا أنَّ «البورجوازية» بمجرد أنْ دانت لها السلطة عمدت إلى اغتصاب أموال وأملاك النبلاء ورجال الدين (الإكليروس) الذين حاقت بهم الهزيمة. ولكن يجب ملاحظة أنَّ أهل الطبقة المتوسطة هؤلاء لم يكونوا يحملون بُغْضًا أو كراهيةً للملكية ذاتها، علاوةً على ما ظهر لهم وقتئذٍ من استحالة الاستعاضة عن الملكية بنظام آخر، حتى إنَّ سوء تصرف الملك «لويس السادس عشر» واستنجاده بالأجانب ضد الثورة لم يترك سوى أَثَرٍ بطيء في تغير الناس من ناحية الملكية.
زد على هذا أن أحدًا من أعضاء الجمعية الوطنية التأسيسية — أول مجالس الثورة — لم يكن يفكِّر بتاتًا في إنشاء جمهورية، بل إن كل ما كانت تفكر فيه هذه الجمعية الوطنية أو التأسيسية لم يتعدَّ تأسيس ملكية دستورية بدلًا من الملكية المُطلقة. ولم يفقدها صبرها وأَنَاتها سوى شعورها بقوَّتها المتزايدة، ولم يَسْتَثِرْ غضبها ضد الملك سوى إصراره على المقاومة، ومع ذلك لم يجرؤ هذا المجلس الأوَّل على طرد الملك من عرشه أو إزالة الملكية.
ويعتقد كثيرون أنه كان «للفلاسفة» بفضل كتاباتهم والآراء الجديدة التي أتوا بها أثر عميق في تشكيل عبقرية الثورة وتحريك حوادثها. ومع أنَّ هؤلاء الفلاسفة لم يبتكروا جديدًا أو يكشفوا عن جديد بكتاباتهم وآرائهم، إلا أنَّهم أحيوا روح النقد وزادوا من نمو «الفكر الناقد» ودعمه، حتى صار قوةً عَجَزَت المذاهب المُقررة عن مقاومتها عندما تمهد الطريق لتفكك هذه المبادئ والمذاهب ذاتها.
وكان تحت تأثير روح النقد هذه أن الأشياء التي كانت قد بدأت تفقد قيمتها وما كان لها من احترام كبير في الماضي، قد استمرت تفقد احترام الناس لها حتى إذا نبذ الناس التقاليد المرعية انهار البناء الاجتماعي دفعةً واحدةً. ولقد اتَّسع أثر هذا التفكك والانحلال تدريجيًّا حتى وصل إلى طبقة الشعب. ولم يكن الشعب نفسه هو المسئول عن هذا التفكك والانحلال الذي لم يحدث على يده لسبب ظاهر؛ هو أن الشعب لا قُدْرَة له على الابتكار والابتداع، ولكنه يتبع ما يراه من أمثلة ويحذو حذو الغير دائمًا؛ فالأثر الذي أحدثه الفلاسفة بكتاباتهم وآرائهم الجديدة إنما وقع على النُّبلاء الذين كانوا من غير عمل أو نشاط بسبب حرمانهم من كل سلطة سياسية، واستمرارهم بعيدين عن زمام الأمور زمنًا طويلًا، فكان بفضل ما وعوه من آراء ونظريات جديدة أن صاروا ينقدون الأنظمة القائمة دون تبصُّر بالعواقب، ويقودون الحركة التعقلية والحركة الإنسانية في عصرهم.
فالطَّبقة الأرستقراطية هي التي صارت تُشَجِّع البحوث والدراسات الخاصة بنظريات العقد الاجتماعي، وحقوق الإنسان والمُساواة بين المواطنين، والطبقة الأرستقراطية صاحبة الامتيازات الإقطاعية العديدة هي التي شجَّعت التمثيليات التي أظهرت مساوئ المجتمع، ونقدت الامتيازات، وحملت على السلطان المطلق، وسخرت من عجز رجال الحكم ورجال الدين على السواء. ولما كانت «الحكومة المدنية» في النظام القديم مرتبطة «بالحكومة الدينية»، وما يصيب إحداهما لا مَفَرَّ من أن يُصيب الأخرى، فقد تزلزلت بسبب هذا النقد أركان الدولة بشطريها السياسي والديني، ونال تقدم العلم والمعرفة وانتشار التنوُّر من قوة التقاليد.
وكان لتغلغل روح النقد العلمي الذي عمل الفلاسفة على إحيائه وإذاعته أعظم الأثر في أن يُخضِع كلَّ نظام وكلَّ شيء في الوجود للفحص الدقيق؛ حتى يتسنَّى الكشف عن قيمه الحقيقية. ثم سرعان ما تبيَّن أنَّ القيم المُعطاة للنظم القديمة والتقاليد المُقررة لا مسوِّغ لها، وأن الواجب أن يعطى «العقل» وحده كل تلك القوى التي كانت في الماضي من نصيب الآلهة والتقاليد. وكان إعطاء السيادة العليا والقوة المسيطرة، العقل وحده، آخرَ ما وصل إليه الفكر في ذلك الحين، وهو يعتبر إلى جانب هذا مبعث «الثورة» بل والمسيطر كذلك على جميع حوادثها.
وفي أثناء سيطرة سلطان العقل هذا استمرت الجهود تبذل في مثابرة نشيطة لتحطيم الماضي وبناء صرح المجتمع على أساس جديد، ووفق خطة جديدة قائمة على «المنطق» وحده.
وعندما تعرَّف الشعب إلى هذه النَّظريات التعقُّلية التي أتى بها الفلاسفة، لم يلبثْ أن أدمجها في فكرة بسيطة يتمكَّن من فهمها واستيعابها، هي أنَّ النظم والأشياء التي كانت حتى الآن موضع احترام وتقدير كبيرين لم تكن تستأهل شيئًا من ذلك، وحيث إنَّ الناس قد أعلنوا مُتساوين فقد وجب نبذ السادة القدماء. وصار سهلًا على سواد الشعب أن يفقد احترامه للأشياء التي ما عادت تحترمها الطبقات العُليا ذاتها. ولقد كان في انهيار حاجز الاحترام هذا صنع أو خلق الثورة وقيامها.
ووجد سواد الشعب وعامته نفرًا كانوا على استعداد لمشاركته في تلك الروح الثورية التي زاد تغلغلها في المُجتمع بدرجة خطيرة قبل انفجار الثورة. أمَّا هؤلاء فكانوا صغار رجال الدين الناقمين على كبارهم، وصغار السادة من أهل الأقاليم الذين عُرِفُوا بعدائهم لأشراف البلاط، والأتباع الذين ما عادوا يشعرون بالولاء للنُّبلاء الإقطاعيين، والفلاحين في الإقطاعيات الذين ساءهم إقامة الأشراف الإقطاعيين في المدن. بل إنَّ الجيش نفسه لم يكن بعيدًا عن التأثر بهذه الروح الثورية؛ فكان الضباط من أنصار «الإنسانية» الجديدة ومن مؤيدي قادة «التنور» الجديد، وانتشرت في مجتمعهم الفلسفة والآراء الجديدة.
ومع ذلك فإن عواطف روسو الديمقراطية موضع اشتباه كبير؛ لأنه اعتبر تطبيق مشروعاته لإعادة التنظيم الاجتماعي على قاعدة السيادة العُليا الشعبية مُتعذرًا إلا في مدينة صغيرة، ولأنه نصح البولنديين بأن يختاروا ملكًا وراثيًّا لحكمهم عندما سأله هؤلاء إعداد مشروع دستور ديمقراطي لبلادهم. زد على ذلك أنَّ السبب الذي جعل رجال الثورة يتخذون كتابه «العقد الاجتماعي» إنجيلًا لهم أنَّ روسو عندما بسط نظرية العقد الاجتماعي أفلح في إعطاء المسوِّغ التعقُّلي اللازم لانتحال الأعذار التي رأى رجال الثورة أن يلجئوا إليها لتبرير أعمال كان مصدرها في الحقيقة عاطفة صوفية غامضة ونوازع لاشعورية بعيدة كلَّ البعد عن إيحاء الفلسفة.